Sunday 17 July 2016

الحرس الأبيض-رواية تساعية الأبعاد

ترى ما هو سر إعجاب ستالين بهذه الرواية الممسرحة ؟ (الرواية تم مسرحتها في ذلك الوقت) . فنبرة التعاطف مع البرجوازية الصغيرة والكبيرة واضحة! والإزدراء لجيش الفلاحين الذي قام بتحرير مدينة (كييف) واضحة أيضا. وفيها إشارات لسرقة البلاشفة لثورة الفلاحين والالتفاف عليها.
فبرغم الانتقادات اللاذعة التي انهالت عليه من نقاد وكتبة الاتحاد السوفييتي الا أن ستالين نفسه شاهد المسرحية ١٥ مرة مع التصفيق الحاد في نهاية كل عرض.




حاولت البحث عن رابط الترجمة إلى اللغة العربية لرواية الحرس الأبيض لكاتبها ميخائيل بولغاكوف.  فوجدت أن الترجمة العربية ستكون متوفرة (قريبا) في القاهرة. ولا أدري متى هذه القريبا. لكنها بشرى سارة.




لم أتخيل يوما أن أقرأ هذا النوع من الروايات المسمى (روايات الحرب) . ظللت حتى منتصف الرواية أنتظر اعلان نهاية المعركة والإنتقال لدراما الروايات العادية حب فراق وصال هجر حوارات صالونات. لكن شيئا من ذلك لم يحدث حتى أوصلني الكاتب لنهاية الرواية. لكنها بديعة. بديعة حقا.

الرواية تحكي عن المدينة (لا يسمي كييف بإسمها) إذ أن كل ما يمور في البلاد منتهاه ومربطه المدينة (هل هذه هي خطيئة العاصمة التي تحدث عنها الكاتب قصي همرور- أنظر هامش المقال)
المدينة في مفترق تاريخي عصيّ. أحداث متراكبة.  لكن السرد لا يوقعك في أي نوع من البلبلة بل يدير هذه التقاطعات  ببساطة مدهشة. فأوكرانيا كانت تقود حركة استقلال عن (الامبراطورية الروسية) في خضم الحرب العالمية الأولى بما فيها من صراع القوى  ،وفي خضم الثورة الروسية التي نهت الحكم الملكي!!! المدينة بها وحولها عدة جيوش. جيوش تبدل مواقع ولائها بإستمرار في ظل حساب موازنات القوة(إلى من ستئول السلطة حين السقوط). هناك الجيش الألماني الملكي. جيش روسيا الملكي والذي فجأة يتحول إلى الجيش الأحمر اثر انتصار الثورة الروسية. هناك جيش أوكرانيا المكون من ضباط أوكرانيين كانوا جنودا في الجيش الروسي الملكي. هناك جيش الفلاحين الأوكراني المسنود بالدولة الروسية الجديدة.




تبدأ الأحداث بإلتفاف أسرة توربين حول جنازة والدتهم والتي يرتبط رحيلها برحيل زمن لعله يمثل أمان الأمومة. يعودون إلى المنزل الذي أصبح كئيبا وتتسرب إليهم من الخارج أصوات الرصاص. رصاص من؟ أي جيش؟ معركة؟ ام مجرد مناوشات؟ المدينة تظل حتى لحظة سقوطها الأخير (بل وبعد ذلك) مسكونة بالشائعات ولا يعرف أحد ما الذي يحدث؟ من المسيطر؟ لا ولا حتى الجنود على أرض المعركة ذات نفسهم.  لا أحد يعرف.

