Friday 15 April 2011

حاتم على شفرة الثامنة


مساء الخير يا تلك اللهفة تتقلب مع كوب الشاي، وتتقرفص على الأريكة أمام المعلّم، فيستعرض ما يباغته من الحكمة وما يصطدم برأسه من الرؤى.
يا تلك الغمامة تمطر القلب كل ثامنة بمناخات لم يعهدها؛ بمظلات المقاهي، وأحذية الشتاء، وأذرع تتأبط أذرع.
حاتم أول ما رأيناه في مسلسل "دائرة النار". احدى نفحات السلطان التي عرضت على تلفازنا  اوائل التسعينات، فقبلنا يده ولعقنا الأصابع من بعد. كان اسمه عبدو صبي الفران، الذي يدس يده بين ارغفة الخبز الحار ويمسك بأصابع سميرة المذعورة. الذي يتقلب على فراشه المهترئ كل ليلة "كيف نام والحارة مليانة صبايا؟". الرغبة، لا تحتاج أن تجسدها سوى بنظرة هنا وايماءة هناك.
حاتم علي ابتدع فن الكومبارس المجيد، فتشبث مع ابطال العمل في دائرة العقل ولم ينسى. بدايته خلف الكاميرا، وأنا أتحدث هنا عنه خلفها.عن المخرج.
حاتم علي فكك شفرة وجدان الثامنة، المزاوجة بين الإستهلاكية و الإبداع. الإستهلاكية هي تلك الحاجة الماسة، لمن هن مثلي- اللائي يتجولن بلفافات الشعر، ويتعطرن بأبخرة اليوم، وتتقن وجوههن ألف ألف ايماءة وعيد لشيطان يتجول في قمطه_ لساعة من أبد (!!). وكما سندريلا، تدق الثامنة، وقد هدهدنا الشر في خدره، فككنا اللفافات، وتفككنا على الأريكة أمام المعلم، لنبحث عن المفقود، الذي هو ليس إلا، ذلك الوقت المبذول بيسر على مقاعد المقاهي، شعر ينسدل عند الغضب، كلمات من ذهب لا يقطعها سهو أو تمتمة ، أظافر براقة و أدمع مرئية، وعيون تنضح بكل ألوان العاطفة ولم تكتفِ بالألوان الأساسية الثلاث: الضجر، السهو، التعب.
هذه اللمسات الدرامية المتكررة لا تخلو منها أعمال حاتم علي، يزاوجها بقصة لا تخاطب الوجدان وحسب، بل تتخطاه للعقل، يتحدث عن تلك الأشياء التي عادة نتثاءب منها، قضية فلسطين، تاريخ العرب في الأندلس، قانون الأحوال الشخصية بسوريا.
والأهم من ذلك لمساته الفنية كمخرج. الكل لاحظ الإختلاف في أول أعماله الفضائية "الزير سالم"، عن تيار مسلسلات القبلية العربية التي اجتاحت التسعينات كالجوارح والبركان. رغم ما يتخلل العمل من هنات مريعة،(أعني بحق السماء...هل تذكرون جوقة الاطفال المغنية: كليب كليب! فشل ذريع!)
تناول حاتم علي في ثلاثيته التاريخية: صقر قريش-ربيع قرطبة- ملوك الطوائف، وأيضا صلاح الدين الأيوبي، ليس السرد التاريخي فحسب، الذي كان الكاتب البارع وليد سيف أمينا مدققا فيه، ولكنه نفذ إلى روح السيناريو، تخطّى تفاصيل التاريخ المملة كـ: من فعل ماذا وأين، ليتحدث عن جدل الفكر والسلطان، لا بتمثلهما في شخصين منفصلين، بل عندما يصطرعان في ذات واحدة: المفكر السلطان/السلطان المفكر، وما يتداعى من ذلك، إثر صراع المبدأ مع الضرورة، أو بشكل أوضح، عندما يتبدّى في موطن التخيير، ماذا تختار؟ ثبات الدولة على شلو المبدأ، أم تختار الثبات على المبدأ ومن بعده الطوفان؟ ويصنع لك خط شك رفيع في هذه القراءة التاريخية، أنه ربما ليس هناك موطن اختيار، فهي حيلة من السلطان ليبّين وكأنه في موضع المضطر(!!). ترون ذلك في صعود صقر قريش إلى سدة الحكم ، متعضدا بالنسب والعصب والموالي، مستنفرا لتلك الوشائج، ثم إذا ما استقامت له الدولة، تنكر لذات الروابط والوشائج الواحدة تلو الأخرى بدعوى الولاء للدولة. أو هي في انقلاب محمد بن أبي عامر ، الذي أعطى لنفسه حق الحلم بالسلطة، حق استمدّه من يوتوبياه التي يرسمها في خياله، واستمده من ما يراه في نفسه من صلاح واستقامة وخلق، إلا أنه وفي الوقت نفسه، يتسلق إلى سدة الحكم، راكلا عوارض الأخلاق التي تحول بينه وكرسي الملك، ثم ما ان تستقيم له الدولة، يضعك في موطن التخيير، اليوتوبيا أم ثبات الدولة المتربص بها؟
لا بد وأن حاتم علي يتأمل واقع الحال السوري الحرية والديمقراطية أم ثبات الدولة المتربص بها من العدو الصهيوني؟
ونحن جمهور الثامنة، نتكئ على ذاك وعلى لمسات المخرج في قدرته على عرض بذخ الأندلس، و على صيحات عشق أندلسية شاء المخرج بذكائه (وذكاء انتقائه) أن تنطلق بين طيات السرد التاريخي
لقد كتمت الهوى حتى تهيمني
لا أستطيع لمثل هذا الحب كتمانا
لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت
أسباب دنياك من أسباب دنيانا
دار حديث كثير حول الدراما المصرية والسورية والفروقات بينهما ، لكن لعل ابرزها هو ما سمعته في حديث للمخرج السوري نجدت أنزور أن لامركزية البطولة هي ما يميز الدراما السورية، وفي الغالب تكون نواة العمل فكرة، لا شخصية. وهذه الصفة تظهر اكثر ما تظهر في أعمال حاتم علي، فحشده لأسماء لامعة في طاقم العمل، أسماء عهدناها في دور البطولة "المركزية" ، هي لصرف المشاهد عن البطل الأوحد، لينحاز إلى ما تمثله هذه الشخصيات.
التغريبة الفلسطينية، ارى أن القضية الفلسطينية هي الفخ الذي يقع فيه كل الدراميين العرب، لأنها عرض متكرر ومكرور على برامج الاخبار وساحات النقاش، وهي قضية قتلت بحثا وأدبا وغناءا، فيبدو وكانه لا جديد تقدمه الدراما. لم ينج من هذا الفخ سوى المخرج يسري نصرالله في فيلمه باب الشمس و حاتم على بتعاونه الفريد مع الكاتب الفلسطي-سوري د. وليد سيف في التغريبة الفلسطينية. والمسلسل ينأى عن التركيز على سرد الأحداث وتاريخ القضية الفلسطينة، لتسخدم هذه الأحداث وهذا التاريخ كمفتاح لفهم "الفلسطيني" ، المتنقل من الإنتماء الكامل للأرض الفعلية إلى الانتماء الكامل للأرض المجاز، ومابينهما من خواء اللاانتماء، فلسطيني الفكر و السلاح، كيف يقبض على جمريهما، فلسطيني التشبث -إذ أنه كل ما تبقى من إثبات الهوية، وفلسطيني المضي قدما واللحاق بركب العالم. المسلسل بلامركزية البطولة استطاع أن يستعرض صراع هذه الثنائيات في "الفلسطيني"، بحوار بصري ولغوي اكثر من رائع

