Saturday 28 May 2022

خالتي فاطمة والمدنية الدايرنها

"كيف كان ممكنا لبنت صغيرة لم تبارح عالمها الصغير في سنجة أن تتنبأ بحلم ستراه يتحقق بعد عشرين عاما بنفس مشاهده؟ حلمت أنني أطير وانظر إلى الاشجار والخضار والبيوت أسفل مني، لأراه بأم عيني في بيروت وأنا على التليفريك"

خالتي فاطمة، أجمل ما فيها أنها تظل تنظر إلى حياتها كبشارة خير وفأل سعد ترقب تحققه. برغم التحديات والمصاعب والأحزان التي مرت على حياتها. 

نبهتني اختي أن خالتي فاطمة اكتشفت طاقة الجذب و "السر"، قبل أن يتصدر قوائم مبيعات الكتب وقبل أن تحتشد به صفحات السوشال ميديا. ولخالتي فاطمة مبدأ في الحياة رأيته متجسدا فيها و وددت لو أنني حققت منه شيئا وهو: من تشاقى أشقته الحياة، ومن سعى لراحة نفسه أراحته الحياة. ولا تعني خالتي فاطمة بالراحة السكون أو التراخي، فكل من يعرفها يعرف نشاطها وحبها للإتقان، إنما أظن أنها دوما تقبل على ما تحب أولا ، فإن فعلت ذلك إما سخرت الحياة ما يخلصك مما لا تحب أو أعانتك عليه. {لا بد وأن أجرب هذا المنهج في حياتي}





"رحم الله امرئ عرف قدر نفسه" يعلق والدي على الحديث الشريف بأن الناس تستخدمه فقط في سياق التواضع وانكار النفس، ولكنها ايضا تقال في مقام معرفة نعم الله عليك في نفسك. وأجمل من رأيته مطبقا لهذا الحديث هي خالتي فاطمة. فهي تعرف قدر نفسها ، وحريصة أن تعرف الناس بفضل الله عليها. فهي المنظمة المدبرة المفكرة المبتكرة السعيدة والبخيتة {أدام الله نعمه وفضله عليها} لكن اهم من ذلك أننا كنساء كثيرا ما نقلل من قيمة ما نفعل في الحياة. تعرفون، كل ما لا يعرف خالاتي وجدتي يقول : النسوية الطالعة فيها دي. لكن كل ما يعرف نساء اسرتي يعرف انني سليلة نساء قويات، صلبات، حكيمات، ذوات رأي موزون ومسموع. 

وخالتي فاطمة زوجة الدكتور أحمد ايوب القدال رحمه الله والذي افتقد طلته البشوشة في حياتي، كان مدير مشروع النيل الأزرق الصحي، وهو مشروع كان ملء السمع والبصر ليست فقط في مشروع الجزيرة وامتداده وما حوله من قرى في مكافحة الأمراض المائية كالبلهارسيا والملاريا بل لا يزال مضرب المثل عالميا في أوساط الصحة العامة ومنظمات الصحة العالمية ومراكز الأبحاث العلمية. ولكن خالتي فاطمة ستذكرنا دوما بدورها الهام إما في تولي مهام تدبير الحياة عند غياب زوجها المطول في قرى الجزيرة والنيل الأزرق، ومهام الضيافة الفخيمة والمبتكرة التي تجعل ضيوف المشروع من الخبراء المحليين والأجانب لا ينسون تجربة زيارتهم لمشروع النيل الأزرق، فأتذكر معها كل الوصفات الجديدة التي ابهرت الضيوف، أو حين قدمت سلطة الفواكه في قريب فوت على شكل سلال. 


أعني حقا، الآن صرنا نعرف بسبب الدراسات وبسبب النقاشات المفتوحة في دوائر النسويات أن طموح الرجال وتقدمهم في المجال العام يأتي دوما على حساب مجهود عظيم في المنزل نادرا ما يتم ذكره، لكن خالتي فاطمة كانت مدركة ذلك الدور مبكرا جدا. وفوق ذلك فكانت ملمة ومحيطة بتفاصيل عمل زوجها مطلعة عليه، واهم من ذلك كانت قدرتها على خلق العلاقات مع السكان المحليين اينما حل زوجها داخل أو خارج البلاد، فتعرف احوال البشر ومسكنها ومأكلهم وما يعتورهم من مشاكل فتنقل صورة هامة كثيرا ما تغيب عن دوائر الأكاديميا والعمل العام.


