Saturday 30 September 2017

خطورة الفن-( شق الجيب عن الكمال) _ 3 والأخيرة



خطورة الفن-( شق الجيب عن الكمال) _ 3 والأخيرة


قلت إن الطيب صالح يدس جذوة عقله المتقد في رماد البساطة خاصة عندما
 يتحدث عن مفهومه للنقد عن المحبة، والذي فصّله في أكثر من موضع وبينها تفنيده لنقد طه حسين للمتنبئ، يبدو في الأمر شيء من السهولة، لكن بالتجربة سرعان ما يتبدى للمرء عمق المفهوم.


ربما علا صوتي مرات في التراشق الذي كان من الشاعر (والناقد الحصيف) مأمون التلب نحو الكاتب حمور زيادة وتربص الآخر في موقف دفاعي، لكن ذلك لم يكن انصافا لجانب نحو جانب اخر، فبملازمتي للإثنين أدرك مرماهما، وحين يصفو عكر "المواجهة" يتجلى منطق وحوار مهم لا بد أن يقوم، أنا كانت شفقتي مربطها أمر واحد، أني تخيلت هذا التراشق هذا من قبل في شكل حوار ومناظرة، يستفهم 
الأول الثاني، ويستوضح الثاني الأول، حوار مهم جدا جدا.

البعض اتهم مأمون التلب بالعجلة وإلباس الأمر في غير لبوسه، وليس ذاك، فمقالات المراجعة التي يعود بها بعد حملة تراشق هي قطعة أدبية فريدة ومرافعة عن المشهد الثقافي مستحقة وتتسع أكبر بكثير من حلبة صراع (مأمون-حمور) وأيضا الردود التي بادر بها حمور للدفع عن نفسه لم تنصف حوارات بيني وبينه حول أزمة المشهد الثقافي الحالية. يا للفرصة المضيعة التي كانت لتجمع بين الإثنين! وليس لطرف في حجته غلبة على الآخر، وبالمناسبة هذه ليست "دبلوماسية مني" لكنه أمرين: أولا أني جزء من أزمة المشهد الثقافي في السودان فالجرح قريب، ثانيهما الحوارات الرائقة التي كانت بيننا والتي كشفت لي أن الرأيين يتداخلان فالمنطقة ليست ناصعة البياض ولا هي صلدة السواد بل منطقة عكرة خصبة تتوالد فيها الاحتمالات.

فمن جانب خضنا أنا وحمور في مقارنة بين المشهد الثقافي المصري بمحاسنه السيئة ومساوئه الحسنة (التي تحمل الوجهين في آن) كالرعاية المؤسسية للفن، وتقاليد وأعراف تراكم التجربة الثقافية حيث تبرز ظاهرة: رعاية فنانين كبار لأجيال من فنانين صغار، او الوجه السلب لهذه الرعاية: أن يحمل بعض الفنانين دمغ المصادقة على تجارب الآخرين (مثلا الشاعر فلان يقول إن تجربة فلان الشعرية فعلا جديرة وبذا تفتح له الأبواب)، مركزية المشهد الثقافي ومركزية الموارد والدعم المادي. فحمور كلصيق للمشهد الثقافي في مصر وفي ذات الوقت هو دخيل عليها يرى ويقايس المزايا ومساوئ التجربة مقارنا بتجربته التي خاضها في السودان. (بالمناسبة هذه المقايسة لا تخص الثقافة وحدها بل حتى السياسة والتجارة والتدين). فحديثه عن فقر المشهد الثقافي السوداني ليس انكارا للمبادرات المضيئة فيه، انما مقارنة بين الفرص والموارد المرصودة للمشهد في مصر وذلك الذي في 
السودان، فالمقارنة (من ناحية الموارد والفرص) شاسعة جدا.


من ناحية أخرى، حين يصفو عكر مأمون تجد هناك فهما كاملا لأبعاد المسألة، فلا مؤسسية ولا مركزية المشهد الثقافي السوداني هو نكهته الخاصة التي جعلته ينجو من مآسي كثيرة، فقد أتاحت له حيوية وتجدد لم تتح للمشهد الثقافي العربي في عمومه، ولا تزال ترن في أذني إجابة الشاعر عاطف خيري حين ذكر أن هناك مسائل كثيرة في جدل الحداثة في الأدب العربي تجاوزته التجربة السودانية بخفة ورشاقة تحسد عليهما. كما أن الفقر فتح بابا واسعا غير متاح في المشاهد الثقافية المتخمة بالموارد، فظاهرة التعاون بين المبادرات المختلفة حتى في نوعها حيث تشايل مبادرة أدبية أخرى تشكيلية، أو مبادرة سينمائية أخرى أدبية، ثم هناك تحلل من مسألة المركزية (هو بسيط لكنه ملحوظ) حيث تتعدد المبادرات الثقافية الإقليمية، لكن لفقر المشهد تصبح لتلك المبادرات اللا-مدينية أهمية بالغة وبروزا واضحا يسهم في تطورها (ما أظن أن فرصة مثل هذه كانت لتتاح لو كان المشهد الثقافي ثريا، إذا لاستفرد المركز بكل الغنيمة) ثم هناك حيوية التجريب فليس المشهد الثقافي حكرا على أحد وليس هناك شريط أحمر (كما يقول الخواجات كناية عن البيروقراطية القاتلة كما هي في مصر مثلا)، وقد برز عن ذلك تجارب فريدة من نوعها في السودان لن تجد نظيرا لها في المشهد الثقافي العربي المكبل بثقل 
المؤسسية.


