Thursday 6 April 2023

إصلاح المنظومة الأمنية

 تماما كما تختزل القوى السياسية التحول الديمقراطي في التمثيل الصندوقي عبر الانتخاب، تختزل العملية السياسية في "التوقيع"

والذي سيحدث لا محالة وسيراق لأجله مياه الأوجه وتسفح لغايته دماء العروق.


"إصلاح" المنظومة الأمنية ليس مسألة فنية أو تقنية تحل بجداول الدمج والورش واللجان. "إصلاح" المنظومة الأمنية يحتاج أمرين لا تملكهما الحرية والتغيير ولا الطبقة السياسية الحالية:

مشروع سياسي إقتصادي صاحب سيادة واستقلالية ثم قاعدة شعبية تشرعن هذا المشروع وتؤسسه وتنفذه


بمجرد التفكر في برامج وفي خطاب الحرية والتغيير ونخب الطبقة السياسية تجد غياب هذين العنصرين الأساس.


والسبب في ذلك الغياب هو خلل وخطل في فهم معنى التحول المدني الديمقراطي، يعمل على منع تحققها بشكل كامل فهم لا يريدون منها سوى الأوجه المدنية في مراكز السلطة وكرنفال الانتخاب الصندوقي. 

وسوء الفهم هذا اما انه مقصود ذلك أن حدوث عملية تحول مدني ديمقراطي فعلى ستطيح بنفس هذه القيادات السياسية والتكنوقراط وتحل محلهم كفاءات أصدق وأقدر على تنفيذ الأجندة الموكلة إليهم من الشعب. كما أن حدوث عملية تحول مدني ديمقراطي سطحية ستضمن وجودهم كطبقة سياسية ترتزق من السلطة وتورثها {والارتزاق لا يعني بالضرورة الاختلاس والعمالة} انما يعني شبكة العلاقات التي تضمن استقرارها الاقتصادي والاجتماعي. 


وسوء الفهم ايضا غير مقصود وتجد هذا عند بعض القيادات السياسية التي هي موجودة ضمن هيلمانة الحرية والتغيير والنخبة السياسية كتوابع  وايضا لدى النخب التي ترتزق من شبكات النخبة السياسية، وفيهم الصحفيين والأكاديميين وايضا شعراء و "روائيين".ومرة اخرى لا اعني بكلمة استرزاق انهم يستلمون مبالغ مالية. بل اعني انه في غياب هذا النموذج السياسي و وسطه المحيط لا يكون لهذه النخبة المتواضعة أي وجود. وسوء الفهم غير المقصود هذا ناتج عن استهلاكهم لخطاب ودراسات المؤسسات الأكاديمية المينستريم. وهذه مؤسسات ظلت دائما في خدمة الطبقة السياسية التي بنفس ما شرحته سابقا تضمن استمرارها وبقائها ، لذلك فإن خطابها دائما ما يكون في خدمة الطبقة السياسية، حتى خطابها النقدي لا يعدو أن يكون تفكيكا لنخبة داخل الطبقة السياسية نحو تمكين نخبة أخرى داخل الطبقة السياسية


والخطل يكمن في المفهوم:  أن التحول الديمقراطي يهدف إلى نقل الصراع السياسي من دائرة العنف الأهلي والقمع إلى دوائر الانتخاب أو سياسات الدولة ومؤسسات السلطة. ليبدو وكأن عبر هذا الإنتقال ينتفي او حتى {يقل} العنف او {احتكار العنف} ، لذا تردد النخبة السياسية بكل حماسة {حقن الدماء} وهذا غير صحيح. 


نموذج الدولة المركزية الحديثة الذي ولد من رحم الثورة الصناعية والرأسمالية، لا يعمل على احتكار العنف بمعنى تحجيمه او تصغيره، بل احتكاره بمعنى حماية حق العنف من تغول الغير عليه. 

فنموذج الدولة المركزية ليس سوى انتقال شكلي من نظام العصر الإقطاعي السابق له. وتماما كما شهد عصر الإقطاع الزراعي ثورات شعبية شكلته وغيرت فيه، كذلك شهد {ولا يزال يشهد} عصر الإقطاع الصناعي ثورات تهز عرش الطبقة السياسية وتحدث تغييرات فيه. فكل هذه السماحة واللطافة و"المؤسساتية" المنسوب للدولة المركزية ليس هو سوى حقوق منزوعة بذلت فيها الدماء والأرواح.


والمنظومة الأمنية ظلت تتوارث الدور الذي ورثته من عهد الإقطاع الزراعي السابق الى عهد الإقطاع الصناعي او {حاليا الإقطاع السودو صناعي} ، ألا وهو حماية الطبقة السياسية ومصالحها من الشعوب. 


فالحقيقة أن المنظومة الأمنية في السودان لا تزال تمارس دورها المعهود في الاستعمار منذ أن تسلم الأزهري علم السودان {بقنايته} من المستعمر. وظل ولاءها دائم للسيد خارج الحدود وهذا هو قلب الأزمة بين "السلطة" "المدنية" والمنظومة الأمنية، أنها لم تعترف يوما بالسيد الأسود. ظلت تبعية القوات المسلحة تتنقل من أجندة غير وطنية لأجندة غير وطنية. المستعمر، مصر الناصرية، بقا منظومة المشروع الناصري، أمريكا المستعمر الجديد، ثم مع انهيار اكذوبة الدولة السودانية وتفككها في عهد الترابي ـ البشير تعددت التبعيات وها نحن اليوم هنا. 


فالأزمة في جوهرها ليس فقط في عدم انصياع السلطة الأمنية {جيش، شرطة، دعم سريع} للسلطة {السودو مدنية} إنما في {انصياعها} الدائم لقوى الاستعمار المتغيرة والمستحدثة. وكيف تستطيع النخبة السياسية الحالية من حل هذه المعضلة مع غياب مشروع سيادي لها، ومشروعها الحالي يعول تعويلا كاملا على حراسة ذات قوى الاستعمار المستحدثة والمسمى دلعا {المجتمع الدولي} 


للأمانة. لا تستطيع، وكل حيلتها حاليا هي في منافسة السلطة الأمنية المتشرذمة في التبعية.


اذا ما الحل ؟ قبل الإجابة على هذا السؤال الذي دائما يشوح به في وجه الناقدين لمشروع الطبقة السياسية كقميص ابن يعقوب. هو أن نحضهم على إكمال السؤال. ما الحل لشنو؟ فالسؤال نصف الإجابة. إذا أحسنت السؤال ، أحسن الناس إجابتك.


ماذا تقصد أو من تقصد يا هداك الله وهدك ب{ الحل} ؟ هل سؤالك ما الحل للجيش والدعم السريع؟ ما الحل للإنفلات الأمني؟ {وعليك أن توضح حينها ماذا تقصد بالإنفلات الأمني؟ العصابات المسلحة، النزاعات الأهلية المدعومة؟ المظاهرات والمواكب؟} أو ما الحل {لتعديات المنظومة الأمنية}


لكن تجد أن مسودة الاتفاق الإطاري لا تجيب على اي من هذا؟ مسودة الاتفاق الإطاري تجيب على التالي:

 كيف نتجنب حرج وجود مليشيات مسلحة خارج مؤسسة الجيش الرسمية ؟ وهو حرج متعلق بمظهر الدولة المدنية. الإجابة : الدمج. 

فالدمج هو حل لهذا الحرج، إلا أنه ليس حلا لتفلت المؤسسة العسكرية وأزمة تبعيتها


ثم كيف نتجنب حرج استثمار قيادات المليشيات في تجارة الذهب وسمسرة الأراضي؟ الإجابة : إدراج عبارة: حظر مزاولة القوات الأمنية للأعمال التجارية والاستثمارية.

مرة أخرى فالحظر هو حل لهذا الحرج، لكنه ليس حلا لسيطرة قيادات الجيش والدعم والمليشيات لصفقات السمسرة والتهريب . فالذي تتغابى عنه قيادات الحرية والتغيير أن قيادات النخبة الأمنية هي ليست طبقة منتجة او مصنعة او مستثمرة، نشاطها بالأساس هو نشاط سمسرة ومقاولة وتهريب.


