Tuesday 13 December 2016

المانجلك اا المانجلك

كان المانجلك قد فقد شهيته لكل شيء ، يستلقي على البينش يقرأ مجلات قديمة او كتبا بعناوين مريبة مثل تاريخ المبيدات في مشروع الجزيرة وأثرها  ، يقضي نهاره كله هكذا زاهدا في الأحاديث والنقاشات و الندوات والأركان والتجمعات السياسية والثقافية.  كان خموله هذا يفسد شهيتي التي كانت تبرعمت لكل ما يخص الشأن العام. كان حاجزا بيننا يقوم .
وفِي صباح باكر وأنا في طريقي إلى الكلية فاجأني المانجلك بتأهب وتأنق (قدر المستطاع) وحماسته القديمة تشع من عينيه. 
"وين انتي؟ اتأخرتي! منتظرك من قبيل عندنا مشوار" ، أجلت سؤالي عن المشوار لخاطر تلك الحيوية التي افتقدتها فيه ، وفِي موقف المواصلات سألت عن المشوار.
"خالد ديمقراطية جابوا ليه بنية" 
خالد هذا زامل المانجلك قبل أعوام بعيدة ، ايام صباه ،في احد التنظيمات الطليعية  ، ورغم اختلافهم السياسي فيما بعد ظلت بينهم مودة وعشرة. خالد منذ عام قرر أن يقامر ويجرب حظه في الهجرة بعد أن يئس من فرصة عيش كريم في بلاده ، تاركا خلفه حنان حب حياته ، سليللة أسرة طليعية تحرجت من رفض خالد ابن حزبهم الطليعي رغم رقة حاله. 
مر المانجلك على دكان واشترى نصف دستة مشروبات غازية وعلبة حلوى  سلمني إياها ، اشتراها بأموال اعرف انها تحويشة عمله الشاق في مصنع الأكياس البلاستيكية ، قبالة باب المنزل اعاد تلميع حذائه وشد ياقة القميص ، وطرق الباب، أشار علي ان أقف قبالة باب صغير هو باب النساء المفضي الى النفساء لا ريب ، ثم وكأنما تذكر شيئا  " معاك قروش ولا أديك؟"  دهشت من السؤال " معاي يا المانجلك" ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه " ما تكون المدينة والسياسة نستك عوائد البلد، تعرفي تعصري حق اللبن؟ " ضحكت " بعرف يا المانجلك " .فتح الباب رجل سبعيني ضئيل الحجم ، هو والد حنان ، عرف المانجلك ورحب به وأشار علي ان ادخل على البيت . 
بعد فترة من جلوسي اشارت علي والدة حنان ان اذهب على حوش الرجال  كانت قد أعدت صينية افطار مدنكلة هي بقايا كرامة الولادة ، جلست بعيدا فأشار المانجلك ان اجلس الى الصينية بنظرة ملحة " معليش يخوانا بت الريف دي دايرنها تتمدن ، اقعدي افطري معانا " ونادى والد حنان ابنته الصغرى لتؤازرني في الصينية (سيخبرني فيما بعد بأن اقبل ضيافة الناس كما يختارون فلا ندري لعل ما لديهم لا يكفي للقسمة على صينيتين )طرق الباب رجل وصاح "الظاهر حصاني جواي " "اتفضل بأخينا" ، التقت عينا الرجل الداخل والمانجلك واشتبكتا لوهلة، رأيت فيها بريق معرفة قديمة، شعرت بتغير شيء في المانجلك ، تغير في طاقته او الأورا كما يسميها الخواجات .
بعد تبادل سلام وبعض اللقيمات ، قال الرجل : أظنك ما إتذكرتني يا المانجلك؟
أبطأ المانجلك في تناول لقمته ونظر اليه جوة إنسان عينه
"بعرفك. كويس، ما بنساك"
ابتسم الرجل لعله بشيء من الحرج الذي أراد ان يداريه ببعض الجرأة" اتلاقينا في المعتقل زمان، ديك ايام صعبة محتكما صعبين وانتو كنتو صعبين" ، تمددت ابتسامة جانبية على وجه المانجلك ورفع حاجبا ساخرا اغاظ الرجل  " ايام كانت ، وين أصحابك  ديل ، كانوا صعبين لكن نحن زاتنا كنا صعبين ، كسرناهم ليك كسرة" ، والد حنان امتقع وجهه وقد تبدت اخيراً له حقيقة جاره . اظلم وجه المانجلك " ودا عمل تفاخر بيه؟ انك كسرت رجال؟ لا في عركة لا في نزال ، رجال عزاز في القيد. وانت مدسوس ورا السلطة؟"  رجع الرجل الى الوراء دهشا وتلفت حوله ليرانا نمضغ في صمت واعيننا معلقة عليه".

كان التوتر باديا على وجهه، سكت بينما تبادل المانجلك حديثا وديا مع والد حنان ، ثم بعد تدبر وجد الرجل سانحة يدخل منها بين ثنايا الحديث المدار".. لكن هسي البلد اتغيرت والحاجات ماشة في تحسن ما زي اول"  بادره على الفور المانجلك " اتزوجت يا سعيد؟". ابتسم بحماسة وأجاب " وعندي أربعة اولاد صغار"
بسرعة ناوله المانجلك سؤالا اخر " هسي ناس الأمن بيدوك كم؟" اجاب بشيء من الزهو " مليون"  وبالسرعة ذاتها بادره المانجلك " قول يعني عشان تكفي الوليدات انك بتشتري وطلبن لين، الرطل هسي ٢ونص ومحصل تلاتة يعني انت بتصرف في الشهر ستمية الف دا للبن بس، ، لا قفة الملاح لا مصاريف المدرسة  لا غيره "    سكت الرجل وكأنه يتأمل حاله لأول مرة ، لأول مرة  " وانا لسة ما اتكلمت في حق العلاج البقا مافي، زمان لما تعيد كنت بتمشي وين ؟ المركز الصحي ولا المستشفى ، هسي الا الخاص ؟ دايرك تتذكر لي اسم مستشفى خاص واحد على ايامنا" صمت الرجل محاولا تذكر شيئا " ما حتبقى لأنه ماف، ربونا أبواتنا بالقليل لكن قرينا واتعلمنا واتعالجنا لانه كان في دولة " خرجت تنهيدة عفوية من الرجل وقال "والل" والله ياخ الحالة صعبة"" ولم يعقب وظل مطرقا بينما عادت الحيوية المانجلك وداعب والد حنان بونسته المحببة. جاء وقت الرحيل وتأذن في الخروج، خرج والد حنان مقدما لنا في الطريق   ، أغلق باب داره على الضيف السمج ، ثم التفت الى المانجلك وحضنه وسلم عليه في رأسه متمتما 
"يا المانجلك ااا المانجلك"

Monday 21 November 2016

تعاضدية الكارثة

تعاضدية الكارثة


أذكر قبل فترة طالت أني كتبت مقالا اسمه "طوعنة النضال" هو عبارة عن ترجمة حرفية لمقتطف من مقال للكاتبة أرونداتي روي، كتبه على إثر افتتاح مجموعة شارع الحوادث لعنبر غسيل للكلى لو لم تخني الذاكرة.
كتبه مبتورا لما ظننته ماضي قريب حاضر في ذهني لذا بدا وكأني أبخس من قيمة هكذا مبادرات، وكأني أضعها قبالة النضال في مواجهة وتنازع. وكنت قد كتبت المقال لسببين الأول هو ما يعرف بـ "رهق المتبرع" و الثاني خوفا على ضياع جهود هذه المبادرات المهمة.

رهق المتبرع: أول تجربة لي مع هذه المبادرات الخرطومية (من النشأة)، كانت عبر التماس من صديق أن أجمع تبرع لمريض يحتاج مساعدة مستعجلة. ولخاطري عند الصحاب تم تجميع المبلغ بسرعة مذهلة، أرسلتها للصديق في التو والحال، لم تمضي ثوان حتى أتصل بي لجمع تبرع لحالة مستعجلة أخرى. هذا هو رهق المتبرع والذي يحمل في طياته الكثير الذي يجب مخاطبته كتنويع مصادر التبرع، منح المتبرع احساس جدوى عمله ، لا أنه يردم بقبضة تراب حفرة أبدية، أو أنه يرتق فتق أبدي. وهذا ينقلني للسبب الثاني.