لكن من ناحية أخرى يدرك مأمون أكثر من غيره وهو رأس الرمح في كثير من المبادرات الثقافية وكان قائما عليها، أن هناك كثير من الوقت الثمين المضاع في المعافرة من أجل إقامة فعالية، سواء تأمين الموارد أو تخطي السلطات أو حتى تشجيع المشاركين، فالعمل الفني الطوعي- مع الزمن يأكل الإبداع كما يأكل الصدأ الحديد، ثم هناك الفرصة المتاحة لضعيفي الموهبة أصحاب الرأسمال في البرطعة في العمل الثقافي بكل ثقة، فالغث الذي نشهد سببه قدرة القادرين على الغثاء. (أحينا) ، ثم حتى مبادرات المراكز الثقافية الأجنبية واللطيفة جدا والتي أصبحت لها يد السبق، فإنها تلوي بيد السبق يد المشهد الثقافي السوداني بمواردها المعتبرة حيث تقفز بالزانة في الوسط الثقافي دون اعتبار لتراكم التجارب السابقة والبناء عليها، ودون رصد حاجات المشهد الثقافي حقيقة، ووفق أجندتها الخاصة والتي هي أيضا أجندة مسكينة ومحاصرة بأولويات العمل التنموي وقوانين وأعراف البلد التي تعمل فيها، فالثقافة ليست فرح ومرح، بل العمل الثقافي أيضا ماء حراق وأسئلة لاسعة في الواقع السوداني، العمل الثقافي أحيانا مصادمة ومعافرة وأنفاس حارة تنفث في عنق السلطة- ليست مفروش شارع الجمهورية بأي حال من الأحوال هي مفروش معهد جوتة. وأيضا العمل الثقافي في السودان يحتاج كثيرا من رمي الماء على الرهاب، بالضبط كدا، أن تنفق فيما ليس له أثر ظاهري الآن بل ربما يظهر أثره بعد عشر سنوات، ومن أين للمراكز الأجنبية التي تريد رفع تقاريرها نهاية العام بصبر لهذا؟ وأين لإدارات المسئولية الاجتماعية القدرة على دعم مبادرات ليست لها فائدة تسويقية حالية أو مستقبلية، ومع ذلك صعب وربما مستحيل أن تبنى أساسات العمل الثقافي دون هذا النوع من الدعم.
وقد عرفنا أمثلة لمثل هذا الدعم الرهابي في أوائل عهد مايو (وأعرف كثيرون من أصحابي اليساريين يهيجون حين أذكر هذا الأمر) كالمرتبات الشهرية الثابتة للفنانين التي كانت تمنحها وزارة الشباب والرياضة؟ أو الثقافة لا أذكر، لتعين المبدعين على "الصنة" اللازمة للإبداع والتجريب حتى لا يجري الفنانون في سوق العدادات، أو المناسبات الثقافية الفاشية السنوية الضخمة التي كانت مورد رزق ثابت للفنانين والتي لم يبقى منها سوى الدورة المدرسية والتي أصبحت مأكله لضعاف الموهبة أصحاب النفوذ. هذا الدعم الرهابي الذي منه قامت معاهد موسيقية وفنية وسينمائية هامة.

كما أن الغياب الكامل للمبادرات المستمرة هو أمر ملحمي في تراجيديته، لأن الاستمرار يعني تراكم الخبرات والمعرفة، ويعني بدوره اختصار عناء البداية من أول وجديد. لذا تجد المرء يتنفس الصعداء مع كل اعلان لاستمرار مهرجان السينما المستقلة وهو ينطلق نحو نسخته السابعة، هذا أمر نادر الحدوث في مشهدنا الثقافي في سنواته الماضية.

وجهتي النظر هاتين لن يتاح لهما التواجه واستخلاص الزبدة منهما في طاقة العراك الشرسة، وطاقة العراك الشرسة تصنع جمهورا متعطشا للدم المتناثر والجلد المنزوع وهو جمهور لا يفيد حين يؤذن للجهاد الأكبر. وإلى جانب جدال المشهد الأدبي، بينهما أيضا جدل اللغة والسرد (أيهم له الأولوية) وجدل (الكاتب الناشر قبالة الكاتب غير الناشر) و(الأدب المشهور أم الأدب المصطفى) وكلها كانت لتضفي حيوية على نقاشات الأدب الراكدة والتي اخر عهدي بها كانت تلك الحوارات الحية في منبر سودان فور أول قبل عشرة أعوام ونيف.
ليس مقالي هذا سوى محاولة استخلاص جمادة من اللبن المسكوب. واستخلاص ما يعنيني أنا شخصيا من "المواجهة" القائمة بينهما.

ذكرت أمر المحبة في البداية ولا أعني بها أن يحب المرء أخيه، انما أن يكون ولاء الناقد لما يحب حتى في ما يكره، يتجلى ذلك جليا وبديعا في مقالات مأمون المفصلة. وذكرت أمر المحبة لأوجز مناظرة بديعة! جد بديعة على اليوتيوب بين معسكر محبي الكاتبة البريطانية جين أوستن صاحبة روايات : كبرياء وتحامل، إيما، الحس والإحساس (أو العقل والعاطفة) وغيرها، وبين معسكر محبي ايميلي برونتي صاحبة الرواية الوحيدة : مرتفعات ويذرنق، وهي أيضا أخت الروائية الشهيرة شارلوت برونتي صاحبة : جين اير.
وفي النقد السهل السريع تم تصنيف جين أوستن أنها صاحبة الروايات الشعبية المحببة، لذا تجد نسخا مكررة لها في الأفلام والمسلسلات بأشكال مختلفة، وتصنف ايميلي برونتي كصاحبة الرواية العميقة.

في البداية تسأل المحكمة الطرفين عن سر انجذابهما لكاتبة دونا عن الأخرى، يقول بروفيسر اللغة الإنجليزية جون مولن محامي جين أوستن: "تعلمت حبها في وقت متأخر بعد أن تعلمت أن مسائل الزواج هي مسائل محورية في حياة الناس" تقول الروائية كيت موس: في امتحان الثانوية العامة كان هناك سؤال اختياري الأول كان عن دلالة البيانو في رواية لجين اوستن والثاني كان حول عمق رواية مرتفعات ويذرنق وما إذا كانت رواية أخلاقية ام غير أخلاقية، وعلمت منذها أني أنشد العمق في الرواية"