لكن إحقاقا للحق، فإن هذه الأزمة لا تخص النخبة السياسية داخل الإطاري، بل ايضا النخبة السياسية خارج الإطاري واعني بذلك التحالف الذي رأى أن يطلق على نفسه "خفة" اسم التحالف القوى الجذرية ، دون أي دلائل او إشارات أو حتى خطاب يدل على هذه الجذرية. فالأدق و الأصوب أن تسمي نفسها تحالف قوى الرفض. وهي القوى الرافضة لأي صفقة سياسية مع القتلة والمجرمين من العساكر والمليشيات، لكنها تأمل في نفس النتائج عبر آلية اخرى. 

فالجذرية تكمن في ترسيخ مفاهيم واضحة حول : معنى السلطة، معنى الديمقراطية، اعادة النظر في مؤسسات السلطة بما في ذلك المنظومة الأمنية، واعادة النظر تتم في تفحص ودراسة موقعنا الجيوسياسي، في ظل نظام عالمي مضطرب. مثلا إذا نظرنا إلى خطاب وبيانات قيادات التحالف {السودوـ جذرية} تجدها ايضا تتحدث عن جيش قومي مهني موحد. 


طرح الروائي حمور زيادة على صفحته تساؤلا، ذكر انه تساؤل حقيقي وليس ساخر، ملخصه كالآتي: ما الفرق بين انضمام ضباط الصف للثورة وبين اقالة سوار الدهب لنميري؟ ما الفرق بين سوار الدهب وضابط الجيش؟ هل هو فرق…أن أن اااان: طبقي! فالإثنان ارتكبا جرائم. 

وهو سؤال مشروع إنما سخريتي هي من تعجبه لبداهة أن يلتزم حزب ذو مرجعية فكرية قائمة على قراءة اعادة التاريخ من منظور الصراع الطبقي بما في ذلك فرز{جرائمه} ، لو كدا انت حتتعب كتير مع أي حزب شيوعي. 


لكن التساؤل المشروع لأنه خطاب الحزب الشيوعي ذو جذرية نية غير ناضجة ومكتملة، فالحديث لا يقتصر فقط على الفارق الطبقي بين صغار الضباط وكبار الضباط. بل كون المنظومة العسكرية هي مخدم للنخب والطبقة السياسية. فالضابط تماما كمشرف الوردية في المصنع تماما كالمواطن دافع دمغة الجريح ودمغة القوات المسلحة، خدام للطبقة التي تسحقهم وضحايا لها. لكنك لا تقوم بفرزهم عن آلة القمع إلا عند خروجهم عنها. 

هناك مقتبس بديل لمزن النيل لصورة عسكري بالبيريه الأحمر جالسا في خيمة صحية تابعة لأحد لجان المقاومة ينتظر دوره وسط المواطنين تقول: 

"عبر نموذج مجالس السكن نخاطب الفقراء والمقهورين اقتصاديا واجتماعيا من صغار الجنود، من حيث هم فقراء ومقهورين وبالطبع سيفضلون السكن في أحياء تعمل على تقديم الخدمات لهم وتقيهم شر الفقر وشر العمل كآلات قتل بيد قياداتهم. ويكون التطور الأمثل لذلك هو انحيازهم -أو عدد منهم- لحياتهم وحياة من يشاركونهم ذات المشكلات والمصالح، وذلك بهجر السلاح والمؤسسات الممسكة به"





وهذا المنهج يجنب المرء الإنزلاق إلى "الجوهرية" او "الماهوية" وهي التي تحاول منح صفات أصيلة لأفراد ومجموعات إلى فهم الظروف ودوافع قيام الافراد او المجموعات بأفعال بعينها ـ من ضمنها الدافع المادي كما في خطاب الحزب الشيوعي. 


ولعل مرد هذا غلبة الروائية على حمور زيادة، فلا يخلو خطابة من سقطات الماهوية هذه، وقد تحدثت من قبل عرضا عن بوست له يستنكر "كيف يقتل الجار جاره" معلقا على احداث العنف في النيل الأزرق، أو تقدريه للمهنية الإعلامية للسي إن إن.


نعود إلى أن خطاب الحزب الشيوعي ناقص لأنه ما إن ينتهي حديثه عن انضمام صغار الضباط للثورة، لا يتناول أي رؤية للمنظومة القمعية الخادمة لمصالح النيوكولونيالية والنخب المحلية وغير المحلية. وهي تبعية لا تحل بسطحية الحديث عن "عقيدة القوات المسلحة" بل فهم خطورة احتكار السلطة المركزية للعنف وحماية حقها في ارتكابه.

حتى لا يسارع البعض في التساهل بإتهامي بالمثالية "الباسيفيست" أو اللاعنفية المثالية. أنا هنا أتحدث عن نتيجة احتكار السلطة التنفيذية للعنف على الديمقراطية وعلى المدنية. وهذا حديث لا انفرد به وهو معضلة ظل يتناولها المفكرون منذ نشأة الدولة الحديثة.


ما الحل لهذا الخازوق المغروز فينا منذ نشأة جمهورية السودان ما بعد الاستعمار {لأنه كلمة استقلال صعبة شوية} . ما الحل لخازوق المنظومة الأمنية {جيش، مليشيات، استخبارات، شرطة، سجون} ؟ هذا الخازوق يبرر وجوده بمعادلة الاختيار ما بين السيادة أو "الأمن" ـ طبعا ناهيك انه يخربه في الأمن، حدودنا منتهكة وأراضينا منهوبة بحماية وضمان هذه المنظومة الأمنية. 


الحل هو أن تنفطم الأجسام الناشئة نحو القاعدية في الانفطام عن شطر الدولة المركزية ومؤسساتها والديمقراطية التمثيلية. فكل حركات العدالة الإجتماعية في طريقها للإنفطام عنها بأشكال مختلفة، فالحقيقة أن نموذج الدولة الرأسمالية الحديثها ونظام ديمقراطيتها المركزية الرأسمالية في تأزم حقيقي ومتفاقم كل يوم، بعوامل خارجية وداخلية مختلطة: كأزمة المناخ وشح الموارد، كتكالب النفوذ المالي على السلطة السياسية واختطافه لمؤسسات الدولة ببرلماناتها وقضائها ومؤسساتها الامنية


الحل هو تأسيس سيادة واستقلالية قائمة على السلطة الشعبية المباشرة. عبر شبكات السلطة المحلية {مجالس السكن، مجالس العمل: التعاونيات ونقابات المنشأة والنقابات المهنية ونقابات القطاعات، لجان المقاومة ، الأجسام القاعدية } 

ثم عبرها يتم إعادة تعريف الأمن. أمن ماذا؟ وعبرها يتم إعادة تعريف : الحدود، صراع الموارد، الصراع الإقليمي، وصراع الأجندات الدولية. وعبرها سيتم خلق مؤسسات أمنية حقيقة لا تقايض على السيادة تحت دعوى الأمن.


برضو ما الحل: الحل ان ننشغل بتأسيس بنائنا القاعدي، وتحقيق السيادة عبر سياسة مخاطبة قضايا المعيشة الآنية وايجاد الحلول لها وبناء المؤسسات والأجسام القادرة على تلبية احتياجاتها. فحل قضايا المعيشة اليومية هو بناء السيادة والاستقلالية. 

والحل نزع الإنتهاء من اسطورة و خرافة واكذوبة أن السلطة الأمنية هي مؤسسة حماية او أمن بأي شكل من الأشكال والنظر إليها في صورتها الحقيقية: مؤسسات تبعية استعمارية، وخادم لمصالح النخب، و اداة قمعية في يد اي سلطة. وعند تبدي هذه الصورة تتضح آليات التعامل معها: المقاطعة، والإحلال.


وما مشكلة، كلامنا مستمر . لكن المؤكد . ان الصفقة السياسية ستحقق مظهر منكمشا من المدنية ينحصر في محيط صينية اوزون وحرم السفارات الأجنبية. 




Saturday 28 May 2022

خالتي فاطمة والمدنية الدايرنها

"كيف كان ممكنا لبنت صغيرة لم تبارح عالمها الصغير في سنجة أن تتنبأ بحلم ستراه يتحقق بعد عشرين عاما بنفس مشاهده؟ حلمت أنني أطير وانظر إلى الاشجار والخضار والبيوت أسفل مني، لأراه بأم عيني في بيروت وأنا على التليفريك"

خالتي فاطمة، أجمل ما فيها أنها تظل تنظر إلى حياتها كبشارة خير وفأل سعد ترقب تحققه. برغم التحديات والمصاعب والأحزان التي مرت على حياتها. 