عندما ترجمت طوعنة النضال لم يكن ذلك على خلفية بعض النداءات التي ترى في المبادرات الخيرية تعطيلا للثورة أو النضال بهذا الشكل المباشر، انما كان كما قلت بسبب ذاكرة حاضرة. فمعظمنا نحن الذين نشأنا بالمدن الجنوبية (جنوب الخرطوم و مدني) ، المدن غير الوسطية والقرى والحلّال، نحن نعرف الدولة المنحسرة لا المتمددة منذ الإستقلال. فعندنا تبني الدولة هيكل المستشفى الأساسي، ويكمله أبناء وبنات المدينة البررة  من تجارها ورأسمالها أو المغتربين في أواخر السبعينيات والثمانينيات، فكان أول ما يحرص عليه المغترب/الرأسمالي هو إكمال هيكل الدولة، سواء كان ذلك تهيئة عنابر كاملة مجهزة، أو تسوير المدرسة، أو تعمير مكتبة، أو إضاءة المقابر أو ضيافة ودفع ماهية مهندسي الكهرباء لتوصيلها للحلة الخ الخ. لكن الفارق كان ما يعرف ب"اللجنة الشعبية ل"، كان قصاد كل عنبر و فصل أو عمود كهرباء ، قصاد كل تبرع لجنة للقيام والإشراف والمتابعة والإشراف ونعم- الإدارة للمجهود المقدّم. 
أذكر النقاشات التي كانت تجمع حبوباتنا وخالاتنا وأعمامنا حول تفصيل ما ، مراجعة نظافة العنابر، صيانة ماكينة، متابعة تقصير في المنشأة. 
هذا ما قصدته. وهذا الذي تعكف عليه الكثير من القرى والحلّال بفاعلية منذ الإنحسار المستفحل للدولة. لجان شعبية لإدارة المجهود الخيري.

وما فائدة هذا؟ هذا العكوف من المجتمع المحلّي حول المجهود الخيري جعلهم أكثر ارتباطا به، (والله قال بقولهم) إن حاولت الدولة أو غيرها المساس بهذا المجهود بأن تفرض عليه رسوما أو تخصخصه أو تصادره. 

المصطلح الذي هو في صعود على عدة أصعدة في العالم اليوم هو "التعاضدية" و "تعاضدية الكارثة"، التي لا تُغيّب مفهوم المقاومة والمطالبة بالحقوق والنضال. لكنها في ذات الوقت تستدرك التوحش الذي أصاب المجتمعات (تحديدا في الغرب) الذي بدأ منذ الثورة الصناعية ثم استفحل جراء توحش الرأسمالية وانحسار الدولة . وأصبحت تستلهم قيم الصمود من تعاضد وتكاتف المجتمعات المحلية القروية أو البدائية، كالتشاركية والتعاونية وتوزيع المهام واقتسام الخيرات. 

هذه التعاضدية أصبحت جزءا حيويا من حركات الصمود ضد التغير المناخي. مجتمعات السكان الأصليين في أمريكا الشمالية و في الهند في دلتا النيجر أصبحت الملهم والمبلور لرؤية "الصمود في وجه كارثة المناخ" وقد حرصت الكاتبة ناومي كلاين على تخليل صفحات كتابها (هذا يغير كل شيء) بهذه الرؤية كالأمل في خلاص البشرية من كارثة المناخ وكارثة استفحال الرأسمالية وآفة الإستهلاك

"الأرض يرثها المستضعفون" هذه البشارة التي ربما لا تعني أنه سينقرض الجميع ولن يبقى سوى المستضعفين، بل لعلها تستبصر أمرا في المهمشين في الأرض (السكان الأصليون- المجتمعات المحلية- النساء) الذين استطاعوا مواجهة ضراوة التاريخ وضراوة الحاضر بمكنيزمات البقاء عبر التعاضد 

اليوم أصبحت مجتمعات ملح ملح الأرض تمسك بالطبشورة ويجلس العالم مستمعا. هذه فرصتنا نحن أيضا أن ننظر إلى أنفسنا ونستلهم سبل البقاء.

الكثير منا يتطلع للحركات النضالية والتحررية التي برزت في القرن الماضي والتي تشهد معظمها انحسارا اليوم، في أحراش أمريكا اللاتينية أو في جبال شرق أوروبا مع العالم الرقمي السريع الذي أصبح لا يطيق "السرديات العظمي" لكن يبدو أن له طاقة للتجمعات الصغيرة وكيف السبيل إلى ذلك؟  المشعل اليوم في يدنا نحن الذين لطالما شنأتنا حركة التاريخ. فماذا ترانا نقول؟

مبادرة توزيع الأدوية في ظل أزمة العلاج الحالية واجهت موقفان كلاهما صحيح، لكن ليس صحيح أنهما خياران منفصلان لا يستقيم أحدهم بوجود الآخر، . فلا بد من إحياء سنة لجان الأحياء واللجان الشعبية (الحقيقية مش الحكومية) في إدارة هذا المجهود. أما المبادرات المدينية المركزية فمصيرها الرهق.


أي لجان مرتجلة تفي، أي مجموعة بيوت في حي تفي لتكوين لجنة، المسجد (كما كان يدرك يساريونا زمان) فرصة كبيرة لرسم خريطة وحدود لجنة شعبية. 

لماذا فقط الوقفات؟ والمقاطعات؟ والإضرابات. سود أمريكا في ستينيات الحركة المدنية ابتدعوا "اعتصام الجلوس" و "رحلات الحرية" ، طلاب الجامعة ومثقفي امريكا في سبعينيات مناهضة الحروب الأمريكية ابتدعوا "اعتصام المحاضرات" . طلاب الجامعات السودانية في تسعينيات الإنقاذ ابتدعوا مهرجانات الإعتصام التي لم تستطع السلطة ولا الطلاب الإسلاميين محاربتها، مهرجانات من الغناء والشعر والمعارض تجعل الذي لا يهم بالإعتصام ينشده بهذا الثراء المعرفي.

الأيام والخيم الصحية (العيادات المرتجلة)، وموائد وتجمعات الإطعام وأسواق الرزق المرتجلة والفعاليات الترفيهية البسيطة، الأيام التعليمية (المدارس المرتجلة) التي لا بد أن تصاحب الخطاب النضالي في الأحياء والحلّال هذه مجهودات تنادي بالتعاضد فلا هي تغيّب النضال ولا هي تغيّب المجهود الخيري الذي يخاطب حاجة ماسة، لعل المثال المجسّد لذلك في الماضي هي برامج حركة الفهود السود في امريكا السبعينات او المركز الصحي الذي كان يعمل فيه ستيف بيكو مع اخرين في جنوب افريقيا ابان فترة الأبارتيد. 

لعل هذا أيضا ما كان ينقص (المجهود المركزي) لنفير

عيادة (الشعب الحر) ،عيادات شعبية في الأحياء أسستها حركة الفهود السود في امريكا 

مدير مدرسة يسقي (مزرعة شوالات)، هناك أمثلة لمزارع الطعام المشتركة في الأحياء

برنامج الفطور المدرسي


كفاية نشاف المخاطبات الجماهيرية والندوات السياسية، حبة طراوة نبل ريقنا وأوردتنا الناشفة .

(على ذكر المخاطبات الجماهيرية، جزا الله الشباب كل خير في كسر حاجز الخوف، وفي اصرارهم على حق أصيل في التعبير الحر عن الرأي- هذه حاجة ساهلة أبدا، لكني بمتابعة الفيديوهات والحاضرين أرى تأييدا صامتا ولا أرى تفاعلا حيّا. حاضرني وسأسكت وسأهز رأسي وسأقول (والله كلامك صاح) . هل هذا الصمت ما نريد، أم نريد أن نجر المستمع في حوار حي. الأجدى أن تنقسم هذه المخاطبات الجماهيرية إلى نوعين: نوع يبتدر النقاش حول أمر مختلف عليه (كالنظام العام- اضراب الأطباء) ، ونوع مرتبط بحلول عملية: ناقش أزمة الدواء ثم وزع منشورات لمنافذ توزيع دواء (التي تشترط مثلا أن لا يتقدم إليها أفراد، بل مجموعة ممثلة لحي سكني)

والله أعلم

Wednesday 16 November 2016

تعطيل الجمال


تعطيل الجمال

استوقفتني نصيحة في احدى قروبات انقاص الوزن التي أتردد عليها كثيرا، في البدء كان من أجل إيجاد وصفة سحرية تسعفني، أو أخوية تآزر، ثم من بعد للفضول الذي أصبحت تثيره في هذه المجموعات. النصيحة كانت كالآتي، أن تشتري المعنيّة قطعة ملابس أصغر هي بالمقاس الذي تصبو إليه وتعلقه في مكان، نصب عينيها في رواحها وايابها . للتحفيز على ما أظن.