بطل الرواية -ولا أدري إن كانت تصح تسميته بذلك فهو ليس محور الأحداث، لعل البطل الحقيقي هو ذلك الصراع بين القديم (الّلا- بد) زائل والجديد (اللاّ -بد) قادم- أليكس توربين طبيب وضابط في جيش الحرس الأبيض، ملحد، أعزب، لكنه متعصب لقوميته الأوكرانية . أخته إيلينا الرقيقة، مسحة من روح أمها الحنون ومن ذلك الزمن السمح الزائل، وهي الغراء الذي يماسك الأسرة، متزوجة من ضابط نشيط انتهازي يلعب لعبة القفز من مركب غارق إلى آخر ضمن الأحداث المتقلبة. الأخ الأصغر نيكولكا طالب بالمدرسة الحربية (والآن هو جندي) الأكثر حماسة وتفاؤلا بسراب النصر. ثم هناك وصف مفصّل لشخصيات الأخرى كالجار الذي يتحوط لمآلات الحرب  فيخزن في مخبأ سري عملات مالية مختلفة وسندات واوراق رسمية لحكومات مختلفة وكل ما من شأنه أن يسند ظهره من رميات نرد القدر العشوائية.

يجتمع في منزل آل توربين كل يوم مجموعة من ضبّاط الجيش الأبيض وبرغم تنوع شخصياتهم فإن الكاتب يؤكد على شيء واحد يجمعهم. النبل أو الشرف. كلهم نبلاء بطريقتهم الخاصة. هذه الصفة تحديدا التي أظهرها بولغاكوف في روايته ما جلب عليه سخط الآلة الإبداعية الرسمية السوفيتية.

في الرواية شيء غريب.  هذه التقنية التي أظنها الأثقل على الكُتّاب. إلا أنها أكثر ما يعلق في لاوعي القارئ. أعني (اللاندسكيب) أو وصف مسرح الحدث، كتفاصيل المنزل، أو منحنيات الشارع، أو وصف الطبيعة. في رأيي أنه الأمر الأصعب والأثقل على الكاتب. قد برع فيه الكتاب الروس في القرن التاسع عشر والعشرين. هل يا ترى الطبيعة في الأراضي الأورو-اسيوية تلح على عقل كتابهم وشعرائهم وتملأ وجدانهم فتتسرب في كتاباتهم بهذا الشكل البديع؟ يلزم المرء الحج إلى هناك ليتحقق بنفسه. وصف الطبيعة في الرواية بديع بديع !
ووصف الطبيعة ليس وصفا سلبيا. أي أنها ليست مجرد خلفية تتفاعل فيها أحداث الرواية. بل يتأكد لك منذ البداية أنها شخصية رئيسية في أحداث الحبكة. تتبدل وتتأثر وتؤثر. في رواية الحرس الأبيض ربوة القديس فلاديمير يُتَوِّجُها (أو ينغرز فيها- حسب وقائع الرواية) صليب أبيض كبير، تطل على المدينة وتلقي بظلالها عليها. أنظر هذا الإقتباس (الترجمة مني)

(واصل الليل سريانه. وفي نصفه الثاني،  حُفت قبة السماء، هذا الستار الذي أسدله الرب على العالم، بالنجوم. وكأن قُدّاسا ليليا أُقيم في العُلُوّ اللاّنهائي خلف ستار المذبح الأزرق القاتم. أُوقِدَت الشموع على المذبح فرمت بصلبانٍ وتربيعات وعناقيد ضوئية  على الستار. وعلى ضفة الدنايبر فإن صليب القديس فلاديمير الليلي إنطلق من جليد الأرض الآثمة المضرجة بالدماء نحو السماء المكفهرة . من على البعد بدا وكأن تقاطع الصليب تلاشى فتماهى خطا مستقيما، محيلا الصليب إلى سيف صارم متوعد.
لكن السيف ليس مرعبا. فكل شيء سيمضي، المعاناة والألم، الدم، الجوع والوباء. والسيف سيمضي كذلك. وحدها النجوم ستبقى بعد أن ينحسر ظل وجودنا وعملنا عن الأرض. ما من امرء إلا و يدرك ذلك. فلماذا اذا لا نُحوّل أعيننا نحو النجوم؟ لم لا؟)

ومع الوصف الحريف للطبيعة تجد أيضا وصفا حريفاللحركة والمرض والروائح.وكأنها رواية تُساعية الأبعاد.  فتلهث أنفاسك وأنت تتفادى مع نيكولكا طلقات الرصاص. وستمسح العرق عن جبينك وأنت تكابد الحمى مع أليكسي توربين. وستصك العفونة أنفك وأنت تتجول في المشرحة تبحث عن القائد ناي تور . يا الهي! هل  أشار الكاتب إلى نفسه ب"المعلم" في روايته المعلم ومارغريتا؟ هو فعلا كذلك.


