Saturday 16 October 2021

سيادة الغذاء (حرية "غذاء" وعدالة)

 حرية، "غذاء" وعدالة

كل سعي البشرية هو من أجل حالة السلام التي لا تتحقق إلا بالحياة الكريمة، حياة الكفاية والوفرة.

يسخر البعض منا حين نرفع شعارات ضد التبعية للسياسات العالمية في أننا لا زلنا نعيش في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حيث كانت تلك شعارات اليساريون الحالمون. بينما لا يدرك من يرددون شعارات العولمة أننا لا زلنا نعيش تحت نفس أنماط الإستغلال التي ورثناها منذ الإستعمار القديم (الكولونيالي) والإستعمار الحديث. 

في الزراعة تحديدا، فنحن لا زلنا نعيش في أزمنة تسخير أراضي البلاد لخدمة المستعمر الحديث (شركات الأغذية والأطعمة والزراعة الإستثمارية الكبرى).


في الشهر الماضي انعقدت قمة أنظمة الغذاء العالمي بالإمم المتحدة، والذي قاطعته حركات صغار المزارعين والفلاحين (مثل حركة حياة الفلاحة أو لافيا كامباسينا، وتحالف سيادة الغذاء بإفريقيا) ذلك أن المؤتمر ضم شركات الأغذية الإستثمارية الكبرى المسببة لأزمة الغذاء في العالم. وهذا مقالي القادم بإذن الله.


حركة حياة الفلاحة والتي تعتبر من أكبر حركات العدالة الإجتماعية في العالم حيث تضم أكثر من 200 مليون مزارع وفلاح وعمال زراعيين ومجتمعات محلية  على امتداد قارات العالم، استطاعت بعد 18 عاما من تنظيم الوقفات الإحتجاجية ضد سياسات التجارة العالمية الحرة، وامام مقر البنك الدولي و مقر الأمم المتحدة، استطاعت اخيرا أن تصيغ قرارا أمميا يقر بحقوق الفلاحين تم إجازته بالأغلبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة.


مسيرة لحركة حياة الفلاحة في مؤتمرها السادس بإندونيسيا




المنسقة العامة لحركة حياة الفلاحة مع مدير الفاو


هنا مقطع مترجم ل"أوليفيير دي شوتر" الذي كان مقرر الأمم المتحدة ل "حق الغذاء" وباحث متخصص في حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية. والذي يشرح فكرة سيادة الغذاء والتي هي شعار حركة حياة الفلاحة وأخواتها من الحركات الشبيهة.

المقطع باللغة الإنجليزية هنا




((عندما برزت فكرة (سيادة الغذاء) قبل عشرين عاما من كتابات مارك ايدلمان عن الفلاحين في غواتيمالا وموجة احتجاجات المزارعين في أمريكا اللاتينية، ومن الاجتماع الشهير عام ١٩٩٣ الذي تأسست فيه حركة حياة الفلاحة، ومن كتابات رافاييل لاغري وبول نيكولسون هؤلاء العمالقة أصحاب البصيرة. كان لحركة سيادة الغذاء درسا هاما لتعلمنا اياه. وهو : السياسات التي تتعلق بالغذاء والزراعة يجب أن لا تكون رهن شطحات الأسواق العالمية. 


برزت هذه الحركة بعد سنة من مفاوضات دولية وضعت فيها الزراعة على طاولة الصفقات التجارية  لتكون وجهة جديدة لطاحونة التسليع العظيمة التي اجتاحت العالم. وطلب من المزارعين حول العالم أن يتنافسوا مع بعضهم البعض، فيكون البقاء للأقوى والفناء للأضعف من سوق المحاصيل.

أراد التجار المفاوضون أن يتنافس المزارعون بين بعضهم البعض، لكنهم عوضا عن ذلك و تحت راية (سيادة الغذاء) توحدوا ضدهم. ومن ثم طفت مفردات غريبة وجديدة على الساحة، فبينما كان هؤلاء الذين يتحدثون عن (حرية) التجارة العابرة للحدود يدفعون المزارعين دفعا نحو مصير من "العبودية" للسوق العالمية وشركات الغذاء الاستثمارية. كان  دعاة "سيادة واستقلالية الغذاء"يتحدثون في الحقيقة عن تحالفات وروابط عابرة للحدود السيادية، كانوا يتحدثون عن حركات اجتماعية لا عن حكومات سيادية، كانوا يدعون إلى ما أسماه الكاتب يان دو فاندربلو- فن الفلاحة لا تجارة الزراعة. 











