Saturday 28 March 2015

الخطاب الطاغي (حول التحاق الطلاب السودانيين بالتنظيمات الاسلامية المقاتلة)

"ملحوظة: ليس مقصود بالخطاب الطاغي هنا الخطاب المتطرف- بل الوسطي.. العادي"
مما
على ضوء الأحداث الأخيرة التي جذبت اهتمام السودانيين حول ذهاب مجموعة من الطلاب  طوعا إلى سوريا لما يظن أنه انضمام إلى  تنظيم الدولة الإسلامية هناك.

طرحت عدة  أسئلة حول هذا الموضوع، وأسهم البعض في وضع نظريات حول الأسباب التي دعت هؤلاء الشباب لاتخاذ هذه الخطوة، بدءا من الخلايا السرية النشطة التى تعمل في السودان على استقطاب الشباب، مرورا بانتشار الفكر المتطرف بينهم، ثم اتهام جامعة مأمون حميدة بدورها في ما حدث سواء عبر "منعها" للنشاط السياسي الحي الذي يستطيع الشباب من خلاله التعبير عن ارائهم في ما يجري حولهم ، مما تسبب في وجود ارض خصبة للأنشطة "الدينية" التي تبدو مسالمة بديلا عن النشاط السياسي. لكن ما لفت نظري حقيقة هو سؤال التربية، حيث قرأت بعض التعليقات التي تتحدث عن دور البيت في تكريس أو تشجيع هذا النوع من السلوك، قرأت تعليق مثير للإهتمام من سيدة في احدى قروبات التواصل الجميلة المخصصة للنساء "مهيرة" تحدثت فيه عن كوننا لا نركز على ما اسمته "الانحراف الديني" بل أننا نتغاضى عنه-تحت تحت- نعجب به. وهي نقطة تستحق التفكير حولها من وجهة نظر التربية ، تحدث اخرون عن ميل الأسر السودانية في المهجر على تحجيم اندماج ابنائهم في ثقافات البلد الذي يقطنون فيه، ودفعهم اكثر نحو ثقافات يرونها أكثر أمانا-لتشكل لاحقا موطن الخطورة.

علي أن اقول لكم الان- انني انقل ما قرأته في الاونة الأخيرة على الفيسبوك وبعض مواقع الأخبار. لا اكتب هنا لعرض حلول او تحليل المشكلة.. لسبب ما عقلي عاجز عن فعل ذلك
قرأت خبرا عن الفتاة البريطانية (من اصل اثيوبي) "سميرة" التي سافرت هي أيضا إلى سوريا للالتحاق بما يظن أنه تنظيم الدولة الإسلامية. تحكي صديقات سميرة انها لم تكن من اسرة متشددة دينيا ولا يعرفون سببا لهذا التحول المفاجىء الذي حمل هذه الفتاة ذات الستة عشر ربيعا بعيدا عن أهلها وموطنها نحو المجهول.

ما أود ان احكيه هنا- اشبه بالإعتراف- وقد يأتي مخيبا لبعض اصحابي، عزائي أني تجاوزت ذلك بلطف الله متمثلة في "قليل من الخيال"

لا أذكر امرا غير اعتيادي في نشأتي، يمكنكم وصف طفولتي ومراهقتي بعادية جدا جدا، أقرب إلى الملل، دون أي امارات لأي تمرد سوى ذلك النوع "المعتاد" ان استطعتم ان تسمونه كذلك. 
اسرتي أيضا -ليست متشددة- كغالبية اسر السودان، الدين فيها اشبه بالحاضر الغائب او الغائب الحاضر، موجود بما لا يدع مجال للشك ولكن تجليه طفيف: الصلوات الخمس، رمضان، "احي يا الله" او "شكيتكم على الله يا ناس الكهربا" وما إلى ذلك . قضيت السنوات الأولى في الخليج وكان ذلك في الثمانينات ، ما قبل ان يلبس السودانيون "الدشداشة" ويقولون "ليش"- كان يعد ذلك عيبا كبيرا، اذ كان هناك حرص شديد على عدم التماهي في الثقافة الخليجية او نمط "التدين" الوهابي