لكني  لا أجد بعد سببا لإعجاب ستالين بالمسرحية. ظننت أنه ربما هو تلك الروح الرفاقية العسكرية المتبدية في الكتاب. لكن ستالين لم يكن يوما جنديا نظاميا (كان قائدا عسكريا في بعض الحروب بقرار سياسي ولكنه لم يكن ضمن المنظومة العسكرية). فلن يعرف تلك الإحاسيس التي يصفها بولغاكوف. خيانة القيادات، تعاضد الجنود عند الإشتباك، مرارة انتظار الموت، فتل خيوط الشجاعة من أقاصي الروح، أدرينالين البقاء وغريزة المقاومة الحيوانية ثم لحظات التأمل الطويل عند السكون والإدراك التام لعبثية القتال عند القتال. في الرواية يحلم أليكسي بعد ليلة سُكْر ثقيلة، بأنه ذهب إلى الجنة. وفي الجنة يجد كل الجنود، الأعداء والرفاق. كلهم داخل رحمة الرب في تشكيلاتهم العسكرية.كلهم متساوون في عينه. نعم حتى البلاشفة الملحدون. البلاشفة يا رب؟
 " وماذا إذا لم يؤمنوا بي؟ هذا شأنهم . فالأمر لا يعنيني، ويجب ألا يعنيك كذلك. فليس في الأمر خسرانا أو ربحا لي سواء أن آمنت بي أو كفرت"
مساكين القساوسة
"القساوسة؟خير لك أن لا تذكرني بهؤلاء القساوسة. لقد احترت في أمرهم. إذ أنه ما من بلهاء على أرضكم هذه أكبر من هؤلاء القساوسة . سأطلعك على سر يا جيلين، انهم ليسوا بقساوسة ، انهم خزي وعار"

لعله التشفي هو الذي دفع بستالين أكثر من ١٥ مرة إلى المسرح. نعم فإذا كنت على الجانب الآخر، يمكنك قراءة الرواية بتشفي، حتى التعاطف مع هؤلاء النبلاء المنقرضون فيه نوع من التشفي. النبلاء الذين كانوا يسقطون مغشيا عليهم عند مشاهدتهم المسرحية واسترجاعهم للأيام الماضية.


عرض المسرحية على مسرح موسكو عام ١٩٢٦



أو، لعل مسألة التذوق الأدبي تجد مدخلا في جلد أثخن و أجلف وأقسى الطغاة. (هتلر كان يرسم بالألوان المائية) . فربما كان متذوقا لهذه الكتابة الساطعة بحق. فهو القائل ردا على الوشاة الذين حاولوا ايغار صدره على الكاتب بالنفي أو السجن (كما حدث لكتاب غيره): إن كاتبا في قامة بولغاكوف هو فوق "اليمين" و "اليسار"

مع ذلك فقد كان الحظر لأعماله يأتي أحيانا من ستالين نفسه.

بولغاكوف الخارج عن تشكيلة الكتاب السوفيتيين ذاق الأمرين منهم ، برغم نبوغه الساطع بينهم. فقد غمطوا ذلك السطوع وألهبوا ظهر أعماله بالنقد اللاذع في الصحف كونه رجعيا يحن لأيام ما قبل الثورة. حتى اضطر بولغاكوف اثر هذا القمع والغمط أن يكتب رسالة إلى ستالين (الذي كان ينال قسطا وافرا من النقد والسخرية في أعمال بولغاكوف بشكل غير مباشر) ، قرأت مقالة تفسر مثل هذه الرسالة وهذا الموقف من بولغاكوف والعديد من الكتاب المارقين، أنهم كانوا يرون خروجهم كخروج الإبن على الأب المتسلط والرحيم في آن. الذي وإن أزعجه هذا النقد فإنه يظل يحتضن أبناؤه. في رسالة بولغاكوف يشتكي من الفاقة وضيق الحال بسبب القمع الذي يلاقيه ويطلب أن يسمح له ستالين بالخروج من روسيا لكي يتكسب قوت عيشه. عندها يتصل ستالين على بولغاكوف مستفسرا (هل حقا تريد ترك روسيا؟) (لا ..فلا عيش لي ككاتب خارجها) فيتعطف ستالين عليه ويمنحه وظيفة هامشية في المسرح ظل فيها حتى وفاته، وقد سجل سنينه المأساوية هذه في رواية اسمها (الثلج الأسود)