وتبدأ المناظرة بمرافعة محامي أوستن، فيقفز إلى قدميه متحمسا:
((رأيتكم تضحكون عندما ذكرت دلالة البيانو في رواية أوستن، لعلكم ترون في الأمر شيء من الخفة؟ لكن هناك عبقرية في البيانو! يا إلهي! يا ليتني خصصت فصلا في كتابي السابق عن البيانو في أدب أوستن، يا لعظمته! أنتم تستخفون بالأمر، لستم وحدكم في هذا، فكتاب عظماء كثار استخفوا بها، لكن من بين الكبار الذين عرفوا قدرها كانت فيرجينيا وولف التي قالت:" من بين كل الكتاب العظماء فإن جين أوستن هي اصعب من تستطيع ضبطها في مشهد العظمة" وذلك أن كل شيء ينبض تحت السطح. نعم البيانو! فما من شيء في رواياتها هو للصدفة، بل كل شيء موضوع بخبث عبقري وكل شيء يعمل في دقة وتناغم ساعة سويسرية، ففي رواية (اقناع ) تلتقي البطلة بحبيبها الذي لفظته قبل ثماني سنوات ، يطلب منها الحضور أن تعزف لحنا على البيانو للترفيه عنهم، فتجلس مثقلة على البيانو ترقب حبيبها السابق يلاطف شابتين جميلتين أصغر منها وحوار داخلي يعصف بداخلها، بينما سيدة في الحضور تلتفت إليها وتقول: يا لخفة أصابعك على البيانو!
 ولكن أريد أن ألفت نظركم إلى شيء آخر في أوستن وهي حرفة الصنعة وتقنية الكتابة ،" ويمضي البروفيسر ليحكي تفصيلة كان من الممكن بسهولة أن تغيب في ساحة الأحكام المطلقة التي تقول بأن (جين اوستن كاتبة مسلية، اوستن كاتبة ظريفة، كاتبة منزلية) ، يتحدث عن تقنية ابتدعتها أوستن ثم قلدها من بعد كبار الكتاب (بعضهم من المستخفين بها)، فروايات أوستن مسرودة دوما على لسان راوي عليم، لكن أوستن تترك لعواطف الشخصيات أن تتدخل وبملاواة حريفة تحرف السرد رغما عن يد الراوي العليم. ضرب مثلا بمشهد في رواية (اقناع) حين تصل للبطلة وشاية تخبرها أن حبيبها السابق قال أن شكلها تغير كثيرا لدرجة أنه بالكاد تعرف عليها" فيحكي لك الراوي العليم عن المشاعر التي تناوشت البطلة، ، ثم سرعان ما يخبرك الراوي أن البطلة تعقلن الأمر وتواسي نفسها، فتقنع نفسها أن الوشاية ضرورية لتوقظها من أوهامها الرومانسية ، بل إن الوشاية (لا بد) أن تجعلها سعيدة- هنا يقول البروفيسر لاحظوا لبعقرية لا بد، الراوي هو الشاهد ، لكنه ليس شاهد من موقع بعيد، بل موقع قريب جدا ، حتى أصبح ناطقا عن الشخصية، ويضرب مثلا اخر في ذات الرواية حيث يحكي لك الراوي عن مشهد يتأمل فيه الكابتن اللقاء الذي جمعه بحبيبته السابقة، ويخبرك- الراوي- أنه لم تعد للمحبوبة سطوة على الكابتن كما في السابق، ثم بعد ذلك تنساق الرواية نحو مسار آخر، فالراوي ليس عليم ولا حاجة، بل الراوي- يخربه- غافل بغفلة شخصيات الرواية، وها هنا يقول البروفيسر عبقرية اوستن التي استلهمتها من على طاولة مطبخها، فهي لم تكن من رواد الصالونات الثقافية ولا المجالس الأدبية ولا الدوائر الراديكالية ولم يكن لها اخوات كاتبات مرموقات كما كان لإيميلي برونتي."

جاء دور محامية برونتي، فتفتتح بحديث عن خلفية ايميلي وحياتها الشخصية، تقول: رغم أني لست من الميالين للربط بين الحياة الشخصية للكاتب وبين ابداعه الأدبي، لكني أسرد لكم لأبين لكم طموح الكاتبة العظيم في الرواية، فأجمل ما الرواية أنها كانت طموحة، متجاوزة لكل ما كانت عليه الرواية في ذلك الزمن، ايميلي التي تربت في الأحراش النائية من الريف الإنجليزي ، حيث المشهد الاجتماعي-دع عنك الثقافي- فقير ويتلخص في سوق محلي وكنيسة ملحق بها مدرسة أولية وبعض المنازل المتفرقة، كتبت رواية عن العالم، عن مغزى الوجود، عن أصل الصراع  والتناغم في الروح الواحد بين تناقضات الضوء والظلام ، والخير والشر.  أنا لا أنكر عبقرية الصنعة عند أوستين، لكني حين أقرأ لها أشعر أن العالم ألطف بكثير مما هو عليه، فالزواج على محوريته وأهميته هو كسر بسيط من أحوال الدنيا.
في المشهد الذي تبرر فيه كاثرين لخادمتها قرار زواجها من لينتون و السبب الذي من أجله ستترك هيثكليف صنو روحها، لم تكتفي ايميلي بحوار محبوبة مكلومة بخيار الزواج من شخص لا تحبه، لا، بل الطموح يمضي بها لتتحدث البطلة عن أصل الإنسان، عن صراع الضوء والظلام بداخله، عن الخطيئة والنقاء عن عناصر الكون والطبيعة.
كانت طموحة وصادقة، فروايات العهد الفيكتوري كانت روايات لطيفة مهذبة محتشمة، كل شي مضبوط، وكل شيء يتجاهل بإصرار الواقع، فرواية مرتفعات ويذرينق مليئة بالأطفال اللقطاء وآباء عنيفون، وعن عشاق لا يعرفون كيف يحبون بعضهم في أجواء البغضاء والتحامل والعنف. في روايتها الأبطال الفيكتوريون لا يدسون مشاعرهم خلف منديل حريري، بل يبكون بحرقة مشرعي الأيدي ودموعهم تنساب حرى على خدودهم، ويدقون صدورهم جزعا. وذلك قبل أن تطبق روايات ديكينز الآفاق كتبت ذلك في عزلة منزلها الريفي.
المناظرة بديعة أنصحكم بمشاهدتها على اليوتيوب

  لكن ما الذي خرجنا به من هذا الحب الذي جعل كل مترافع يتحزب لمحبوبه؟ مكاسب لنا جميعا، تقدير متجدد لجين اوستن وتقدير متجدد لإيميلي برونتي، والأهم من ذلك تقدير أعظم لحرفة الأدب والفن.
وهذا ملخص مقالتي، ليس فقط في الأدب بل حتى في السياسة والاقتصاد، فنحن أبناء جيل محروم، محروم من المدنية من عافية الحياة الثقافية والفنية العامرة، من تقاليد الديمقراطية وصناديقها، عافية مؤسسات الدولة محرومون من أمان القانون والمحاسبة، من حيوية الصحافة وريادتها، من كل ذلك، ما الذي نعرفه حقا عن حياة المجتمع الحديث؟ لا شيء سوى مخلفات الحضارة: عربة وموبايل وكافيه والصرافة الآلية. واخر ما نحتاج إليه هو أن يحدثنا أحد عن السوء، السوء الذي نعايش ونقتات عليه، بل نحتاج لأن يعرفنا أحد بفقدنا أن يبرز لنا طرفا من مشهد الكمال.