"الحكومة دي بطالة" "ديل ما عندهم علاقة بالدين" - مثل هذه العبارات كانت واضحة وجلية في كل بيت في السودان : "الناس ديل كعبين" منذ بداية الانقلاب عام ١٩٨٩. ما من احد كان يجادل "عن" النظام ما لم يكن "جزءا" منه= كوز
لكن كانت هناك مسألة :الحرب في الجنوب، والتي سوقتها الدولة على كونها "حرب دينية" بين المسلمين والكفار. موقفي من حرب الجنوب كان غريبا، اذ أنه كان يمر عبر "مصافي" - مصفاة كون الانقاذيون ليسوا سوى تجار دين- مصفاة: أنهم في الغالب يقومون بهذه الحرب من اجل مصالحهم الشخصية- مصفاة:أنهم يختطفون الشباب من الطرقات والمدارس والبيوت لرميهم في أتون الحرب- لينزل كخلاصة مركزة منقاة من شوائب السياق والعملاء الى : ان هناك امر الهي بإعلاء كلمة الله على الأرض- السلام مع الآخر الديني هو امر ظرفي ومؤقت- لكن الأصل غلبة طرف على اخر "بالإقناع" أو "حد السيف"- فمن ناحية "المبدأ" هذه الحرب مشروعة : سواء كانت حرب فعلية او دعوية (بروباقاندا) - كان هذا هو التحليل الرياضي البسيط لهذا الأمر- منطق "الإيمان" إن شئت ان تسميه كذلك، المعضلات الوحيدة التي تعترضه هو "من يشن هذه الحرب؟" او "كيف؟ وهذه يمكن تجاوزها بالتركيز على المبدأ.

لا زلت اذكر حوارا مع "احد" المجاهدين تحدث عن تأكده من فساد النظام الذي يقاتل تحت رايته ، لكن "صدق" المبدأ او القضية لا يعفيه من حق "الجهاد" . كان ينقل إلينا احيانا من بين حديثه "الدعوي" حكايا عن النساء والرجال الذين التقاهم في مناطق الحرب: كانت حكاوي عن من نألف لا "العدو"..تحدث عن صدقهم وبساطتهم وحيرتهم ويأسهم من كل ما يجري حولهم

هذه الحكايا قد تذيب قلب الحجر، لكنها لا تخدش معدن "منطق" الإيمان. 

كانت هذه الحكاوي مزعجة، مشوشة، خاصة مع خيالي الخصب الذي كان ينقلني إلى الصورة المتوقعة من الحرب: الضحايا، الفزع، العويل، التشرد.. مدن وادعة ونساء تجري واطفال تصيح. 

اعتقد ان عقلي كان حرفيا يردد هذه الكلمات: الأمر لا يعجبني لكنه امر الله(الله عاوز كدا)... حتى لو لم يعجبني

كان هناك مقطع بديع في رواية الكاتب "احمدو كوروما" اسمها "الله يفعل ما يشاء"وهي مقتبسه من مقولة كان يرددها بطل الرواية وهو جندي طفل، كان يعلق على الظلم والدم والقسوة التي تحيط به بعبارة : "لكنه أمر الله، والله ليس مجبرا على اقامة العدل على الأرض، فالله يفعل ما يشاء"

أقول لكم في ذلك الزمان، كانت وسائط الاتصال والمواصلات بائسة، والكيزان قوم بائسون كريهون، والتلفزيون السوداني اقبح وبرنامج "ساحات الفداء" ممل. 
لكن لو كان تيسر لي ما تيسر لسميرة عباس : فيديو بمونتاج وسيناريو عالي الجودة يؤكد على اعلاء كلمة الله على الأرض بالإضافة إلى خلية نشطة وفاعلة كتلك التي تيسرت لسميرة عباس، تستطيع أن تنقلني من أمن منزلي إلى ساحة المعركة

لكنت ذهبت
لكنت ذهبت مدعومة بسيناريو أن السياق لا يهم ، والعميل لا يهم، مسائل القلب يمكن تجاوزها بالتسليم لمنطق الإيمان الخالص.

يمر زمان يسير ، في سنتي الأولي بجامعة الخرطوم، يعقد مجموعة من الشباب منتدى لجمعية "الآن" كانت تلك المرة الأولى التي اسمع فيها اسم الاستاذ محمود محمد طه. اعتقد ان المنتدى كان يتحدث بشكل حصري حول مشروعية حكم الردة وقانونية اعدام شيخ سبعيني. 
اقول لكم كنت استمع الى ذلك المنتدى ، ويكبس على نفسي ذاك الضيق الذي كان ينتابني ازاء حرب الجنوب. كان الخيال يحفز صورة حبل المشنقة حول رقبة شيخ سبعيني كل جرمه انه صدح بما يؤمن ولكن يتدخل "منطق" الإيمان البارد الذي يؤكد على قتل مفارق الجماعة. 