مع زوجها د.قدال رحمه الله وحفيدتيها لين و يمنى في منزلهم بسنار



لكن عنوان مقالتي " خالتي فاطمة والمدنية الدايرنها". فأنا ما رأيت تتجسد فيها أجمل معاني المدنية كما رأيتها في خالتي فاطمة. ومعنى المدنية عندي هو معنى اقتبسته من صديق كتب رثاء في شخص وأثنى على ملامح تحضره وتمدنه بأنه كان يأكل في مطعم الستيك هاوس. وبعد أن استمع بصبر لوصلة سخرية مني رد "لكن يا ميسون، الستيك هاوس هي أس المدنية، تخيلي رجل يخصص أمسية لنفسه، يخرج من منزله ليقضي حاجة واحدة هي الإنسجام والترويح عن النفس وترفيهها. يجلس على مائدة في مطعم فخيم، على طاولة انيقة بموسيقى هادئة، ومسكة الشوكة والسكين التي يقطع بها قطعة اللحم بتأني" أجل! بالطبع أعرف ما يعنيه ولقد رأيته مجسدا ومعاشا في شخصيات مثل عمي السر عمر العوض، وخالتي فاطمة.

فالمدنية ليست فقط الصحة العامة والتعليم العام، والطرق المرصوفة، والبقالات المكدسة، ولا تعني فقط سد حاجة المأكل والمشرب والسكن الكريم، بل تعني فوق كل ذلك البراح الذي تستقطعه لنفسك للترويح عنها وحيث تظهر فيها انسانيتك. 

وفي كل الظروف، سواء في الديمقراطية او عز ضنك الديكتاتورية الإنقاذية، داخل السودان أو خارجه، في الخرطوم او في مدني أو بركات أو سنجة أو سنار، حملت خالتي فاطمة معها مدنيتها. 

فمن حديقها المنزلية الممتدة حد البصر في بركات، والتي تزينت بأحواض الزهر الملونة وأشجار الفاكهة المثمرة، والأعشاب والنباتات العطرية المميزة ، والأشجار الظليلة، والتي حصدت بسببها جائزة أجمل حديقة لخمس سنوات على التوالي، وكانت أول من شاهدت من أفراد أسرتي على تلفزيون الجزيرة، ترتدي ثوبا هادئا ونظارة في غاية الأناقة تحمل كأس البساتين وقد استضافها محافظ الجزيرة وقتها. مرورا تنقلها في اليمن، والبحرين، والإمارات حتى استقرارها اخيرا في مدينة سنار حيث قررت هي وزوجها قضاء سنوات المعاش، تزينت كل مساحة ممكنة في منزلها، صغر أم كبر، بحديقة غناء. وقد استشف بعض منكم هذا الجمال عندما أخذت صورا لمنزلها في سنار (رغم أنني مصورة سيئة) وقد أخذت تلك الصور على عجل. 









وعلي أن اقول أن مقياس خالتي فاطمة لك كإنسان في الحياة يقاس بمدى اعتنائك بحديقتك أو إهمالها. فتقول لك وتحس بالغضب بنبرة صوتها: ناس بطالين ، لقيت الشجر عطشان، والنجيلة شربانة  أو تقول لك يا لها من أسرة راقية بالله ليمونتهم خضرا ورويانة والليمونة قدر دا. ولن يعنيها إن كان بيتك مرصوفا بالسراميك او المرمر أو كان من الجالوص والزنكي طالما كان زرعك حيا نابضا مورقا. 

وكل أمسيات خالتي رائقة، قد تجدها يوما اشتهت شراب شاي المغرب في طقم صيني فخيم تخرجه من فضيتها مع قطع من الكيك والبسكويت وهي تحكي عن البسكويت المحشي الذي عرفته بقالات سنار قبل ان تعرفه الخرطوم، او تجدها على سرير في حوشها وسط نباتاتها بكوب شاي احمر وعيشة تتنسم الهواء العليل وتحكي عن ماضي وحاضر جميل. 

ثم أحب تقديسها للعطل والإجازات والإحتفاء بالمناسبات العامة، أينما كانت ، قد يصادفها شم النسيم أو رأس السنة في بركات حيث تقيم نساء المشروع الحفلات والعشاءات الفاخرة، أو يصادفها في سنار مع زوجها وابنتها سليمى والكهرباء مقطوعة، فتخرج الشمع والكيك الذي أعدته مسبقا وتطلب من ابنتها أن تعزف عازة في هواك على الأورغ. 