خطورة الفن ٢



خطورة الفن ٢


"يا موسى، موسى! أنا محمد المرزوق ممكن أتكلم معاك؟"
كانت الكاميرا تتابع رجلا نحيلا معفرا في خور ،منهمك في لملمة وتصفيف أوراق مهملة ، يختلس نظرات طفولية نحو الكاميرا ثم يخاتلها مديرا ظهره لها.
هناك شيء مؤثر في نداء المخرج محمد مرزوق لموسى، دعوني أضيف، هناك خطورة في ندائه، تلك الخطورة التي وصفتها في مقالي السابق حول الفن الذي يرج السائد، يروي المغاير، يفتح باب الإحتمالات.

التجربة السينمائية المعاد بعثها في السنوات الأخيرة جاءت حبلى بالكلام الذي لطالما تم كبته وحبسه بسبب هواجس السلطة التي كانت تحاول دون جدوى فرض سيناريو موحد لما يحدث، ثم عندما فشلت حاولت التحكم في مساراته، وعندما فشلت في ذلك أيضا لم يبقى لها سوى وضع العوائق المادية والمعنوية أم هذا البوح والفضفضة البصرية. تناولت التجارب الفلمية مواضيع شتى اجتماعية وسياسية وثقافية كانفصال الجنوب، قمع المرأة، القمع السياسي، اجترار ماضٍ كان مبشر بالكثير وحاضر عاقر، أطفال الشوارع، النزوح، يأس الفنان وموت الابداع. هذا الفتح السينمائي يسقي الآن أوردة الشارع السوداني التي تيبست بالصمت المفروض من الدولة. وكلها تحمل عنصر خطورة ربما في التصوير، في القالب الفني، حتى في مجرد كسر النمط المفروض: أننا عاجزون عن الإبداع.
لكن من ناحية الموضوع، أعتقد أن فيلم موسى يفارق الأفلام الناشئة في أنه لا يحدثنا بما يدور أصلا في دواخلنا ونعجز عن الإفصاح عنه، ولا يسرد وجهة نظر مقررة من قبل صانع 
الفيلم، حتى إن بدت في شكل تساؤل: من المسئول؟ أو من المذنب؟

لا، فيلم موسى هو رجة للمفاهيم المجردة في دواخلنا للصواب والخطأ، المذنب والبريء، السلم والعنف ، وهي مفاهيم في الحياة يتم التنقل بينهما في سرعة مدوخة أو الجمع بينهما بشكل يبدو في عالم التنظير النقي مستحيلا، لكنه ممكنا ومعايشا كل يوم. قبل أن أستمر أنا أيضا في التنظير المجرد، اليكم هذه القصة القصيرة من القاص الحكاء عماد عبدالله

"دباب جهادي مليشي أيام الهوس بتاع ساحات الفداء داك.. وهو في الجنوب وسط كورجة المجاهدين، بينهم وبين ناس الحركة الشعبية زي مية متر بس، يرفع راسو وسط القش ويكورك للعساكر بتاعين الحركة:
 (الله مولانا ولا مولى لكم) - كرررررررططططط يفتح نار في عساكر الحركة –( قتلاكم في النار وشهداؤنا في الجنة) وكرررررررطططط يفتح نار.
: كل ما يقول كده، يقوم يرد عليهو من بهناك واحد من عساكر الحركة
 (مندوكورو قونجيبنق كونانقي)، كرررررررططططط - ويفتح فيهو نار (جنى أرب اواليقين فطيس) وكرررررررطططط يفتح نار
 بالطريقة دي زي شهر.. كل يوم شتيمة ونبيحة زي ده.
 قوم يا المجاهد بتاع الكواريك طقتو ليك ملاريا جوه القش داك جدعتو دلقان. يوم كااااامل وهو المسكين راقد، مافي أي كواريك ولا نبيحه. قريب المغربية كده بتاع الحركة الشعبية بهناك قعد يكورك ليهم:
) (هوووووي يا جنى أراب أواليقين إنتو.. وين زول فطيس تااا جنه ونار وحركات ده؟؟
: الدبابين ردوا ليهو
(عيان يا عدو الله.. عيان)
 بتاع الحركة رد ليهم
) (أليك الله؟؟ قول ليهو سلامتك يا اواليق.. تعال سرييء سرييء شان انينا زهجنا
 و.. كررررررررررطططط فتح فيهم نار
-----
انتهت قصة عماد عبدالله، وعماد قاص خطير وهذا حديث له أوانه، أذكر قبل سنوات بعيدة وإبان ازدهار منبر سودانيز أون لاين، تم تناول قضية الجنوب -كان ذلك قبل الانفصال- وتعالت الصياحات المكتوبة ما بين ممجد لهذه الرابطة الوطنية الفريدة وما بين مندد لسياسات التفرقة، وكان هناك تساؤل مني، ضمن تيار شبابي مشكك في هذه المسلمات عن حقيقة هذه الروابط، ما الذي قدمناه تجاهها غير أناشيد المحبة أو العويل، وتأملت في غياب الجنوب في عهد السلم وحضورها الكامل في فترات النزاع، أصبحت أسماء المدن كنمولي وكاجو كاجي وأويل وغيرها حاضرة في الذاكرة الشعبية السودانية، بالطبع لا بد أن أوضح خاصة في عهد التجريم والإدانة الإلكترونية السهلة أني هنا لا أمجد الحرب بأي حال من الأحوال ولا أعني أني أراها كآلة علاقات عامة جيدة، بل هو تأمل في حالنا العجيب حين نركن للتجريد الرومانسي بدلا من أن نواجه أنفسنا بالأسئلة الحقيقية، في القصة أعلاه -بتأويلي أنا- علاقة حقيقية ، دموية نعم، خشنة نعم، لكنها كانت الأقرب من كل الهتافات الجوفاء، المهتمة بتجميل الذات بالتسامح لا بذل اليد في معرفة الآخر، االمفعمة بروح المحبة المتعالية لا التواحل في 
الندية.