نبهتني اختي أن خالتي فاطمة اكتشفت طاقة الجذب و "السر"، قبل أن يتصدر قوائم مبيعات الكتب وقبل أن تحتشد به صفحات السوشال ميديا. ولخالتي فاطمة مبدأ في الحياة رأيته متجسدا فيها و وددت لو أنني حققت منه شيئا وهو: من تشاقى أشقته الحياة، ومن سعى لراحة نفسه أراحته الحياة. ولا تعني خالتي فاطمة بالراحة السكون أو التراخي، فكل من يعرفها يعرف نشاطها وحبها للإتقان، إنما أظن أنها دوما تقبل على ما تحب أولا ، فإن فعلت ذلك إما سخرت الحياة ما يخلصك مما لا تحب أو أعانتك عليه. {لا بد وأن أجرب هذا المنهج في حياتي}





"رحم الله امرئ عرف قدر نفسه" يعلق والدي على الحديث الشريف بأن الناس تستخدمه فقط في سياق التواضع وانكار النفس، ولكنها ايضا تقال في مقام معرفة نعم الله عليك في نفسك. وأجمل من رأيته مطبقا لهذا الحديث هي خالتي فاطمة. فهي تعرف قدر نفسها ، وحريصة أن تعرف الناس بفضل الله عليها. فهي المنظمة المدبرة المفكرة المبتكرة السعيدة والبخيتة {أدام الله نعمه وفضله عليها} لكن اهم من ذلك أننا كنساء كثيرا ما نقلل من قيمة ما نفعل في الحياة. تعرفون، كل ما لا يعرف خالاتي وجدتي يقول : النسوية الطالعة فيها دي. لكن كل ما يعرف نساء اسرتي يعرف انني سليلة نساء قويات، صلبات، حكيمات، ذوات رأي موزون ومسموع. 

وخالتي فاطمة زوجة الدكتور أحمد ايوب القدال رحمه الله والذي افتقد طلته البشوشة في حياتي، كان مدير مشروع النيل الأزرق الصحي، وهو مشروع كان ملء السمع والبصر ليست فقط في مشروع الجزيرة وامتداده وما حوله من قرى في مكافحة الأمراض المائية كالبلهارسيا والملاريا بل لا يزال مضرب المثل عالميا في أوساط الصحة العامة ومنظمات الصحة العالمية ومراكز الأبحاث العلمية. ولكن خالتي فاطمة ستذكرنا دوما بدورها الهام إما في تولي مهام تدبير الحياة عند غياب زوجها المطول في قرى الجزيرة والنيل الأزرق، ومهام الضيافة الفخيمة والمبتكرة التي تجعل ضيوف المشروع من الخبراء المحليين والأجانب لا ينسون تجربة زيارتهم لمشروع النيل الأزرق، فأتذكر معها كل الوصفات الجديدة التي ابهرت الضيوف، أو حين قدمت سلطة الفواكه في قريب فوت على شكل سلال. 


أعني حقا، الآن صرنا نعرف بسبب الدراسات وبسبب النقاشات المفتوحة في دوائر النسويات أن طموح الرجال وتقدمهم في المجال العام يأتي دوما على حساب مجهود عظيم في المنزل نادرا ما يتم ذكره، لكن خالتي فاطمة كانت مدركة ذلك الدور مبكرا جدا. وفوق ذلك فكانت ملمة ومحيطة بتفاصيل عمل زوجها مطلعة عليه، واهم من ذلك كانت قدرتها على خلق العلاقات مع السكان المحليين اينما حل زوجها داخل أو خارج البلاد، فتعرف احوال البشر ومسكنها ومأكلهم وما يعتورهم من مشاكل فتنقل صورة هامة كثيرا ما تغيب عن دوائر الأكاديميا والعمل العام.


مع زوجها د.قدال رحمه الله وحفيدتيها لين و يمنى في منزلهم بسنار



لكن عنوان مقالتي " خالتي فاطمة والمدنية الدايرنها". فأنا ما رأيت تتجسد فيها أجمل معاني المدنية كما رأيتها في خالتي فاطمة. ومعنى المدنية عندي هو معنى اقتبسته من صديق كتب رثاء في شخص وأثنى على ملامح تحضره وتمدنه بأنه كان يأكل في مطعم الستيك هاوس. وبعد أن استمع بصبر لوصلة سخرية مني رد "لكن يا ميسون، الستيك هاوس هي أس المدنية، تخيلي رجل يخصص أمسية لنفسه، يخرج من منزله ليقضي حاجة واحدة هي الإنسجام والترويح عن النفس وترفيهها. يجلس على مائدة في مطعم فخيم، على طاولة انيقة بموسيقى هادئة، ومسكة الشوكة والسكين التي يقطع بها قطعة اللحم بتأني" أجل! بالطبع أعرف ما يعنيه ولقد رأيته مجسدا ومعاشا في شخصيات مثل عمي السر عمر العوض، وخالتي فاطمة.

فالمدنية ليست فقط الصحة العامة والتعليم العام، والطرق المرصوفة، والبقالات المكدسة، ولا تعني فقط سد حاجة المأكل والمشرب والسكن الكريم، بل تعني فوق كل ذلك البراح الذي تستقطعه لنفسك للترويح عنها وحيث تظهر فيها انسانيتك. 

وفي كل الظروف، سواء في الديمقراطية او عز ضنك الديكتاتورية الإنقاذية، داخل السودان أو خارجه، في الخرطوم او في مدني أو بركات أو سنجة أو سنار، حملت خالتي فاطمة معها مدنيتها. 

فمن حديقها المنزلية الممتدة حد البصر في بركات، والتي تزينت بأحواض الزهر الملونة وأشجار الفاكهة المثمرة، والأعشاب والنباتات العطرية المميزة ، والأشجار الظليلة، والتي حصدت بسببها جائزة أجمل حديقة لخمس سنوات على التوالي، وكانت أول من شاهدت من أفراد أسرتي على تلفزيون الجزيرة، ترتدي ثوبا هادئا ونظارة في غاية الأناقة تحمل كأس البساتين وقد استضافها محافظ الجزيرة وقتها. مرورا تنقلها في اليمن، والبحرين، والإمارات حتى استقرارها اخيرا في مدينة سنار حيث قررت هي وزوجها قضاء سنوات المعاش، تزينت كل مساحة ممكنة في منزلها، صغر أم كبر، بحديقة غناء. وقد استشف بعض منكم هذا الجمال عندما أخذت صورا لمنزلها في سنار (رغم أنني مصورة سيئة) وقد أخذت تلك الصور على عجل. 









وعلي أن اقول أن مقياس خالتي فاطمة لك كإنسان في الحياة يقاس بمدى اعتنائك بحديقتك أو إهمالها. فتقول لك وتحس بالغضب بنبرة صوتها: ناس بطالين ، لقيت الشجر عطشان، والنجيلة شربانة  أو تقول لك يا لها من أسرة راقية بالله ليمونتهم خضرا ورويانة والليمونة قدر دا. ولن يعنيها إن كان بيتك مرصوفا بالسراميك او المرمر أو كان من الجالوص والزنكي طالما كان زرعك حيا نابضا مورقا. 

وكل أمسيات خالتي رائقة، قد تجدها يوما اشتهت شراب شاي المغرب في طقم صيني فخيم تخرجه من فضيتها مع قطع من الكيك والبسكويت وهي تحكي عن البسكويت المحشي الذي عرفته بقالات سنار قبل ان تعرفه الخرطوم، او تجدها على سرير في حوشها وسط نباتاتها بكوب شاي احمر وعيشة تتنسم الهواء العليل وتحكي عن ماضي وحاضر جميل. 

ثم أحب تقديسها للعطل والإجازات والإحتفاء بالمناسبات العامة، أينما كانت ، قد يصادفها شم النسيم أو رأس السنة في بركات حيث تقيم نساء المشروع الحفلات والعشاءات الفاخرة، أو يصادفها في سنار مع زوجها وابنتها سليمى والكهرباء مقطوعة، فتخرج الشمع والكيك الذي أعدته مسبقا وتطلب من ابنتها أن تعزف عازة في هواك على الأورغ. 

