Wednesday 20 April 2011

نثار حول أبيض ... تأرجُح بين زمنين

"الصفار لمحة فارس...الخدار أقعد جالس" تجامل جدتي سمرتي و"نثار حول أبيض" كتابُ شعر كلما تفرست فيه تجلَّى. فيه يفارق الشاعر أنس مصطفى مجايليه في كتابته الزاهدة في التنويع اللفظي وفي قدرته على خلق عبارات قوية ومتماسكة بحفنة الكلمات  يدور الديوان في فلكها كالحنين، الغربة الأبيض، الخضراء...إلخ

كتابة كالحوى، فالكلمات الرقيقة تبدو هشة ومتفلتة ومائعة عن المعنى، لكنها في الحقيقة مثبتة في المكان المعني لها وبالشكل المقدر لها، وربما هذه الخاصية تحديداً هي التي تكمن فيها الحرفة الشعرية لأنس مصطفى، فسلاسة العبارات ورقتها تخفي تماماً الإحكام الذي صيغت به
لماذا نثار؟ حول؟ أبيض؟ الذي عنونت به المجموعة، فلنأخذ كل كلمة من العبارة على حدة، فهو نثار وليس نظم..كلمات تتفلَّت من صياغاتها وسياقاتها من جمل أو أبيات، ثم هو نثار حول، ليس على أبيض، لا تشير حول إلى معنى الهامش، بقدر ما هي الكلمات متفلتة عن سلطة المكان المفترض لها، واخيراً هي نثار حول أبيض مجهول غير معرَّف، وهذا ما يفصح عن الديوان، هو العجز عن وطء البياض، وإثبات (بالكتابة) ما ليس مثبتاً لدى الشاعر، وكما قلت في أن هذا الديوان محبوك على التفلت ومغزولٌ على التنصل، فلا ثبات يجب أن يمنح إلى العنوان.
كل قولي السابق عن تفلت المعنى له مغزى يعبر عنه الشاعر في قصيدة "عن الله ونواحي الحبيبة

كيف النصوص
مرهقةٌ بالكنايات
ولا تقولنا أبداً

جدل الفن والفنان منذ الأزل هو بلوغ الكمال أو التوحد فيه، فأن يكون فنك كما تريده، أو أن يعبر عنك و يقولك تماماً هي مأساة الفنان، وهي في الوقت ذاته حبل الحياة الذي يمنحه الإستمرارية، المقتطف أعلاه من قصيدة مهداة إلى الأستاذ محمود محمد طه، كما أن الديوان يفتتح بإقتباس من قصيدة محمد عبدالحي يرثي فيها التجاني يوسف بشير: (هل أنت غير إشارةٍ لمعت على طرق الصحارى). وللأستاذ محمود محمد طه حديث عن لحظة الآن التي تقع بين زمني الماضي والمستقبل يتارجح بينهما الإنسان كالبندول أبداً، من يستطيعون أن يوقفوا حركة التأرجح للمكوث في هذه الوهلة بين الزمنين يدخلون في زمن الحضرة وتتكشف لهم الحقائق...وهي كما يقول الأستاذ" وهلة"، ولأن حركة الزمن تنعدم فيها فهي تساوي أزل، والشاعر محمد عبدالحي عندما أراد أن يقارب من شخوص قصائده من زمن الميثولوجيا أدخلهم في زمن الحضرة التي فيها تتكشف الحقائق وتنعدم فيها الثنائيات وتحتفظ الأشياء بأسمائها الأصلية، وفي قصيدته العودة إلى سنار فإن هذه اللحظة يرمز لها بتوقيت زمني ضئيل:

رمز يلمع بين الغابة والأبنوس
وكانت الغابة والصحراء
إمرأة عارية تنام
على سرير البرق في إنتظار ثورها الإلهي
الذي يزور في الظلام
            قصيدة محمد عبدالحي ، العودة إلى سنار

