Wednesday 13 April 2011

ملحَمَةُ مُدمِن

عن المذكرات الذاتية لمالكولم إكس


حقاً..(كل العالم مسرح). والقدرُ يَسِمُ أبطاله بعلاماتٍ فارقة؛ أعني أولئك الذين يحتلّون مونولوجات مطولة على مسرح الحياة، أو المنوط بهم تغيير حبكتها 180 درجة.
ففي ستينات الصراع الأمريكي لحركة المساواة بين البيض و(الملونين)، يكونُ للمبجل (كِنْج) ذلك الصوت العميق ذو الرنّة المؤثرة التي لا تُنسَى. أما لذلك الدور الناري، ففتىً فارع الطول، أسمر، بشعرٍ أحمر(!!) مُلتَهِب، ولسانٍ لاذع. مالكوم... هل ستذكرونه؟ إنه لا يُنسَى.(المذكرات الذاتية لمالكوم إكس) إنجيل كلّ أسودٍ في أمريكا، ولكن لعل تعرضه لآراء سياسية حادة، أو دينية عجيبة، أو لتناوله شخصية شائكة كمالكولم؛ جَعَلَه يسقط من اعتبارات الأدب. إلا أن هذا الكتاب لا ينقصه عن ملاحم الإغريق سوى تسميته باسمها. فأنت تقرأه وتحوم بك مأساة قدرية لبطل نصف إله، يصارع آلهة التعنّت، ونُذُر الشؤم، وتحيك ربات القدر خيوطهنّ المتينات حوله