مع نهايات الإنقاذ حيث انهيار كل شيء، فاجأتنا خالتي فاطمة بسفرها إلى كنانة مع زوجها وابنتها وحفيدتها لقضاء عطلة في استراحة كنانة، لتصف لك اياما من أجمل ما يكون. أو مع حالة الحصار الدبلوماسي تكتشف امكانية السفر وقضاء اجازة في أذربيجان لتعود منها بالكثير والمثير من الحكايا

أو في زيارة عابرة لمنزلها تصر أن تحتفي بي بأن نقضي نهارا لطيفا رائقا بمزرعتهم الصغيرة في سنار، وهي قطعة أرض صغيرة مورقة، لتدرك أن الرفاهية ليست سوى إفساح الوقت للترويح عن النفس. ولنضع عشرة خطوط تحت الترويح عن النفس، فقد تحجز لأسرتك طاولة في مطعم خمسة نجوم وتدفع مبلغا طائلا وأنت هناك بإحساس الواجب وتقضي الوقت مهموما بالأسعار أو الشكوى. استبدل كل ذلك بكوب شاي تحت الكوبري على النيل. افضل بكثير.


رحلتها إلى أذربيجان

أمام خزان سنار حيث أخذتنا في جولة سياحية لا يزال يذكرها الأولاد


حبيبي وين في موضع الخدار بلاقي

في زيارة عيدية لنا بالمنزل ربما عام 2012



أنشأت جمعية الصلاة على الرسول لجاراتها في سنار، لمدح وذكر النبي، وقراءة الأدعية، ولتفقد أحوال الجيران، ولتعلم مهارات منزلية جديدة، وأقامت لهن معرضا للزهور والنباتات في منزلها، أو لجمع المال لقضاء غرض لمحتاج في الحي، أو لمناقشة أمر هام في الحي سواء كانت بركة تحتاج الردم أو قمامة تحتاج إزالة وغيرها.

وتقضي خالتي فاطمة وقت عزلتها، بتلاوة القرآن بشكل أود أن أتعلمه منها، وهو للذكر والترويح عن النفس وفي العبادة راحة وقد قال النبي عليه السلام لبلال "أرحنا بها" . لا تتعامل مع القرآن كمصباح سحري لتحقيق الأمنيات، أو كواجب تلزم نفسها به كأن تكمل حزبا كل يوم، ولا للتفاخر أو التطاول، تفعله في عزلتها وما كتابتها عن تلاوتها إلى تطفل مني على شيء تفعله في راحة منزلها.


ولكن ليس هذا فقط فمدنية خالتي فاطمة تتجلى في اهتمامها بالمرافق العامة والخدمات العامة بشكل شخصي. وقد اعتدنا على حكاوي خالتي فاطمة التي جلست إلى مدير مستشفى تحدثه عن أهمية نظافة العنابر، أو وهي تخاطب صاحب بقالة قرب داخلية أن عليه مسئولية غذائية على طلاب الداخلية في أن يبيعهم طعاما يسند جوعهم بدلا أن يستغل فاقتهم في بيعهم سندويتشات مكرونة (نعم، حدث ذلك) ، ستكتب مقالا في صحيفة تدين فيه خدمات محلية، أو شارع عام . أو ستقابل مدير مركز دانفوديو لتحدثه عن عدم عنايته بمقتنيات المتحف .هذه المراقبة لأداء الدولة وتحميلها المسئولية ، هذا المعنى تعلمته من جميع خالاتي ومن وعيهن. 

تذكرت في مرة أنني كتب بوستا في سودانيزاونلاين شجبت فيه غرق مركبا حمل طلابا ومواطنين قرب موسم العيد وأن هذا الأمر تكرر كثيرا وأن السلطات تتحمل مسئولية هذا العبث بالأرواح. فكتب لي واحد كدا أن الخطأ على الركاب الذين غرقوا لأنهم أساءوا التقدير، وقد أشفقت عليه وعن جهله التام بمعاني المدنية التي تحرص على حفظ حياة الإنسان وسلامته. وإنني حين أتحدث عن سودان اخر، سودان مدني، فأنني عايشت ملامحه وأطيافه من خالتي فاطمة.


وعلي أن أعرج على استقبال خالتي لملمات الحياة والأحزان بالصبر وبالشكر على النعم، وقد فقدت أربعة من أبنائها معظمهم في سن العاشرة. عبدالرحمن، وخالد، وسوزان ومحمد. وكان هذا أول معرفتي منذ طفولتي بالإعاقة،فقد ولدوا بعلل أدت إلى إعاقة تعلمية، وأنا لم أعاصر منهم سوى محمد ـ حمادة، كم كان جميلا، بعينين نجلاوين كحيلتين وشعر مموج كاحل، كانت عناية خالتي بمحمد هي مدرسة لأسرتنا ومحيطنا في السودان للعناية بذوي الإعاقة، تعلم منها الناس حق الرعاية والمعاملة الكريمة والندية والحماية من الإستغلال والسخرية. الكل يعلق على نظافة حمادة حتى وهو يستمع عند زيارتنا في سنجة بالجلوس تحت شجرة العوير التي أمام المنزل ، حيث كان يحب برودتها واطلالها على الشارع. ورغم حبه الدائم للخروج خلسة والهروب للمشي في الطرقات، لم يقيد أو يحبس ، وهذا كان في اوائل الثمانينيات قبل ثقافة حقوق أصحاب الإعاقة التي نسمع بها الآن. ولم أرها يوما تتحدث عن عبء رعايته. كان كل شيء يحدث بطبيعية لأنها رتبت حياتها وحيواتنا أيضا حول وجوده، لذا كان رحيله مؤثرا مؤلما تحملته بصبر جميل.


من اليمين : جميلة ابنتها الكبرى، خالتي فاطمة، خالتي مريم في سنجة أمام منزل جدتي بكيري رحمها الله

مع ابنتها الصغرى سليمى



انهي حديثي هنا واحب أن أعرج على لطائف وطرائف خالتي فاطمة. أحب يوما صادفت صديقات قضين معي ليلة قبل العودة صباح اليوم التالي إلى الداخلية وقد هدت لكل واحدة منهن برطمان مربى منزلية قامت بصنعه خصيصا لهن في اليوم السابق. وكنت في حالة من العجب، والصلاة على النبي، أن حركتها في المطبخ مرتبة وسريعة وهذا ما لا أظنني أستطيع إلا أن يكرمني به ربي الآن بعد الأربعين.


ولا تحب خالتي الخمج، ومن طريف حكاويها ذهابها للعزاء في احدى صديقات والدتها، وصادف جلوسها قرب المطبخ حيث كن النساء يعددن الطعام، ولم يعجبها الخمج والتبذير فقامت من فورها بتوجيه النساء وتقسيم المهام بينهن وهم اصلا ما بيعرفوها. وهذا مرده خلفيتها كمعلمة ومربية سابقة

وايضا في الحج، كانت تستقل باص الحجاج في طريقهم نحو الإحرام وقد تعالت أصواتهم، فأوقفتهم ونظمتهم ليرددوا الدعاء بشكل منظم وموحد . هههههه خالتي فاطمة يا مدرسة.


ولكن علي أن احكي يا خالتي فاطمة، وكنا ننتظر زيارتكم في العيد لسنجة بفارغ الصبر لما تضفيه من جمال وبهجة، ولكن بشرط: أن تأتي في يوم العيد، أما إذا كانت الزيارة قبل يوم العيد، شلنا أنفاسنا هما ههههه. فمهما قضينا اليوم في التسعيف والتعزيل والتنظيف. تأتي خالتي فاطمة وتدير نظرها في المنزل، ستجر الفريز الثقيل ثم تكشف فيه قليل من صابون البدرة والماء وتقول هنا ما دعكتو كويس، وستشير هنا وهناك للترتيب والتنظيم، ليجدنا صباح العيد وقد استهلكت طاقتنا. فهناك مستوى من النظافة، ثم هناك مستوى اخر من النظافة هو مستوى خالتي فاطمة. لازلت اذكر يوما وهي تنظر إلى نفسها سعيدة وقد ارتدت جلبابا مطرز ناصع البياض "الليلة بقيت ليكم جمهورية، اكتر شي بيعجبني في الجمهوريات نضافتهن وبيضة تيابهن" ـ طبعا يا خالتو فاطمة دي اكتر حاجة حتعجبك 








وقد علمت اليوم وهي تتعافى من مرضها، أسألكم أن تدعو لها بتمام الصحة وكمال العافية، أنها تتذكر جارة لها سورية وكيف كانت ترفع غطاء  البوتوجاز بالمفك لتنظف من تحته، وكيف أنها كانت لا تسمح بأن يعلو السواد أيا من طناجرها.


