Wednesday 21 September 2016

نجمة ونجمة

في تمام الساعة الثامنة من كل يوم، تحمل والدتي الكرسي البلاستيكي من البلكونة، وتعتدل في جلستها أمام التلفاز قربها صينية شاي المغرب، تخرج نظارتها ذات الإطار الذهبي وتعقف يديها أمامها لتشاهد المسلسل.
أنا أجلس سَلَطَة على أحد كراسي الصالة المريحة ، نصف متابعة نصف سرحانة
يقترب المسلسل من محطته الأخيرة، دعايات ما قبل الختام. تنظر والدتي إلى الساعة قلقة ، أعرف تماما ما ستقوله. 
"مازن دا اتأخر أضربي ليه قولي ليه تعال قوام"
(وفي بيتنا أي حاجة بعد المسلسل هي متأخرة فطبع الريف فينا غلاب)

أتصل بمازن، أعرف تماما ما سيقوله يقاطعني قبل أن أنطق "جاي جاي ..أنا هنا في اللفة"
أي لفة؟ الله أعلم. قد تكون اللفة قرب الدكان المفضي إلى بيتنا، وقد تكون لفة في طريق مدني الخرطوم. المهم مازن سيأتي في الوقت الذي سيناسبه . رغم نقنقاتنا.
طيب!
 وسأغلق الهاتف وأقول لأمي "قال هو في اللفة، جاي"

أتصل، مازن يرد قبل أن أنطق: "أنا مع جاسم" يغلق السماعة
ماما تسأل: قال شنو؟
أرد دون انتباه "قال مع جاسم"
صمت.. نتابع المحطة الأخيرة في المسلسل الذي ينتهي في لقطة مشوقة للحلقة القادمة، ينزل التتر. 
تلتفت أمي بعد مضي ربع ساعة من المكالمة
"جاسم منو؟"
أهز كتفي "ما عارفة"  والحقيقة أن الطريقة الواثقة التي رد بها مازن جعلت إجابته المقتضبة تمر عليّ دون سؤال. كأن قولته "مع جاسم" لا تحتمل السؤال. (مع جاسم) هذه العبارة من شأنها أن تسكت كل شك وسؤال واعتراض.

علاقة ماما مع أصحاب مازن، علاقة عجيبة، زي البحر، مد وجزر. ثورة عارمة وحفاوة غامرة. سواء استلطفتك ماما أو لم، فستكون أنت جزء من البيت، لك ما له، وعليك ما عليه. انظر هذا الحوار الذي كان في أوائل التسعينات. أول سكنانا في الخرطوم

"صاحبك دا أنا قلت ليك ما برتاح ليه! خلاص اتلاقيتوا؟ وخليت قرايتك وبقيت في الجري والتئخر والدواحة؟"
"مافي دواحة ولاحاجة وصحبي دا ود ناس وما تعملوا لينا شكوك ودرامات"
"بعمل! بعمل! اخليك ساي يعني!"
مازن يلوذ بالصمت كعادته
"أسمعني، كلم صاحبك دا يحول لينا دولارات مستعجلة"
أو
ستفتح الباب غاضبة على الصحاب الذين امتدت بهم السهرة حتى الصباح خارج البيت. ولأن مازن ذهب لمشوار. سمتد لهم جنيهات تخبرهم أن يحضروا لها خبزا وصلصة من الدكان.


والحقيقة أننا اسرة نحب الدراما شويتين تلاتة ، ادركت ذلك لاحقا، كل  حدث فيها نعمل له قومة وقعدة، ونؤمن بنظرية المؤامرة في كل شيء. لكن الحق الحق أقول. فهي تجعل حياتنا أكثر متعة.

منذ عودته من أمريكا ومازن يلف حياته بصمت متين يصعب اختراقه. يصعب عليك أن تفهم ما يفكر فيه  أو بما يحسه. معنا وليس معنا. والخرطوم في بداية الألفينيات كانت صعبة عديل. بئر اليأس والإحباط. ماذا تقول؟ بماذا تفكر؟ ماذا تفعل ؟ أين تذهب؟ مافي حاجة. متاهة! الكل يخبط في حائط صلد.

لكن أحيانا تلمح في عينيه خيط من مازن قديم، مازن الطفولة والضحك والحنين. يفاجئني يوما في العربة بأغنية قديمة كنا نترنم بها. فكأنه محبوس في قبو داخله بعيد، يحتاج من ينتشله منه.

"جاسم!"