فيلم موسى والذي عرض في مهرجان الشفاء السينمائي بمدينة بورسودان، إثر ورشة تدريبية لصناع الأفلام الهواة عام 2013 ، يحكي قصة موسى والذي كان عسكريا ، ويبدو من الفيلم أنه شارك بحماسة في حرب الجنوب تحت اكذوبة الوحدة الوطنية التي تدثرت بها الجبهة الإسلامية وقتها لتعطي لنفسها شرعية ما ، فسفكت دماء المدنيين وشردت الملايين منهم وألقت بآلاف الشباب في أتون الحرب، شارك فيها في حمرتها وجذوتها عام 1991 وأصيب في ساقة بعد سنتين، نقل اثرها للخرطوم حيث قضى الطبيب ببتر قدمه ، يرفض موسى أن يتم البتر فتتفاقم حالته النفسية وبدأت مرحلة شروده في الخيران بعيدا عن الناس، تتصاعد حالة موسى بعد اعلان انفصال جنوب السودان ويبدأ في مسح وجهه بالسكن الأسود في موقف رافض لانتهاء المشروع الذي فداه بجزء من جسده. وقتها ملأنا صفحات الفيسبوك بقلوب مكسورة وخريطة سودان باكية على ضياع بنطلونها (!!).ثم انصرفنا إلى أحوالنا. في الفيلم حوارات متعددة من زملاء موسى في السلاح وبعكس معظمنا فإن الإنفصال حالة متجذرة في داخلهم، حالة حزن معاش ، ليست وصائية، لا، الوصائية كانت عندنا نحن أهل التجريد، لكنها شيء آخر لمن خاضوا عميقا في الدم، شيء يتجاوز الحسرة (والتي هي موجودة بالطبع) لكن لعله ذلك الأمر تحديدا، خوض الدم- دم "المجاهد" و "دم المتمرد" ، الإنسانية التي تبدت في سفك الإنسانية، غريب؟ في الأدب ليس غريب ، وقد ورد كثيرا.  في مقطع من الفيلم يقول أحد رفاق موسى "عندي مجسمات لحيوانات في بيتي، ويغضب موسى كثيرا عندما أضع الأسد خلف الغزالة مهاجما، فيغير وضعها ويقول على الجميع أن يعيشوا في سلام"

عندما شاهدت الفيلم برز في ذهني شخص كنت أرى أنه سيلتقط روح الفلم ، وهو القاص عماد عبدالله ، علق الكثيرون على الفيلم بحزن وتناولوا لمأساة، لكن عماد لن يفوت عليه ان الفيلم قصة حب، لن يفوت عليه تلك الحفاوة والسعة التي يبديها أهل قاع المدينة بأحوال المنبوذين الضائعين، يقتسمون وقتهم الثمين، ولقمتهم العزيزة، وقلبهم المزدحم بالهموم. ففي وسط المدينة التي تشنأ موسى بالتجاهل، العربات المتسارعة، الطلاب المستعجلون، الموظفون الهرعون كلها في تناقض حاد مع حميمية الأيادي المحتضنة في حفاوة لموسى في الأزقة الطينية الضيفة. سعة في الضيق! وهذا ما تجده كثيرا في كتابات الطيب وعماد. وفلم محمد المرزوق.
ومحمد اضافة الى مشروعة الفلمي هو مصور و فنان عازف للفلوت وعمل متجولا في ارجاء السودان في العديد من مشاريع التنمية والتعليم وهو والد لطفلة تدعى: سلام.

لمشاهدة الفيلم :

https://www.youtube.com/watch?v=g_GGEOWky5o

Sunday 27 August 2017

خطورة الفن ١

(نشر بملف الممر الثقافي بجريدة السوداني الجمعة  ٢٥/٨/٢٠١٧

خطورة الفن١



"الفن هو أقصى ممارسة للحرية، الفنون السردية مثل الشعر و الأدب تتجاوز اللغة كأداة وضعية، وكأداة للتواصل، تحول اللغة الى غاية في ذاتها تعيد تشكيل اللغة لاعادة تشكيل الواقع" هذا د. نصر حامد أبوزيد في محاضرة جميلة له مسجلة على اليوتيوب (ومنقولة ببعض التصرف مني) بعنوان الفن وخطاب التحريم، فيها يتحدث عن المعارك التي كان يثيرها الفن منذ الأزل مع حراس العرف وحراس السائد وحراس القوانين.
وذكرني هذا بحوار لي مع أحد الكتاب كنت قد نوهت الى اهماله للغة ، فكانت حجته أن اللغة ليست سوى مطية للفكرة، ولعلى نوهت في مقال لي أن ما يميز الثلة الغرائبية الغامضة -بحسب وصف الكثيرون لمجموعة من الشعراء السودانيين الحاليين- هو أن اللغة هي-غاية في ذاتها- كما وصفها د. أبوزيد، وكثيرا ما تطوع الفكرة من أجل اللغة في كتاباتهم . لكن اضافة نصر حامد حول ان السبب في ذلك هو : (اعادة تشكيل اللغة من أجل اعادة تشكيل الواقع) هو ما جعلني أنظر للأمر بعين جديدة، ولفتت انتباهي أيضا لحوار جميل مع الكاتب الهندي  "أرافيند أديقا" الحاصل على جائزة المان بوكر لروايته الخطيرة " النمر الأبيض" ، وأصفها بالخطيرة لأن الفن خطورة، ولا بد أن يستشعر الفنان ذلك في عمله، أنه يقوم بأمر خطير. وهذا ما أود أن ألفت الانتباه له بالنسبة لنا الكتاب الذين لازلنا نسبر أغوار هذا المجال، فالتدثر بعبارات مثل " انه مجرد نص ليس شعر" أو "انه سرد وليس رواية" لا يجعل الكتابة بمعصم عن النقد، أيا كان القالب فلا بد أن يكون مرجلا للخطورة ولا بد أن يكون للكاتب علة في اختياره قالب دونا عن غيره، ولا بد أن تكون تلك العلة هو احداث تغيير ما- اذا لم يكن ذلك، فإن الكاتب لا الناقد هو من يزري بكتابته بنفسه.
تم استضافة الكاتب ارافيند أديقا في مدينته القديمة منبت أصله مدراس والتي أصبحت الآن تعرف بإسم  تشيناي، ورغم انه يصف نفسه بالخجل لكن واضح أن سعادته بالعودة للمدينة طلقت لسانه فتحدث كثيرا. أنقل الحوار لأنه يضيء جوانب مهمة في حوارات تدور الآن في الساحة الثقافية السودانية، واحدة حول "الحنين للمدن القديمة" والثانية "الرواية كمجرد حدوتة"
(نبذة سريعة عن "النمر الأبيض" هي مروية على لسان "بطلها" في شكل خطاب موجه للرئيس الصيني بعدما علم من الأخبار انه سيحضر في زيارة للهند، والرسالة عبارة عن مجموعة نصائح كي ما تسهل للرئيس فهم الهند ومن ثم معرفة كيفية الاستثمار فيها، يتحدث من موقعه كرائد أعمال استطاع جمع رأس مال عمله بعد قتله لمرؤوسه الذي كان يعمل عنده سائقا، قصة عجيبة فيها تبصرات جميلة وبلغة  حية ونابضة و طاعمة جدا)