.
وحاتم على أيضا من المهتمين بشدة بقضية تطوير قانون الأحوال الشخصية بسوريا وبالعالم العربي عموما، وواضح أنه لا يطرحه في إطار ليبرالي ، إنما في إطار العرف والتقاليد والدين. كما في مسلسل "عصي الدمع" و الجزء الأول من الفصول الأربعة .
ولكني إن اردت أن أتحدث، فعن نكهته البصرية في الإخراج، فهو حريص كل الحرص على أن لا يتخلّى عن "ترف" اللغة البصرية، أقول "ترف" تهكما، إذ أن ضجيج الدراميين العرب ضرب اذاننا بدعواهم للتركيز على المحتوى والمضمون بعيدا عن الشكل. فأنا أرى أن "الشكل" هو كل شيء.
الترف: يحرص حاتم على على التفاتة ما في كل عمل درامي لهففي مسلسله على طول الأيام و هي قصة رومانسية عادية(خيانة وعودة الخ مما تعرفون) وفيها يعلو صوت العاطفة والتداعي الداخلي للعاشقين. استخدم طابع تقسيم الشاشة الذي تعرفونه في مسلسل 24 ، وهو مسلسل حركة وإثارة، يبدو غريبا أن يستخدم في هذا الإطار الهادئ، ولكنها جاءت على هذا النحو  إما لتنفي للعاشقين أن في العالم اشياء أخرى بأهمية حالة العشق التي تستهلكمها، كدقات الساعة، كرجل يجلس ساهماأو أن الشاشة تنقسم إلى شاشات مصغرة لتركز على اشياء لها مدلولات لدى العاشقين، كإطار صورة، أو رسالة على المحمول، فكأنما تتنفس حياة لوحدها تستمد أوكسجينها من حالة العاشقين. نعم سيناريو القصة ساذح، استطاع
حاتم علي بترفه البصري أن يحيله لحالة فنية، لا تعيق مزاج الثامنة!!
صراع على الرمال" مسلسل بدوي ووجه بالكثير من الهجوم والنقد، مرده في رأيي أنه تحالف بين مبدع كحاتم علي، وبين خلطة قاتلة : 1-أمير 2-نفطي 3-ثري 4-شاعر(؟!) (شهقة! ) هو الأمير محمد بن راشد أمير إمارة دبي. وعيب على العمل أن الحبكة فيه ضعيفة وليست إلا استعراض لأشعار الأمير. وهي كذلك، الحبكة ضعيفة أتخمت بترف حاتم علي البصري محولا إياها إلى لوحة فنية رائعة، جافت النمط البدوي التقليدي "المكرور" فجاءت في شكل ملحمي، وهي استعراض شعري، هي  استعراض شعري في شكل درامي، نعم الشعر هو البطل الرئيسي في المسلسل، شعر ينشد ببدوية فصيحة للفنان حسين الجسمي، فتطلق في الثامنة صافرات الحنين(!!). أجمل التفاتات حاتم علي، هو طريقة سرد المسلسل، فالحكاية (بعكس تقليد الدراما العربية) مروية بلسان "الشرير" وهي شخصية رقيط، الذي ينتقل من الديالوج الدرامي، إلى مونولوج مفاجئ ليخاطبك أنت المشاهد...أها! بمن تذكركم هاتان اللفتتان؟ (الرواية بلسان الشرير، والانتقال من الديالوج إلى المونولوج؟) نعم ! احسنتم! بدراما شيكسبير.
وحاتم علي أيضا يركز على الجانب اللين في البدوي البادية والتي نادرا ما تستعرض، والمتمثلة في شعره، في ترجيله لشعره، في تزينه.
ينطلق الحادي بلحن بدوي شجي :
زينه هي الموت والمنعوت والنجوى
من زينة القلب ذاب وعذبه شوقه
سوت بقلبي الذي ما أحد قبل سواه
وثياب صبري من الهجران مشقوقة