ببساطة أنا كنت تحت وطأة ما يمكن ان يسمونه الخطاب الطاغي. دعكم من جماعات حقوق الإنسان وشعارات الحرية والمواطنة.. فتحت كل ذلك هناك "خطاب طاغي" وكل ما عداه "ظرفي". لذا كنت اتفهم تماما حال اصحابي المشوش تجاه قضية "مريم يحيى" ذلك الخيال الخصب المصاحب لصورتها كأم لطفل صغير وتنتظر قدوم اخر.. وبين منطق الإيمان.

كنت في تلك السن الرخوة - قبل ان يتصلب عودي "بالسخرية" و"العملية"- حيث الحق بين والباطل وبين - وما اشتبه يمكن فرزه بمفرزة والحاقه بإحدى الكومتين. في تلك السن "ما نسميه" أنانية الان وقد تجاوزنا الثلاثين كان اسمه "مجدا" في الصبا. تريد ان تكون وقودا في معركة الخير والشر

استطيع أن اضع نفسي مكان سميرة عباس- التي تقول صاحباتها أنها ارسلت لهم فيديوهات عن مقتل أطفال على يد الجيش الإسرائيلي- الإحساس بضرورة عمل شيء ملموس محسوس... تحقيق مجدك شخصي بأن تهب حياتك لمعسكر الخير (سيقول البعض ماذا عن فيديو الكساسبة .. فأقول ماذا عن الذين شردهم الكيزان للصالح العام) هذه الأشياء "كالعميل" و "السياق" هذه مجرد تفاصيل... المهم هو "المنطق" الخالص.

وقد يسر ديننا الإسلامي لذلك المفهوم تماما بمقولة "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته..." الى اخر الحديث الشريف.

كنت في حديث مع صديق عزيز ... من نوع الأصدقاء الذين يحملون دوما زاوية فريدة في الحديث، فكان يتحدث عن كون علاقة المسلمين من الاخر الديني في أول العهد الإسلامي اكثر تطورا من عهدها الحالي
"شنو؟ بتبالغ!!! ماذا عن: يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون" عن كونك مواطن درجة تانية ...الخ من الكلام الحافظاهو حفظ وجاي مع الباكتة

فرد: تخيلي الأمر، أنت تحت ولايتي -مقابل مبلغ مالي- غير ملزم أن تعتنق عقيدتي أو أن تشارك في حروبي الدينية الملزمة لغيرك من المواطنين والتي تتعارض مع عقيدتك. بالطبع كان لذلك الأمر اسبابه أهمها أن تلك الحروب كان وقودها البروباقاندا والإيمان فليس من العملي وجود عناصر "مثبطة" للنصر الإلهي. هذا الأمر ليس متاحا الان في معظم الدول الحديثة التي تتخذ "الشريعة" مصدرا للتشريع.. فما تبيحه الشريعة تسحقه المواطنة. فيصبح الاخر في تلك البلاد مفعوص بين العقيدة والوطنية.

فشل المسلمون في تحديد علاقتهم مع الآخر في إطار ما يسمى الدولة الحديثة والمجتمع الدولي هو جزء من المشكلة. نعم هناك منظمات واتفاقيات ومفاوضات ومعاهدات لكن يظل منطق الإيمان مسيطرا. قبل ايام كنت اقرأ رسالة على الواتساب (واسلام الواتساب اشد تطرفا ووطأة لو انكم تعلمون) بدأت بهذه الجملة : الشيعة القذرون... هذه الرسالة كانت من ربة منزل وديعة ام لطفلين، مأخوذة بتفاصيل الحياة اليومية الشاقة في السودان- هذا الخطاب العنيف ابعد ما يكون عن طبيعتها، لكنه قريب من "منطق" الإيمان الساكن في عقلها.

