Saturday 2 May 2020

العمدة



العمدة

تمنيت لو أنني عمدة، لكنني لا أجد أيا من المهارات اللازمة للعمودية. لا أقصد هنا المنصب الإداري، إنما ذلك الإنسان الذي لا تخلو عائلة منه. الإنسان الذي يتخطى حد الكرم والضيافة المعروف ليستحيل إلى شيء في غاية 
الندرة والجمال.

هذه هي الخاطرة التي تمر ببالي كلما تأملت في خالتي رجاء. ما الذي يجعل لبيتها كل تلك الألفة؟ ليس معمار المكان بكل تأكيد، فالإنسان أيضا يمنح المكان معماره (هل مرت هذه الخاطرة على المعماريين يا ربي؟) فالألفة والحميمية لا تنفص مللي ، سواء في بيتها القديم في سنجة، أو في البيت الذي رحلت إليه ريثما تجدد بيتها القديم، ثم عودة إلى بيتها القديم وقد ضحكت غرفه كاشفة عن سناميكو (سيراميك) ناصع البياض، تتوسط صالته عمود متباه يستعرض مرآه في أوجهه الأربعة و نوافذ مصقولة بالزجاح الأصفر الرائق والأخضر الرويان، ثم بعد صراع طويل مع القحط الإنقاذي الذي اجتاح المدينة وهجر أهاليها، توضب حقائبها أخيرا تجاه شقة صغيرة ببانت 
أمدرمان.

بانت امدرمان، شقة على السطوح، هي نصف مساحة منزلها الواسع بسنجة، ومع ذلك يتقاطر إليه الناس زرافات 
ووحدانا ويساع من الحبايب ألف.




تعرفوا ، القصة المروية عن السيد المسيح عليه السلام، لما أطعم الاف من البشر من كسرتين خبز وسمك ما مدهشة لي على الإطلاق، لأني رأيتها عيانا بيانا في بيت خالتي رجاء، معجزة يومية تتحقق!
وكنت في حالة اعجاب بتأهب بيتها في اي وقت وفي اي زمان لإستقبال أي عدد من الناس ولأي فترة، دون أن تقوم بمجهود لذلك، دون أن تغير اي شي لا في بيتها ولا في مشتروات المنزل، الجود بالموجود الذي لا ينضب. وقد رضع ابناؤها وبناتها جميعا من تلك الألفة، يستحيل أن تجد كدرا عابرا من زيارة. الزيارة والضيافة أهون ما عليهم في الحياة، زي الهوا الداخل ومارق في صدرهم.

مرور الناس صباحا وظهرا وعصرا ومساءا ومبيتا في بيتها لا يقع فيه شيء من نفسها، تمر كالسحابة في منزلها لا يعيقها شيء.

وتعتني عناية فائقة بكل زائر، سواء كانوا اصحاب زوجها من أعيان السوق او زملاء ابنها الصغير محسن في الخلوة، نفس الترحيب والعناية تخيلوا؟!! عناية لا تخطئها العين ولا النفس، لسة بتذكر منظر الصغار يحملون ألواحهم وقد أدخلتهم للصالون، وحيتهم بإبتسامتها اللطيفة، ثم حالة من العجالة والانهماك في اعداد الصينية واهتمام بكل تفصيلة فيها.






بعد مرور اكثر من شهر على وفاة زوجها كنت أنهي العمل واستعجل الخروج "عن اذنكم يا جماعة انا لازم احصل بيت البكا" فعلق المدير "انتي تعالي بكاكم دا اصلو شنو، ليه اكتر من شهرين هسي؟!!"
شهرين والضيافة فيه كأول يوم تماما!! حتى اصبح ملتقى لمن انقطعت عنهم سنين عددا، وكان الترحيل يوصلني واستحلفهم بالنزول معي فيقولون "سولارا انتي جنيتي، كيف يعني ننزل في بيت بكا ونحن ما بنعرفهم" ولم يكن لدي ادنى شك انه برغم زحام الضيوف هناك دوما سعة للمزيد. كيف؟


اهو كيف دي التي حاولت أن اسعى وراءها بالتحليل والتجريب.

المهم بعد عدة تجارب تأكد لي أن ليس للأمر علاقة بمساحة المكان، او توفير معينات الضيافة. ما عنده علاقة بيها اطلاقا.

بل أساس (العمودية) هو أن تخلق في نفسك مساحة تسع الاخرين، والباقي بيتدبر.

أخيرا كشفت طرف من سر معجزة بيت خالتي رجاء، كشفته عن تجريب، وهو ان تصب اهتمامك كله في الرحابة، بدءا من بشاشة الاستقبال، في السلام والنظر والابتسام، ودع هذه البشاشة تجد طريقها إلى قلبك لتهزه فرحا. وبس الباقي براه بيتدبر.

وتأكد في اللحظة التي يخالجك سؤال من شاكلة "الأكل بيكفي؟" او "المكان بيشيل؟" زالت البركة وانتفت المعجزة.

عن تجربة شخصية بقول ليكم ما تسألوا من الضيافة. الضيف رزق، وبرضو الضيف بجي برزقه. فالواحد ما يقطع الرزق من بيته، ولا يشيل هم رزقه. الله يرزقهم واياكم.

ايوة، والضيف..هو كل طارق بالباب.




دا طرف من عموديتها،

ثم طرف اخر، هو انه ما إن تطأ بيتها، صرت بمعيتها، وصار همك همها، كدرك كدرها، سعادتك سعادتها! والله!..الله يسألني يوم القيامة في الكلام دا.

عمدة بجد، كم من عاملة منزلية خرجت من بيتها عروسا، بعد أن حفلتها وزينتها وحننتها، وقضت شهورا تلملم معها في عدتها و فرشها، ثم توصي العريس عليها. قبل كم كنا في هذه الحكوة مع حفيدتها وهي شابة رقيقة عن أن عبء المساواة وحسن المعاملة ليس فقط الكلام اللطيف المنمق، فهل نقدر على جنس كلام رجاء دا!!
صار أمر عاديا أن يمر أصحابي على خالتي حتى في غيابي، تحفظهم وتعرف احوالهم، وتحزن لحزنهم وتفرح لفرحهم. ياخ وحاة الله الحاجة دي صعبة ما بقدر عليها أنا.




 أهون ما عليها أن تجهز  عمودا للزيارة، اي زيارة. (صدقوني انا جربت حكاية العمود دي، الشغلانة دي دايرة تخطيط) أنا ما بعرف كيف لما فجأة في نص اليوم يقولوا ليها ارح نمشي ناس فلان بكل سهولة صنفت عمودها من العمود وخرجت به.

الموضوع صعب، لكن صدقوني الحياة بمثل هذه النفس السخية تستحق السعي من أجلها.

اللهم ببركة هذا الشهر الفضيل، تديها الصحة والعافية وتبارك فيها وفي بيتها واولادها واحفادها، ولا يقطع عنها عادة ولا عبادة.