Friday 8 October 2021

نقابة المنشأة مفتت الوحدة النقابية؟ نعم ولا

نقابة المنشأة مفتت الوحدة النقابية؟ نعم ولا 


الثورة هي النفاج!

في ابريل 2020 نشرت الكاتبة الهندية  مقالا بعنوان (الوباء هو النفاج) ، قصدت أن حالة العجز والشلل التي ووجهت بها أنظمة العالم هي فرصة لبناء أنظمة ومفاهيم جديدة لعالم ما بعد الوباء. 

والثورة هي النفاج، الثورة التي وقفنا فيها على خرابة الوطن، هي فرصة لبناء أنظمة جديدة من الركام.


الصورة من صفحة تجمع تصحيح واستعادة العمل النقابي بالفيسبوك


نقابة المنشأة مفتت للوحدة النقابية؟ نعم ، وهي نعم الخوف والتوجس لا غيرها.

مفهومة هي المخاوف التي يطرحها المعترضون على نقابة المنشأة وفكرة الجمع بين نقابتين (منشأة وفئوية)، وهي مخاوف مرتبطة بإنفلات سلطة اتخاذ القرار في حالة تحول نقابة الفئة إلى تحالف نقابات منشأة، فالخوف من يتم اختراق نقابات المنشأة من قبل مصالح خارجية (رأسمالية أو سياسية أو أييولوجية) عبر الرشوة، والحشد المضاد ويؤثر ذلك تبعا على وحدة نقابة الفئة. هذا وارد. ولكن ليس هناك ما يقول أن نقابة الفئة حصرا هي محمية من الإختراق والإستقطاب السياسي. بل تاريخ الحركة النقابية في العالم يعج بأمثلة الإستقطاب لنقابات الفئة واستخدامها كسلاح في المعارك السياسية حتى ضد مصالح العمال والفئة التي تمثلها. ولم تكن حركات الإصلاح والتنظيف للنقابة إلا من خلال ضغط العمل المنظم للعمال من داخل أماكن عملهم (=المنشأة).

كما أن الرد على هذا التخوف لا يكون بالردع! ففرض قانون نقابي موحد يستخدم القانون كأداة لقمع العمال النقابي الحر هو اخر ما يتوقعه المرء من رواد العمل النقابي، لأن تاريخ الحركة النقابية ظل دائما حركة شرعنة الواقع الحي على القوانين المتجمدة، وفرض الشرعية القاعدية المباشرة على شرعية (التمثيل) بالقوانين والبيروقراطية.


الصورة من صفحة تجمع تصحيح واستعادة العمل النقابي بالفيسبوك

إذا فلا ، ليست هذه المخاوف سببا مشروعا لرفض فكرة الجمع بين النقابتين كمفتت للوحدة النقابية. ولأن ما يحمله الجمع بين نقابتين من إمكانيات لتعضيد الحركة النقابية يستحق تبنيها. ذلك أنها ستحول نقابة الفئة من جسم إداري صفوي، مكون من منسقين ومناديب ، يعمل عبر الترهل البيروقراطي،  إلى جسم عمالي قاعدي حيوي من عضوية فاعلة في أماكن عملها وواعية بقضاياها اليومية وقضاياها العامة.

ليس هناك أدنى شك أن المكاسب التي ننعم بها اليوم مثل ( الحد الأدنى للأجور، العطلة الإسبوعية، الحوافز والترقيات، اجازة الوضع وساعة الرضاعة، ساعات العمل المحددة) هي من مكاسب العمل النقابي الموحد، وهي مكاسب حققتها النقابات الفئوية. بل وفي بلدان مثل التي أعيش فيها (أستراليا) فتشمل المكاسب أيضا النظام الصحي الأساسي المجاني الذي ينعم به كل مواطن أسترالي عامل وغير عامل، صغير وكبير، والذي هو ثمرة العمل النقابي الفئوي الموحد.


نعم ، صحيح، أن التغييرات الجذرية وإصلاح السياسات العامة، لا يأتي إلا خلال من الوحدة النقابية، وتحديدا من العمل النقابي الفئوي. 

وصحيح أن تجربة نقابة المنشأة السابقة هي محدودة، و كانت مرتبطة بالأنظمة السياسية التي تسعى لقمع الحركة النقابية والسيطرة عليها وقطع الطريق أمام وحدتها. 