طبعي المتأمل أخذني في دروب لعلها تبعد كثيرا عن مرام هذه النصيحة، لكن هذه احدى مساوئ فرط التفكير. فالنصيحة تقول بالتركيز على جمال آتٍ وجسد منشود مقابل تغييب جمال حاضر وجسد معاش. وهل من الممكن تحقيق أي شيء عند تغييب الذات الحاضرة؟

وهذا ليس أمرا سهلا في ظل ثقافة عامة تشهر صورة الجسد المنشود في كل مساحة في مساحات الحياة، تحاصرك هذه الصور وتغرقك عميقا فتقصيك عن جسدك الحاضر. وهذا ما أسميته بالجمال المعطّل.

الكاتبة روكسان قيي. كاتبة سوداء أمريكية/هايتية، حاصلة على جوائز أدبية عديدة، من بينها جائزة ارثر ميلر الرفيعة، تحدثت عن هذا المفهوم في عدة لقاءات بشكل مؤثر وفي غاية الرقة وأضافت إليه أبعادا مهمة.

تحدثت روكسان قيي عن هذا القمع المتكرر لجسد الأقلية، سواء كانت هذه الأقلية عرقية أو المرأة بشكل عام (ومتكرر). فصورة الجسد المنشود التي يتم تداولها في الحياة العامة هي نوع من أنواع السيطرة القمعية على جسد الأقلية بفرض شرط الجسد كما "يجب أن يكون" ورفض الجسد الكائن. روكسان قيي أصدرت كتابها الأخير، سيرة ذاتية عنوانها "الجوع". وفي محاضرة لها عن الكتاب قالت أنه كان من الصعب عليها الكتابة عن مثل هذا الأمر الخاص، لكنها اضطرت إلى ذلك. فجسدها الكبير يجعل الناس يعتقدون بأن لهم الحق في إبداء رأيهم غير المرغوب فيه حول ما يجب عليها أن تفعله بجسدها، حول ما يجب أن تدخله أو ما لا يجب أن تدخله في جوف جسدها.
جسدها أصبح نصا عاما.
"جسدي أصبح نصا عاما يتداوله الجميع. وجسدي أيضا قفصي. نعم، كنسوية أؤمن بضرورة توسيع منظور الجمال، أؤمن بعدم الإنحناء لمعايير الجمال المفروضة، لكني ما إن أخرج من باب الشقة حتى يتم انتزاع كل ايمان من صدري، أنا لست مرتاحة في جسدي. ما الذي نعنيه بمحبة الذات سوى أن تحب جسدك الذي تحمله ويحملك يوما بعد يوم؟ أنا لست مرتاحة في جسدي وفشلت في الخروج منه لثلاثين سنة"

"جسدي متمرد، أعاقبه بالحرمان ، أحرم نفسي من الفضاء المكاني، أحاول أن أطوي جسدي على نفسه ليختفي، رغم حضوره الذي لا يخفى على عين، أحرم نفسي من يد كرسي مشترك إذ كيف يجرؤ جسدي على التمدد في مساحات الغير، أحرم نفسي من التواجد في أماكن أراها محظورة على جسدي، وهي في الغالب أماكن مأهولة بالسكان، أحرم نفسي من الألوان الزاهية والزخارف فألتحف القمصان الداكنة الساكنة، أحرم نفسي من التعبير الأنثوي وكأنه ليس لي الحق في الأنوثة، فجسدي لا يتبع قواعد المجتمع لما يجب أن تكونه المرأة"

"الدهشة التي تعلو منظمي الملتقيات والمحاضرات التي أشارك فيها تجرحني، حين لا يتوقعون أن يكون كاتبا ناجحا في مثل حجمي. تجرحني هذه الدهشة لأنها تلخص الإعتبار القليل للإنسان الكبير. فكيف بوسعي أن أكون ذكية بمثل جسدي؟"

"يتضايق الكثيرون حين يسمعونني أتحدث عن جسدي، يتهمونني بأنني أعاني من رهاب السمنة أو أنني كارهة لذاتي، لست هذا ولا ذاك، ولكنني أعيش في عالم يتم فيه تشجيع فيه كراهية واستهجان الإنسان البدين. أنا لست كارهة ذاتي رغم أن العالم يرى أن علي أن أكره نفسي، لا أرى نفسي قبيحة أو غير محبوبة وحين أكون وسط أحبابي أشعر أني قوية وجميلة وأحيانا مثيرة، لكن هذا ما أكرهه، أكره كيف يراني الناس، وأكره كيف لا يروني، أكره حرماني من الأماكن التي أرغب في التواجد فيها، أكره كيف كلما كبر حجمي كلما صغر عالمي"
*********************************************


هناك تزييف في ادعاء "القلق الصحي". فالحديث عن الصحة نادرا ما يكون حاضرا عند الحديث عن انقاص الوزن ما عدا في المجلات الطبية (الجادة)، سواء من المعارف والأصدقاء، أو منشورات "الجمال" أو في وسائط الإعلام، فجل التركيز هو الوصول لجسد الجمال المنشود، حد تبني بعض العادات غير الصحية، سواء بنظام غذائي ممحوقة البركة أو تمارين رياضية مهووسة ،للوصول للجسد المنشود بأسرع طريقة ممكنة. نادرا ما تسمع عن تبني عادات صحية تلزم أحجامنا جميعا. نادرا ما نتحدث عن الرياضة اليومية الخلاقة اللازمة للإنسان الصحي، أو الغذاء الذي يرطب وينعش الأوردة والأعضاء.



سألت روكسان قيي على حسابها في تويتر، كيف يمكن للمرء أن ينشد التغيير ويصطحب الرضا؟ لم ترد. لكنني أعتقد أنه لم يكن سؤالا. اعتقد أنها مكاشفة. لكن هل قلت تغيير؟ أليس هنا تغييب؟ لا تغييب إن شاء الله، أنا أكره محاصرة الجمال في موقف : أنا فخور بجسدي/ تبا له. أنا فخورة بسوادي/تبا له، أنا فخورة بشعري طبيعي/ أنا أريد أن أعمل له محسنات بديعية. في مواقف المدافع أو موقف المنسحب. لا أريد أسن حرابي دفاعا عن حق في الجمال، ولا أن أنكس راياتي مستسلمة لجمال مفترض. فأجسادنا تشكلها تفاعلاتنا اليومية مع الحياة أفكارنا وخياراتنا ورؤانا وظروفنا وجيناتنا وأحماضنا النووية. هي الوعاء الوحيد الذي نملك في مواجهة فيزياء الحياة وكيميائها. والتغيير جزء من تركيبة الحياة. والرحلة نحو التغيير أجدى حين تكمل حالة الرضا في مربعك الكائن. لا تنتقل دون رضا.
نخطئ حين نظن أن التغيير لا ينشأ إلا من السخط من الحال الماثل. أحسب أن التغيير لا يصدر إلا عن رضا. تحضرني مقولة الأستاذ العزيزة التي تبرد حديدة سخط التغيير، كان في محاضرة يتحدث عن الأخلاقية في الفعل السياسي، فرد أحد الحضور أن هذه مثالية تتنافى مع الواقع الذي يلزمه بعض التنازلات من أجل الغاية النبيلة. من أجل الحق، فكان رد الأستاذ ما يعني أن الحق منتصر بنا أو بسوانا، كل ما يلزمنا هو أن نشذب ونهذب أنفسنا عسانا نحظى بإختيار الحق لنا.
(الشارع حاليا مشحون بالسخط والتحفز. لا بد من جمال الرحلة وجمال الوصول وجمال التحقيق)
بالضبط، هنا لا تعطيل لجمال منشود. هنا جمال معاش حاضر، اقبال وسيرورة ونهم للحياة وحضور لا غياب عن الحياة العامة.  أخيرا أجدني أحدث نفسي بحديث أفهمه، أعطي جسدي حقه في الحركة من أجل حقه في الحركة، وينعم قلبي بضخات الأكسجين الحي. أسلك أوردتي بعصير الحياة لحقها في الحياة.  أنا هنا لا أعطل بئر الجمال الحاضر في صحراء الجمال الغائب. لا أغيب، فالحياة أقصر من أن أغيب، وأسخر كل أداة تعلن عن وجودي. و بذا، لا أحرمكم من بهجة طلتي.