مع نهايات الإنقاذ حيث انهيار كل شيء، فاجأتنا خالتي فاطمة بسفرها إلى كنانة مع زوجها وابنتها وحفيدتها لقضاء عطلة في استراحة كنانة، لتصف لك اياما من أجمل ما يكون. أو مع حالة الحصار الدبلوماسي تكتشف امكانية السفر وقضاء اجازة في أذربيجان لتعود منها بالكثير والمثير من الحكايا

أو في زيارة عابرة لمنزلها تصر أن تحتفي بي بأن نقضي نهارا لطيفا رائقا بمزرعتهم الصغيرة في سنار، وهي قطعة أرض صغيرة مورقة، لتدرك أن الرفاهية ليست سوى إفساح الوقت للترويح عن النفس. ولنضع عشرة خطوط تحت الترويح عن النفس، فقد تحجز لأسرتك طاولة في مطعم خمسة نجوم وتدفع مبلغا طائلا وأنت هناك بإحساس الواجب وتقضي الوقت مهموما بالأسعار أو الشكوى. استبدل كل ذلك بكوب شاي تحت الكوبري على النيل. افضل بكثير.


رحلتها إلى أذربيجان

أمام خزان سنار حيث أخذتنا في جولة سياحية لا يزال يذكرها الأولاد


حبيبي وين في موضع الخدار بلاقي

في زيارة عيدية لنا بالمنزل ربما عام 2012



أنشأت جمعية الصلاة على الرسول لجاراتها في سنار، لمدح وذكر النبي، وقراءة الأدعية، ولتفقد أحوال الجيران، ولتعلم مهارات منزلية جديدة، وأقامت لهن معرضا للزهور والنباتات في منزلها، أو لجمع المال لقضاء غرض لمحتاج في الحي، أو لمناقشة أمر هام في الحي سواء كانت بركة تحتاج الردم أو قمامة تحتاج إزالة وغيرها.

وتقضي خالتي فاطمة وقت عزلتها، بتلاوة القرآن بشكل أود أن أتعلمه منها، وهو للذكر والترويح عن النفس وفي العبادة راحة وقد قال النبي عليه السلام لبلال "أرحنا بها" . لا تتعامل مع القرآن كمصباح سحري لتحقيق الأمنيات، أو كواجب تلزم نفسها به كأن تكمل حزبا كل يوم، ولا للتفاخر أو التطاول، تفعله في عزلتها وما كتابتها عن تلاوتها إلى تطفل مني على شيء تفعله في راحة منزلها.


ولكن ليس هذا فقط فمدنية خالتي فاطمة تتجلى في اهتمامها بالمرافق العامة والخدمات العامة بشكل شخصي. وقد اعتدنا على حكاوي خالتي فاطمة التي جلست إلى مدير مستشفى تحدثه عن أهمية نظافة العنابر، أو وهي تخاطب صاحب بقالة قرب داخلية أن عليه مسئولية غذائية على طلاب الداخلية في أن يبيعهم طعاما يسند جوعهم بدلا أن يستغل فاقتهم في بيعهم سندويتشات مكرونة (نعم، حدث ذلك) ، ستكتب مقالا في صحيفة تدين فيه خدمات محلية، أو شارع عام . أو ستقابل مدير مركز دانفوديو لتحدثه عن عدم عنايته بمقتنيات المتحف .هذه المراقبة لأداء الدولة وتحميلها المسئولية ، هذا المعنى تعلمته من جميع خالاتي ومن وعيهن. 

تذكرت في مرة أنني كتب بوستا في سودانيزاونلاين شجبت فيه غرق مركبا حمل طلابا ومواطنين قرب موسم العيد وأن هذا الأمر تكرر كثيرا وأن السلطات تتحمل مسئولية هذا العبث بالأرواح. فكتب لي واحد كدا أن الخطأ على الركاب الذين غرقوا لأنهم أساءوا التقدير، وقد أشفقت عليه وعن جهله التام بمعاني المدنية التي تحرص على حفظ حياة الإنسان وسلامته. وإنني حين أتحدث عن سودان اخر، سودان مدني، فأنني عايشت ملامحه وأطيافه من خالتي فاطمة.


وعلي أن أعرج على استقبال خالتي لملمات الحياة والأحزان بالصبر وبالشكر على النعم، وقد فقدت أربعة من أبنائها معظمهم في سن العاشرة. عبدالرحمن، وخالد، وسوزان ومحمد. وكان هذا أول معرفتي منذ طفولتي بالإعاقة،فقد ولدوا بعلل أدت إلى إعاقة تعلمية، وأنا لم أعاصر منهم سوى محمد ـ حمادة، كم كان جميلا، بعينين نجلاوين كحيلتين وشعر مموج كاحل، كانت عناية خالتي بمحمد هي مدرسة لأسرتنا ومحيطنا في السودان للعناية بذوي الإعاقة، تعلم منها الناس حق الرعاية والمعاملة الكريمة والندية والحماية من الإستغلال والسخرية. الكل يعلق على نظافة حمادة حتى وهو يستمع عند زيارتنا في سنجة بالجلوس تحت شجرة العوير التي أمام المنزل ، حيث كان يحب برودتها واطلالها على الشارع. ورغم حبه الدائم للخروج خلسة والهروب للمشي في الطرقات، لم يقيد أو يحبس ، وهذا كان في اوائل الثمانينيات قبل ثقافة حقوق أصحاب الإعاقة التي نسمع بها الآن. ولم أرها يوما تتحدث عن عبء رعايته. كان كل شيء يحدث بطبيعية لأنها رتبت حياتها وحيواتنا أيضا حول وجوده، لذا كان رحيله مؤثرا مؤلما تحملته بصبر جميل.


