Monday 21 December 2020

أهل البيت، أنصار الطيرة

أهل البيت، أنصار الطيرة


إنما مثلنا كمثل أهل البيت مع الحاوي صاحب الطيرة

يحكى أن رجلا حباه الله ببسطة في التدبير و وسعة في الحيلة و فرصة في اكتساب المعارف لم تتح لغيره، وهمة في تتبعها حتى وصل بها إلى بلاد ما وراء البحر، فتعلم لسان أهلها وكرس كل تلك المعارف لصقل موهبة التدبير وتوسعة الحيلة.

عكف على حيلة بارعة. صقلها ونمقها ورتبها وصففها حتى استقامت له ولاحت له فرصة ذات ظهيرة، فمر على صاحب بيت يستظل به ذات قيلولة.

اتسعت ابتسامة الحاوي الساحرة وناداه : يا..يا أخينا، هههه.. يا هوي.. يا صاحب البيت.

إنتبه صاحب البيت من نعسته: حبابك الحاوي! تعال جاي

تقدم الحاوي بخطوات ثابتة نحو صاحب البيت، ومال بوجهه قريبا من وجهه وهمس ضاحكا: أسمعني.. أنا بقدر أقلب ليك بيتك دا كله… طيرة!

احتاج صاحب البيت بضع دقائق ليفهم الكلام الذي بدا له غريبا، بيت؟ طيرة؟ ثم مال للوراء مقهقها: طيرة؟ يا زول؟ تقلب لي بيتي دا كله لطيرة؟ " وضم أصابع كفه كناية عن الضآلة والاستحالة.

اعتدل الحاوي وهز رأسه مجيبا وأضاف بثقة مبهرة: "أيوة طيرة"

اتسعت  عينا صاحب البيت وتأمل الحاوي مفكرا إن كان فقد عقله، أو أنه فتح عليه، وفي حيرته ضحك قائلا " اقلبه كان بتقدر تقلبه"

ثم أضاف بصوت عال ليلفت انتباه أهل بيته والمارة وكأنه يحاول أن يؤكد لنفسه إن كان هذا الحوار الغريب يحدث فعلا:

" تقلب برنداته ومنافعه وغرفه وديوانه وحيشانه وبهمه وشدره وعناقريبه وحلله لطيرة؟ طيرة؟"


هز رأسه ايجابا وخطى خطوتين إلى الوراء، متفحصا للبيت، وشمر كم جلبابه عن ذراعيه. متمتما لنفسه هامسا مستغرقا غير منتبه لأهل البيت الذين خرجوا لرؤية الحيلة ، ولا الأولاد الذين تركوا لهوهم لمتابعة هذا الحدث الخطير، ولا لطنطنات الحبوبة التي مصمصت شفتيها استهجانا لهذه الملهاة.


انتبه الحاوي فجأة وامتلأ سرورا للجمع الغفير الذي التف حوله مترقبا، كاتما أنفاسه، اتسعت الابتسامة في وجهه، فضاقت عيناه الذكيتان، جر نفسا وصاح فجأة:

"شرررم بررررم هيللا هيللا، هيلللا هيللا، هيلاااا هوب!"

فإذا الأرض أسفل منهم تهتز وتمور ، انتفض البيت الكبير، وتقوست جدرانه وصرت صريرا فزعا وكأنها تولول، فارت حيشانه وماجت، هوى السقف مرة واحدة والتقت الأعمدة في عناق شره حتى اختفت الواحدة في الثانية. و…!

وأمام أعينهم التي لم ترف للحظة وقد تسمرت رعبا لما يحدث أمامهم، حسا البيت حسوا حتى صار طائرا صغيرا جميلا، رقيق الهيكل، يداعب النسيم ريشه اللطيف.

فغر الجمع فاهه، مدققا ناظرا في الطيرة، وقد ابتلعت الدهشة لوهلة كل مفردات اللغة وتعابيرها فامتنعوا عن الكلام. مرت لحظات صمت حائرة بينما الحاوي يتأمل بإعجاب شديد حسن تدبيره، مرر أصابع يده اليسرى على كفه الأيمن مداعبا مستحسنا.

كان الأولاد أول من قطع الصمت، صفقوا دفعة واحدة، تقافزوا فرحين حول الحاوي، صائحين فرحين "بيت قلب طيرة! بيت قلب طيرة! طيرة طيرة، طيرة طيرة!"