إلا أنه على الجانب الآخر ، فإن نقابة الفئة كجسم تمثيلي كان ثقيلا وبطيئا في استيعاب التغيرات أو الإنتباه للفجوات وسط الفئة العمالية لولا همة العمال وتنظيمهم لأنفسهم في أماكن عملهم وإجبار نقابة الفئة على استيعابهم، مثال لذلك تأخر النقابات الفئوية في أمريكا من استيعاب السود في صفوفها، و تذبذبها في استيعاب فئة النساء العاملات في المكاتب ضمن اتحادها في أمريكا.


بالإضافة لعيوب أخرى سآتي على ذكرها، أرى أن حلها يكون في تدعيمها بالإنتماء لنقابة في المنشأة. وإني أؤمن أنه كما استطاعت الثورة السودانية أن تقدم نماذجا فريدة غير مسبوقة للمقاومة السلمية غير المركزية، أن لديها القدرة على تقديم تجربة فريدة ونموذج ساطع للعمل النقابي الحر.


الصورة من صفحة تجمع تصحيح واستعادة العمل النقابي بالفيسبوك




التمثيل النقابي الفئوي يعتمد على انتخاب هيئة\ مكتب تنفيذي، واختيار ممثلين ليكونوا حلقة الوصل بين العمال ونقابة الفئة. قد يكونوا هؤلاء الممثلين منتخبين من قواعدهم، أو معينين من قبل نقابة الفئة للتنسيق بين النقابة والعمال في أماكن عملهم. يحتاج هذا الإمر إلى (تفريع) وتعيين منسق قبالة عدد من المنشآت ، ذلك أن تصعيد منسق من المنشآة يعني في بعض الفئات تصعيد آلاف المنسقين والذين هم بدورهم يحتاجون إلى منسقين يصلون بينهم وبين المكتب التنفيذي. فيصبح قوام نقابة هي مجموعة من الإداريين النشطين بعيدين عن نضالات الحركة العمالية اليومية، ويتحول الجسم النقابي الفاعل إلى جهاز إداري بيروقراطي.



كما أنه أصبحت هناك شكوى متكررة من النقابات حول العالم، وهو انحسار العضوية وكذلك ضعف التفاعل، برغم ازدياد توحش الرأسمالية واستغلالها للعمال وانحسار الضمانات الإجتماعية وزيادة الحاجة للعمل المنظم. والحقيقة أن سبب ذلك الإنحسار هو لذات السبب. فتوحش الرأسمالية وانحسار الضمان الإجتماعية زاد من حوادث استغلال العمال في أماكن عملهم بشكل يومي. فأصبح وجود النقابة والعمل النقابي اليومي ضرورة ملحة، لا يحتمل إنتظار التصعيد وتراكم الشكوى والمظالم. 


ولا ينحسر العمل النقابي في تنظيم الإضراب أو الضغط على الإدارة في التفاوض. بل يعني أيضا تنمية مهارات التواصل والتعامل مع الإدارة في تحسين ظروف العمل. وبناء عمالة واعية قادرة على الحشد والتنظيم في تحقيق مطالبها اليومية، مرتبطة ارتباطا وثيقا بمكان عملها بقدرتها على ادارة مناخ العمل. ومهارات العمل اليومي المكتسبة تخلق عضوا نقابيا فاعلا ومميزا، قادر على مشاركة خبراته مع زملائه في النقابات الأخرى وبناء استراتيجيات وتكتيكات عمل متطورة تفيد نقابة الفئة الموسعة. 


كما أن هذا يعضد من التنسيق بين العمال في أماكن العمل المختلفة ليس فقط على مستوى القضايا العامة بل على مستوى القضايا اليومية بتبادلهم للخبرات وخلق شبكات عمل مختلفة يصعب فضها بواسطة السلطة المركزية القابضة. وهو ما أحب بتسميته خلق غابة من الشرعية المتشابكة والمتفرعة.


وبمواكبة خطاب العدالة الإجتماعي، الذي أصبح يبتعد عن المركزية التقليدية، نجد أن فرض قالب واحد للعمل النقابي بالقانون أصبح بعيدا عن روح العصر، الذي تبرز فيه الحركات المحلية التي تنتظم في أماكن العمل والسكن ويكون لها القدح المعلى في الشرعية على الإدارة المركزية بل تقوم بتوجيهها، كما أنها أيضا بعيدة عن روح ثورتنا التي كانت نواتها العمل غير المركزي في الأحياء والذي يظل أقرب لتحقيق آمال الثورة من الحاضنات السياسية والنخب المركزية. 


وعافية العمل النقابي الموحد لا تأتي عبر سلطة القانون القابض، بل لا يمكن أن تتحقق أي نوع من المعافاة تحت قسرية القانون، بل عبر التضامن الحي الواعي بأشكاله المختلفة حول قضايا موحدة.