أنس مصطفى يوقِّت قصائده على الزمن المتفلت عن اللحظة الحاضرة، فهو يتأرجح دوماً بين الحنين/الغياب، بين (آخر ما يخص وطن/أو بدء المنافي...من قصيدة ثمة حزن، ثمة مريم)، وبين المريمين التي يتكرر إسمها كثيراً في الديوان: مريم الميلاد ومريم القيامة، إيقاع الديوان حزين، وقلق، ومرهق بالبحث ومحمل بالسفر...ويستجدي تلك اللحظة "الآن" التي لا تأتي:

مخزونةٌ أنت حد الهطول
ولاتمطرين
ولاتمطرين

يبذل الشاعر جهده مع النصوص كي تقوله، معبراً عن ذلك -بعيداً عن الكناية-برسم الكلمات، فما الذي حقاً يفصح عن إحساس الوحدة في هذه الكلمة، سوى أن يقول:

كم أخَّاذ
أن تكون وحيداً
و
ح
ي
د
اً
تماماً
وتجدون أمثلة تعبر عن العمق أو البعد أو الوسع مثلها في الديوان، وليس هذا مثال الإيقاع الوحيد في الديوان، فهناك تجانس مصنوع بإسلوب المرجع  ، فالقصائد تشير بعضها إلى بعض، الأبيات تخرج من سياق القصيدة لتربط نفسها بسياق آخر، والإسلوب سهل وفعال وذلك عبر المجموعة المختارة من الكلمات التي حيكت منها النصوص، فلا يكاد نص يخلو من حنين/غياب/غربة، فيصبح لديك من السياق الذي تورد فيه الكلمات مجال من الدلالات والمعاني التي تفسر معنى "الخضراء" أو "البياض" أو "الحنين" ومن ثم (أعني بالإحساس الذي يتولد لدى القارئ) تصبح الحبيبة المخاطبة هي ذاتها في كل القصائد.
الحقيقة المائعة هي ما تطارده الكلمات، وقد أحسن الشاعر في أن يمنح القارئ إحساس الرهق بمطاردة الحقيقة، فهو يرسم كل صورة للقارئ بكلمة "كأنَّ" كي لا تكتمل صورة في ذهنك، فتشارك أنت الشاعر أيضاً ظمأ الإكتمال

:
كأنَّ المكان هروب
المكان
كأنَّ البيوت إنحسار
البيوت
كأنَّك أنتِ تمام الحبيبة

يحاول أن يوصل إليك أنَّ الأشياء ليست هي الاشياء:

وتمرُّ بيوتٌ
مثل بيوت
(حين هذا الليل مطفأٌ مثل ليل)

وتنتهي معظم القصائد إما بتساؤل أو بعبارة مبتسرة، مؤرقة ومتوترة، تمنعك عن الشعور برضا الانتهاء أو الإكتفاء من القصيدة.
التكنيك المستخدم في الكتابة بالغ الصعوبة، هو أشبه بالبوح عبر الكتمان، وهذه الكتابات المكبوتة عن الحكي أعطت القصائد أثر مضغوط كما الماس، إلى حد ما مثل كتابات إيميلي ديكنسون، فالمسكوت عنه يخلق في حد ذاته قصائد أخرى.
أنا لم أتحدَّث عن الثيمة هنا، فالديوان كما ذكرت في البداية كلما جلست إليه كشف معانٍ وأبعادٍ جديدة، ولكن ما يمكنني أن أقوله أنَّ الثيمات رومانسية المنحى، رغم القلق في الديوان، إلا أنها فكرة القلق الباحث عن "الشيء" الباعث للسكينة تخالف ما أتى بعد ذلك من ثيمات شعرية تسخر من فكرة البحث وتنفي السكينة.
آخر قولي وبلغة المعلقين على الكتب، "نثار حول أبيض" ديوان للإقتناء والتوريث



الصور: غلاف الديوان وصورة الشاعر منقولة عن صفحة الشاعر على الفيس بوك
https://www.facebook.com/#!/pages/%D8%A3%D9%86%D8%B3-%D9%85%D9%8F%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%89/134800896534066

No comments:

Post a Comment