ضحك أصحاب البيت وتلفتوا حولهم عجبا محدثين بعضهم البعض " يا حولااا! شفت الكلام دا؟ البيت انقلب طيرة!" "يا حاوينا يا ساحر يا عظيم، علي بالطلاق سواتك دي ما سواها زول"

هشت النساء لقسم الطلاق المغلظ فخف ارتباكهم وأطلقن الزغاريد والضحكات.

ربت الرجال على ظهر الحاوي، تدافعوا بالكلام سوية ، كيف فعلتها؟ شفت سوى كيف؟ قال شنو؟

ردد الأولاد وكانوا الأقدر على الحفظ " شررم بررم هيللا هيللا هيللا هيللا هيلاااااا هووووب" 


نقلت الجدة ثقل جسدها المتكئ على رجلها نحو رجلها الأخرى، زفرت متأففة، وقد أعياها الوقوف.

عندها فردت الطيرة جناحيها الرقيقين، كتم الجمع أنفاسهم. و… فت فت فت فت فت رفت الطيرة نحو السماء. 

هتف الأولاد خلفها "طيرة طيرة، طيرة طيرة"

وانضم إليهم أهل البيت مصفقين مهللين " طيرة طيرة، طيرة طيرة"

مدوا اصابعهم ولوحوا بأيديهم نحو الطيرة.

طيرة طيرة! 

طيرة طيرة!

طييييرة طيييرة!

ط..طيرة طيييرة

طيرة!

طير!

طي

ط

واختفت في جب السماء.

 تنفس الناس الصعداء وخرتوا بواقي الضحك عن وجههم والتفتوا نحو الحاوي.

"أها؟"

فرد الحاوي مبتسما " أها!"

ضحك صاحب البيت مرتبكا "شنو يا؟ اها؟"

تساءل الحاوي مندهشا "أها؟"

تلبس صاحب البيت القلق " اها؟ شنو؟"

تبين الحاوي اخيرا معني ال "أها" هذه، فرد مبتسما:

"بس كدا"


هذا ما تمثل لي وأنا أشاهد وثائقي الجزيرة عن شيخ حسن الترابي، استعرضوا سيرة في غاية الإبهار، سيرة من الإصرار والثقة والتدبير. تحدث اخوان مسلمون من القطر العربي عن الهمة وحسن التنظيم اللذان كانا في تنظيم الأخوان السوداني. علق الغنوشي عن الدور البارز للمرأة في المكتب وعلل أن لعل هذا الأمر دون غيره هو الذي مهد لبروز تنظيم الأخوان السوداني من بين التنظيمات الإخوانية الأخرى في المنطقة، وأضاف حين شاهدت عملهن في مكاتب التنظيم عرفت حينها أن الاخوان المسلمين السودانيين سيكونون الأوائل من بين التنظيمات الإخوانية الأخرى للوصول إلى السلطة.(بغض النظر عن كيفية الوصول)

اتكأ أمين حسن عمر في الكرسي الوثير وحدثنا عن زيارة حسن الترابي إلى أمريكا وتجواله في حي الزنوج ولقائه بقادته المسلمين وجلوسه إليهم واستئناسهم به. تحدث عن اللقاء الذي نبه فيه الترابي الإنتربول الذي كان يطالب بتسليم الإرهابي كارلوس وأشار بضلاعة فقهه القانوني وبفرنسية فصيحة أنه ليس بين السودان وفرنسا معاهدة تجعل من تسليم كارلوس ممكنا، وكيف تلا ذلك تقاربا قانونيا بين البلدين انتهى إلى تسليم كارلوس بما يرضي القانون الدولي.

اقتضب وجه الاخواني من موريتانيا لخروج الترابي عن التنظيم العالمي ، وسرعان ما انبسط وجه كوز اخر شارحا كيف أنه انفض عن التنظيم الإخواني الضيق ليكون المؤتمر الشعبي الإسلامي العالمي والذي كان طفرة في حد ذاته وقد ضم المسلمين من بلاد الهند والسند والسلاجقة اخواننا في القارة الأم ، كما ضم أيضا مسيحيون وذميون ويساريون من أحزاب بعثية وقومية في بوتقة جامعة تنقل سنويا على شاشات تلفزيون السودان لأهل البيت الذين هم لا يزالون في دهشتهم حائرون.

تحدث ذلك الكوز الشارح عن أن الترابي كان قد ضاق بانقسام السودانيين وتفرقهم قبائلا وطوائفا، وأراد أن يجمعهم جميعا في مظلة الوطن الواحد وها نحن اليوم- اضاف الكوز الشارح- لدينا قرابة المائة حزب سياسي! معبرا عن التنوع السياسي السوداني.