(هذا المقال هو من وحي آنسات وسيدات -صديقات وشخصيات عامة- هم في غاية الرقة والجمال والأنوثة والذكاء المثير والتذوق الرفيع بحيث يصبح الحديث عن اي شيء سوى ذلك عبث!)


آن هاقيرتي، من برنامج المسابقات الشهير "الملاحقة" متخصصة في التاريخ الإنجليزي
والأدب اللاتيني، يلقبونها "بالمربية" لملابسها المتزمتة الأنيقة ولأنها تربي كل متسابق أمامها. لذيذة

"داخل عقلي أنا الهة أمازونية"
رينيه بطلة رواية أناقة القنفذ تصف نفسها بالبدينة العادية الرتيبة
لكنها أبعد ما تكون عن ذلك في عالمها داخلي، ثم يظهر السيد أوزو الياباني المتقاعد الثري المثقف
فيظهر بهاؤها الخارجي كذلك
"تقول : لا أصدق، لم يتعرفوا عليّ
يرد: لأنهم ما أبصروك


كارين مارتيني (على اسم الشراب) شيف وتشارك في برامج الطبخ
تعرفت عليها من خلال دعاية أجبان كان تبق بق من التلفزيون
جمال وأناقة لا تخطئهما العين

السيدة إيلا فيتزجيرالد. كل العاطفة مشحونة في صوتها، سيدة...سيدة
 بيرنيس جونسون، التي نقلت الغناء الشعبي الأمريكي نقلة كبيرة في ستينات القرن الماضي
من يظن أن تحت هذا الجمال الهادىء ثورة عارمة



بتعجبني جدا في الصورة دي حرص فاني لو هامر على تسريحتها الجمباوية الطالعة موضة
والشنطة الأنثوية التي حملتها معها، لن تصدق أن هذه المرأة الأنيقة  هي في موقف عصيب ومهيب. تجلس في مؤتمر الحزب الديمقراطي الأمريكي
في الجنوب العنصري. تواجه نفاقه لعدم وجود مرشحين سود بين عضويته. توجه خطابها الشهير والذي تقول فيه "لقد تعبت من التعب"
وايضا "ما من أحد فيكم حر حتى نكون كلنا أحرار". هذا الخطاب الذي نقل على الهواء سبقه فيها مارتن لوثر كينق المبجل الشهير ، لكن ما ان ظهرت على الشاشة حتى ارتبك جونسون وافتعل خطابا للأمة ليس فيه راس ولا قعر حتى يتم قطع بث هذه السيدة الجميلة

Wednesday 21 September 2016

نجمة ونجمة

في تمام الساعة الثامنة من كل يوم، تحمل والدتي الكرسي البلاستيكي من البلكونة، وتعتدل في جلستها أمام التلفاز قربها صينية شاي المغرب، تخرج نظارتها ذات الإطار الذهبي وتعقف يديها أمامها لتشاهد المسلسل.
أنا أجلس سَلَطَة على أحد كراسي الصالة المريحة ، نصف متابعة نصف سرحانة
يقترب المسلسل من محطته الأخيرة، دعايات ما قبل الختام. تنظر والدتي إلى الساعة قلقة ، أعرف تماما ما ستقوله. 
"مازن دا اتأخر أضربي ليه قولي ليه تعال قوام"
(وفي بيتنا أي حاجة بعد المسلسل هي متأخرة فطبع الريف فينا غلاب)

أتصل بمازن، أعرف تماما ما سيقوله يقاطعني قبل أن أنطق "جاي جاي ..أنا هنا في اللفة"
أي لفة؟ الله أعلم. قد تكون اللفة قرب الدكان المفضي إلى بيتنا، وقد تكون لفة في طريق مدني الخرطوم. المهم مازن سيأتي في الوقت الذي سيناسبه . رغم نقنقاتنا.
طيب!
 وسأغلق الهاتف وأقول لأمي "قال هو في اللفة، جاي"

أتصل، مازن يرد قبل أن أنطق: "أنا مع جاسم" يغلق السماعة
ماما تسأل: قال شنو؟
أرد دون انتباه "قال مع جاسم"
صمت.. نتابع المحطة الأخيرة في المسلسل الذي ينتهي في لقطة مشوقة للحلقة القادمة، ينزل التتر. 
تلتفت أمي بعد مضي ربع ساعة من المكالمة
"جاسم منو؟"
أهز كتفي "ما عارفة"  والحقيقة أن الطريقة الواثقة التي رد بها مازن جعلت إجابته المقتضبة تمر عليّ دون سؤال. كأن قولته "مع جاسم" لا تحتمل السؤال. (مع جاسم) هذه العبارة من شأنها أن تسكت كل شك وسؤال واعتراض.

علاقة ماما مع أصحاب مازن، علاقة عجيبة، زي البحر، مد وجزر. ثورة عارمة وحفاوة غامرة. سواء استلطفتك ماما أو لم، فستكون أنت جزء من البيت، لك ما له، وعليك ما عليه. انظر هذا الحوار الذي كان في أوائل التسعينات. أول سكنانا في الخرطوم

"صاحبك دا أنا قلت ليك ما برتاح ليه! خلاص اتلاقيتوا؟ وخليت قرايتك وبقيت في الجري والتئخر والدواحة؟"
"مافي دواحة ولاحاجة وصحبي دا ود ناس وما تعملوا لينا شكوك ودرامات"
"بعمل! بعمل! اخليك ساي يعني!"
مازن يلوذ بالصمت كعادته
"أسمعني، كلم صاحبك دا يحول لينا دولارات مستعجلة"
أو
ستفتح الباب غاضبة على الصحاب الذين امتدت بهم السهرة حتى الصباح خارج البيت. ولأن مازن ذهب لمشوار. سمتد لهم جنيهات تخبرهم أن يحضروا لها خبزا وصلصة من الدكان.


والحقيقة أننا اسرة نحب الدراما شويتين تلاتة ، ادركت ذلك لاحقا، كل  حدث فيها نعمل له قومة وقعدة، ونؤمن بنظرية المؤامرة في كل شيء. لكن الحق الحق أقول. فهي تجعل حياتنا أكثر متعة.

منذ عودته من أمريكا ومازن يلف حياته بصمت متين يصعب اختراقه. يصعب عليك أن تفهم ما يفكر فيه  أو بما يحسه. معنا وليس معنا. والخرطوم في بداية الألفينيات كانت صعبة عديل. بئر اليأس والإحباط. ماذا تقول؟ بماذا تفكر؟ ماذا تفعل ؟ أين تذهب؟ مافي حاجة. متاهة! الكل يخبط في حائط صلد.

لكن أحيانا تلمح في عينيه خيط من مازن قديم، مازن الطفولة والضحك والحنين. يفاجئني يوما في العربة بأغنية قديمة كنا نترنم بها. فكأنه محبوس في قبو داخله بعيد، يحتاج من ينتشله منه.

"جاسم!"

سنسمع هذا الإسم يتردد أكثر وأكثر. و معها مازن سيخرج من الظلال رويدا رويدا. اليوم سيشرب الشاي معنا . سيقيّل في المنزل دون سبب. سيتكئ في المطبخ مونسا والدتي. سيستلف جريدة والدي ويعلق على حدث ما. سيجلس لمباراة كرة القدم (وليس شغوفا بها كوالدي) ويضحك لتهليلات والدي ولمكاواة أخي الصغير له.

ثم كانت مناسبة في منزلنا، فهلّت علينا جلابيب بيض، يحملون ويعملون ويساعدون ويشاورون. وهو ليس غريب على أصحاب مازن، لكنهم كانوا يساعدون ويشتتون. هسي يجلسون ويشاركون.