هوجم دعاة  سيادة الغذاء وحلفائهم على عدة جبهات. اتهموهم بأنهم يقدمون مصلحة المنتجين والمزارعين على مصلحة المستهلكين، تحديدا المستهلكين في المدن، والذين يفترض أنهم يرغبون في غذاء وفير ورخيص ومتنوع خلال المواسم السنوية الأربع، ويفضل أن تكون لهذا الغذاء صلاحية طويلة على أرفف الدكاكين. 

ولكننا الآن نعرف الإجابة على هذا الاتهام، نعرف الان المضار والتكلفة العالية لنظام الغذاء الرخيص الذي تم تسويقه لنا، اعتلال الصحة بسبب النظام الغذائي المختل المكون من الأطعمة المصنعة تجاريا، الأجور المنخفضة لعمال الغذاء بدءا من لاقطي ثمرات الطماطم في مزارع فلوريدا وصولا لعمال مطاعم مكدونالدز ، الدمار البيئي على أوسع نطاق. كل هذا الخراب الراجع لهوس الإنتاج الوفير الذي يسترخص الجميع عدا الشركات التي تقود هذا النظام بالطبع! 

لكننا الآن ندرك أنه لا يجب أن تكون وفرة الأسعار كلفته أجور البائسة للعاملين في الغذاء و لا يجب أن تكون على حساب سياسات الضمان الإجتماعي التي تتيح للجميع حتى الفقراء أن يحصلوا على الطعام بسعر ميسور للجميع

.

أتهم دعاة سيادة واستقلالية الغذاء بالرجعية لإنكارهم لفوائد التجارة العالمية، وللفائدة المرجوة من جعل كل إقليم يتخصص في زراعة محصول واحد أو محاصيل بعينها لينافس بها في السوق العالمي. فكان ردنا على هذه التهمة، أن التجارة العابرة للقارات والتي تتحكم بها الشركات صاحبة شبكات الإتصال والمواصلات والقدرات اللوجستية المهولة التي تشتري بها محاصيل الموز وحبوب الصويا من مزارعين يبعدون عنها بآلاف الأميال، ليست هي اسلوب التجارة الأوحد، فهنالك الأسواق المحلية والإقليمية التي أهملت و انكمشت بسبب تمدد هذه الأسواق العالمية نفسها. 

والآن ينبهنا دعاة حركة سيادة الغذاء لمخاطر اعتماد الدول على استيراد غذائها خاصة وأن أسواق الغذاء تمر دائما بكوارث وصدمات اقتصادية ترفع بدورها من أسعار السلع الغذائية. 

هذا هو الجدل الذي دار ولا يزال يدور منذ عشرين عاما حول الغذاء، ورغم أنه ما من منتصر في هذا الجدال إلا أن المعركة من أجل استقلالية الغذاء لا بد أن تستمر، في الشوارع وفي الحقول وفي الصحف والمجلات ، كل هذه المساحات لا بد أن تحتلها حركة سيادة واستقلالية الغذاء صالحها.

والآن مضى الجيل الذي كان يقود هذه الحركة، والمشاكل التي تواجه النظام الغذائي تفاقمت وتضخمت وكذلك فكرة سيادة  واستقلالية الغذاء تمددت أكثر من ذي قبل . فهي حاضرة وممثلة في (شبكة محليات سياسات الغذاء) المنتشرة بدءا من كويبيك كندا في شمال أمريكا وصولا إلى أوكلاند  في نيوزيلاندا (وهي أجسام تكونها الحكومات او منظمات المجتمع المدني لتوجيه سياسات الغذاء في منطقة بعينها) ،وفكرة سيادة الغذاء حاضرة  في النفرة التي على اثرها انتشرت أسواق المزارعين المحلية ومخططات الزراعة المتفق عليها مجتمعيا، وهي حاضرة  في بنوك الطعام التي تسعى إلى ربط الناس بالمزارعين المحلييين وبالأنظمة الغذائية المحلية. هي  حاضرة كمرجع لأولئك للذين يزرعون طعامهم بأنفسهم عبر جناين الخضر والفواكه في ميادين الأحياء الحضرية أو في حيشان مدارس أولادهم.