بالنسبة لبعض التعليقات حول لماذا لم يذهب هؤلاء الشباب الى "بوكو حرام" او هناك العديد من الناس يحتاجون المساعدة في مستشفيات افريقيا... ليس في الأمر عنصرية. لكن منطق الإيمان يقول أن منطقة القدس- ثم دار الإسلام الأولى من بعد هي على رأس قائمة الأولويات... قد يبدو الأمر في مخيلة هؤلاء الشباب أشبه بضرب وحش متعدد الأذرع في بؤرة عينه بدلا عن احدى اذرعه... قم بحل مشكلة المركز.. والأطراف ستتعافى بعدها

 الخطاب الطاغي يعشش في العقول. كل ما يتطلبه الأمر: شبكة اتصالات ومواصلات فاعلة

والحل؟
انا ما قلت عندي حل... انا بس كنت عاوزة اعترف بحاجة وماشة بيتنا





Saturday 7 March 2015

يوم المرأة للرجل-وللسودانيين

(المقال نشر في مجلة الميدان بتاريخ الثلاثاء ١٠ مارس وأعيد نشره هنا مع بعض التعديل البسيط)
في حوار مع المفكرة الألمانية هانا ارندت ، سئلت عن : تحرر المرأة، ردت:

(أنا "دقة قديمة"، بالنسبة لي لا يبدو الأمر لائقا للمرأة حين تكون في موضع اصدار الأوامر، عليها أن تتجنب مثل هذه المواقف التي تضعها في هذا الموضع اذا أرادت أن تظل أنثى)- المقطتف يبدأ في الدقيقة ٤:١٥ وهو بالألمانية مترجم الى الانجليزية




تعرفون هانا ارندت ليست محبوبة وسط النسويين/الفيمنيست، وقد اتهم مناصروها -من بين النسوييين- أنهم يؤولون كلامها فوق حقيقته- ولعلي من هؤلاء المؤولين- لن استفيض في هذا النقاش ، لكني أود أن افسر هذا المقتطف من حوارها على ضوء كتاباتها التي ترتكز جلها حول (ظاهرة السلطة)

في السؤال التالي للحوار أعلاه، يسأل المحاور هانا إن كانت ترى كتاباتها ملهمة أو مؤثرة، فتجيب أن السؤال في حد ذاته ذكوري، العقلية التي تهتم بالإلهام والتوجيه والتأثير- تقول هانا: أنا لا أرى اني مؤثرة، أنا اكتب كي أفهم، واذا ما اشترك معي اخرون في فهمي، فإن ذلك يمنحني احساسا بالرضا، كمن يكون مع اقران متساويين معه.

عبر هذه الإضاءة لست ارى انها اشارت للحالة الفردية للمرأة ،رأيت أن "ارندت" أشارت لشي هام جدا، هو أن تحرر المرأة لا يأتي بتكرارها لأنماط القوة والسلطة المعتادة . كثيرون يتحدثون عن نساء كسرن (السقف الزجاجي) بتقلدهن مناصب عليا في أعلى هرم السلطة (سواء كمديرات تنفيذيات لشركات كبرى، او رئيسات دولة، او رئيسات أحزاب) ويتم بروزتهن كأمثلة لتحرر المرأة. وهنا يبرز الإشكال عندي- فكرة تصدر قمة الهرم التي تسمح بوجود الأقوى على الأعلى، هو مصدر القرار ومصدر السلطة ، بل فكرة الهرمية ذاتها وتراتيبية السلطة- هو تكرار لنمط يمكن وصفه بأنه "ذكوري". اذا اعتمدنا هنا فكرة أن وصف المجتمعات الذكورية (ليس مقصود بها الرجل في حد ذاته) انما ذلك الظرف التاريخي في حياة البشرية والذي- بسبب التغير المناخي أدى الى ندرة الموارد وشحها-فبرزت مجتمعات اقصاء الأضعف ومجتمعات الصراع وحماية الموارد الخاصة (الملكية الخاصة) ، مجتمعات ذات طابع مليشي بقائد ذكر يقود الأسرة أو القبيلة لضمان استمراريتها. وقد حلت هذه المجتمعات مكان المجتمعات سابقة لهاكانت تعتمد التشاركية والتعاونية حيث كفاية الموارد ولا أفضلية لدور على دور اخر- وقد درج تسمية هذه المجتمعات بالأمومية -لكن لا بد للإنتباه انه لا توجد أم/امرأة على "رأس" هذه المجتمعات.