وفي كل جمعة، سيستيقظ باكرا، ويذهب للصلاة ويعود مستعجلا، "أمي، داير لي حلة وكانون، سكين وحاجة اغرف بيها.. دايرين برميل البلاستيك" (برميل البلاستيك المقدس بتاع ماما خخخ)  وتشتعل فينا الحماسة أنا ووالدتي (فمازن يشركنا في أمر يخصه) الحلة دي ولا دي؟ شيل الكانون دا أحسن



أصبحنا نتحمس لهذه الكركبة كل جمعة (ما قلت ليكم أننا نحب الدرامات) وفضولنا يتزايد، ما هذه الرحلة؟ أين ستذهبون؟ ماذا تفعلون؟ (في مرة خبزت والدتي فطائر ليحملها معه) "ده شنو ؟ مافي داعي ياخ؟ رحلة شباب عادية فطاير وبتاع!" محرجا بعض الشيء من حماستنا.
"ماشي مع ناس منو؟"
ثم تلك الإجابة الواثقة المقتضبة والتي يقولها مازن وكأنها لا تقبل السؤال
"مع جاسم!"

"جاسم منو؟"

كنت أسمع اسمه في ثنايا حديث الصحاب أبناء شهادة لندن، يتحدثون عن عودة جاسم إلى البلاد، وقبل موجة الطاقة الإيجابية الكانت حايمة قريب دا كانت تجربة جاسم.
"جاسم يقول ممكن"
 "جاسم يقول بوسعنا"
 "جاسم بالفعل بدأ يحقق شيئا".
جاسم كان قد حوّل هذه الونسات وأدارها مية وثمانين درجة بعد أن كان بعض أفرادها قد وضع خطة محكمة للخروج من البلاد بعد التخرج أو البقاء نادبا حظه ممنيا نفسه بوظيفة في منظمة أجنبية ودائرة اجتماعية رتيبة واضعا طموحه وأحلامه في درج موصد.



أنشأ جاسم شركة (ستار اينيرجي) أو (طاقة النجم) أعتقد اقتبسها من اسم والده (نجم الدين) ، لكنها أظنها مثلت تلك الروح الوقادة بداخله التي لا يخبو فيها الأمل. وأذكر تصميم لملصق إن لم تخني الذاكرة كتب فيه شيء مفعم بالعزيمة والتحدي. ويا للخرطوم التي تحتاج الكثير من التحدي والعزيمة والأمل! أعتقد أن فكرتها البارعة هي التعاقد مع وكلاء إل جي على تركيب منتجاتهم بواسطة مهندسين وفنيين خبراء، لا أي كلام والسلام. 

لا أذكر أننا تبادلنا أي كلمة! أذكر حادثة طفيفة لمازن بالعربية، استدعت أن يجلب أوراقه إلى القسم ليسوي الأمور مع الشاكي. فأرسل جاسم. كنت وحدي بالمنزل وعند غياب أمي فإنني أحب أن أغز كوعي بدالها، فتحت الباب وغزيت كوعي وتصنعت الإستياء (ما عارفة ليه مع انه الموضوع ما هاميني ، غايتو علي حركات) : تااااني مازن طقش العربية؟
اذكر انه ابتسم ابتسامة اعياء ولم يرد، استلم الأوراق وذهب.

لاحقا ، فكرت كثيرا في ذلك التعبير، أظنه كان عتاب رقيق لطريقتنا في التعامل مع بعضنا البعض، وهي أننا نضع تصورا جامدا وضيق جدا جدا لما  نريده من أحبتنا نود أن نحصرهم فيه، فإذا لم يسعهم ضيق تصورنا عبرنا عن خيبة أملنا.
لقد كان جاسم مدرسة في المحبة، أتعلم منها الكثير، وأحاول أن أحقق منها الكثير . افتح لحبيبك ألف ألف باب، وسع أملك فيه حتى يسعه. أحاول هذا مع أولادي (أحاول وأنسى) ، لا أسأل إن كانوا الأفضل والأذكى في الفصل، أسأل إن كانوا سعداء، إن كانوا يحبون أصدقائهم، آخذ أحلامهم بجدية : (أريد أن أصبح حارسا في حديقة الحيوان)، (أريد أن أصبح يوتيوبر!!) . 
يلفني عرفان كبير لهذا الفتى الذي احتضن أخي كما لم يحتضنه دمه ولحمه ووطنه. اظنني لا أبالغ بالقول في أنه كان لرفاقه حضنا وسيعا ووطن.
وكما أنبته في قلبه، أنبته في قلب أسرته، فصار لمازن أخوات ثانيات يدللنه كثيرا وعمٌّ (كما سمعت) يحب أن يتصنع التذمر بينما هو مليء بالمحبة ووالدة تبتهج بقدومه كما تبتهج بقدوم ابنها. 
وانتقلت طاقة النجم إلينا جميعا، سرت في بيتنا ، ووسعت من ضيق أحلامنا وآمالنا

 مارس ٢٠٠٧ . تزوجت أخت النجمين الصغيرة (النجومي ونجم الدين) (ما أنا- سارة) ، امتلأ هاتف مازن ببهجة صور التحضيرات والتجهيزات والإحتفالات. 

٧ ابريل ٢٠٠٧. انطلقت قذيفة كاتيوشا من شاحنة حربية تقل أسلحة بوسط الخرطوم، لتشق طريقها وسط المنازل الآمنة فتخترق جدار غرفة وادعة وتجد مستقرها في رأس شاب سوداني اسمه جاسم.

ما اذكره من تلك الأيام العصيبة، هو وجه مازن واصدقاؤه مطمئنين آمنين، فكرة الموت لا يلوح منها خاطر في وجههم. مازن كان يتحرك بكل حيوية ونشاط بين منزلنا ومنزل جاسم والمستشفى. يثرثرون امام العنبر. الحياة نفسها كانت تصطخب في جسده، أيموت هو؟ وهذه الجنازات التي تجرجر أقدامها في الطرقات تحيا؟ أو هذه الجيف التي تدثرت بالسلطة وانتفخت بالنتن ستحيا؟ ويموت جاسم؟ لا يمكن

الثامن من ابريل

صباح التاسع من ابريل. رحل

على الصفحة التي خصصت لذكراه، بين دموع مودعيه ومفارقيه، يكتب مازن: (غريب، عندما أذكره لا أشعر بالحزن، أشعر بشيء طيب، بسعادة تغمرني)
بالطبع! فتلك صداقة المعدن للمعدن. أنا أتشكك كثيرا عندما أمر على وصف (الصديق الذي غيّر حياتي) أصلا أنا أتهيب جدا من الصديق الذي يرغب في تغييرك. فالصداقة في الحقيقة تنقيب. ذلك الذي ينقب في داخلك ويجلو نفيس معدنك أمام عينيك. لترى نفسك التي كانت غائبة حتى عنك. 
لذا لا يمكن أن ترتبط هذه الذكرى إلا بكل ما هو جميل وحفي وطيب وسعيد. نعم سعيد.

نحن نقترب من الذكرى العاشرة لرحيله. كنت أود كتابة شيء من هذا قبل عشر سنوات، مرت مياه كثيرة تحت الجسر يا جاسم. كلما تطلعت إلى صاحبك وهو يضاحكنا، يحمل صغاري وصغار اختي، يسند جدتي التي رحلت هي الأخرى، يتحدث بحماسة عن البلد، يبدي إعجابه بمشروع واعد، واخيرا وهو يحمل مايا بنته ويرنو إليها بمحبة بائنة. تذكرتك يا جاسم. وهمست في سري شكرا.






Thursday 8 September 2016

حجة شيكسبير في أربعميته



السنة دي "أربعمية" شيكسبير، مرت على وفاته ٤٠٠ سنة.
 قبل كم يوم اتعرض برنامج عن شيكسبير وانطرح سؤال عن جدواه، وعن جدوى عرض مسرحياته ليوم الليلة. هل دا مجرد تعنت أكاديميين ناشفين معتتين؟ وين موقع شيكسبير من كل ما يحدث حولنا في العالم. هل هي كنكشة الرجل الأبيض على الأدب، يحن إلى ماضيه الكولونيالي القديم؟

البرنامج كان مستضيف مجموعة من الممثلين، أجابوا انه شيكسبير، فنان، كان نقيض "الأبيض" "الكولونيالي" ، ومسرحياته كثير ما استعرضت الأسود وعرضته على الجماهير البيضاء الغافلة، والأسود في انجلترا الإليزبيثية هي المرأة، أو العبد، أو اليهودي، أو الغريب وغيرهم.