سنسمع هذا الإسم يتردد أكثر وأكثر. و معها مازن سيخرج من الظلال رويدا رويدا. اليوم سيشرب الشاي معنا . سيقيّل في المنزل دون سبب. سيتكئ في المطبخ مونسا والدتي. سيستلف جريدة والدي ويعلق على حدث ما. سيجلس لمباراة كرة القدم (وليس شغوفا بها كوالدي) ويضحك لتهليلات والدي ولمكاواة أخي الصغير له.

ثم كانت مناسبة في منزلنا، فهلّت علينا جلابيب بيض، يحملون ويعملون ويساعدون ويشاورون. وهو ليس غريب على أصحاب مازن، لكنهم كانوا يساعدون ويشتتون. هسي يجلسون ويشاركون.


وفي كل جمعة، سيستيقظ باكرا، ويذهب للصلاة ويعود مستعجلا، "أمي، داير لي حلة وكانون، سكين وحاجة اغرف بيها.. دايرين برميل البلاستيك" (برميل البلاستيك المقدس بتاع ماما خخخ)  وتشتعل فينا الحماسة أنا ووالدتي (فمازن يشركنا في أمر يخصه) الحلة دي ولا دي؟ شيل الكانون دا أحسن



أصبحنا نتحمس لهذه الكركبة كل جمعة (ما قلت ليكم أننا نحب الدرامات) وفضولنا يتزايد، ما هذه الرحلة؟ أين ستذهبون؟ ماذا تفعلون؟ (في مرة خبزت والدتي فطائر ليحملها معه) "ده شنو ؟ مافي داعي ياخ؟ رحلة شباب عادية فطاير وبتاع!" محرجا بعض الشيء من حماستنا.
"ماشي مع ناس منو؟"
ثم تلك الإجابة الواثقة المقتضبة والتي يقولها مازن وكأنها لا تقبل السؤال
"مع جاسم!"

"جاسم منو؟"

كنت أسمع اسمه في ثنايا حديث الصحاب أبناء شهادة لندن، يتحدثون عن عودة جاسم إلى البلاد، وقبل موجة الطاقة الإيجابية الكانت حايمة قريب دا كانت تجربة جاسم.
"جاسم يقول ممكن"
 "جاسم يقول بوسعنا"
 "جاسم بالفعل بدأ يحقق شيئا".
جاسم كان قد حوّل هذه الونسات وأدارها مية وثمانين درجة بعد أن كان بعض أفرادها قد وضع خطة محكمة للخروج من البلاد بعد التخرج أو البقاء نادبا حظه ممنيا نفسه بوظيفة في منظمة أجنبية ودائرة اجتماعية رتيبة واضعا طموحه وأحلامه في درج موصد.



أنشأ جاسم شركة (ستار اينيرجي) أو (طاقة النجم) أعتقد اقتبسها من اسم والده (نجم الدين) ، لكنها أظنها مثلت تلك الروح الوقادة بداخله التي لا يخبو فيها الأمل. وأذكر تصميم لملصق إن لم تخني الذاكرة كتب فيه شيء مفعم بالعزيمة والتحدي. ويا للخرطوم التي تحتاج الكثير من التحدي والعزيمة والأمل! أعتقد أن فكرتها البارعة هي التعاقد مع وكلاء إل جي على تركيب منتجاتهم بواسطة مهندسين وفنيين خبراء، لا أي كلام والسلام. 

لا أذكر أننا تبادلنا أي كلمة! أذكر حادثة طفيفة لمازن بالعربية، استدعت أن يجلب أوراقه إلى القسم ليسوي الأمور مع الشاكي. فأرسل جاسم. كنت وحدي بالمنزل وعند غياب أمي فإنني أحب أن أغز كوعي بدالها، فتحت الباب وغزيت كوعي وتصنعت الإستياء (ما عارفة ليه مع انه الموضوع ما هاميني ، غايتو علي حركات) : تااااني مازن طقش العربية؟
اذكر انه ابتسم ابتسامة اعياء ولم يرد، استلم الأوراق وذهب.