عبر هذه المقدمة والإضاءة اود هنا أن أتحدث عن أهمية "يوم المرأة" للرجل وللسودانيين في هذا المنعطف التاريخي الهام. أي منعطف؟ أقصد بذلك كم البحوث والدراسات والمؤتمرات التي أخيرا علا صوتها لتدق ناقوس "التغير المناخي" - أعرف أن هناك جدل كبير حوله وحول الآثار المتوقعة منه. لكن هناك حقيقة ماثلة أن الموارد الطبيعية اللازمة لحياتنا كبشر على هذا الكوكب اخذة في التناقص والشح، بسبب "التغير المناخي" او بسبب "طريقة استهلاكنا للموارد التي أدت بدورها للتغير المناخي" - نحن الان -يا رفاق ويا رفيقات- نمر بنفس ذلك الظرف التاريخي الذي في السابق تسبب في احلال مجتمع مكان اخر.

واصبح كثيرون يتحدثون -من اقتصاديين ومفكريين سياسيين وعلماء اجتماعيين وحركات ناشطة على ارض الواقع- عن ضرورة  اعادة النظر في الأسس التي تقوم عليها مجتمعاتنا وانظمة السلطة التي نعيش تحت وطأتها- للحفاظ على الجنس البشري من جديد. كثيرون يتحدثون عن الانتقال الى مجتمع يحمل سمات المجتمع الأمومي. ليه؟ اذا حاولنا النظر في ما هو اهم مخلفات ما ورثناه من المجتمع الذكوري نجد: الخوف (الذي يؤدي الى اقتصاد الوفرة وانتاج ما فوق الحاجة مخافة الجوع)  والطمع (وهو والخوف عملتان لوجه واحد- فالطمع ناتج عن محاولة تأمين نفسك من المجهول وقد ادى ذلك الى اقتصاد الرأسمال ومافيها من مظاهر الطمع كالاحتكار والملكية الفردية للموارد العامة ) و القمع (الناتج عن فقدان السيطرة الحقيقية من قبل قلة تحاول أن تؤمن لنفسها ما ليس متاحا للكثرة)
-الاستاذ محمود محمد طه ضرب في احدى محاضراته مثلا جميلا حول الخوف وفقدان السيطرة: أن الخائف المسلح ان واجهه رجل في زقاق قتله- يفقد السيطرة. بينما المسلح المطمئن الى قوته اذا ما واجهه ذات الرجل: صد عدوانه بتعطيله كأن يضرب رجله مثلا -لم يفقد السيطرة-
اذا: الخوف- الطمع- القمع وتجد في قاموس المقالات الحديثة مصطلحات مثل(اقتصاد الشركات الاستثمارية)corporationalism، اقتصاد (الاستهلاك) ومجتمع الاستهلاك، سياسات الانسياب من أعلى، الأمن الوطني
في المقابل يقدم المنادون بالتغيير امثلة لمجتمعات التشاركية، مؤسسات تعاونية، مجتمعات اقتصاد الكفاية، مجتمعات سد الفجوة بين الانتاج والاستهلاك، الملكية المشتركة، التضامن، وانماط التشاورية السياسية كمجالس العمال ..الخ وكثير من المعاني المشتركة بين ما كان موجود في مجتمعات الأمومية والمجتمع المرجو تحقيقه


قد يبدو كل ذلك ضربا من الرومانسية. لكن فلنضع في الحسبان اليوم عدة حقائق:
مليار هو عدد جوعى العالم
فوق  ٦٠٪ من جوعى العالم هم من النساء والبنات معظمهن من سكان المناطق الريفية (حيث انتاج الطعام)
سبب الجوع ليس ندرة الطعام بل صعوبة الحصول عليه بسبب الفقر
اكثر من ثلثي النساء في افريقيا يعملن في الزراعة وينتجون ٩٠٪ من الطعام
في السودان ٨٠٪ من النساء يعملن في الزراعة- قرابة ٨٠ ٪ من القوى العاملة في مشروع الجزيرة من النساء،
اقتصاد دول العالم يستفيد من دعم يقدر ب١٧ ترليون دولار- هو قيمة العمل المنزلي -غير المأجور الذي تقوم به المرأة






لماذا هذه الإحصائيات؟ هذه الإحصائيات للتأكيد على شيء واحد ، أي حديث عن استمرار في نهجنا الاقتصادي وايضا السياسي المعتاد يؤثر بشكل أساسي على المرأة وبالتالي على المجتمع البشري ككل
أي حديث عن مجتمع جديد او نظام جديد ، ستكون المرأة في قلبه ليس من أجلها بل من أجل استمرار المجتمع البشري ككل