.
أريد كاتباً لا مترجماً! يقول مالكوم إكس لألكس هيلي، كاتب (جذور). والذي استطاع، بمهارةٍ فائقةٍ، أن يُفَكِّك لغز هذا الرجل العصي على نفسه، الشائك الطباع، والذي يحتاج لا إلى القوة ولا الحيلة، بل إلى شخصيةٍ قَدَرِيَّةٍ لتَسْتَلَّه كما سيفِ الملك آرثر من جفيره الصخريّ. استطاع، بعد لأيٍ، أن يُقنِعَ هذا الرجل الغاضب أبداً أن يَصُبَّ حياته بين يديه. فمالكولم لم يكن يثق بأحدٍ أبداً، عدا قدسه: الإليجا محمد. يقول ألكس كان قلقاً، ينظر إليه بين فينة وأخرى، يتابع ما تخطه يده، يذرع الغرفة ذهاباً وإياباً، يصمت، يُدَقِّق في وجه ألكس. لكن ما أرهق ألكس هو (إلايجا محمد كذا) و(إلايجا محمد ذاك) ، هذا الفتى المعتدُّ بنفسه جداً، كان يعاف قولة الأنا، ولا يبتدئ حديثه إلا مسمياً اسم محبوبه الأوحد الكريم الإليجا محمد. يقول ألكس : حسناً، لن تكون هذه مذكرات شخصية، بل ستكون أشبه بالمنفستو السياسي!. يجلس ألكس  بصبرٍ وأناةٍ يستمع للتبجيل الممل من الحواري لشيخه، ثم يلحظ شيئاً؛ كان مالكولم كثير الشخبطة، لا يجد ورقاً خالياً أو هامشاً أبيضاً حتى يشرع في الكتابة عليه، ويدقق ألكس  النظر ويجد أنها ملاحظات... لا، بل أفضل، إنها تأملات ذاتية، فيبتدع حيلة: في كلِّ جلسةٍ يُحضِر القهوة، ويضع فنجاناً أمام مالكولم ومعه الكثير من المناديل البيضاء، وفي لحظةِ استرسالٍ في الحديث يشرع في الرسم والكتابة والتأمل، وهذه قدرة عجيبة!. كأن لسانه يسيرُ في دربٍ وعقله في درب آخر! ثم في نهاية الحديث الممجوج، يجمع هيلي المناديل، ويحاول أن يلتقط منها مدخلاً ليكون فتحاً لهذا اللغز، وقد كان. ففي يومٍ دَخَلَ عليه مالكولم وشرع في حديثة المعتاد فيفاجئه أليكس: حدثني عن أمك!. بُهِت مالكولم وكأنه فقد توازنه للحظة، ضربة حظ أصاب بها هيلي كعب أخيل
.
أقول ملحمة، فالكتاب كتب في الستينات، ومالكولم في كامل توهجه وألقه؛ فتىً أسود من بلدةٍ مغمورة، أصبح وجهه معروف أينما تقلّب في العالم؛ في إفريقيا، في أوروبا، فهو الناطق الرسمي لجماعة أمة الإسلام، ولإليجا محمد. والحق أن العالم ما كان ليكترث، حقيقةً، لإليجا محمد، وإنما لرسوله البارع، اللاذع: يضع إصبعين (سبابته ووسطاه) على خده، يطالعك بمزيجٍ من السخرية والإزدراء من  نظارته (التي أصبحت مُنذها ماركة مسجلة). كان قد وصل إلى القمة، وربما ألكس ، بحدسه الصحفي/الروائي، قد أدرك أن لا مكان بعد القمة (التي وصلها مالكولم بجهدٍ بالغ) سوى القاع (التي سيهوي إليها بسرعة بالغة). ولم يكن ألكس  قد سمع بعد بنبوءة الإليجا محمد عن مالكولم ،أن حواريه الأكثر الإخلاصاً، سيكون الأكثر عداوةً له. فكان الاليجا يقربه ويحذره. لعلها لم تكن نبوءة، لعلها هواجسُ العَظَمَة
.
 مندمجاً  لست أدري لماذا يتبادر إلى ذهني صفة المدمن كلما فكرت في مالكولم فمالكولم كان صادقاً في كلِّ فاصلٍ من حياته، مستغرقاً فيها، مدمناً لكل تفاصيلها فأنت تقلب الكتاب مندمجاً في كل فصلٍ فيه،،
وهذا ما سهل الكتابة على ألكس؛ فكأن حياة مالكولم مقسمةٌ إلى فواصل، تنفصل كل واحدةٍ عن الأخرى تماماً؛ لها أبطالها ومشاهدها ولغتها المنفصلة عن أختها، ولا رجعة لمالكلولم لأي فاصلٍ من تلك الفواصل، ولا لشخصياتها، إلا بشكلٍ خاطف. فمالكولم في يفاعته، طالب زنجي في مدرسة للبيض، يدمن حياته (كزنجي يعيش على هامش البيض)، يقتات على طيبتهم وتفضلهم، نجم الرياضة في مدرسته، يُطَبطب عليه ككلب أليف ويطعم الفضلات. فاصل
!.
تدعوه أخته لأبيه (إيلّلا) إلى بوسطن، فيحترف الحياة فيها (كزنجي يعيش في جيتوهات المدينة) وحياتها الليلية، يصفف أوّل (كونك) له، والكونك هو تلك الخلطة النارية التي تجعل شعر الزنجي يُقَاوِمُ طبيعته الأبيّة الصامدة، فينساب وينسدل رخواً على عنقك (كان مالكولم يرى أنها الماركة المسجلة للزنجي المستلَب). ومالكولم الراقص المحلّق في كلوبّاتها الأبرع في الليندي-هوب (رقصة سُمّيت على منطاد ليندنبرغ الطائر)، يجمع سينتاته من عمله كماسحٍ لأحذية البيض (أعني ذلك حرفياً) ليشتري زوتاته اللامعة (والزوت هو بدلة اشتهرت في الأربعينيات، لها كتفان باظّان كما جناحي الطائرة، وبنطال واسع فضفاض، يضيق فجأةً في الكعب، وألوان لافتة للأوجه على قارعة الطريق)، ويتكلم تلك اللهجة المختصرة المشفرة التي كأنها تقول: أنظروا إليّ أنا لا أكترث ويعجبني ذلك(!!). والأهم من ذلك تتأبط ذراعه حسناء بيضاء ترفع من قيمته الإجتماعية في الجيتو. انتهى-فاصل آخر
.
مالكولم يَمّمَ شرقاً نحو نيويورك، حيّ هارلم، يستغرق في حياتها الليلية، أو البعد-ليلية؛ حياة الأنفاق، مالكولم الـ(هسلر) والتي أظنها تعني الحذق، المخادع، المروّج _لكل ما هو غير شرعي بالطبع، والذي استطاع أن ينتزع له لقباً (أن يكون لك لقباً في عالم الإجرام نيشان) كان ينادى -بديهياً- بـ(أحمر) (!).. كان مالكولم مروج المخدرات، ثم مالكولم القواد الحَذِق، وأخيراً مالكولم رئيس عصابته لسطو منازل الأثرياء، و تقبض عليه الشرطة. انتهى نحو فاصل آخر
.