غموض مفهوم سيادة واستقلالية الغذاء سمح بتنوع المبادرات التي تنضوى تحت اسمها، وهذا التعدد يعود ليثري مفهوم استقلالية الغذاء. ولكن هذا التعدد لا يعني العشوائية فبرغم تنوع المبادرات تحت مفهوم استقلالية الغذاء إلا أن هناك خمس خصائص أساسية تجتمع فيها هذه المبادرات على تنوعها.

الأول هو سعيها لجسر العلاقة بين المنتج في الريف وبين المستهلك الحضري عبر إعادة تعريف نظام الغذاء المحلي وقلبه. ففي السابق كانت مراكز منظمة التجارة العالمية في هونغ كونغ وفي سياتل هي التي توجه نظامنا الغذائي، لكن اليوم فالموجه هو مجلس إدارة مدرسة محلية في مكان ما، كافتريا مكان العمل أو أسواق المزارعين الشعبية. هناك تحالفات تبنى اليوم ما بين المزارعين والسكان المحليين والبلديات. في السابق كانوا يتهمون دعاة استقلالية الغذاء أنهم منحازون لصالح المزارعين على حساب المستهلكين في المدن ولكن اليوم! يا للعجب، فسكان المدن هم الأكثر نشاطا داخل حركة سيادة الغذاء.


ثانيها: هذه التنوعات التي تبرز تحت راية سيادة  الغذائية هي مبادرات ديمقراطية. في البدء كان الناس مستهلكون سلبيون، لكنهم اليوم مدنيون فاعلون، يعملون من أجل التحكم في السلسلة التي من خلالها يصل إليهم الطعام، ويؤكدون على حقهم في اختيار شكل هذه السلسلة. والإختيار ليس مجرد فعل سياسي سالب، بل انه يتجاوز حق الإختيار إلى حق المبادرة وتشكيل أنظمة الغذاء. وكما ساد في عصرنا هذا مفهوم ديمقراطية مكان العمل، فعلينا أن نستعد لمفهوم ديمقراطية الغذاء. 


ثالثها : هي الروابط الإجتماعية الجديدة والمتنوعة التي تشكلت بفضل حركة استقلالية الغذاء والتي تسعى لتقوية الروابط الإنسانية. الكاتب والمفكر كارل بولاني قد تحدث من قبل عن ان اختراق السوق والتسليع لكل منحى من مناحي الحياة قد أفقر الروابط الإنسانية. فنظام السوق يستفرد الناس ويقلل من اهمية الروابط الإجتماعية فيتم التعامل معهم إما كمنتجين أو مستهليكن، بائعين أو مشترين ويتحدثون فيما بينهم بلغة الأسعار فقط. ولكن حينما يجتمع هؤلاء الأفراد لينشؤوا مجلسا محليا لسياسات الغذاء، او عندما يزرعون حديقة خضروات في الحي، او حينما يجتمعون سويا لإقناع ادارة مدرسة أن تشتري طعام الكافتريا من السوق المحلي، يصحبون أناسا بروابط اجتماعية قوية، وعلاقات اجتماعية متنوعة وثرية، هذه الطريقة لا تقوم فقط بجعل حياتنا اكثر متعة وإثارة واحق بالعيش نحو الإنسانية كما ينص على ذلك منفستو الزاباتيستا، لكنها هذه العلاقات الإجتماعية لها تأثير أفضل على الصحة، بل اثبتت الدراسات ان هناك عامل واحد هو الأهم في تحسين صحة الإنسان وإطالة العمر، عامل هو اكثر اهمية من تقليل الكحول والامتناع عن التبغ، اكثر اهمية من الابتعاد عن الخمول، الا وهو : بناء الروابط الإجتماعية.