هناك أمر آخر يعلي من قدح من التنظيم النقابي القاعدي اللامركزي، وهو أنه يعطي القضايا اليومية المباشرة والملحة الأولوية و يستعيد مكانتها في الخطاب السياسي العام وتكون بالتالي رهن الشارع ورهن لغته وتجاربه وخبرته وأدوات عمله، ذلك وقد ظل الخطاب السياسي العام في السودان يترفع عن القضايا ويقوم بتتفيهها بوعي أو بدون وعي لصالح قضايا عامة تملك ادواتها ولغتها نخبة ضيقة ذات امتيازات مشتركة عبر التاريخ، وبقصد أو بدون قصد، يكون حتى الحديث  عن القضايا العمالية والقضايا القاعدية لا يتم إلا من خلال قالب (الإنسياب إلى أسفل) trickle down وهو نموذج يأنف اليساري عن تبنيه.


لا يعني أن العمل النقابي اللامركزي لا يحمل تحدياته، خاصة أن مساحات العمل في مناطق عديدة في السودان تصطدم بالمصالح القبلية أو السيطرة الذكورية على مساحات العمل، غير أن جر هذه النزاعات نحو اليومي والمباشر يضعف من هيمنة المصالح الكبرى على مساحة العمل ويغيب التحالفات التي تنشأ خارج مكان العمل. كما أنه يضعف من قدرة تحالف الرأسمالية أو اصحاب العمل من لعب لعبة فرق تسد بإستغلالهم لثغرات القبلية أو الأسرية أو الذكورية في مكان العمل. مثال لذلك أن النضال اليومي في مكان العمل سيستدعي بشكل متكرر إشراك النساء بدلا من تهميشهم، أو وضع الإستعلاءات الإثنية جانبا من أجل تحقيق مصلحة مشتركة.


نأتي لمسألة أخيرة، وهو جمع نقابة المنشأة بين فئات مختلفة، كالعمال والموظفين، أو بين المهني والفني. أولا من أجل فإن المطلب ليس : هذا أو ذاك، نقابة أم منشأة؟، بل الحشد نحو الجمع بينهما. هذا من جانب. من جانب آخر ، هذا يفترض أن العلاقة بين العامل والموظف الذين تجمعها (علاقات قهر واحدة) هي علاقة صراع أو تضارب مصالح. وقد ذكر مهتمون بالشأن النقابي من قبلي عن تاريخ النضال المشترك بين الفئات العمالية و المهنية في فترات مختلفة من تاريخ السودان. بل إن نقابة المنشأة تعمل في عملها اليومي في الوحدة على تحسين استراتيجيات وتكتيكات العمل في التحالف تستطيع نقل خبراتها وتجاربها في العمل النقابي الفئوي في خلق تحالف عريض. 

كما أنه للمفارقة، تجد في المنشأة أن علاقات القهر ليست بالضرورة من مهني على عامل، بل تتعقد، بحيث يجتمع الطبيب والعامل الصحي والفراش ضد إدارة المستشفى التي قد يكون على رأسها طبيب فيكون ما يجمعها أكثر من ما يفرقهما. كما أن هناك قهر من العامل على العامل، كقهر العامل على يد العامل مدير الوردية، والذي تشتبك مصالحه مع ادارة المنشأة بعيدة عن مصلحته مع زملائه العمال. فنقابة المنشأة تعمل على تمحيص علاقات القهر هذه بشكل لا تقوم به نقابة الفئة التي قد تجمع بين العامل المدير والعامل، وبين المهني صاحب المنشأة والمهني المعين في المنشأة.

لذا فإن الجمع بين النقابتين يقوم بوزن علاقات القهر بمواجهتها في مستوياتها المختلفة.


أرى أنه لا بد من إعادة النظر في طرح شعار (قانون نقابي موحد) يعمل على قسر الحركة النقابية (بسلطة القانون الإداري) التزام شكل عمل موحد. خاصة وأن نماذج النقابات الفئوية المتعددة في السودان التي تنشط في العمل السياسي وتدخل نخبها في صراعات سياسية تخصها ولا تخص عضويتها، وضعف أدائها في تحسين أوضاع العمل اليومية لعضويتها ، وكذلك ضعف قدرتها على خلق تحالفات تتجاوز ضيق الأفق السياسي في مخاطبة قضايا ملحة مثل السلامة المهنية والسلامة في مكان العمل هو أمر غير مبشر.

 





No comments:

Post a Comment