شيكسبير يثير جدل الكثير من دارسيه والمتخصصين فيه، بين المنكرين أصلا لوجوده، أو المنكرين نسبة بعض مسرحياته إليه، أو الظانين بأنه أكثر من شخص. المهم

المسودة الوحيدة التي يرجح أنها بخط يده فعلا، هي مسودة مسرحية : توماس مور، التي تناوب عليها كتاب عدة بعد وفاته، لكن المقطع الذي يخاطب فيه السير توماس مور جمع الشغب يعتقد أنه لشيكسبير. 
وكأن هذا المقطع لمن تعتبره انجلترا أعظم أدبائها وأحد أهم رموزها، وحده اختار البقاء في المتحف البريطاني ليكون حجة على هذه الأمة.
صورة المسودة بخط يد شيكسبير


ففي المقطع يخاطب توماس مور جموع من الغاضبين في ما عرف بيوم مايو الشرير، وفيه حدثت أعمال شغب لطرد "الأجانب" و" المهاجرين" الذين يسرقون ثرواتنا ووظائفنا ويمحون ثقافتنا من أرض انجلترا.
لوحة لأحداث مايو الشرير


يصيح أحدهم: "أزيلوهم جميعا"

يرد توماس مور من فوره:

"فلنقل أنكم أزلتموهم، فلنقل أن ضجيجكم هذا
أخمد كل جلال إنجلترا
تخيلوا أنكم تنظرون إلى هؤلاء الغرباء الأشقياء
يحملون أطفالهم على ظهورهم، تخيلوا بؤس متاعهم
يتخبطون نحو الشواطىء والموانئ ليجدوا مركبا،
بينما أنتم تجلسون كملوك على عرش رغائبكم
والسلطة ألجمها صخب ضوضائكم
تتمنطقون برباط رأيكم
ما الذي جنيتموه؟ دعوني أخبركم
إنكم تنادون على الغطرسة و قوة الضراع لتسود
تضربون مثلا لقمع النظام، وقس على ذلك
لن يعمّر أحد منكم
لأن ربّاطة غيركم سيحققون رغائبهم
بذات الضراع، بذات منطقكم، بذات صوابكم
وسيقترشونكم ورجال غيركم كأسماك مفترسة
سيتغذون عليكم
فلنقل أن الملك
أُجبر على أن لا يتغاضى عن تجاوزاتكم
واضطر إلى نفيكم، أين تذهبون؟
أية بلاد- وانتم تحملون خطاياكم-ستمنحكم مأوى؟
 فرنسا؟ فلاندير؟
مقاطعة ألمانية؟ أو أسبانيا أو البرتغال؟
أينما حللتم ستكونون هؤلاء الغرباء. هل سيعجبكم
أن تجدوا أمة بمزاج همجي
فائرون في عنف مريع
يرفضون منحكم مأوى على هذه الأرض
يشحذون خناجرهم على حناجركم،
يُحقّرونكم كما الكلاب، وكأنكم لستم
من صنيع الرب، وكأنكم أدنى من أن تتمتعوا
بالنعم التي كأنما احتكرت لهم وحدهم
ما قولكم إن صُنع بكم هذا؟
 هذه هي قضية الغريب
وهذا هو جبل لا إنسانيتكم"

مأساة غرق اللاجئين الإفريقيين على شواطىء ايطاليا قبل سنة(؟) والتي هزت مناظرها ايطاليا
هذه توابيت الأطفال الذين غرقوا


هنا السير إيان مكميلان . الممثل الذي لا يبز في شيكسبيرياته، يقرأ المقطع. (يذكر إيان أن المسرحية منعت من العرض لأن تمجد من شهيد كاثوليكي وانجلترا كانت قد انشقت عن البابوية واعلنت عن كنيستها المستقلة، كنيسة انجلترا. وعرضت لأول مرة من جديد في عام ١٩٦٤)




Saturday 27 August 2016

عمكم دكتور قدال

"شايفين الكهربا التعبانة دي، أدوها لأي واحد من السفراء القدام ديل يشغلها بكفاءتها القصوى وبأحسن ما يكون"
كان هذا والدي ضمن سلسلة محاضرات بادر بها المعاشيون من السفراء والدبلوماسيين من أجل تثقيف الناشئة في السلك الدبلوماسي (والذي كان حضورهم ضعيفا). وأعزى والدي هذه القدرة للتمرس في مجال الخدمة المدنية. وقال أن هذا كان أحد شروط العمل في السلك الدبلوماسي. أن تكون لديك خلفية في الخدمة المدنية. حيث يكون فيها المرء "خادما عاما" وهي الترجمة الحرفية ل Public servant

ويتلخص حديث والدي عن خبرة قدامى الخُدّام المدنيين في قدرتهم على تقديم (الكثير الممكن) من (القليل المتاح). أن تستخلص كل قدرات المنشأة التي تشرف عليها.


نعم مشاكل الخدمة المدنية عندنا عويصة. من انهيار البنى التحتية الموروثة منذ عهد الإستعمار ومن الحكومات السابقة، قلة الموارد، ضعف تأهيل الكادر البشري وكل الذي نعرف. ثم نأتي بمن هم قليلو الخبرة عديمو المعرفة في مجال الخدمة المدنية ليلحسوا باقي بركة المنشأة. (بدون ما نتكلم عن أكولة اليد)

لدينا معايير عجيبة شوية في من نوكل لهم مثل هذه المهام. عندما أتابع المقالات المدافعة عن الوزير الفلاني أو المسئول العلاني تجد الآتي: كان أول الدفعة. كان أشطر زول في الماث. بدأ حياته بدفار وانتهى بشركة استثمارات زراعية أو دكتور شاطر وعنده مستشفى خاص وجامعة طبية.

اوكيه، مبروك عليهم. ما دخل هذا بمجال الخدمة العامة؟ 
لدينا مشكلة في فهم مسألة الشطارة هذه. نجدها حتى في مجال التعليم. ترانا نجلس مزبهلين أمام مدرس الفيزياء أو الرياضيات الذي لا نفهم منه كلمة (وغالبا يزدرينا جميعا) لكن نخرج من الحصة يملأنا الزهو نقول: مجنون سلوكه فاكة، كلمة ما تقدر تفهما منو ، تعرف دا كان أول الشهادة السودانية .

شاطر في الرياضيات ليس بالضرورة معناها شاطر في تدريس الرياضيات. نضام في الانجليزي لا تعني يعرف كيف يدرس لغة.

حزنت جدا عندما قرأت مقتطف من خطاب وداع لدكتور أحمد أيوب القدال لطلبته في كلية الطب جامعة سنار. وليس هذا الوداع الأول لدكتور قدال من أحد مرافق الخدمة المدنية وأرجو- أرجو هي سبب هذا المقال أن لا يكون الأخير، فقبل وداعه  كرئيس لقسم طب المجتمع ل بجامعة سنار، عمل مستشارا صحيا ببلدية العين، قبلها كان مديرا ومؤسسا لمشروع النيل الأزرق الصحي المهيب. ١٩٧٩-١٩٨٩ (شفتوا انتهى متين؟)



 هذا المشروع الذي نبت عن وحدة مكافحة الملاريا بمشروع الجزيرة ثم مع التخطيط لتوسعة المشروع في امتداد المناقل والرهد سعى القائمين على الوحدة استباق هذا الإمتداد الزراعي بتوسعة عمل الوحدة فكان مشروع النيل الأزرق الصحي الذي أشرف على مكافحة الملاريا والأوبئة المائية في واحد من أكبر المشاريع الزراعية المروية في افريقيا.

في السنوات الأولى من عمل المشروع انخفضت نسبة الملاريا من ٣٠٪ إلى إقل من واحد في المية (٠،٥٪) والأهم من ذلك تم الحفاظ على هذه النسبة طوال فترة عشرة سنوات حتى حدوث الإنقلاب الأليم والذي تم فيه تصفية المشروع وبيع ملحقاته وعربياته وتسريح العاملين فيه .

قرأت قليلا (قليلا شحيحا) في تقارير مشروع النيل الأزرق وتحدثت فيه قليلا أيضا من دكتور قدال. لكنه ذكر أسبابا عدة لنجاح المشروع ، مثلا استمرار المجال البحثي طوال فترة المشروع، اعطاء الأولوية لعمليات الوقاية ، التركيز على الظروف المحلية أثناء عملية المكافحة والتعاون مع الأهالي، ثم تقصي التجارب الإقليمية والدولية في مكافحة الأوبئة.