مؤتمر لا فيا كامباسينا السادس بإندونيسيا 2013





رابعا: استقلالية الغذاء تعلي من قيمة المرونة على قيمة الكفاءة، بمعنى أنهم يتعاملون مع واقع اننا ندخل في عالما مضطربا: لقد وصلنا إلى ذروة انتاج النفط(بعدها سينحسر وجود النفط في العالم) الاضطرابات في دورة النايتروجين المثري للتربة والموجود في المياه وفي تكويينا الجيني، والذي ايضا ينتج التاكل الجيني الذي نراه في اختفاء فصائل النبات والذي فاقمه التركيز على مشاريع الزراعة الضخمة الأحادية (أي التي تخضع اقليما لزراعة فصيل محدد من المحصول) وفقر التربة، الكوارث المفاجئة الناتجة عن تغير المناخ، الكوابيس اللوجستية الناتجة عن اكتظاظ المدن، هذه الظروف تنذر بالمزيد من الإضطرابات السكانية واشتعال النزاعات، وهذا يتطلب منا ابتداع حلولا فورية وسريعة.

فكما أن المرونة هي في قلب حركة المدن المتحولة- (وهي حركة تسعى لتحويل المدن الحضرية من مدن استهلاكية هشة تدمرها الكوارث الطبيعية والأزمات الإقتصادية، إلى مدن قوية منتجة قادرة على ان تكون مرنة في مواجهة تلك الكوارث) فالمرونة أيضا في قلب المبادرات الشعبية القاعدية التي تتبنى اهداف حركة استقلالية وسيادة الغذاء. الكلمات المفتاحية هنا: التقليل من الإعتماد الجامد على الظروف الحالية، والتنوع الهائل. فكلما زادت الحلول المحلية معتمدة على الموارد المحلية قلت احتمالات التعرض للكوارث الخارجية، مثل : ازدياد اسعار الكهرباء او الكوارث الطبيعية التي تصيب السوق بالندرة والشح خاصة للشرائح الفقيرة، لا نعني ان المنتجات المحلية ستصبح بديلة للمنتجات الخارجية إنما إضافة لها، وكلما زادت وتنوعت الحلول والمبادرات، كلما أصبح النظام المحلي أكثر قوة في مواجهة الطوارئ التي لا يمكننا التكهن بها، لكننا متأكدون الآن انها ستكرر أكثر واكثر في المستقبل. 


خامسا: حركة سيادة واستقلال الغذاء هي مرتبطة ارتباطا وثيقة بعلم الزراعة البيئية (أقرو-ايكولوجي) ، فليس من قبيل الصدفة أن بروز الجيل الثاني من حركة سيادة الغذاء تزامن مع فتوحات في علم الأقرو-ايكولوجي وهو العلم الذي يربطنا بالأنظمة الحيوية والطبيعية التي تمنحنا الغذاء. علم الزراعة البيئية يعمل على تقليل اعتمادنا على العوامل الخارجية في الزراعة مثل الطاقة المستمدة من الوقود العضوي، والإعتماد على العوامل المحلية والطبيعية المدورة من المزرعة نفسها. 

والمزراعون أنفسهم تحولوا من مجرد أفراد سلبيون يتلقون المعرفة من اخرين كعلماء يرتدون معاطف المختبرات البيضاء او اقتصاديون يظنون أنهم يملكون حلولا سحرية يمكن تطبيقها في اي وقت وفي اي مكان. المزارعون مع الزراعة البيئية اصبحوا ينتجون المعرفة التي يعملون بها، وهي معرفة تطبيقية، مرتبطة بالتربة التي يعملون فيها والنظام البيئي الذي يعيشون فيه.

علم الزراعة البيئي يقوي المزارعين، حيث انها تربط المزارعين في روابط اجتماعية تنتقل المعرفة فيها افقيا والتي تدريجيا تحول النظام الغذائي من حولهم. علم الزراعة البيئي يدرك تعقيدات وتنوعات النظام الحيوي من حولنا ولا يعمل على تبسيطه، وبالتالي هو الأقدر على مواجهة الكوارث التي تتسبب في حالات الشح والندرة . العلاقة بين حركة استقلال الغذاء وعلم الزراعة البيئي ليست علاقة ظرفية مؤقتة بل هي أساسية قائمة على اتفاقهم على سبب العلة في النظام الغذائي واتفاقهم على عقم النظام الغذائي الحالي الذي ورثناه.

