Friday 15 April 2011

جنوبا نحو الشمس


 
المدهش أن ما كان راسخا مستمرا في ذهن فنسنت فان غوغ لم يكن له بزغ ولا نبت في الواقع . لم يكن له سوى "وجود مبعثر" في أذهان مجموعة من الضائقين بالذوق السائد للفن
مدهش، لأن هذا "الوجود الذهني المبعثر" هو من القوة والثبات لأن يضبط ايقاع هذا الفنان حتى نهاية عمره. مدهش، لأن قضبان الفن الراسخة في تلك الفترة كان للإنطباعية التي كانت ما زالت في أوجها ..لكنها تثير التثاؤب لدى فان غوغ وحده.
الفكرة بسيطة (بسيطة بالنسبة لفان غوغ بالطبع) فن جنوبي ، تميل الشمس فيه على دوائر عرضها، لتفصح عن الألوان كما هي أو بأكثر مما هي عليه. للشمس ضرورتها فهو في الحقيقة يريد أن يحاكي التصاوير اليابانية التي امتلأت بها القارة الباردة في تلك الفترة، ذات الخلفيات الحمراء الوقحة والخطوط البارزة. وتفسير فان غوغ لمثل هذه الرسومات العجيبة واضح: الشمس!
يحزم حقائبه، ويتجه جنوبا إلى مدينة ارلز الفرنسية (أقرب ما يستطيعه من الشمس). أخوه ثيو سيتكفل بالدعم المادي، بينما سيعمل فان غوغ بساعديه الهزيلين على حرف قضبان قطار الفن العنيد. يستأجر منزلا، ليكون ملجأ له ولرواد هذا الفن الحديث (الذي بالمناسبة لم يبزغ بعد حتى يصبح له روادا) يؤثثه بما يناسب توجهه ، يؤكد على صفرة جدرانه المطلية.
"إنني بحدسي الذي اتلمس به العالم الجديد، أؤمن بقوة في امكانية نهضة عظيمة للفن ،كل من يؤمن بهذا الفن سيتخذ من الإستوائيات مأوى له. نحن لسنا سوى وسطاء لهذا الفنووحده الجيل القادم هو الذي سيزهر فيه" (عن غوح بتصرف مني في الترجمة)
ويبدأ يفكر بمن سيشاركه هذا المجد، يقع اختياره على غوغان، لماذا ؟ لوحة (موعظة على الجبل)

 بالنظر إليها لا يحتاج الأمر تفسيرا. يشرع فان غوغ في مراسلة غوغان شارحا فكرته، غوغان الرائع يستجيب وتبدأ سلسلة مراسلات محمومة بينهما، و يرسل كل منهما رسما لنفسه يشرح فيه ذاته. غوغان يرسم (ويصف في رسالة) أنه كجان فالجان بطل رواية البؤساء لفيكتور هوغو ، فكرة (الخارج النبيل) ترون في ورق الحائط البادي في اللوحة زهورا رقيقة أشبه بتلك التي تكون في مخادع الفتيات، ويرى -مؤلف كتاب البيت الأصفر ؛مارتن غايفورد-أن غوغان يريد أن يصف عذريته و توحشه في ان.


فان غوخ يرسل لوحة أيضا لا يذيلها بوصف، ولكنه فيها مفلطح الوجه، تتباعد عيناه وتنسحبان على جانب وجهه وتعلوه صفرة، فان غوخ "شرقي الملامح" ، فان غوخ هنا يلمح إلى بوذا.