حدثني د. قدال مثلا عن تغيير نوبة عمل المزارعين حيث تنخفض دورة نشاط البعوض. حدثني عن اقتطاع راتب لأصحاب الكارو في الحلال لنقل القمامة والأوساخ، حدثني عن المراحيض البلدية الصحية التي كانت يشجعون عليها الأهالي بمكافأة هي فلاتر مياه محلية (بتاعت طبقات الحصحاص والتراب ديك) إذا ما قام البيت بحفر مرحاض صحي. حدثني عن الكثير ولا زلت أنتظر من يستنطقه من الصحفيين الذين لديهم معرفة شوية في هذا المجال (مش صحفيي العلاقات الإجتماعية) أرشح معاذ النجومي مثلا.

المهم، خلاصة القول، ها هو دكتور قدال بين ظهرانينا. أمده الله بالصحة والعافية وطولة العمر. فوق أنه "شاطر"، وله خبرة دولية حيث عمل مع منظمة الصحة العالمية، وفوق أنه صاحب أوراق علمية قيمة منذ السبعينات) . فهو متمرس في مجال الخدمة المدنية، يعرف كيف يخدم ابناء بلده. يعرف كيف يدير حملة صحية قدر الإمكان على قلة الموارد وضعف تأهيل الكادر البشري. يستطيع أن يستخلص أقصى ما يمكن استخلاصه.

والأهم من هذا وذاك. هذه النظرة الشاملة لمفهوم الصحة، والتي تتضمن النظافة والتثقيف والعمل الوقائي والبحث العلمي والشراكة الأهلية. هل تسمعني؟ ياهوو!! يا وزير الصحة ولاية الخرطوم والذي كان يرد بكل عنجهة على كل مشكلة صحية بالقول: هذه مشكلة البلدية! والبلدية ليست ضمن اشرافي . أو هذه مشكلة التأمين الصحي وهو تابع للولاية وليس تابع لي. (مشيب)!


كلمتين على جنب يا حكومة. يعني منو وزراء الصحة؟ ما حاجة كدا. الجبتوهم عشان يعملوا الأيلولة عملوها وقضوا ليك الغرض، وفي واحدين بقا عندهم برنامج في التلفزيون هايل بجيبوا فيه أولادهم ونسابتهم وجيرانهم، ها؟ ما قصرتي. هديل هم مبسوطين. خلاص مشيهم.
ايلا مثلا. الناس مبسوطة بالكرانيش وكدا. ما تخش التجربة دي؟ بتاعت الرجل الصحيح في المكان الصحيح

والي سنار. يعني دي حاجة بديهية مش كدا؟

دا تحديدا المحتاجنه هسي في ظروفنا الهسي (بالإضافة طبعا للإنتفاضة الشعبية طبعا طبعا أكيد أكيد) 

رجل مشهود له بالنزاهة. ثم خبرة لا تضاهي في الصحة المجتمعية والخدمة العامة حيث كان مديرا لمشروع ضخم بإمكانيات أقل مما يوفر عادة لمثل هذه المشاريع. فيه كل ما تتمناه النفس من تطوير البحث العلمي، وتأهيل الكادر البشري، وإشراك المجتمع المحلي.

عزوا ال... ال.... إنتوا بتعزوا منو؟




عزيزي المانجلك

عزيزي المانجلك

"أيها المنكسر! اعفنا من نضالك!"
هذه الجملة المزمجرة الغاضبة التي قرأتها قبل فترة لأحد الناشطين على الفيسبوك أثارت فيّ لواعجا وشجونا ، وعادت بي قرابة الخمس عشرة سنة إلى الوراء. أيام الجامعة.

المانجلك! الإهداء لمجموعة من الشخصيات دمجتها في شخص واحد، أنا مدينة لهم بكثير من اللطف، والعناية التي أولوني إياها فنجوت من شطط السماجة والهتافية (أو هكذا أظن). أين هم الآن؟ بعضهم قضى نحبه منهمكا في اليومي والعاجل، بعضهم ينتظر في صمت العجز والحيرة وما بدل تبديلا.

كانت التراتيبية االبشرية كالاتي في ألفينيات الجامعة : في أعلى القائمة الطلاب المنتظمون في أحد أحزاب أو حركات التجمع، ثم التنظيمات غير الإسلامية خارج التجمع، ثم الطلاب المتعاطفون ذوو القلوب الحارة من غير المنتظمين فالطلاب المنتمون لجماعات اسلامية مزاجية التحالف (احيانا مع ، احيانا ضد) ثم الطلاب الفلوتر الذين جاءوا للدراسة وكفى الله المؤمنين القتال، ثم الكيزان (قبل انشقاقهم إلى شقين) وهؤلاء كانت تفرض عليهم قطيعة اجتماعية في وقت ما، واخيرا في أسفل السلم كان ما يعرف بالمنكسر.

والمنكسر هو طالب منتمي لتنظيم معارض وعند اعتقاله وتحت وطأة التعذيب أو الإرهاب أو الإبتزاز يشي بأسماء زملاء أو مواعيد اجتماع أو مكان الأرشيف والمناشير أو أي من ما يخص حركة النضال الطلابي. وهؤلاء يتم اعتزالهم كما يعتزل الأجرب، لأسباب مبدئية ولأسباب تأمينية على حد السواء. يقول "ذاك فلان، فلان انكسر" وترتسم على وجهه امتعاضة قرف يضن بها حتى على الكوز أو الأمنجي. وبما إني كنت حديثة العهد في العمل الطلابي، كنت أتماشى مع الأمر كأحد المسلمات رغم أن القلب والفكر ظلا يقزعان في حيرة وفي توجس من هذه العزلة العجيبة.

"أيها المنكسر! اعفنا من نضالك"
علمتني التجربة أن لا أغري القدر بمثل هذه الجمل. فإن كانت هناك هواية أكيدة للقدر، فهي ايقاع المرء في النقائض عندما يغريه صفاء الحياة لوهلة أن يصرح بالمطلق. لذا أجدني أنفر كثيرا من التطهيريين للحرج الذي لا بد أن يواجهوه عندما ينتقلون إلى الطرف الآخر من الأصبع المشهور أبدا نحو الخطيئة. تجدني أميل أكثر للتصوف الذي يسأل السلامة من التجريب، والنجاة من المكر.

كيف التقينا أنا والمانجلك؟ الإجابة عندي معروفة، المنة. وربك منّان -لأنني بظن الكثيرين لم أكن مادة خام مناسبة لهذه البيئة-بيئة العمل العام-، ولا ألوم من ظن ذلك، فقد انتقلت رأسا من صالونات الديسكو وصالات الآيسكريم التي كانت قد بدأت في الظهور لتضفي طراوة على كلاحة الخرطوم في بداية الألفينات، إلى نجائل أركان النقاش وخيران السياسة.
حارت اللجنة التنظيمية في أمري خاصة وأنني كنت من النوع الذي لا يرضى بمجرد اضافة إسمه إلى قائمة العضوية، وابديت حماسة مزعجة تطلب المزيد- وهم لم يكونوا فاضيين ، فأحالوني إلى المانجلك وقالوا : إذهبي إلى الخور الفاصل بين كليتي الإقتصاد والمعمار، عند ست الشاي  فإن بها مانجلكا لا يظلم عنده أحد.

الخور الفاصل ، يجمع الملفوظون من كافة مناحي الحياة الطلابية، الخريجون، اليائسون، طلاب الدراسات العليا، المشوكشون، الذين برغم أني وضعتهم هنا في صفة جامعة.. لا تجمعهم صفة.
كان المانجلك مستلقيا على ظهرة تحت شجرة يرقب صقورا محلقة في الفضاء، عاقدا يديه على صدره. اقترب منه دليلي التنظيمي وهمس في اذنه، سرعان ما انتبه واعتدل المانجلك في جلسته معتذرا وحياني.