كثيرون منا يركزون في مثل هذا اليوم على "حقوق المرأة" السياسية والقانونية والاجتماعية بمعزل عن أثر السياسات الإقتصادية الحالية عليها. وهو أمر فادح ابتليت به الحركات الحقوقية في العالم لمحاولتها أن تكون "محايدة"عند رصدها لانتهاكات حقوق المرأة او الانسان بشكل عام * لكن في حقيقة الأمر اذا كنا سنتحدث عن:
العنف ضد المرأة- فنحن بالضرورة نتحدث عن السياسات المفقرة التي اما أنها تقوم بالضغط على الرجل كمعيل أساسي للأسرة و/ او أنها تتسبب في أن تكون المرأة معتمدة على دخل الرجل وبالتالي تحت رحمته

اذا كنا سنتحدث عن تمكين المرأة: فلا بد لنا ان نتحدث عن الواقع الاقتصادي الذي يجعل المرأة تعمل في ظروف اشبه بالسخرة سواء في بيتها أو مكان عملها دون اعتراف بقيمة عملها وبابعادها عن قدرتها على اتخاذ قرار فيما يخص عملها أو واقع حالها

اذا كنا سنتحدث عن المرأة كضحية للحرب والنزوج في جنوب كردفان : لا يمكن أن نتحدث عن ذلك بمعزل عن توصيات البنك الدولي في بدايات الثمانينات بتمليك الأراضي لغير العاملين فيها واقامة مشاريع زراعية أخرجت هذه المجتمعات الزراعية لتعمل بالأجرة في اراضيها، واخلال التوازن المجتمعي واثر ذلك على اشتعال صراعات الموارد بين مجتمعات الرعي والزراعة ثم تدخل الدولة القمعي واندلاع هذه الحرب التي خرجت عن السيطرة.

اذا كنا سنتحدث عن زواج القاصرات : الذي امتد إلى حتى المدن الحضرية، فلا يكون ذلك بغفلة عن الضائقة المالية التي اصبحت تحيط بالأسر فيختارون وأد بناتهن أحياء في زيجة ميتة لكي يجابهوا الكفاف

وبذا لا بد لي أن أؤكد مرة أخرى أنني لا أتحدث هنا عن "مناصرة" جديدة للمرأة من على جبهة "إقتصادية". انا هنا اتحدث عن المفهوم الأوسع لرحم النسوية الذي لا بد أن يجمعنا جميعا، النسوية بمعنى البديل للحال الراهن على المستوى العالمي والمحلي.

وطالما أنا جئنا للمستوى المحلي، فيوم المرأة هو يوم للتفكر في الطريقة التي تغور فيها هذه البلاد في حفرة رأسمالية المحسوبية التي جاءت بها الإنقاذ منذ قولة تيت والتي تعمل على انتفاع قلة على حساب المصلحة الكلية، عبر بيع وتفكيك مؤسسات المنفعة العامة لمصلحتهم الشخصية أو في الغالب- مقابل سمسرة.




كتفكيك النظام الصحي وخصخصته، تفكيك أي لمحة ضمان اجتماعي وترك المواطن والمواطنة في سهلة السوق المستعرة، تفكيك النظام التعليمي عبر إهماله وتركه لفوضى الاستثمار الخاص، قطع الطريق على كل سبل التضامن والتعاضد المجتمعي بدءا من قانون النقابات المعروف بقانون المنشأة وقانون الأمن الوطني الذي يعمل على تفتيت الحركات المطلبية والعفوية في المقام الأول بالمناسبة، وما زلت أصر أنه لم يوضع للناشطين السياسيين، وصولا إلى قانون النظام الذي أرى انه كان موجها لإذلال الرجل في المقام الأول قبل المرأة، حيث أنها تعمل على كسر شوكة فكرة "الرجل السوداني" و تحول بين الأب /الأخ /الزوج في دفع تهمة الفحش عن زوجته/أخته/أمه /ابنته حين تقذفها الدولة بالفحش- فإني ارى أن هذا القانون صمم خصيصا كي يستحي الرجل أن ينظر في وجهه في المرآة وبالتالي أن يستحي من قولة بغم تجاه أي مظلمة.