آخر أعمال بولغاكوف هي (المعلم ومارغريتا) . هذه الرواية التي مَسّخَت علي سلمان رشدي وللأبد. فقد كان لرشدي عندي خاطر الأسلوب البديع. لكنه يبدو أنه لم يكن سوى مقلد لبولغاكوف في روايته. في الرواية يلخص بولغاكوف المشهد الثقافي في الإتحاد السوفيتي و ضغينة الكتاب الرسميون عليه. نشر الرواية وسط أصدقائه ، حيث أقام حلقات قراءة كانت كوة النور الوحيدة التي رآها هذا العمل في حياته. ولم تنشر الرواية إلا بعد سنين من وفاته بواسطة زوجته.


نعته آنا أخماتوفا والتي كانت هي أيضا منفية بقصيدة رقيقة:

في ذكرى م.ب

أهديك هذا. لا زهورا على قبرك
لا عيدان بخور مشعلة
 اعتصمت بعزلتك
مبقيا على احتقارك العظيم حتى النهاية

احتسيت الخمر، ورويت لاذع النكات
واختنقت داخل الجدران الكاتمة
وحدك سمحت للغريبة الفظيعة أن تدخل
وبقيت معها وحدك

ثم رحلت، لم ينطق أحد منهم بكلمة
عن حياتك المضطربة الشاهقة
وحده صوتي- كناي- سينعيك
في مأدبة عزائك الأخرس


من كان يظن أنني- نصف المجنونة أنا
المصروعة بالبكاء على الأمس المقبور أنا
الذاوية على نار هادئة
أنا التي فقدت الكل ونسيت الكل

أنني أنا المقسوم لي أن أنعي رجلا
مترع بالقوة والعزيمة والإبتكارات اللامعة
والذي كأنه بالأمس القريب كان يثرثر معي
مخفيا ارتعاشات ألمه الفاني



ميخائيل بولغاكوف


------------------------------------------------------------
مراجع من النت:
١- قصي همرور:خطيئة العاصمة" مشكلة المدينة الضخمة في العصر الحديث، والوهم الذي تغذيه في سكانها - سواء في البلدان الفقيرة أم الغنية أم المتوسطة - بحيث يتكيّفون داخلها على مظنة أنهم يمثلون البلاد كاملة ويعرفونها ويمكنهم الحديث عنها، الأمر الذي بدوره يجلب مظنة أن الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في البلاد مُمَثَّل كله أيضا في تلك المدينة وبنفس النسبة الموجودة في باقي البلاد. حين يتمكّن هذا الوهم من سكان العاصمة تتساوى عندهم البلاد والمدينة، فمثلا يقولون "السودان كيت وكيت" ويقصدون فقط الخرطوم، وأحيانا كثيرة بدون وعي منهم. يصبحون غرباء عن بقية بلدهم، تماما كما الغرباء خارج الحدود، لكنهم لا يعون ذلك. وهذا الوهم الكبير له انعكاسات كثيرة وكارثية على المآلات الاجتماعية والسياسية، والطموحات الاقتصادية، لأهل البلاد جميعها


٢-قصيدة آنا أخماتوفا https://matthewsalomon.wordpress.com/2008/03/20/anna-akhmatova-in-memory-of-mb/

٣- مقال حول حكاية بولغاكوف ومسرحية (أيام توربين) الممسرح عن الروايةhttps://www.theguardian.com/culture/2010/mar/20/will-self-white-guard-bulgakov

٤- الصور متفرقة من الإنترنت

No comments:

Post a Comment