عجيب المانجلك وكل أمره عجب. خرج عن حياة السياسة والعمل المنظم. لكنه بغير عادة الخارجين لم يركن إلى التهكم المرير على التنظيم السابق أو المنتظمين. سألته  مرة:
"وكأن الأمر كله أصبح لا يعنيك؟"
رد بشيء من الحرج -وهي عادة تبدو ملازمة له " تجربتي في العمل العام اكتملت.. اكتملت بالفشل بالطبع،  هذه سعتي ولا أرى ما يمكنني تقديمه. في مثل هذه الحالات يكون بقاء المرء مضرا. فعندما لا يكون بمقدورك أن تفعل شيئا فإن أفضل ما يمكنك هو : أن لا تفعل شيئا"

كما كتبة النبي، تعلقت بكلماته وحفظتها. لعلها سلطة صوته، كان له صوت وكأنه خارج من عمق بئر، لم يكن عاليا لكن له أثرا مدويا، تخرج الكلمات بحذر كما الدلو الصاعد من البئر،بكثير من الحرص والوزن. وفي العادة يفتح فمه ثم  سرعان ما يغير رأيه ويغلقه.

لم يكن الأمر كما تخيلته، لا محاضرات ولا كتب ولا اختبارات. تركني على سجيتي، كان يستمع الي أكثر مما يتحدث، يتركني بآراء المنتظم الجديد وقوامها:١- قراءة متصربعة٢- اقتباسات منزوعة من سياقها ٣-افكار فطيرة لم تنضجها الخبرة و ٤- عاطفة هوجاء. أدرك هذا الآن بعد دراية لا بأس بها، وأشكر له أنه تغاضى عن كثير من حماقاتي، اتذكر ذلك الآن فأخبط رأسي بيدي وكأني أحاول أن اطرق الإحراج من ذاكرتي. إذا رأيتموني أفعل ذلك ، فأعلموا أنني أذكر المانجلك.

رآني مقبلة وقبل أن استوي في جلستي يقول: "اليوم سنخرج"
فألحق بخطواته السريعة "إلى أين؟"
يلتفت في حماسة نادرة "إلى السينما"
نخرج من الفيلم الهندي وأصطنع سخرية تماشي سخريته التي أعرف "يا للسخف"
يسألني بشيء من الجزع "لم يعجبك الفلم؟"
"بدا لي ساذجا"
كان بطل الفيلم ضحية خيانة والده الذي وشى بأصحابه، فأزدراه الجميع لكنه عاد وانتقم بعد أن نفخ عضلاته.
"عندما واجه الأصحاب والد البطل الذي وشى بهم، قبل أن يقفز منتحرا،رمق ولده بنظرة اعرفها، نظرة اعتذار، فقد عرف أنه سيحمله  ثمن خطأ لم يرتكبه"

ليس هناك "بايظ" عند المانجلك، فهو ينشد الحكمة  في الأفلام الهندية، في البرامج الحوارية المضحكة، من جلسات البسطاء، من الكتب الصفراء.

في ذلك اليوم اسرعت الخطى بحماسة، هناك محاضرة ملتهبة في القاعة د.فلان ذو اللسان اللاذع عاد لتوه من الخارج، يناظر الحرس القديم. من في الحرس القديم؟ كلهم! لم ينجو أحد.
"أرح، الناس كلها فايرة"
ذهب معي متحمسا، لم يكن هناك مقعد خالي وقد احتشد الناس في الممرات، بالكاد تبصر د. فلان يشمر جلبابه ويسوم الجميع بسياط النقد والذاكرة (الذاكرة عدوة العمل العام، يفضل في العادة أن تكون نسايا) . جلس "أعمامك" في حرج، يلوذون بمناديلهم، يمسحون العرق عن رقابهم وعن نظاراتهم، بعضهم وجم، بعضهم طأطأ الرأس. وسط موجات الضحك والسخرية التي أثارها فينا الدكتور. التفت إلى المانجلك لأرى آثار كل ذلك، كان قد اعتدل من اتكاءته الكسولة على الحائط وكست وجهه تقطيبة، قال دون أن ينظر إلي "يمكنك أن تبقي هنا، أنا ذاهب"
بالطبع تبعته، لم أفهم سبب الكدر. بالكاد استطعت أن ألحق به وأستوقفه. أجاب قبل أن أسأله
"أكره حفلات الشواء" سكت ثم سرعان ما عدل عن رأيه وعلى غير العادة تدافع الكلام من فمه " نعم فعلوا وفعلوا. لكن ما الذي يريده من هذا التهريج؟  هذا الجلد العلني  يفتقر للـ للـ... نبل! أن تترك لخصمك ورقة توت، لا أن تجرده أمام الجميع لا لسبب سوى أن تسمع هتافات التهريج هذه"
ثم التفت ونظر في عيني يحدثني ولا يحدثني " بوسعي أن أدخل الآن! الآن واواجهه بمثل ما يواجه به هؤلاء، ليس وحده بذاكرة من حديد. أنا أذكر له الكثير أيضا" ثم امسكني من كتفي " لا نحاكم التاريخ، نحن لا نحاكم التاريخ ابدا، نفككه ونعيد بناءه ليخاطب الحاضر.  والأفدح هو أن تحاكم التاريخ من أجل مكاسب في الحاضر رخيصة. همف! يريد أن يقول للجميع : أنا هنا! أنا لا زلت ذلك الفتى الألمعي الذي توقع له الجميع الكثير، أنا ذلك الشاب المشاغب الذي أرق مضاجعهم فيما مضى... لكنه في الحقيقة ترك البلاد منذ إعلان البيان الأول. واحتمى بغربة كثيفة حجبته عن كل ما يجري هنا. نعم هؤلاء الكهول مضحكون ، مثيرون للشفقة، طغاة قد اصطليت من نارهم كثيرا. لكنهم بعكسك يا دكتور، كانوا هنا!"

كل شيء يذكرني بالمانجلك، وصيته العجيبة وأنا أرد على والدتي متذمرة من إلحاحها أن أعود للبيت  "عندي إجتماع!" قلبت عيناي، وهززت كتفي معتذرة "ناس بيتنا، يريدونني من البيت للجامعة والجامعة للبيت، كأن لا شيء يحدث حولنا"
"هذه والدتك التي كانت تكلمك؟ عودي إلى البيت الآن"
"لكن الاجتمـ.."
دفعني من ظهري "عودي الآن ،لن يكون هذا آخر اجتماع، ولن يخرج بقرارات مصيرية، واذكري أسمرا" ابتسم ساخرا ثم أضاف بجدية " سمعتي ما قلت؟ في كل مرة تخيرين فيها بين ناس بيتكم والسياسة، اختاري ناس بيتكم"
على غير رغبتي فعلت ذلك بالحرف، وتعرفون ما الذي فات علي في العمل العام؟ لا شيء

أذكر جلستنا الأولى
طلب لي شايا "حسن، ما الذي تودي أن تعرفيه؟" بالطبع كل شيء! مر من أمامي أحد المنبوذين.
"تعرف هذا الشاب؟"
زفر المانجلك وهز رأسه
"أعرفه"
"منكسر"
نظر الي طويلا ، سحب نفسا من سيجارته وطيف ابتسامة يحلق حول شفتيه. يسخر مني لا ريب!
"ما رأيك في ما يقولون.. عن المنكسر"
أرقب الدلو يخرج بطيئا من قاع البئر
"كانوا في الحزب قديما يحذروننا من الإنكسار لأن دائرة الإنكسار لا تنتهي. إذا انكسرت بمعلومة زادوا جرعة التعذيب ليحصلوا على معلومتين وثلاث و اربع"
ننشغل بونسة أخرى ثم يعود
"في امريكا اللاتينية كانوا يخبرون الثوار أن يصمدوا لمدة ثلاثة أيام فقط بعدها بوسعهم أن يدلوا بما يشاءوون، ثلاثة ايام فقط يعيدون فيها ترتيب أوضاعهم ويرحلون من أماكن اختبائهم حتى تصبح المعلومة بلا قيمة.. لكل امرء سعة، بعض الناس سعتهم صبر ساعة، أفنكلف نفسا فوق وسعها؟"

ما زلت أراسله من حين لآخر، لا يزال خارجا في ما يرى، فيما هللنا لما أسماه الناس تأثير الدومينو اثر ثورات الربيع العربي، كان يتذمر من حركة الثوار الأولى في سوريا  "سينتهي بها الأمر كرقعة تنازع بين قوى اقليمية" واستشهد بمشهد من مسلسل سوري قديم. لكن كل ذلك لا يشغله، فقد اعتكف ببلدته التي أصبح فيها مانجلكا حقيقيا، صاحب مشورة ،يفصل في نزاعات الحواشات، وانتخابات لجان الأحياء، وبناء الجامع، والزيجات.