فليكن يوم المرأة فرصة للتفكير لإطلاق الخيال خارج ضيق واقع السياسات العالمية التي تطبق بخناقها علينا وليست الحكومة بالمناسبة سوى- وسيط لهذه السياسات، مجرد منفذ لها.

فليكن يوم المرأة يوما للحديث عن خيارات أخرى لمشروع الجزيرة، حيث انعدم الخيال بين الخصخصة او ترك المشروع للبوار. وهناك من رحم البديل تخرج أمثلة للتعاون الحكومي مع المجتمع المحلي، اعادة توزيع الأراضي ، تشجيع الزراعة التضامنية والتعاونية، تمكين المزارعين من التحكم في سوق المنتجات، تشجيع الصناعات الزراعية المحلية، (كما يحدث في مشروع الملم دارفور الذي يعمل على تقوية المجتمع المحلي للمزارعين لا لإقصاؤه) فرص التعاون الإقليمي وفتح أسواق محلية واقليمية للخروج من خناق سيطرة المؤسسات المالية العالمية (كالبنك الدولي، كصندوق النقد الدولي، كمنظمة التجارة العالمية)




http://www.malamdarfur.org/agriculture/


اطلاق الخيال في حديثنا عن مأساة  المناصير ونقلها الى دائرة تخرج عن دائرة التعويضات البائسة. و لفت نظرنا الى سياسة الدولة الممنهجة في نزع الأراضي وفهم أبعادها

اطلاق الخيال في حديثنا عن حرب دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق واخراجها من دائرة المناصرة الهتافية بنزعنا لحراشف "الغرض" و"الطمع" التي تطوق بها الحكومة هذه الحرب المستعرة، فتسعد لغفلتنا حين نحصرها في اطار العنصرية التي تضيق خيالات النضال والمناصرة


اطلاق الخيال كي تواكب هذه الخيارات أنماط لتشارك القوة لا أن ينحصر الخيال في قيادة حزبية او رئاسة دولة، فليكن فرصة لتمحيص العقبات التي تمنع التضامن الحيوي (مثلا:إضافة الى لفتة : تحية إلى عمال النظافة ماذا عن الحديث عن نقابة مهيبة تدافع عن حقوقهم بشكل مستدام، تمكنهم من مجابهة مشاكل عملهم اليومية التي مهما تكاثفت حسن نيتنا تجاهها فلن نحسن التعبير  عنها او تحديد اولوياتها كما يفعلون هم)


اطلاق الخيال لتصور التقدم والتطور في بلادنا بحيث يسبق غفلة ومكابرة الدول "المتقدمة" التي كبلت نفسها بأنظمة ومؤسسات"اكبر من أن تفشل" Too big to fail ،

اطلاق الخيال بصور للحضارة لا تشبه صور جسور اليابان الحديثة الممتدة ، أو سدود الكهرباء التي تجرف مياه النيل وتربتها جرفا، صور لا تشبه عمارات جوهانسبيرج العاتية وتخفي بيوت الصفيح التي تستظل بها.

اطلاق الخيال لتصور رفاهية لا تشابه فكرة "الميقا ماركتات" و"السوبر ماركتات" مترعة بمنتجات الغبن والطمع، أو ناطحات سحاب و طبقة أنانية مترفة تسكن مركز المدن على أكتاف أرتال من احزان ريفية . نحو مجتمعات تعاونية تعاضدية، يقول الكاتب الإقتصادي الصاعد نجمه راج باتيل: ليس نفيض البذخ هو الزهد- بل السخاء- السخاء في مد يد العون والتعاضد




فليكن يوما لإطلاق الخيال، ولمد أيدينا ليس فقط للمرأة - ليس فقط لست الشاي والنازحة والقاصرة والأمية- بل لحركات تغيير سياسية واقتصادية تخرج من أدغال اندونيسيا و اودية الهند العميقة ومزارع البرتغال المزهرة و سهول نيبال الوفيرة و في افريقيا الأم في تنزانيا في ملاوي في اريتريا في جنوب افريقيا.. تحدث الآن في مجابهة انظمة تفاقم وترعى غبائن المرأة و تغور من جرح المظالم ثم تضمدها بضمادة المنظمات الطوعية قليلة الحيلة


فيديو يوضح قرار منظمة الفاو التعاون مع حركة صغار المزارعين ومنتجي الغذاء