مالكولم في السجن، صاخب، غاضب غاضب غاضب! يدفع حراسه دفعاً ليزجّوا به في الحبس الإنفرادي، حيث يظلّ مزمجراً، لاعناً كل شيء، لاعناً من حوله، لاعناً ربه، يذرع حفرته ولا يغمض له جفن، فاستحق بشعره الأحمر ولعناته التي يصبّها يميناً وشمالاً، لقب: الشيطان. فاصل
.
ثم يأتيه في السجن ريشموند، أخوه الأصغر، الأحب إلى قلبه، بنيامينه، ويهمس في أذنه: (مالكولم، إذا أردت الخروج من هنا، اركل العادة (أي تخلى عن إدمانك) وتجنب لحم الخنزير). ثم ينصرف. فيطير عقل مالكولم، لا بد أنها وصفة سحرية، لا بد أنها (هسل) ، خدعة، ربما ابتعاده عن إدمانه، عن لحم الخنزير (والذي هو جزء من هوية الرجل الأسود في أميريكا) سيُحدِثُ به تحولات فيزيونفسية، تُحِيلُهُ إلى مصحّةِ السجن، أو تطلق سراحه لعدم كفاءته الذهنية. وبكل إخلاص، يركل مالكولم العادة. إلا أن العادة، أو الإدمان، هي صفة مالكولم، كل ما حدث أنه تم رفع مالكولم من المخدرات ليعلق في خطّافٍ آخر يدعى المكرّم المبجل: الإليجا محمد. وكما الهلوسات التي تصيب المدمن، فكذلك مالكولم المقبل بكليته على الإليجا وكتاباته وأفكاره، فيراه وهو بين المستيقظ والنائم جالساً على فراشه، رجلاً ضئيلاً، فاتح البشرة، آسيوي الملامح، تُشِعُّ عينيه بالذكاء، كان ذاك طيف الإليجا محمد. وبين ليلةٍ وضحاها، ينقلب الشيطان إلى شخصيةٍ مُهَابة، يتحدث فيصمت الجميع، لا ببطش يده، بل بكلماته (والتي سآتي لذكرها بعد قليل). انتهى فاصل نحو مالكولم الحرّ، خارج السجن

،

 هو القسّ، هو بطرس الصخرة، ويتعمّد على يديه مئات السود نحو (أمة الإسلام)، ويبني آلاف المعابد عبر أميريكا كلها تُبَجِّل المبجل المكرم الإليجا محمد. المقرب من الإليجا نفسه، والذي نبذ أخاه –بنيامينه- زلفى للإليجا. وبفضل مالكولم -وحده- تصبح (أمة الإسلام)، والتي لم تعدو أن تكون جماعةً غرائبيةً تمارس طقوسها في منازل أتباعها، إلى حركةٍ تأخذ أمريكا، كما الإعصار، تقتحم بيوتهم من شاشات التلفاز، في الصحف المحلية والعالمية، وتعيد تعريف هوية الرجل الأسود في أمريكا. ها هنا تتبدى ملامح المآسي الإغريقية، فماكلولم كان يسرد حياته لهيلي في ذلك البريق، وكلنا يعرف البريق، لا يدوم، ووحدنا القراء ندرك _ونحن نقرأ تلك الصفحات_ الفاجعة المستبطنة بمالكولم، ويوجعنا أنه، كأعمى، يسيرُ نحو هلاكه، وشيءٌ فينا يصرخ: (مالكولم ، اقفز من تلك القاطرة!). ومالكولم لا
يسمع.
الكثيرون يظنون أن مالكولم حين يقول (الشيطان الأبيض)، واصفاً البيض في أمريكا، إنما يعني ذلك مجازاً، ولا يدركون أنه يستند إلى ركيزةٍ أساسيةٍ من عقيدة (أمة الإسلام)، والتي تَسرُدُ قصةَ نشأةِ الخليقة، والتي بدأت بالرجل الأسود القوي، الصادق الذكيّ، وجنس أضعف خسيس هو الأبيض، استطاع، بكذبِهِ وخسَّته، أن يُغوِي الأسود عن فردوسه المفقود، وأن يسرق أبناءه ويلقّحه بدمه الأبيض النتن، ليزري بالرجل الأسود إلى حاله الذي هو عليه. ولهذه القصة العجيبة أسانيد، يجمعها مالكولم من كتب علوم اللغة، علوم الأجناس، ونظرية التطور، ومن كتب التاريخ. فمالكولم، كما علمه الإليجا، يؤمن بأن كل خسّة، وكل ضعف، وكل سيّئة تحيق بالأسود فهي من عمل الأبيض، ومن سمومه التي يبثّها في عالمه وفي دمه. اغتيل الرئيس كينيدي، الأبيض، والذي يُعتَبَرُ أحد معالم حركة الحقوق المدنية (التي يهزأ منها مالكولم كثيراً ويصف فكرة الدمج بالبدعة والمكيدة). ويبكي الأميريكيون في الطرقات والحدائق، فقد انطفأت جذوة الأمل، إلا أن مالكولم الحذق، بكامل أناقته (التي لم يتخلّ عنها منذ أيامه الخوالي)، يكشف أسنانه البيض مبتسماً، للصحفيين المحلقين حوله. (كفتى نَشَأ في الريف، فإن عودة الدجاج لذبحه ما كانت تحزنني أبداً) . فتشهق أمريكا كلها في لحظة واحدة.