الغرس الديني في الفنانين كان عميقا مؤثرا، يتجلى في نظرتهم إلى الأشياء وإلى الفن تحديدا كرسالة انسانية. وكاتب كتاب البيت الأصفر يذكر ملاحظة ذكية في ذلك ، يلخص فيه تلك الأسابيع التسع العاصفة التي جمعت بين فنانين لا يتشابهان إلا ليختلفا تماما(!!)، يقول عن المنحى الديني، أن تربية غوغان الكاثوليكية تجعله أكثر فحصا للروح و سبر أغوار "معاني الأشياء"، بينما تربية فان غوخ البروتستانية عملية في طابعها ، ترى أن الحركة هي التي تعطي للأشياء معناها. وشكل هذا التدين بدوره ينعكس على طريقة عمل هذين الفنانين المتشابهين المتقابلين، فبينما مبدأ "اللون" واحد (اظهار اللون بنقيضه) فإن التعبير عنه مختلف، فغوغان (الذي يعجبه أن يوصف بالبربري) ثابت في رسمه، خطوطه المنتظمة والكثيفة أشبه بالنسج، بينما فان غوخ المنزوي نحو دواخله الهادئ الطباع، يرسم وكأنه في مبارزة بالسيف بتلقائية وفجائية، ويصف النقاد الأثر الذي تخلفه "ضربات" فرشاته، بالأثيرية ، كأن كل ما في لوحاته على وشك الطيران والتلاشي في الدخان أنظر(لوحة: رجلان يمشيان،عربة،صنوبرة،نجمة و قمر هلال )
 أو لوحته الأكثر شهرة (ليلة ذات نجوم).

الكاتب مارتن غايفورد كان ذكيا في ترتيب كتابه، يصف الشخصيتان بهدوء ليبرر لاحقا الأحداث العاصفة التي أدت لأن يفر غوغان من فان غوخ دون أن يودعه أو يلتقيه بعد ذلك أبدا. فهما كما ذكرت لا يجتمعان إلا ليفترقا. بل كل منه في ذاته تجتمع فيه عناصر التناقض. غوغان الذي يرى نفسه كثور صاخب منظم الفكر والطابع، وفان غوخ الهادئ الوديع تضطرم العواصف في داخله. لذا سيهتدي كل منهما في اخر الامر إلى الجنون .
أكثر ما يعجبني في السيرة الذاتية لهذين الفنانين، أن أحلامهما تبحث دوما عن موطئ قدم في الواقع. فالسؤال :كيف يستوي هذا الفن الجديد على ساق الواقع؟- يشغلهما بقدر ما ينشغلان بفنهمافان غوخ يرى أنه يقوم فنانون مخضرمون كـ "مونيه" و"ديغا" بالتبرع بالكانفا وادوات الرسم للفنانين الجدد ويتقاسمون الربح بعد ذلك عن ريع لوحاتهم . أما غوغان فيعتمد على خبرته العملية في المضاربة في البورصة، فيرى ان يقوم  سماسرة الفن بإغراق السوق بلوحات هذا الفن الجديد.ويستثمر المضاربون بالسوق في هذا الفن الجديد، وبعد ان ترتفع أسهم الفنانين الجدد ينال أولئك المضاربون حظهم في الأرباح.

ماذا حدث؟ سبعة أشهر بعد حادثة مطاردة فان غوخ لغوغان بالة حادة، ثم حادثة قطع أذنه وأهدائها إلى مومس، يخرج فنسنت فان غوخ إلى الحقول ويطلق النار على نفسه. كان قد خرج لتوه من مصحة عقلية. يقول غوغان: لست مفجوعا لموته، علمت أن هذا سيحدث ،فالمسكين عانى في صراعه مع جنونه.لأن يموت في هذا الوقت هو سعادة عظيمة له، فهو ينهي عذاباته، وإذا ما عاد في الحياة القادمة فإنه حتما سيجني ثمره الطيب الذي زرعه في العالم ". ويموت بول غوغان بعد أعوام من موت فنسنت فان غوغ ،وسط اكوام من المورفين وقناني الخمر في منزله الإستوائي في جزر ماركيزاس النائية، بلغ الهذيان في رأسه (بسبب مرض الزهري) حد الجنون ومات كصاحبه وقد تحولا إلى اسطورة بين الفنانين الناشئين .
الفن من حيث هو لا يبزغ من فراغ ولا ينتهي إلى العدم (هذا في رأيي)...ومهما بدا لنا أي فن ثوريا وعاصفا فالنسائم المثيرة له تسبقه دوما، البداية كانت للفنان سورا Seraut وتطبيقه لنظرية درجات اللون، فهي التي فتحت الباب لفناني مرحلة ما بعد الانطباعية والتي تتركز ثيمة أعمالهم أو تعبيرهم عن الثيمة على فكرة اللون (لا يوجد أزرق دون أصفر أو برتقالي كما يقول فان غوخ) ، وامتد أثرهم فيما بعد في الفن لبيكاسو وماتيس.

No comments:

Post a Comment