وكل خالاتي حلوات سواء بنات بكيري أو بنات الأسرة الممتدة، ولهن يوم من الحكاياـ "كلجن حلوات" أو  كما قال في مسرحية سيف العرب. وسيأتي يوما أحكي عن أفضالكن في حياتي. 

مع خالتها حمامة، أمدهما الله بالصحة والعافية

 

هذه الصورة تنقصها خالتي سامية، من اليمين : خالتي رجاء،خالتي مريم، ماما، خالتي فاطمة في منزلنا بالخرطوم


صورة خطوبة والدتي الوحيدة بالتوب المشجر
الصف الأمامي من اليمين: خالتي فاطمة، حبوبة بكيري تحمل حفيدها منتصر، خالتي رجاء ام منتصر
الصف الخلفي من اليمين: خالي عتيق، ماما، خالتي مريم، خالتي سامية ـ ايضا هده الصورة ينقصها خالي نادر

Saturday 16 October 2021

سيادة الغذاء (حرية "غذاء" وعدالة)

 حرية، "غذاء" وعدالة

كل سعي البشرية هو من أجل حالة السلام التي لا تتحقق إلا بالحياة الكريمة، حياة الكفاية والوفرة.

يسخر البعض منا حين نرفع شعارات ضد التبعية للسياسات العالمية في أننا لا زلنا نعيش في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حيث كانت تلك شعارات اليساريون الحالمون. بينما لا يدرك من يرددون شعارات العولمة أننا لا زلنا نعيش تحت نفس أنماط الإستغلال التي ورثناها منذ الإستعمار القديم (الكولونيالي) والإستعمار الحديث. 

في الزراعة تحديدا، فنحن لا زلنا نعيش في أزمنة تسخير أراضي البلاد لخدمة المستعمر الحديث (شركات الأغذية والأطعمة والزراعة الإستثمارية الكبرى).


في الشهر الماضي انعقدت قمة أنظمة الغذاء العالمي بالإمم المتحدة، والذي قاطعته حركات صغار المزارعين والفلاحين (مثل حركة حياة الفلاحة أو لافيا كامباسينا، وتحالف سيادة الغذاء بإفريقيا) ذلك أن المؤتمر ضم شركات الأغذية الإستثمارية الكبرى المسببة لأزمة الغذاء في العالم. وهذا مقالي القادم بإذن الله.


حركة حياة الفلاحة والتي تعتبر من أكبر حركات العدالة الإجتماعية في العالم حيث تضم أكثر من 200 مليون مزارع وفلاح وعمال زراعيين ومجتمعات محلية  على امتداد قارات العالم، استطاعت بعد 18 عاما من تنظيم الوقفات الإحتجاجية ضد سياسات التجارة العالمية الحرة، وامام مقر البنك الدولي و مقر الأمم المتحدة، استطاعت اخيرا أن تصيغ قرارا أمميا يقر بحقوق الفلاحين تم إجازته بالأغلبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة.


مسيرة لحركة حياة الفلاحة في مؤتمرها السادس بإندونيسيا




المنسقة العامة لحركة حياة الفلاحة مع مدير الفاو


هنا مقطع مترجم ل"أوليفيير دي شوتر" الذي كان مقرر الأمم المتحدة ل "حق الغذاء" وباحث متخصص في حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية. والذي يشرح فكرة سيادة الغذاء والتي هي شعار حركة حياة الفلاحة وأخواتها من الحركات الشبيهة.

المقطع باللغة الإنجليزية هنا




((عندما برزت فكرة (سيادة الغذاء) قبل عشرين عاما من كتابات مارك ايدلمان عن الفلاحين في غواتيمالا وموجة احتجاجات المزارعين في أمريكا اللاتينية، ومن الاجتماع الشهير عام ١٩٩٣ الذي تأسست فيه حركة حياة الفلاحة، ومن كتابات رافاييل لاغري وبول نيكولسون هؤلاء العمالقة أصحاب البصيرة. كان لحركة سيادة الغذاء درسا هاما لتعلمنا اياه. وهو : السياسات التي تتعلق بالغذاء والزراعة يجب أن لا تكون رهن شطحات الأسواق العالمية. 


برزت هذه الحركة بعد سنة من مفاوضات دولية وضعت فيها الزراعة على طاولة الصفقات التجارية  لتكون وجهة جديدة لطاحونة التسليع العظيمة التي اجتاحت العالم. وطلب من المزارعين حول العالم أن يتنافسوا مع بعضهم البعض، فيكون البقاء للأقوى والفناء للأضعف من سوق المحاصيل.

أراد التجار المفاوضون أن يتنافس المزارعون بين بعضهم البعض، لكنهم عوضا عن ذلك و تحت راية (سيادة الغذاء) توحدوا ضدهم. ومن ثم طفت مفردات غريبة وجديدة على الساحة، فبينما كان هؤلاء الذين يتحدثون عن (حرية) التجارة العابرة للحدود يدفعون المزارعين دفعا نحو مصير من "العبودية" للسوق العالمية وشركات الغذاء الاستثمارية. كان  دعاة "سيادة واستقلالية الغذاء"يتحدثون في الحقيقة عن تحالفات وروابط عابرة للحدود السيادية، كانوا يتحدثون عن حركات اجتماعية لا عن حكومات سيادية، كانوا يدعون إلى ما أسماه الكاتب يان دو فاندربلو- فن الفلاحة لا تجارة الزراعة. 











هوجم دعاة  سيادة الغذاء وحلفائهم على عدة جبهات. اتهموهم بأنهم يقدمون مصلحة المنتجين والمزارعين على مصلحة المستهلكين، تحديدا المستهلكين في المدن، والذين يفترض أنهم يرغبون في غذاء وفير ورخيص ومتنوع خلال المواسم السنوية الأربع، ويفضل أن تكون لهذا الغذاء صلاحية طويلة على أرفف الدكاكين. 

ولكننا الآن نعرف الإجابة على هذا الاتهام، نعرف الان المضار والتكلفة العالية لنظام الغذاء الرخيص الذي تم تسويقه لنا، اعتلال الصحة بسبب النظام الغذائي المختل المكون من الأطعمة المصنعة تجاريا، الأجور المنخفضة لعمال الغذاء بدءا من لاقطي ثمرات الطماطم في مزارع فلوريدا وصولا لعمال مطاعم مكدونالدز ، الدمار البيئي على أوسع نطاق. كل هذا الخراب الراجع لهوس الإنتاج الوفير الذي يسترخص الجميع عدا الشركات التي تقود هذا النظام بالطبع! 

لكننا الآن ندرك أنه لا يجب أن تكون وفرة الأسعار كلفته أجور البائسة للعاملين في الغذاء و لا يجب أن تكون على حساب سياسات الضمان الإجتماعي التي تتيح للجميع حتى الفقراء أن يحصلوا على الطعام بسعر ميسور للجميع

.

أتهم دعاة سيادة واستقلالية الغذاء بالرجعية لإنكارهم لفوائد التجارة العالمية، وللفائدة المرجوة من جعل كل إقليم يتخصص في زراعة محصول واحد أو محاصيل بعينها لينافس بها في السوق العالمي. فكان ردنا على هذه التهمة، أن التجارة العابرة للقارات والتي تتحكم بها الشركات صاحبة شبكات الإتصال والمواصلات والقدرات اللوجستية المهولة التي تشتري بها محاصيل الموز وحبوب الصويا من مزارعين يبعدون عنها بآلاف الأميال، ليست هي اسلوب التجارة الأوحد، فهنالك الأسواق المحلية والإقليمية التي أهملت و انكمشت بسبب تمدد هذه الأسواق العالمية نفسها. 

والآن ينبهنا دعاة حركة سيادة الغذاء لمخاطر اعتماد الدول على استيراد غذائها خاصة وأن أسواق الغذاء تمر دائما بكوارث وصدمات اقتصادية ترفع بدورها من أسعار السلع الغذائية. 

هذا هو الجدل الذي دار ولا يزال يدور منذ عشرين عاما حول الغذاء، ورغم أنه ما من منتصر في هذا الجدال إلا أن المعركة من أجل استقلالية الغذاء لا بد أن تستمر، في الشوارع وفي الحقول وفي الصحف والمجلات ، كل هذه المساحات لا بد أن تحتلها حركة سيادة واستقلالية الغذاء صالحها.