من اليمين : جميلة ابنتها الكبرى، خالتي فاطمة، خالتي مريم في سنجة أمام منزل جدتي بكيري رحمها الله

مع ابنتها الصغرى سليمى



انهي حديثي هنا واحب أن أعرج على لطائف وطرائف خالتي فاطمة. أحب يوما صادفت صديقات قضين معي ليلة قبل العودة صباح اليوم التالي إلى الداخلية وقد هدت لكل واحدة منهن برطمان مربى منزلية قامت بصنعه خصيصا لهن في اليوم السابق. وكنت في حالة من العجب، والصلاة على النبي، أن حركتها في المطبخ مرتبة وسريعة وهذا ما لا أظنني أستطيع إلا أن يكرمني به ربي الآن بعد الأربعين.


ولا تحب خالتي الخمج، ومن طريف حكاويها ذهابها للعزاء في احدى صديقات والدتها، وصادف جلوسها قرب المطبخ حيث كن النساء يعددن الطعام، ولم يعجبها الخمج والتبذير فقامت من فورها بتوجيه النساء وتقسيم المهام بينهن وهم اصلا ما بيعرفوها. وهذا مرده خلفيتها كمعلمة ومربية سابقة

وايضا في الحج، كانت تستقل باص الحجاج في طريقهم نحو الإحرام وقد تعالت أصواتهم، فأوقفتهم ونظمتهم ليرددوا الدعاء بشكل منظم وموحد . هههههه خالتي فاطمة يا مدرسة.


ولكن علي أن احكي يا خالتي فاطمة، وكنا ننتظر زيارتكم في العيد لسنجة بفارغ الصبر لما تضفيه من جمال وبهجة، ولكن بشرط: أن تأتي في يوم العيد، أما إذا كانت الزيارة قبل يوم العيد، شلنا أنفاسنا هما ههههه. فمهما قضينا اليوم في التسعيف والتعزيل والتنظيف. تأتي خالتي فاطمة وتدير نظرها في المنزل، ستجر الفريز الثقيل ثم تكشف فيه قليل من صابون البدرة والماء وتقول هنا ما دعكتو كويس، وستشير هنا وهناك للترتيب والتنظيم، ليجدنا صباح العيد وقد استهلكت طاقتنا. فهناك مستوى من النظافة، ثم هناك مستوى اخر من النظافة هو مستوى خالتي فاطمة. لازلت اذكر يوما وهي تنظر إلى نفسها سعيدة وقد ارتدت جلبابا مطرز ناصع البياض "الليلة بقيت ليكم جمهورية، اكتر شي بيعجبني في الجمهوريات نضافتهن وبيضة تيابهن" ـ طبعا يا خالتو فاطمة دي اكتر حاجة حتعجبك 








وقد علمت اليوم وهي تتعافى من مرضها، أسألكم أن تدعو لها بتمام الصحة وكمال العافية، أنها تتذكر جارة لها سورية وكيف كانت ترفع غطاء  البوتوجاز بالمفك لتنظف من تحته، وكيف أنها كانت لا تسمح بأن يعلو السواد أيا من طناجرها.


وكل خالاتي حلوات سواء بنات بكيري أو بنات الأسرة الممتدة، ولهن يوم من الحكاياـ "كلجن حلوات" أو  كما قال في مسرحية سيف العرب. وسيأتي يوما أحكي عن أفضالكن في حياتي. 

مع خالتها حمامة، أمدهما الله بالصحة والعافية

 

هذه الصورة تنقصها خالتي سامية، من اليمين : خالتي رجاء،خالتي مريم، ماما، خالتي فاطمة في منزلنا بالخرطوم


صورة خطوبة والدتي الوحيدة بالتوب المشجر
الصف الأمامي من اليمين: خالتي فاطمة، حبوبة بكيري تحمل حفيدها منتصر، خالتي رجاء ام منتصر
الصف الخلفي من اليمين: خالي عتيق، ماما، خالتي مريم، خالتي سامية ـ ايضا هده الصورة ينقصها خالي نادر