"تركت الهند فجأة عام 1990 بعد وفاة والدتي بالسرطان، وقد سبب رحيلها فتقا كبيرا في حياتي لذلك تركت الهند وعدت إليها بعد عشر سنوات كصحفي لمجلة التايمز في نيودلهي، وفي الحقيقة كطفل نشأ في  مدينة (مدراس)- عفوا أقصد (تشيناي)- كانت نيودلهي مدينة مدهشة وكبيرة بالمقارنة مع مدينة طفولتي، وعندها عرفت أنني أود الكتابة عن هذه المدينة، بدأت بمجموعة قصص قصيرة ثم الرواية، في الحقيقة أذكر تماما اليوم الذي فكرت فيها بكتابة رواية النمر الأبيض، كنت في نادي للمراسلين والصحافيين الأجانب أتجاذب أطراف الحديث مع هندي من جنوب افريقيا، كنت أحاوره لأعرف عن طبيعة حياة الجاليات الهندية الجنوب افريقية، وحوالي الساعة السابعة مساءا قررنا الرجوع الى منازلنا فسألني (كيف سنرجع الى البيت؟) فأجبت (كما كل يوم- سنركب الركشة) فذعر الرجل وقال لا، سيقتلوننا ويسلبون مالنا! فأجبته باستغراب: لا لن يحدث ذلك، فأخبرني أنه في ديربان في جنوب افريقيا لا يمكن للمرء أن يفكر في التمشي وحيدا في الطرقات ليلا.  وكان الأمر مدهشا له أن الهند آمنة -آمنة للرجال بالطبع وليس للنساء- خاصة وأن الهند تشبه جنوب افريقيا في العديد من المناحي، فكلاهم بهما فجوة طبقية متسعة، وكلاهما لهما بنية اجتماعية تلعب فيها العمالة المنزلية دورا كبيرا، كما تعلمون أن في الهند العمالة المنزلية تلعب دورا كبيرا يصل حد أن يكون لهم مدخل لأموال مرؤوسيهم وحيواتهم الخاصة. بوسعك أن تأتمن العامل المنزلي على مبالغ كبيرة من الأموال ليودعها لك في البنك أو أن تأتمنه على توصيل أبنائك للمدرسة. ومع ذلك ليس لدينا تلك المشاكل الإجرامية التي نسمع عنها في جنوب افريقيا أو في أمريكا اللاتينية. أعلم أن الكثيرون منا يشعرون أن الهند بلد غير آمنة لكنها احصائيا بلد الى حد كبير آمن برغم الظروف التي يجب أن تؤدي لمعدلات أعلى في الجريمة، وهي كما ذكرت فوارق طبقية كبيرة، والمدخل الذي يجده الفقراء والعمال المنزليين لثروات مرؤوسيهم. وقد ضايقني هذا السؤال لفترة طويلة، لماذا الهند آمنة؟ وتحت أي ظرف يمكن لنظام الأمان هذا أن يتغير؟ وحاولت الإجابة على هذا السؤال عبر مجموعة قصصية في البداية فيها قصة معنونة باسم "بين الإغتيالات" ثم توسعت فيها في روايتي النمر الأبيض"
ولعل في اجابة أرافيند هنا علة الرواية السودانية بعد الطيب صالح، حيث نجد في معظمها غياب السؤال، كثير من الروايات هي إقرار أو إجابة أو عرض فكرة لذا برغم براعة التصوير ورسم الأحداث سرعان ما يداخلك الملل حيث لا يغيب عنك إما خفة الرواية أو نبرة الوعظ فيها. وقد فصّل الطيب صالح فكرة السؤال الذي يتم اكتشافه عبر الرواية في أكثر من حوار صحافي معه.
الناشر الإنجليزي لرواية النمر الأبيض يسأل أرافيند "لكن نيودلهي في روايتك ليست مدينة آمنة"
"دعني أعود بك لقصة طريفة، كنت أعمل في صحيفة التايمز في نيودلهي وكان رئيس التحرير إنجليزي يدعى لوك بيري وهو رجل طيب و صحفي بارع، وكان للوك سائق اسمه راكيش، وكان على الدوام حين ينتظر مديره يقرأ سلسلة مجلات بعينها، وكلما مررت به أجده يقرأ هذه المجلة باللغة الهندية، وكما تعلم الهندية ليس لغتي الأولى فقد عشت في بانقلور طوال حياتي، لذا ظننت أن هنديتي التبست علي أثناء قراءتي لعنوان المجلة، لأن المجلة كان عنوانها (الجريمة)، فسألت راكيش عن المجلة التي اتضح أنها مجلة قصصية شعبية مشهورة ومحبوبة لدى مجتمع السائقين في نيودلهي، وهي عبارة عن مجموعة من القصص، فيها يقتل السائقين مرؤوسيهم!! وراكيش بالمناسبة هو سائق طيب وشخص مؤتمن ولكن ها هو يقرأ الرواية أمام مرؤوسه الغافل عن كل هذا، والمجلة كما قلت لك مشهورة جدا ويتم طبع أعداد ضخمة منها.