والآن مضى الجيل الذي كان يقود هذه الحركة، والمشاكل التي تواجه النظام الغذائي تفاقمت وتضخمت وكذلك فكرة سيادة  واستقلالية الغذاء تمددت أكثر من ذي قبل . فهي حاضرة وممثلة في (شبكة محليات سياسات الغذاء) المنتشرة بدءا من كويبيك كندا في شمال أمريكا وصولا إلى أوكلاند  في نيوزيلاندا (وهي أجسام تكونها الحكومات او منظمات المجتمع المدني لتوجيه سياسات الغذاء في منطقة بعينها) ،وفكرة سيادة الغذاء حاضرة  في النفرة التي على اثرها انتشرت أسواق المزارعين المحلية ومخططات الزراعة المتفق عليها مجتمعيا، وهي حاضرة  في بنوك الطعام التي تسعى إلى ربط الناس بالمزارعين المحلييين وبالأنظمة الغذائية المحلية. هي  حاضرة كمرجع لأولئك للذين يزرعون طعامهم بأنفسهم عبر جناين الخضر والفواكه في ميادين الأحياء الحضرية أو في حيشان مدارس أولادهم.


غموض مفهوم سيادة واستقلالية الغذاء سمح بتنوع المبادرات التي تنضوى تحت اسمها، وهذا التعدد يعود ليثري مفهوم استقلالية الغذاء. ولكن هذا التعدد لا يعني العشوائية فبرغم تنوع المبادرات تحت مفهوم استقلالية الغذاء إلا أن هناك خمس خصائص أساسية تجتمع فيها هذه المبادرات على تنوعها.

الأول هو سعيها لجسر العلاقة بين المنتج في الريف وبين المستهلك الحضري عبر إعادة تعريف نظام الغذاء المحلي وقلبه. ففي السابق كانت مراكز منظمة التجارة العالمية في هونغ كونغ وفي سياتل هي التي توجه نظامنا الغذائي، لكن اليوم فالموجه هو مجلس إدارة مدرسة محلية في مكان ما، كافتريا مكان العمل أو أسواق المزارعين الشعبية. هناك تحالفات تبنى اليوم ما بين المزارعين والسكان المحليين والبلديات. في السابق كانوا يتهمون دعاة استقلالية الغذاء أنهم منحازون لصالح المزارعين على حساب المستهلكين في المدن ولكن اليوم! يا للعجب، فسكان المدن هم الأكثر نشاطا داخل حركة سيادة الغذاء.


ثانيها: هذه التنوعات التي تبرز تحت راية سيادة  الغذائية هي مبادرات ديمقراطية. في البدء كان الناس مستهلكون سلبيون، لكنهم اليوم مدنيون فاعلون، يعملون من أجل التحكم في السلسلة التي من خلالها يصل إليهم الطعام، ويؤكدون على حقهم في اختيار شكل هذه السلسلة. والإختيار ليس مجرد فعل سياسي سالب، بل انه يتجاوز حق الإختيار إلى حق المبادرة وتشكيل أنظمة الغذاء. وكما ساد في عصرنا هذا مفهوم ديمقراطية مكان العمل، فعلينا أن نستعد لمفهوم ديمقراطية الغذاء. 


ثالثها : هي الروابط الإجتماعية الجديدة والمتنوعة التي تشكلت بفضل حركة استقلالية الغذاء والتي تسعى لتقوية الروابط الإنسانية. الكاتب والمفكر كارل بولاني قد تحدث من قبل عن ان اختراق السوق والتسليع لكل منحى من مناحي الحياة قد أفقر الروابط الإنسانية. فنظام السوق يستفرد الناس ويقلل من اهمية الروابط الإجتماعية فيتم التعامل معهم إما كمنتجين أو مستهليكن، بائعين أو مشترين ويتحدثون فيما بينهم بلغة الأسعار فقط. ولكن حينما يجتمع هؤلاء الأفراد لينشؤوا مجلسا محليا لسياسات الغذاء، او عندما يزرعون حديقة خضروات في الحي، او حينما يجتمعون سويا لإقناع ادارة مدرسة أن تشتري طعام الكافتريا من السوق المحلي، يصحبون أناسا بروابط اجتماعية قوية، وعلاقات اجتماعية متنوعة وثرية، هذه الطريقة لا تقوم فقط بجعل حياتنا اكثر متعة وإثارة واحق بالعيش نحو الإنسانية كما ينص على ذلك منفستو الزاباتيستا، لكنها هذه العلاقات الإجتماعية لها تأثير أفضل على الصحة، بل اثبتت الدراسات ان هناك عامل واحد هو الأهم في تحسين صحة الإنسان وإطالة العمر، عامل هو اكثر اهمية من تقليل الكحول والامتناع عن التبغ، اكثر اهمية من الابتعاد عن الخمول، الا وهو : بناء الروابط الإجتماعية.



مؤتمر لا فيا كامباسينا السادس بإندونيسيا 2013





رابعا: استقلالية الغذاء تعلي من قيمة المرونة على قيمة الكفاءة، بمعنى أنهم يتعاملون مع واقع اننا ندخل في عالما مضطربا: لقد وصلنا إلى ذروة انتاج النفط(بعدها سينحسر وجود النفط في العالم) الاضطرابات في دورة النايتروجين المثري للتربة والموجود في المياه وفي تكويينا الجيني، والذي ايضا ينتج التاكل الجيني الذي نراه في اختفاء فصائل النبات والذي فاقمه التركيز على مشاريع الزراعة الضخمة الأحادية (أي التي تخضع اقليما لزراعة فصيل محدد من المحصول) وفقر التربة، الكوارث المفاجئة الناتجة عن تغير المناخ، الكوابيس اللوجستية الناتجة عن اكتظاظ المدن، هذه الظروف تنذر بالمزيد من الإضطرابات السكانية واشتعال النزاعات، وهذا يتطلب منا ابتداع حلولا فورية وسريعة.

فكما أن المرونة هي في قلب حركة المدن المتحولة- (وهي حركة تسعى لتحويل المدن الحضرية من مدن استهلاكية هشة تدمرها الكوارث الطبيعية والأزمات الإقتصادية، إلى مدن قوية منتجة قادرة على ان تكون مرنة في مواجهة تلك الكوارث) فالمرونة أيضا في قلب المبادرات الشعبية القاعدية التي تتبنى اهداف حركة استقلالية وسيادة الغذاء. الكلمات المفتاحية هنا: التقليل من الإعتماد الجامد على الظروف الحالية، والتنوع الهائل. فكلما زادت الحلول المحلية معتمدة على الموارد المحلية قلت احتمالات التعرض للكوارث الخارجية، مثل : ازدياد اسعار الكهرباء او الكوارث الطبيعية التي تصيب السوق بالندرة والشح خاصة للشرائح الفقيرة، لا نعني ان المنتجات المحلية ستصبح بديلة للمنتجات الخارجية إنما إضافة لها، وكلما زادت وتنوعت الحلول والمبادرات، كلما أصبح النظام المحلي أكثر قوة في مواجهة الطوارئ التي لا يمكننا التكهن بها، لكننا متأكدون الآن انها ستكرر أكثر واكثر في المستقبل. 


خامسا: حركة سيادة واستقلال الغذاء هي مرتبطة ارتباطا وثيقة بعلم الزراعة البيئية (أقرو-ايكولوجي) ، فليس من قبيل الصدفة أن بروز الجيل الثاني من حركة سيادة الغذاء تزامن مع فتوحات في علم الأقرو-ايكولوجي وهو العلم الذي يربطنا بالأنظمة الحيوية والطبيعية التي تمنحنا الغذاء. علم الزراعة البيئية يعمل على تقليل اعتمادنا على العوامل الخارجية في الزراعة مثل الطاقة المستمدة من الوقود العضوي، والإعتماد على العوامل المحلية والطبيعية المدورة من المزرعة نفسها. 

والمزراعون أنفسهم تحولوا من مجرد أفراد سلبيون يتلقون المعرفة من اخرين كعلماء يرتدون معاطف المختبرات البيضاء او اقتصاديون يظنون أنهم يملكون حلولا سحرية يمكن تطبيقها في اي وقت وفي اي مكان. المزارعون مع الزراعة البيئية اصبحوا ينتجون المعرفة التي يعملون بها، وهي معرفة تطبيقية، مرتبطة بالتربة التي يعملون فيها والنظام البيئي الذي يعيشون فيه.