ثم في شريط متسارع ختم الوثائقي في أقل من ثلاث دقائق سيرة المفاصلة وتكوين المؤتمر الشعبي، ومقطع للترابي محدثا عن شر العساكر، ثم مشهد يتسالم فيه الترابي والبشير وقد استكانوا على ما يجمعهم لا ما يفرقهم.


تراءى لي مثل الحاوي وأهل البيت، وقد تابعت هذه المقدرات وهذه الحركة الدؤوبة الهميمة من مبتداها إلى منتهاها (؟) وأنا في سكرة المتابعة والإنبهار انتبه فجأة لسؤال متململ كململة الحبوبة في قصة الحاوي .. "من أجل ماذا؟"

وهنا راحت السكرة وجاءت الفكرة، مدهش كل هذا، مدهش انقلاب البيت طائرا، لكن من أجل ماذا؟ ليتحقق ماذا؟ بل وماذا تحقق؟

ما الذي جنيناه من همة أخوات نسيبة في المكاتب التنظيمية وبروز المرأة فيه سوى أن حصلت المرأة في عهد الإنقاذ "أوضع الأفضال" كما صرح الرئيس المخلوع. ما الذي جنته السودانية سوى تفرق دمها بين مليشيات التقاتل والتنازع في جنوب ما قبل الإنفصال وفي دارفور وجبال النوبة؟ ما الذي جنته سوى محاكم الإذلال وكشف الحال بيد شرطة النظام العام؟ ما الذي جنته مع تصاعد حالات الإغتصاب و الامتهان اللفظي والجسدي وتزويج الطفلات وترويعهن بمباركة علماء السلطان.


ما الذي حصلناه من التضامن الأممي لمؤتمرنا الشعبي الإسلامي سوى فاتورة الضيافة السنوية وخطابات بألسنة عدة تطل علينا في شاشات تلفاز غافلة عنا. ما الذي استفاده السودان من هذا المؤتمر الشعبي؟ ما الذي حققه وحصله؟


ما العبرة التي نقلها الترابي وهو ينصت باهتمام لحديث سود أمريكا وحملها للسودان؟ ما الذي حصلناه لهذه الاستنارة القانونية الفرنسية التي لم تشرق منها أي ملامح في قوانين السودان المدنية؟ ولا حتى في تمثيله الدبلوماسي ؟


ما الذي حصلناه في أيدينا من ضيق الترابي من تفرق السودانيين، وهو الذي مع أول بوادر الخلاف مع "شرار العسكر" خرج من جلبابه التفرقة المسلحة وأشتعلت نيرانها في غرب السودان كما في الجنوب من قبل. ثم ما الذي حصله السودان من هذه المائة حزب وهذا التنوع السياسي وحتى وقت قريب كان أركان النظام يقمعون حق الحزب السياسي في التظاهر؟ أين ملمح التعدد السياسي وقد كانت وما زالت بيوت الأشباح مترعة بضحايا مشروع الإقصاء الكيزاني؟


ما الذي حصلناه من انتباهته الحصيفة لشر العسكر سوى أن مات ويده في يدهم وصية من بعد لخلفه في المجلس العسكري.


تساءلت عن هذا وأنا أرقب حالة الحنين والجزع والألم في أنصاره، ما العهد الذي هم باقون عليه بعد رحيله (سوى الحنين إلى مسامرة ليالي الإجتماعات التنظيمية القديمة)، ما السكة التي سيمدونها من عند نقطة رحيل شيخهم.


هل فعل الترابي ما فعله سوى ليثبت أنه بوسعه أن يفعل. وثائقية قناة الجزيرة نعت لنا الرجل الذي لم يخلف قصورا ولا ضياعا، وكأنما أطماع المرء تقتصر على هذين المغنمين، ألم يقرأوا دكتور فاوست.  لم تكن للترابي من غاية سوى إبراز القدرة. فالوسيلة هي غاية الغاية، حسن التدبير ووساع الحيلة هي كل المراد والمرمى.


هكذا نحن أهل البيت ضاع منا كل شيء طيرة من أجل ماذا؟ 

هاذا حالنا مع صبية الحاوي الذين تعلقوا بالحيلة لا مرماها، الحيلة هي التي أخذت بلبهم وجنانهم. هم أنصار الحيلة، أنصار الطيرة التي ظلوا يرددون خلفها 

" هيللا هيللا...لا للسلطة و للجاه"