لاحقا ، فكرت كثيرا في ذلك التعبير، أظنه كان عتاب رقيق لطريقتنا في التعامل مع بعضنا البعض، وهي أننا نضع تصورا جامدا وضيق جدا جدا لما  نريده من أحبتنا نود أن نحصرهم فيه، فإذا لم يسعهم ضيق تصورنا عبرنا عن خيبة أملنا.
لقد كان جاسم مدرسة في المحبة، أتعلم منها الكثير، وأحاول أن أحقق منها الكثير . افتح لحبيبك ألف ألف باب، وسع أملك فيه حتى يسعه. أحاول هذا مع أولادي (أحاول وأنسى) ، لا أسأل إن كانوا الأفضل والأذكى في الفصل، أسأل إن كانوا سعداء، إن كانوا يحبون أصدقائهم، آخذ أحلامهم بجدية : (أريد أن أصبح حارسا في حديقة الحيوان)، (أريد أن أصبح يوتيوبر!!) . 
يلفني عرفان كبير لهذا الفتى الذي احتضن أخي كما لم يحتضنه دمه ولحمه ووطنه. اظنني لا أبالغ بالقول في أنه كان لرفاقه حضنا وسيعا ووطن.
وكما أنبته في قلبه، أنبته في قلب أسرته، فصار لمازن أخوات ثانيات يدللنه كثيرا وعمٌّ (كما سمعت) يحب أن يتصنع التذمر بينما هو مليء بالمحبة ووالدة تبتهج بقدومه كما تبتهج بقدوم ابنها. 
وانتقلت طاقة النجم إلينا جميعا، سرت في بيتنا ، ووسعت من ضيق أحلامنا وآمالنا

 مارس ٢٠٠٧ . تزوجت أخت النجمين الصغيرة (النجومي ونجم الدين) (ما أنا- سارة) ، امتلأ هاتف مازن ببهجة صور التحضيرات والتجهيزات والإحتفالات. 

٧ ابريل ٢٠٠٧. انطلقت قذيفة كاتيوشا من شاحنة حربية تقل أسلحة بوسط الخرطوم، لتشق طريقها وسط المنازل الآمنة فتخترق جدار غرفة وادعة وتجد مستقرها في رأس شاب سوداني اسمه جاسم.

ما اذكره من تلك الأيام العصيبة، هو وجه مازن واصدقاؤه مطمئنين آمنين، فكرة الموت لا يلوح منها خاطر في وجههم. مازن كان يتحرك بكل حيوية ونشاط بين منزلنا ومنزل جاسم والمستشفى. يثرثرون امام العنبر. الحياة نفسها كانت تصطخب في جسده، أيموت هو؟ وهذه الجنازات التي تجرجر أقدامها في الطرقات تحيا؟ أو هذه الجيف التي تدثرت بالسلطة وانتفخت بالنتن ستحيا؟ ويموت جاسم؟ لا يمكن

الثامن من ابريل

صباح التاسع من ابريل. رحل

على الصفحة التي خصصت لذكراه، بين دموع مودعيه ومفارقيه، يكتب مازن: (غريب، عندما أذكره لا أشعر بالحزن، أشعر بشيء طيب، بسعادة تغمرني)
بالطبع! فتلك صداقة المعدن للمعدن. أنا أتشكك كثيرا عندما أمر على وصف (الصديق الذي غيّر حياتي) أصلا أنا أتهيب جدا من الصديق الذي يرغب في تغييرك. فالصداقة في الحقيقة تنقيب. ذلك الذي ينقب في داخلك ويجلو نفيس معدنك أمام عينيك. لترى نفسك التي كانت غائبة حتى عنك. 
لذا لا يمكن أن ترتبط هذه الذكرى إلا بكل ما هو جميل وحفي وطيب وسعيد. نعم سعيد.

نحن نقترب من الذكرى العاشرة لرحيله. كنت أود كتابة شيء من هذا قبل عشر سنوات، مرت مياه كثيرة تحت الجسر يا جاسم. كلما تطلعت إلى صاحبك وهو يضاحكنا، يحمل صغاري وصغار اختي، يسند جدتي التي رحلت هي الأخرى، يتحدث بحماسة عن البلد، يبدي إعجابه بمشروع واعد، واخيرا وهو يحمل مايا بنته ويرنو إليها بمحبة بائنة. تذكرتك يا جاسم. وهمست في سري شكرا.