علم الزراعة البيئي يقوي المزارعين، حيث انها تربط المزارعين في روابط اجتماعية تنتقل المعرفة فيها افقيا والتي تدريجيا تحول النظام الغذائي من حولهم. علم الزراعة البيئي يدرك تعقيدات وتنوعات النظام الحيوي من حولنا ولا يعمل على تبسيطه، وبالتالي هو الأقدر على مواجهة الكوارث التي تتسبب في حالات الشح والندرة . العلاقة بين حركة استقلال الغذاء وعلم الزراعة البيئي ليست علاقة ظرفية مؤقتة بل هي أساسية قائمة على اتفاقهم على سبب العلة في النظام الغذائي واتفاقهم على عقم النظام الغذائي الحالي الذي ورثناه.

والان دعوني اعدد لكم مساوئ نظامنا الغذائي الذي ورثناه: فهو نظام تحكمه الشركات، متعطش دوما للوقود، ومهووس بتخفيض كلفة الإنتاج لدرجة استرخاص اشياء تحمل كلفتها الجماعة، اعتلال الصحة، تفريغ القرى، والدمار البيئي.

يذكرني هذا بغاندي عندما سألوه عن رأيه في الحضارة الغربية؟ فقال: اعتقد أنها ستكون فكرة جيدة.

ربما حان الوقت لنحضر نظامنا الغذائي، او لتمدين نظامنا الغذائي ودمقرطته، ونحرره من عبودية الفاعلية حسب طلب السوق، ليكون طيعا لإحتياجات المواطنين

بالطبع ستكون هناك مقاومة للحركة، من قبل اصحاب المصلحة، المالتوسيين المتحمسين (هم انصار نظرية أن الزيادة السكانية هي سبب المجاعات)، انصار التكلفة الرخيصة، الاقتصاديون المهووسون بالنمو، واصحاب النظرة الضيقة لمعنى الحداثة، المتسوقون النمطيون،كل هؤلاء من عوائق التغيير.

لكن النظام الغذائي التقليدي نفسه مكون من عنصر واحد جامد، بل عناصر صغيرة متعددة، يمكن تغييرها واحدة تلو الأخرى، والتغيير ييدأ من القاعدة، بالمبادرات الجماعية، والروابط الإجتماعية المبتكرة التي تخلق البدائل بإستمرار وتضغط من أجل الإصلاح. 

نحن اليوم في حاجة إلى حكمة حركة استقلالية وسيادة الغذاء. أي حكمة؟ دعوني اقص عليكم قصة امرأة حكيمة ببلدة بعيدة. اتفق صغار الحي على اختبار حكمتها، فاصطاد احدهم عصفورا وامسكه بين يديه وذهب اليها سائلا: احمل طائرا في يدي، هل هو ميت ام حي؟ فعلمت أنه إن أجابت أنه ميت سيريها طائرا حيا و لو اجابت انه حي ، قام الولد بخنقه واثبت خطلها ، فأجابت : يا بني ، ما بيديك هو المستقبل! إما موت وإما حياة!))


وسأقوم في مقالات مترجمة قادمة بتفصيل هذا الخيار، إما أن نستمر في نفس أنظمة الزراعة والغذاء التقليدية للإنتاج المضاعف المفقر والمجوع للبشرية أو نغير أنظمة الزراعة والغذاء نحو أنظمة العدالة والتشارك. بيدنا المستقبل.






Friday 8 October 2021

نقابة المنشأة مفتت الوحدة النقابية؟ نعم ولا

نقابة المنشأة مفتت الوحدة النقابية؟ نعم ولا 


الثورة هي النفاج!

في ابريل 2020 نشرت الكاتبة الهندية  مقالا بعنوان (الوباء هو النفاج) ، قصدت أن حالة العجز والشلل التي ووجهت بها أنظمة العالم هي فرصة لبناء أنظمة ومفاهيم جديدة لعالم ما بعد الوباء. 

والثورة هي النفاج، الثورة التي وقفنا فيها على خرابة الوطن، هي فرصة لبناء أنظمة جديدة من الركام.


الصورة من صفحة تجمع تصحيح واستعادة العمل النقابي بالفيسبوك


نقابة المنشأة مفتت للوحدة النقابية؟ نعم ، وهي نعم الخوف والتوجس لا غيرها.

مفهومة هي المخاوف التي يطرحها المعترضون على نقابة المنشأة وفكرة الجمع بين نقابتين (منشأة وفئوية)، وهي مخاوف مرتبطة بإنفلات سلطة اتخاذ القرار في حالة تحول نقابة الفئة إلى تحالف نقابات منشأة، فالخوف من يتم اختراق نقابات المنشأة من قبل مصالح خارجية (رأسمالية أو سياسية أو أييولوجية) عبر الرشوة، والحشد المضاد ويؤثر ذلك تبعا على وحدة نقابة الفئة. هذا وارد. ولكن ليس هناك ما يقول أن نقابة الفئة حصرا هي محمية من الإختراق والإستقطاب السياسي. بل تاريخ الحركة النقابية في العالم يعج بأمثلة الإستقطاب لنقابات الفئة واستخدامها كسلاح في المعارك السياسية حتى ضد مصالح العمال والفئة التي تمثلها. ولم تكن حركات الإصلاح والتنظيف للنقابة إلا من خلال ضغط العمل المنظم للعمال من داخل أماكن عملهم (=المنشأة).

كما أن الرد على هذا التخوف لا يكون بالردع! ففرض قانون نقابي موحد يستخدم القانون كأداة لقمع العمال النقابي الحر هو اخر ما يتوقعه المرء من رواد العمل النقابي، لأن تاريخ الحركة النقابية ظل دائما حركة شرعنة الواقع الحي على القوانين المتجمدة، وفرض الشرعية القاعدية المباشرة على شرعية (التمثيل) بالقوانين والبيروقراطية.


الصورة من صفحة تجمع تصحيح واستعادة العمل النقابي بالفيسبوك

إذا فلا ، ليست هذه المخاوف سببا مشروعا لرفض فكرة الجمع بين النقابتين كمفتت للوحدة النقابية. ولأن ما يحمله الجمع بين نقابتين من إمكانيات لتعضيد الحركة النقابية يستحق تبنيها. ذلك أنها ستحول نقابة الفئة من جسم إداري صفوي، مكون من منسقين ومناديب ، يعمل عبر الترهل البيروقراطي،  إلى جسم عمالي قاعدي حيوي من عضوية فاعلة في أماكن عملها وواعية بقضاياها اليومية وقضاياها العامة.

ليس هناك أدنى شك أن المكاسب التي ننعم بها اليوم مثل ( الحد الأدنى للأجور، العطلة الإسبوعية، الحوافز والترقيات، اجازة الوضع وساعة الرضاعة، ساعات العمل المحددة) هي من مكاسب العمل النقابي الموحد، وهي مكاسب حققتها النقابات الفئوية. بل وفي بلدان مثل التي أعيش فيها (أستراليا) فتشمل المكاسب أيضا النظام الصحي الأساسي المجاني الذي ينعم به كل مواطن أسترالي عامل وغير عامل، صغير وكبير، والذي هو ثمرة العمل النقابي الفئوي الموحد.


نعم ، صحيح، أن التغييرات الجذرية وإصلاح السياسات العامة، لا يأتي إلا خلال من الوحدة النقابية، وتحديدا من العمل النقابي الفئوي. 

وصحيح أن تجربة نقابة المنشأة السابقة هي محدودة، و كانت مرتبطة بالأنظمة السياسية التي تسعى لقمع الحركة النقابية والسيطرة عليها وقطع الطريق أمام وحدتها. 

إلا أنه على الجانب الآخر ، فإن نقابة الفئة كجسم تمثيلي كان ثقيلا وبطيئا في استيعاب التغيرات أو الإنتباه للفجوات وسط الفئة العمالية لولا همة العمال وتنظيمهم لأنفسهم في أماكن عملهم وإجبار نقابة الفئة على استيعابهم، مثال لذلك تأخر النقابات الفئوية في أمريكا من استيعاب السود في صفوفها، و تذبذبها في استيعاب فئة النساء العاملات في المكاتب ضمن اتحادها في أمريكا.