والان دعوني اعدد لكم مساوئ نظامنا الغذائي الذي ورثناه: فهو نظام تحكمه الشركات، متعطش دوما للوقود، ومهووس بتخفيض كلفة الإنتاج لدرجة استرخاص اشياء تحمل كلفتها الجماعة، اعتلال الصحة، تفريغ القرى، والدمار البيئي.

يذكرني هذا بغاندي عندما سألوه عن رأيه في الحضارة الغربية؟ فقال: اعتقد أنها ستكون فكرة جيدة.

ربما حان الوقت لنحضر نظامنا الغذائي، او لتمدين نظامنا الغذائي ودمقرطته، ونحرره من عبودية الفاعلية حسب طلب السوق، ليكون طيعا لإحتياجات المواطنين

بالطبع ستكون هناك مقاومة للحركة، من قبل اصحاب المصلحة، المالتوسيين المتحمسين (هم انصار نظرية أن الزيادة السكانية هي سبب المجاعات)، انصار التكلفة الرخيصة، الاقتصاديون المهووسون بالنمو، واصحاب النظرة الضيقة لمعنى الحداثة، المتسوقون النمطيون،كل هؤلاء من عوائق التغيير.

لكن النظام الغذائي التقليدي نفسه مكون من عنصر واحد جامد، بل عناصر صغيرة متعددة، يمكن تغييرها واحدة تلو الأخرى، والتغيير ييدأ من القاعدة، بالمبادرات الجماعية، والروابط الإجتماعية المبتكرة التي تخلق البدائل بإستمرار وتضغط من أجل الإصلاح. 

نحن اليوم في حاجة إلى حكمة حركة استقلالية وسيادة الغذاء. أي حكمة؟ دعوني اقص عليكم قصة امرأة حكيمة ببلدة بعيدة. اتفق صغار الحي على اختبار حكمتها، فاصطاد احدهم عصفورا وامسكه بين يديه وذهب اليها سائلا: احمل طائرا في يدي، هل هو ميت ام حي؟ فعلمت أنه إن أجابت أنه ميت سيريها طائرا حيا و لو اجابت انه حي ، قام الولد بخنقه واثبت خطلها ، فأجابت : يا بني ، ما بيديك هو المستقبل! إما موت وإما حياة!))


وسأقوم في مقالات مترجمة قادمة بتفصيل هذا الخيار، إما أن نستمر في نفس أنظمة الزراعة والغذاء التقليدية للإنتاج المضاعف المفقر والمجوع للبشرية أو نغير أنظمة الزراعة والغذاء نحو أنظمة العدالة والتشارك. بيدنا المستقبل.






Friday 8 October 2021

نقابة المنشأة مفتت الوحدة النقابية؟ نعم ولا

نقابة المنشأة مفتت الوحدة النقابية؟ نعم ولا 


الثورة هي النفاج!

في ابريل 2020 نشرت الكاتبة الهندية  مقالا بعنوان (الوباء هو النفاج) ، قصدت أن حالة العجز والشلل التي ووجهت بها أنظمة العالم هي فرصة لبناء أنظمة ومفاهيم جديدة لعالم ما بعد الوباء. 

والثورة هي النفاج، الثورة التي وقفنا فيها على خرابة الوطن، هي فرصة لبناء أنظمة جديدة من الركام.


الصورة من صفحة تجمع تصحيح واستعادة العمل النقابي بالفيسبوك


نقابة المنشأة مفتت للوحدة النقابية؟ نعم ، وهي نعم الخوف والتوجس لا غيرها.