Thursday 8 September 2016

حجة شيكسبير في أربعميته



السنة دي "أربعمية" شيكسبير، مرت على وفاته ٤٠٠ سنة.
 قبل كم يوم اتعرض برنامج عن شيكسبير وانطرح سؤال عن جدواه، وعن جدوى عرض مسرحياته ليوم الليلة. هل دا مجرد تعنت أكاديميين ناشفين معتتين؟ وين موقع شيكسبير من كل ما يحدث حولنا في العالم. هل هي كنكشة الرجل الأبيض على الأدب، يحن إلى ماضيه الكولونيالي القديم؟

البرنامج كان مستضيف مجموعة من الممثلين، أجابوا انه شيكسبير، فنان، كان نقيض "الأبيض" "الكولونيالي" ، ومسرحياته كثير ما استعرضت الأسود وعرضته على الجماهير البيضاء الغافلة، والأسود في انجلترا الإليزبيثية هي المرأة، أو العبد، أو اليهودي، أو الغريب وغيرهم.

شيكسبير يثير جدل الكثير من دارسيه والمتخصصين فيه، بين المنكرين أصلا لوجوده، أو المنكرين نسبة بعض مسرحياته إليه، أو الظانين بأنه أكثر من شخص. المهم

المسودة الوحيدة التي يرجح أنها بخط يده فعلا، هي مسودة مسرحية : توماس مور، التي تناوب عليها كتاب عدة بعد وفاته، لكن المقطع الذي يخاطب فيه السير توماس مور جمع الشغب يعتقد أنه لشيكسبير. 
وكأن هذا المقطع لمن تعتبره انجلترا أعظم أدبائها وأحد أهم رموزها، وحده اختار البقاء في المتحف البريطاني ليكون حجة على هذه الأمة.
صورة المسودة بخط يد شيكسبير


ففي المقطع يخاطب توماس مور جموع من الغاضبين في ما عرف بيوم مايو الشرير، وفيه حدثت أعمال شغب لطرد "الأجانب" و" المهاجرين" الذين يسرقون ثرواتنا ووظائفنا ويمحون ثقافتنا من أرض انجلترا.
لوحة لأحداث مايو الشرير


يصيح أحدهم: "أزيلوهم جميعا"

يرد توماس مور من فوره:

"فلنقل أنكم أزلتموهم، فلنقل أن ضجيجكم هذا
أخمد كل جلال إنجلترا
تخيلوا أنكم تنظرون إلى هؤلاء الغرباء الأشقياء
يحملون أطفالهم على ظهورهم، تخيلوا بؤس متاعهم
يتخبطون نحو الشواطىء والموانئ ليجدوا مركبا،
بينما أنتم تجلسون كملوك على عرش رغائبكم
والسلطة ألجمها صخب ضوضائكم
تتمنطقون برباط رأيكم
ما الذي جنيتموه؟ دعوني أخبركم
إنكم تنادون على الغطرسة و قوة الضراع لتسود
تضربون مثلا لقمع النظام، وقس على ذلك
لن يعمّر أحد منكم
لأن ربّاطة غيركم سيحققون رغائبهم
بذات الضراع، بذات منطقكم، بذات صوابكم
وسيقترشونكم ورجال غيركم كأسماك مفترسة
سيتغذون عليكم
فلنقل أن الملك
أُجبر على أن لا يتغاضى عن تجاوزاتكم
واضطر إلى نفيكم، أين تذهبون؟
أية بلاد- وانتم تحملون خطاياكم-ستمنحكم مأوى؟
 فرنسا؟ فلاندير؟
مقاطعة ألمانية؟ أو أسبانيا أو البرتغال؟
أينما حللتم ستكونون هؤلاء الغرباء. هل سيعجبكم
أن تجدوا أمة بمزاج همجي
فائرون في عنف مريع
يرفضون منحكم مأوى على هذه الأرض
يشحذون خناجرهم على حناجركم،
يُحقّرونكم كما الكلاب، وكأنكم لستم
من صنيع الرب، وكأنكم أدنى من أن تتمتعوا
بالنعم التي كأنما احتكرت لهم وحدهم
ما قولكم إن صُنع بكم هذا؟
 هذه هي قضية الغريب
وهذا هو جبل لا إنسانيتكم"

مأساة غرق اللاجئين الإفريقيين على شواطىء ايطاليا قبل سنة(؟) والتي هزت مناظرها ايطاليا
هذه توابيت الأطفال الذين غرقوا


هنا السير إيان مكميلان . الممثل الذي لا يبز في شيكسبيرياته، يقرأ المقطع. (يذكر إيان أن المسرحية منعت من العرض لأن تمجد من شهيد كاثوليكي وانجلترا كانت قد انشقت عن البابوية واعلنت عن كنيستها المستقلة، كنيسة انجلترا. وعرضت لأول مرة من جديد في عام ١٩٦٤)