أو
ابغاها شعرها طويل مثل ليل الشتا حيران
في غابة من سواد الشعر في ليل الدجى الجاني
بنية من حلاوتها إليها تنظر العميان
ولو مرت على ميت حيا ورمى بالأكفان

عصي الدمع كما ذكرت انفا، هو مسلسل يركز الضوء على قانون الأحوال الشخصية في السورية، ولكني أتحدث عن اللفتات البصرية، ينتهي المشهد المرتكز على شخصية أو شخصيتين بظهور شخصية ثالثة هي التي ستنتقل إليها الكاميرا في خلفية المشهد، كشخص يعبر الطريق لا يمت بصلة إلى الشخصيتين السابقتين وفجأة يصبح هو محور اللقطة التالية، وذلك بدلا عن انتقال اللقطات التقليدي إما بالخفوتأو النقلة المباشرة.
لعلني ، كغيري من جمهور الثامنة العصي، منحازة إلى هذا الفنان المبدع، أولم يقل الطيب صالح ( أجمل النقد ما صدر عن حب) ؟


1 comment:

  1. ياسلام عليك ياميسونه .. تحليل عميق .. بالرغم من اني ما حضرت كل المسلسلات الذكرتيها لكن التشبيه بليغ
    بدارما شكسبير

    ReplyDelete