مفهومة هي المخاوف التي يطرحها المعترضون على نقابة المنشأة وفكرة الجمع بين نقابتين (منشأة وفئوية)، وهي مخاوف مرتبطة بإنفلات سلطة اتخاذ القرار في حالة تحول نقابة الفئة إلى تحالف نقابات منشأة، فالخوف من يتم اختراق نقابات المنشأة من قبل مصالح خارجية (رأسمالية أو سياسية أو أييولوجية) عبر الرشوة، والحشد المضاد ويؤثر ذلك تبعا على وحدة نقابة الفئة. هذا وارد. ولكن ليس هناك ما يقول أن نقابة الفئة حصرا هي محمية من الإختراق والإستقطاب السياسي. بل تاريخ الحركة النقابية في العالم يعج بأمثلة الإستقطاب لنقابات الفئة واستخدامها كسلاح في المعارك السياسية حتى ضد مصالح العمال والفئة التي تمثلها. ولم تكن حركات الإصلاح والتنظيف للنقابة إلا من خلال ضغط العمل المنظم للعمال من داخل أماكن عملهم (=المنشأة).

كما أن الرد على هذا التخوف لا يكون بالردع! ففرض قانون نقابي موحد يستخدم القانون كأداة لقمع العمال النقابي الحر هو اخر ما يتوقعه المرء من رواد العمل النقابي، لأن تاريخ الحركة النقابية ظل دائما حركة شرعنة الواقع الحي على القوانين المتجمدة، وفرض الشرعية القاعدية المباشرة على شرعية (التمثيل) بالقوانين والبيروقراطية.


الصورة من صفحة تجمع تصحيح واستعادة العمل النقابي بالفيسبوك

إذا فلا ، ليست هذه المخاوف سببا مشروعا لرفض فكرة الجمع بين النقابتين كمفتت للوحدة النقابية. ولأن ما يحمله الجمع بين نقابتين من إمكانيات لتعضيد الحركة النقابية يستحق تبنيها. ذلك أنها ستحول نقابة الفئة من جسم إداري صفوي، مكون من منسقين ومناديب ، يعمل عبر الترهل البيروقراطي،  إلى جسم عمالي قاعدي حيوي من عضوية فاعلة في أماكن عملها وواعية بقضاياها اليومية وقضاياها العامة.

ليس هناك أدنى شك أن المكاسب التي ننعم بها اليوم مثل ( الحد الأدنى للأجور، العطلة الإسبوعية، الحوافز والترقيات، اجازة الوضع وساعة الرضاعة، ساعات العمل المحددة) هي من مكاسب العمل النقابي الموحد، وهي مكاسب حققتها النقابات الفئوية. بل وفي بلدان مثل التي أعيش فيها (أستراليا) فتشمل المكاسب أيضا النظام الصحي الأساسي المجاني الذي ينعم به كل مواطن أسترالي عامل وغير عامل، صغير وكبير، والذي هو ثمرة العمل النقابي الفئوي الموحد.


نعم ، صحيح، أن التغييرات الجذرية وإصلاح السياسات العامة، لا يأتي إلا خلال من الوحدة النقابية، وتحديدا من العمل النقابي الفئوي. 

وصحيح أن تجربة نقابة المنشأة السابقة هي محدودة، و كانت مرتبطة بالأنظمة السياسية التي تسعى لقمع الحركة النقابية والسيطرة عليها وقطع الطريق أمام وحدتها. 

إلا أنه على الجانب الآخر ، فإن نقابة الفئة كجسم تمثيلي كان ثقيلا وبطيئا في استيعاب التغيرات أو الإنتباه للفجوات وسط الفئة العمالية لولا همة العمال وتنظيمهم لأنفسهم في أماكن عملهم وإجبار نقابة الفئة على استيعابهم، مثال لذلك تأخر النقابات الفئوية في أمريكا من استيعاب السود في صفوفها، و تذبذبها في استيعاب فئة النساء العاملات في المكاتب ضمن اتحادها في أمريكا.


بالإضافة لعيوب أخرى سآتي على ذكرها، أرى أن حلها يكون في تدعيمها بالإنتماء لنقابة في المنشأة. وإني أؤمن أنه كما استطاعت الثورة السودانية أن تقدم نماذجا فريدة غير مسبوقة للمقاومة السلمية غير المركزية، أن لديها القدرة على تقديم تجربة فريدة ونموذج ساطع للعمل النقابي الحر.