بالإضافة لعيوب أخرى سآتي على ذكرها، أرى أن حلها يكون في تدعيمها بالإنتماء لنقابة في المنشأة. وإني أؤمن أنه كما استطاعت الثورة السودانية أن تقدم نماذجا فريدة غير مسبوقة للمقاومة السلمية غير المركزية، أن لديها القدرة على تقديم تجربة فريدة ونموذج ساطع للعمل النقابي الحر.


الصورة من صفحة تجمع تصحيح واستعادة العمل النقابي بالفيسبوك




التمثيل النقابي الفئوي يعتمد على انتخاب هيئة\ مكتب تنفيذي، واختيار ممثلين ليكونوا حلقة الوصل بين العمال ونقابة الفئة. قد يكونوا هؤلاء الممثلين منتخبين من قواعدهم، أو معينين من قبل نقابة الفئة للتنسيق بين النقابة والعمال في أماكن عملهم. يحتاج هذا الإمر إلى (تفريع) وتعيين منسق قبالة عدد من المنشآت ، ذلك أن تصعيد منسق من المنشآة يعني في بعض الفئات تصعيد آلاف المنسقين والذين هم بدورهم يحتاجون إلى منسقين يصلون بينهم وبين المكتب التنفيذي. فيصبح قوام نقابة هي مجموعة من الإداريين النشطين بعيدين عن نضالات الحركة العمالية اليومية، ويتحول الجسم النقابي الفاعل إلى جهاز إداري بيروقراطي.



كما أنه أصبحت هناك شكوى متكررة من النقابات حول العالم، وهو انحسار العضوية وكذلك ضعف التفاعل، برغم ازدياد توحش الرأسمالية واستغلالها للعمال وانحسار الضمانات الإجتماعية وزيادة الحاجة للعمل المنظم. والحقيقة أن سبب ذلك الإنحسار هو لذات السبب. فتوحش الرأسمالية وانحسار الضمان الإجتماعية زاد من حوادث استغلال العمال في أماكن عملهم بشكل يومي. فأصبح وجود النقابة والعمل النقابي اليومي ضرورة ملحة، لا يحتمل إنتظار التصعيد وتراكم الشكوى والمظالم. 


ولا ينحسر العمل النقابي في تنظيم الإضراب أو الضغط على الإدارة في التفاوض. بل يعني أيضا تنمية مهارات التواصل والتعامل مع الإدارة في تحسين ظروف العمل. وبناء عمالة واعية قادرة على الحشد والتنظيم في تحقيق مطالبها اليومية، مرتبطة ارتباطا وثيقا بمكان عملها بقدرتها على ادارة مناخ العمل. ومهارات العمل اليومي المكتسبة تخلق عضوا نقابيا فاعلا ومميزا، قادر على مشاركة خبراته مع زملائه في النقابات الأخرى وبناء استراتيجيات وتكتيكات عمل متطورة تفيد نقابة الفئة الموسعة. 


كما أن هذا يعضد من التنسيق بين العمال في أماكن العمل المختلفة ليس فقط على مستوى القضايا العامة بل على مستوى القضايا اليومية بتبادلهم للخبرات وخلق شبكات عمل مختلفة يصعب فضها بواسطة السلطة المركزية القابضة. وهو ما أحب بتسميته خلق غابة من الشرعية المتشابكة والمتفرعة.


وبمواكبة خطاب العدالة الإجتماعي، الذي أصبح يبتعد عن المركزية التقليدية، نجد أن فرض قالب واحد للعمل النقابي بالقانون أصبح بعيدا عن روح العصر، الذي تبرز فيه الحركات المحلية التي تنتظم في أماكن العمل والسكن ويكون لها القدح المعلى في الشرعية على الإدارة المركزية بل تقوم بتوجيهها، كما أنها أيضا بعيدة عن روح ثورتنا التي كانت نواتها العمل غير المركزي في الأحياء والذي يظل أقرب لتحقيق آمال الثورة من الحاضنات السياسية والنخب المركزية. 


وعافية العمل النقابي الموحد لا تأتي عبر سلطة القانون القابض، بل لا يمكن أن تتحقق أي نوع من المعافاة تحت قسرية القانون، بل عبر التضامن الحي الواعي بأشكاله المختلفة حول قضايا موحدة.


هناك أمر آخر يعلي من قدح من التنظيم النقابي القاعدي اللامركزي، وهو أنه يعطي القضايا اليومية المباشرة والملحة الأولوية و يستعيد مكانتها في الخطاب السياسي العام وتكون بالتالي رهن الشارع ورهن لغته وتجاربه وخبرته وأدوات عمله، ذلك وقد ظل الخطاب السياسي العام في السودان يترفع عن القضايا ويقوم بتتفيهها بوعي أو بدون وعي لصالح قضايا عامة تملك ادواتها ولغتها نخبة ضيقة ذات امتيازات مشتركة عبر التاريخ، وبقصد أو بدون قصد، يكون حتى الحديث  عن القضايا العمالية والقضايا القاعدية لا يتم إلا من خلال قالب (الإنسياب إلى أسفل) trickle down وهو نموذج يأنف اليساري عن تبنيه.


لا يعني أن العمل النقابي اللامركزي لا يحمل تحدياته، خاصة أن مساحات العمل في مناطق عديدة في السودان تصطدم بالمصالح القبلية أو السيطرة الذكورية على مساحات العمل، غير أن جر هذه النزاعات نحو اليومي والمباشر يضعف من هيمنة المصالح الكبرى على مساحة العمل ويغيب التحالفات التي تنشأ خارج مكان العمل. كما أنه يضعف من قدرة تحالف الرأسمالية أو اصحاب العمل من لعب لعبة فرق تسد بإستغلالهم لثغرات القبلية أو الأسرية أو الذكورية في مكان العمل. مثال لذلك أن النضال اليومي في مكان العمل سيستدعي بشكل متكرر إشراك النساء بدلا من تهميشهم، أو وضع الإستعلاءات الإثنية جانبا من أجل تحقيق مصلحة مشتركة.


نأتي لمسألة أخيرة، وهو جمع نقابة المنشأة بين فئات مختلفة، كالعمال والموظفين، أو بين المهني والفني. أولا من أجل فإن المطلب ليس : هذا أو ذاك، نقابة أم منشأة؟، بل الحشد نحو الجمع بينهما. هذا من جانب. من جانب آخر ، هذا يفترض أن العلاقة بين العامل والموظف الذين تجمعها (علاقات قهر واحدة) هي علاقة صراع أو تضارب مصالح. وقد ذكر مهتمون بالشأن النقابي من قبلي عن تاريخ النضال المشترك بين الفئات العمالية و المهنية في فترات مختلفة من تاريخ السودان. بل إن نقابة المنشأة تعمل في عملها اليومي في الوحدة على تحسين استراتيجيات وتكتيكات العمل في التحالف تستطيع نقل خبراتها وتجاربها في العمل النقابي الفئوي في خلق تحالف عريض. 

كما أنه للمفارقة، تجد في المنشأة أن علاقات القهر ليست بالضرورة من مهني على عامل، بل تتعقد، بحيث يجتمع الطبيب والعامل الصحي والفراش ضد إدارة المستشفى التي قد يكون على رأسها طبيب فيكون ما يجمعها أكثر من ما يفرقهما. كما أن هناك قهر من العامل على العامل، كقهر العامل على يد العامل مدير الوردية، والذي تشتبك مصالحه مع ادارة المنشأة بعيدة عن مصلحته مع زملائه العمال. فنقابة المنشأة تعمل على تمحيص علاقات القهر هذه بشكل لا تقوم به نقابة الفئة التي قد تجمع بين العامل المدير والعامل، وبين المهني صاحب المنشأة والمهني المعين في المنشأة.

لذا فإن الجمع بين النقابتين يقوم بوزن علاقات القهر بمواجهتها في مستوياتها المختلفة.


أرى أنه لا بد من إعادة النظر في طرح شعار (قانون نقابي موحد) يعمل على قسر الحركة النقابية (بسلطة القانون الإداري) التزام شكل عمل موحد. خاصة وأن نماذج النقابات الفئوية المتعددة في السودان التي تنشط في العمل السياسي وتدخل نخبها في صراعات سياسية تخصها ولا تخص عضويتها، وضعف أدائها في تحسين أوضاع العمل اليومية لعضويتها ، وكذلك ضعف قدرتها على خلق تحالفات تتجاوز ضيق الأفق السياسي في مخاطبة قضايا ملحة مثل السلامة المهنية والسلامة في مكان العمل هو أمر غير مبشر.