وقتها كنت أسكن في حي اسمه نظام الدين، وكان فيها مزار يحضر اليه العديد من الفقراء من الولايات القريبة وجلهم يبيتون في العراء قرب المزار لأنهم لا يجدون مكانا يبيتون فيه، وهو منظر مدهش للهند الليلية التي لا يراها الناس، تجدهم يجلسون في ثلل حول  أعمدة النور يقرأون الصحف اليومية بلغاتهم المتعددة ، ثم  فجأة تراءت لي صورة في خيالي ، رأيت كل هؤلاء الرجال عاكفون يقرأون مجلة الجريمة ، وبدأت أفكر في الهند، والتي هي الى حد ما مجتمع حر بالنسبة لرجل من الطبقة المتوسطة مثلي، ففكرت: هل توجد أنظمة للسيطرة الإجتماعية على هذه الجموع؟ وما هي تلك الأنظمة؟  لأن صورة كل هؤلاء القراء لمجلة الجريمة والتي فيها قصص يقتل السائقون مرؤوسيهم- بالطبع في كل القصص يتم القبض على المجرم وأظن أن القصص تعمل كمنفذ لمشاعر مكبوتة- تطرح السؤال:ما الذي يجعل الهند آمنة؟، وعندها كتبت النمر الأبيض وفكرت في الظروف التي يمكن فيها للهند أن تتغير. تعرف؟ لقد كنت دوما مفتونا بفكرة التاريخ المغاير للهند، فمعروف أن القصص المروية عن استقلال الهند ليست صحيحة بأكملها، وأعتقد أن دور الكاتب هو نبش هذا التاريخ المغاير. واحدة من ذكريات الطفولة هو قراءتي لحوار مع الفنان أوتبال دات، وكلنا نعرفه كفنان كوميدي هزلي ولكنه في شبابه كان نكسلي (الماويين الهنود) وكان قد أخرج مسرحية عن تمرد بومباي، والتي تحكي عن تمرد ضباط البحرية وأن هذا التمرد المسلح كان السبب الرئيسي في خروج الإنجليز من الهند، رغم أن الكثير من الهنود سيقولون أن الإنجليز خرجوا بسبب المقاومة السلمية تحت قيادة غاندي وأن أحداثا مثل تمرد البحرية في بومبي أو انتفاضة تيليقانا وانتفاضة الجيش الهندي كانت محاولات مسدودة، واوتبال دات كان يشكك في كل ذلك ويرى أن العنف هو كان السبب في حصولنا على الإستقلال، واذكر انبهاري حين قرأت هذا الحوار وأنا في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري وهرعت نحو المكتبة لأبحث عن كتب التاريخ الموازي للهند وركزت على كتابات اليسار المتطرف واليمين المتطرف وقد ألهمني هذا بكتابة احدى قصصي القصيرة. لكن النمر الأبيض ليست تاريخا مغايرا بل يمكنك القول أنها مستقبل مغاير للهند، النمر الأبيض رواية عن الحرية وعن كيف يصبح الرجل حرا وعن أنه كيف يمكن أن يكون العنف شيئا محررا."
الناشر: الكثيرون في الهند ممن قرأوا الرواية اعترضوا عليها بشدة وقالوا أنها تنقل صورة مشوهة عن الهند، رغم أن الرواية هو لوي للحقائق بشكل ما لخدمة السرد ما رأيك؟
"اوه يا الهي! نعم أذكر أنك قلت لي أن أحد القراء كان غاضبا وأنه نادى سائقه الخاص وخدم البيت أمامك ليشهدوا بحسن المعاملة و ما إلى ذلك. بحق الله يا هنود ما هذا. المدهش أن ما أثار حنق الناس لا يتعدى قل 15% من ثيمة الرواية، لكن قلب الرواية حين شرعت في تكوينها في خيالي كانت حول الحرية وكيف يصبح الرجل حرا وحول معنى الحرية لمهاجر للمدينة حين يصل إلى نيودلهي.
في صغري كنت منبهرا بكتابات سودير كاكر في الثمانينات ومن المثقفين القلائل الذين قدموا تحليلا للنقد الأجنبي لأدب الهند، وهو محلل نفسي، وكان قد كتب عن التحولات التي تحدث في قصص المهاجرين للمدن، القرويين الذي يحضرون لمدن الهند الكبيرة وكان يكتب عن التحولات من ناحية اقتصادية، وكتب أيضا مجموعة مقالات حلل فيها الرسائل التي يكتبها المهاجرون للمدن لذويهم في القرية، ومحاولة فهم التغير الذي يحدث لهم في المدينة، وأهم التغيرات التي لاحظها كاكر هي أن المهاجر يستعيد السيطرة على جنسانيته ، فيحدد من أمر زواجه وأمر حياته الجنسية، وهو أمرر محرر للغاية وفي ذات الوقت مهدد للغاية، لأنه برفضك للزواج التقليدي المدبر فأنت تقطع صلاتك بمجتمعك بطائفتك بقريتك،  وكان من الملاحطات التي دونها كاكر والتي وخلقت أثرا عميقا عندي هو أن في خطابات المهاجرين لذويهم في القرية كثيرا ما يتكرر موتيف أو ثيمة حيوان التي لا تكاد تخلو منها الخطابات، فقد يركز المهاجر على ببغاء مثلا ويتكرر حكيه عنه في الخطاب، وقد فسر كاكر ذلك أن ثيمة الحيوان هذه قد تكون الطريقة التي يتعامل بها المهاجر مع جنسانيته وهذه الحرية الجديدة المكتسبة، وقد علق ذلك في ذهني وبالتالي كانت فكرة النمر الأبيض."
الناشر: ولماذا اخترت نمرا أبيضا
"كان ذلك في تجوالي في الهند، وفي مرة زرت حديقة الحيوان وقد لفت انتباهي هذا الحيوان، كان النمر الأبيض بالخطوط السوداء على جلده الأبيض حين يتجول في القفص يتماهي مع القضبان السوداء والفراغات البيضاء فيبدوا أثناء مروره وكأنه يتحلل وكأنه يذوب، فكان أمرا مثيرا في وسط هذه الحيوانات المسجونة والتي تبدو وكأنها على حافة الجنون والهذيان.