الصورة من صفحة تجمع تصحيح واستعادة العمل النقابي بالفيسبوك




التمثيل النقابي الفئوي يعتمد على انتخاب هيئة\ مكتب تنفيذي، واختيار ممثلين ليكونوا حلقة الوصل بين العمال ونقابة الفئة. قد يكونوا هؤلاء الممثلين منتخبين من قواعدهم، أو معينين من قبل نقابة الفئة للتنسيق بين النقابة والعمال في أماكن عملهم. يحتاج هذا الإمر إلى (تفريع) وتعيين منسق قبالة عدد من المنشآت ، ذلك أن تصعيد منسق من المنشآة يعني في بعض الفئات تصعيد آلاف المنسقين والذين هم بدورهم يحتاجون إلى منسقين يصلون بينهم وبين المكتب التنفيذي. فيصبح قوام نقابة هي مجموعة من الإداريين النشطين بعيدين عن نضالات الحركة العمالية اليومية، ويتحول الجسم النقابي الفاعل إلى جهاز إداري بيروقراطي.



كما أنه أصبحت هناك شكوى متكررة من النقابات حول العالم، وهو انحسار العضوية وكذلك ضعف التفاعل، برغم ازدياد توحش الرأسمالية واستغلالها للعمال وانحسار الضمانات الإجتماعية وزيادة الحاجة للعمل المنظم. والحقيقة أن سبب ذلك الإنحسار هو لذات السبب. فتوحش الرأسمالية وانحسار الضمان الإجتماعية زاد من حوادث استغلال العمال في أماكن عملهم بشكل يومي. فأصبح وجود النقابة والعمل النقابي اليومي ضرورة ملحة، لا يحتمل إنتظار التصعيد وتراكم الشكوى والمظالم. 


ولا ينحسر العمل النقابي في تنظيم الإضراب أو الضغط على الإدارة في التفاوض. بل يعني أيضا تنمية مهارات التواصل والتعامل مع الإدارة في تحسين ظروف العمل. وبناء عمالة واعية قادرة على الحشد والتنظيم في تحقيق مطالبها اليومية، مرتبطة ارتباطا وثيقا بمكان عملها بقدرتها على ادارة مناخ العمل. ومهارات العمل اليومي المكتسبة تخلق عضوا نقابيا فاعلا ومميزا، قادر على مشاركة خبراته مع زملائه في النقابات الأخرى وبناء استراتيجيات وتكتيكات عمل متطورة تفيد نقابة الفئة الموسعة. 


كما أن هذا يعضد من التنسيق بين العمال في أماكن العمل المختلفة ليس فقط على مستوى القضايا العامة بل على مستوى القضايا اليومية بتبادلهم للخبرات وخلق شبكات عمل مختلفة يصعب فضها بواسطة السلطة المركزية القابضة. وهو ما أحب بتسميته خلق غابة من الشرعية المتشابكة والمتفرعة.


وبمواكبة خطاب العدالة الإجتماعي، الذي أصبح يبتعد عن المركزية التقليدية، نجد أن فرض قالب واحد للعمل النقابي بالقانون أصبح بعيدا عن روح العصر، الذي تبرز فيه الحركات المحلية التي تنتظم في أماكن العمل والسكن ويكون لها القدح المعلى في الشرعية على الإدارة المركزية بل تقوم بتوجيهها، كما أنها أيضا بعيدة عن روح ثورتنا التي كانت نواتها العمل غير المركزي في الأحياء والذي يظل أقرب لتحقيق آمال الثورة من الحاضنات السياسية والنخب المركزية. 


وعافية العمل النقابي الموحد لا تأتي عبر سلطة القانون القابض، بل لا يمكن أن تتحقق أي نوع من المعافاة تحت قسرية القانون، بل عبر التضامن الحي الواعي بأشكاله المختلفة حول قضايا موحدة.


هناك أمر آخر يعلي من قدح من التنظيم النقابي القاعدي اللامركزي، وهو أنه يعطي القضايا اليومية المباشرة والملحة الأولوية و يستعيد مكانتها في الخطاب السياسي العام وتكون بالتالي رهن الشارع ورهن لغته وتجاربه وخبرته وأدوات عمله، ذلك وقد ظل الخطاب السياسي العام في السودان يترفع عن القضايا ويقوم بتتفيهها بوعي أو بدون وعي لصالح قضايا عامة تملك ادواتها ولغتها نخبة ضيقة ذات امتيازات مشتركة عبر التاريخ، وبقصد أو بدون قصد، يكون حتى الحديث  عن القضايا العمالية والقضايا القاعدية لا يتم إلا من خلال قالب (الإنسياب إلى أسفل) trickle down وهو نموذج يأنف اليساري عن تبنيه.


لا يعني أن العمل النقابي اللامركزي لا يحمل تحدياته، خاصة أن مساحات العمل في مناطق عديدة في السودان تصطدم بالمصالح القبلية أو السيطرة الذكورية على مساحات العمل، غير أن جر هذه النزاعات نحو اليومي والمباشر يضعف من هيمنة المصالح الكبرى على مساحة العمل ويغيب التحالفات التي تنشأ خارج مكان العمل. كما أنه يضعف من قدرة تحالف الرأسمالية أو اصحاب العمل من لعب لعبة فرق تسد بإستغلالهم لثغرات القبلية أو الأسرية أو الذكورية في مكان العمل. مثال لذلك أن النضال اليومي في مكان العمل سيستدعي بشكل متكرر إشراك النساء بدلا من تهميشهم، أو وضع الإستعلاءات الإثنية جانبا من أجل تحقيق مصلحة مشتركة.


نأتي لمسألة أخيرة، وهو جمع نقابة المنشأة بين فئات مختلفة، كالعمال والموظفين، أو بين المهني والفني. أولا من أجل فإن المطلب ليس : هذا أو ذاك، نقابة أم منشأة؟، بل الحشد نحو الجمع بينهما. هذا من جانب. من جانب آخر ، هذا يفترض أن العلاقة بين العامل والموظف الذين تجمعها (علاقات قهر واحدة) هي علاقة صراع أو تضارب مصالح. وقد ذكر مهتمون بالشأن النقابي من قبلي عن تاريخ النضال المشترك بين الفئات العمالية و المهنية في فترات مختلفة من تاريخ السودان. بل إن نقابة المنشأة تعمل في عملها اليومي في الوحدة على تحسين استراتيجيات وتكتيكات العمل في التحالف تستطيع نقل خبراتها وتجاربها في العمل النقابي الفئوي في خلق تحالف عريض. 

كما أنه للمفارقة، تجد في المنشأة أن علاقات القهر ليست بالضرورة من مهني على عامل، بل تتعقد، بحيث يجتمع الطبيب والعامل الصحي والفراش ضد إدارة المستشفى التي قد يكون على رأسها طبيب فيكون ما يجمعها أكثر من ما يفرقهما. كما أن هناك قهر من العامل على العامل، كقهر العامل على يد العامل مدير الوردية، والذي تشتبك مصالحه مع ادارة المنشأة بعيدة عن مصلحته مع زملائه العمال. فنقابة المنشأة تعمل على تمحيص علاقات القهر هذه بشكل لا تقوم به نقابة الفئة التي قد تجمع بين العامل المدير والعامل، وبين المهني صاحب المنشأة والمهني المعين في المنشأة.

لذا فإن الجمع بين النقابتين يقوم بوزن علاقات القهر بمواجهتها في مستوياتها المختلفة.


أرى أنه لا بد من إعادة النظر في طرح شعار (قانون نقابي موحد) يعمل على قسر الحركة النقابية (بسلطة القانون الإداري) التزام شكل عمل موحد. خاصة وأن نماذج النقابات الفئوية المتعددة في السودان التي تنشط في العمل السياسي وتدخل نخبها في صراعات سياسية تخصها ولا تخص عضويتها، وضعف أدائها في تحسين أوضاع العمل اليومية لعضويتها ، وكذلك ضعف قدرتها على خلق تحالفات تتجاوز ضيق الأفق السياسي في مخاطبة قضايا ملحة مثل السلامة المهنية والسلامة في مكان العمل هو أمر غير مبشر.