لكن تعرف المثير في الأمر أن طوال السنوات التي تلت نشر الكتاب لم يسألني أحد عن رمزية النمر الأبيض ما عدا شخص واحد أعتقد فهم ثيمة الكتاب، وهو مخرج سينمائي في بومباي وذهبت للقائه لأمر ما في مكتبه، وكعادة أهل بوليوود فقد تم لطعى لمدة ساعة كاملة قبل أن يحضر، وعندما حضر وقف بعيدا وظل يحملق في لمدة طويلة شوشتني قليلا (حتى أخبرني صديق لاحقا أن هذا المخرج يفعل ذلك مع كل شخص غريب يأتي للمكتب حيث يحاول أن يتذكر إن كان مدينا له بالمال وإن كان عليه الفرار)، المهم بعد أن اطمأن لجانبي جلسنا في المكتب وسألني: يا سيد اديقا أنا أعرف أنك شخص مشهور ولكني نسيت فيم شهرتك؟
فأجبته أنني كنت نشرت كتابا وكذا، فأجاب: اه نعم كتاب عظيم، أنا لست رجل كتب ولا أحب القراءة أخبرني في سطر أو سطرين عن حبكة الرواية. فأخبرته أنها رواية تدعى النمر الأبيض و تحكي عن سائق يقتل مرؤوسه في هندي. فصاح: عظيم ممتاز قصة رائعة لكنك اخترتك عنوانا رديئا، فسألته: ولكن لماذا؟ فأجاب لأن النمر الأبيض حيوان بديع وهو حيوان مسالم لا يؤذي أحدا هذا عنوان يصلح لرواية حب لا لرواية جريمة، فجلست أفكر أن من بين كل الذين قرأووا كتابي وحده هذا الرجل الذي لم يقرأ كتابي قد التقط فكرته."
ثم رد أرافيند على سؤال عن مدينة طفولته ومنبت أصله مدراس والتي أصبح اسمها تشيناي، وقد لفتت إجابته انتباهي للحكاوي الحنين التي يجترها الخرطوميون والأمدرمانيون وأهالي المدن السودانية. قال
"تشيناي التي كبرت فيها لم يعد لها أثر، كنت قد حاولت من قبل التجول فيها باحثا عن ملامح طفولتي ولكني اكتشفت أن هذا خطأ ما عدت أزور المدينة كمسافر عبر الزمن ، بل أصبحت أتطلع لحاضر ومستقبل المدينة واذكر اني كنت ابحث عن كتاب عن تشيناي في مكتبة في بومباي فوجدت كتابا اسمه: تشيناي لا مدراس، وقد غير الكتاب نظرتي لمدينة طفولتي تماما فقد ناقش الكتاب كون مدراس مدينة انجليزية في الأصل وأن تشيناي هي مدينة هندية وأن هذا التحول الذي حدث في المدن قد أطلق في طاقات مهولة."
الناشر: لكن ألا ترى أن مهمة الكاتب هو استعادة الماضي عبر كتابته أم أن الأمر عاطفي زيادة عن اللزوم؟
"ممكن أن يكون ذلك ، لكن الأكثر تشويقا هو فهم ديناميكية المدينة الحاضرة،  تعرف الكثيرون يعتقدون أن مدراس هي مدينة محافظة لكن الأمر عكس ذلك تماما كانت مدينة راديكالية، أذكر أنني قرأت في ارشيف المدينة عن توصيات كبارها بأن يتم فرض تعليم الرقص لبنات المدينة في وقت كانت الهند تنظر إلى الرقص وكأنه أمر ساقط ،وقد علقت في ذهني عبارة من رواية ايطالية تدعى "الفهد" والتي كان تتحدث عن تحول مدينة صقلية من ماضيها الأستقراطي لحاضرها المديني، فيقول أحد شخصيات الرواية الأستقراطية (لا بد أن يتغير كل شيء ليبقى كل شيء ) وتشيناي مدينة راديكالية للغاية، تتطلع للحاضر أكثر من الماضي.
أليس هذا المقطع عجيبا؟ والاقتباس؟ (لا بد أن يتغير كل شيء ليبقى كل شيء على حاله) صحيح أن السلطة لم تألوا جهدا في طمس روح المدينة وخذلان روادها وتكبيلهم بالغلاء وبالقوانين  وزحف الرأسمالية الطفيلية المسمسرة الا انه حالة النوستالجيا الآن في الخرطوم وأمدرمان تتطلع نحو الماضي وتجتر القديمة وتود تجميده في الحاضر، وهو المنافي لروح المدينة التي يحنون إليها، حيث كان روادها متحركون أحياء نهمون للحاضر ساخطون على الماضي، رافضون للسكون. -فهذه الديناميكية القديمة للمدينة هي ذاتها ديناميكية المدينة الحاضرة، ربما علينا أن نتطلع بفضول لديناميكية سوق ليبا بدلا من صب اللعنات عليها، والثورات والجرافة والفتح والفردوس والمعمورة والحاج يوسف وغيرها- لا أعني تمجيدها! هذه كمان نظرة رومانسية مريضة، لكن تضمينها في خطاب يوتوبيا المدينة.
"قبل فترة وجدت اسم صديق طفولة في الصحف وقد أصبح من اصحاب الأعمال وأحد المتنفذين في المدينة، وأذكر أنه كثير ما كان يصطحبني للسينما ليقوم بترجمة الفيلم للغة التاملية التي أنا ضعيف فيها، كنا نقضي أوقات جميلة وفكرت أن أزوره وأبحث عن طفولتي فيه لكني سرعان ما عدلت عن الفكرة، لأني تذكرت وقتها أنني حينها سأتقهقر نحو مدراس بينما علي التقدم نحو تشيناي."
الناشر: لكن ألم يكن هناك شيء من الغواية لمقابلة صديقك؟
"في رأيي أن الغواية في تشيناي هي التطلع قدما"