 في رأيي، لم يخلو حديث مالكولم من صحة، لولا سندها المختلّ، فهو إنما كان يعني، أن العنف الذي كان يزرعه كينيدي بيديه في أميريكا اللاتينية وفي كوبا في خليج الخنازير، عاد ليلفّ فروعه وسيقانه حول عنق كينيدي
.
ما كان أن تقول ما قلت! يخفض الإليجا محمد رأسه معاتبا حواريه المخلص، فهو لا يريد أن يرى تلك الدهشة في عينيه، معلمه يخالف تعاليمه التي وضعها بنفسه. إلا أن جرعة الإيمان تغطّي على عقل مالكولم، فيطأطئ للمعلم ويعتذر
.
يستيقظ مالكولم في الصباح التالي على كلمتين: مالكولم محظور (من الكلام)
يقول محمد (وهذا اسم الجريدة التي نَشَرت الخبر، والتي أنشأها مالكولم بنفسه وسماها محمد يقول). ومحمد الإليجا قال أن يصمت مالكولم فصمت. وانكسر قلب الحواري.
لكي تفهموا بعد هذا العقاب على مالكولم، الصمت، فيجب أن تعرفوا أن مالكولم كان يرى أن الكلمة هي ما صنعته. ففي السجن كان أحد النزلاء، وقد شاخ في السجن، يُجبِرُ الجميع، النزلاء والحرّاس، على احترامه، فقط بتملكه للكلمة، وكان عارفاً باللغة مجيداً لاستعمالها، وكان ذلك يعجب مالكولم، ورغم ما ألصق بأمة الإسلام أنها داعية للعنف، إلا أن مالكولم كان من المؤمنين أن للكلمة أثر أبلغ في إصابة خصمك. والقصة مشهورة؛ أن مالكولم حفظ قاموس اللغة الإنجليزية عن ظهر قلب، ثم أصبح يتبحر في أصول اللغة، من لاتينية وعربية وغيرها. ثم حفظ الإنجيل منبع صياغات اللغة الإنجليزية وتراكيبها، وكان يُثقِل على ألكس في تصويبه اللغوي لمذكراته الشخصية. وكان لقدرته على دحض حجج خصومه باللغة أكثر من المنطق..كان لها الدور في بروزه على أقرانه، وتهافت وسائل الإعلام عليه، والتي كانت تعشق تصريحاته اللاذعة، وتحرص على حضور خطبه النارية. ويدرك مالكولم، تماماً، أن اللغة، ولا شيء غيرها، هي ما نقلته من أرصفة هارلم كهسلر، ليحاضر في جامعات أمريكا المرموقة، ومنبع الفكر الأمريكي، كهارفرد، وكجامعة كولومبيا. الكلمة هي من صنعت مالكولم إكس، فماذا يكون إن هو صمت؟
.
الإليجا محمد رجلٌ ذكي، بالغ الذكاء، منذ أن وضع عينه على مالكولم، أدرك أن الفتح لجماعته سيكون على يديه، وقد كان. ولكنه أدرك،
 أيضاً، ومنذ النظرة الأولى، أن يحذره؛ فقوام أمة الإسلام هو ذلك الرجل مالكوم، ولن يتعداه، فليس لأمة الإسلام شيء جاذب أكثر من شخصية مالكوم، لذا كان يرفعه ويخفضه؛ يرفعه بأن يقرّبه إليه، ويستقبله في خاصة بيته، ويخفضه بأن يأبى أن يعمده باسمٍ جديدٍ له، وظلّ، حتى خروجه من الجماعة، إكس. ليأتي من بعده الملاكم كاسيوس كلاي، والذي راهن الجميع ضده، عدا مالكولم، فظل يبث فيه الثقة والإيمان،  فيفوز بلقب بطل الوزن الثقيل، ويعمده الإليجا باسمه محمد علي. صمت وإهمال. كُسر قلب الحواري
.
ينفطر قلبه فينجلي نظره، وما كان يأبى أن يسمعه عن محبوبه المقدس صار يصمّ أذنيه، الإليجا يخالف أهم التعاليم التي خطها بيده: العفة. مالكولم يلقي طود النجاة الأخير للإليجا، الحجاب الرباني، الذي يتيح لمن هم في قداسته ما يعلو للبشر عن فهمه، كما أتى ذاك النبي
بناته، ويسرع الإليجل للتمسك بالذريعة. ولكن مالكولم ينظر إليه للمرة الأخيرة ويدرك أنه فقد قدسه
.
أعاد مالكولم على هيلي مسودة المذكرات، معلمةً بتصويباتٍ خَطَّها بالأحمر هنا وهناك، كأنه يصوب عماه، يصحح تعاميه، حماقاته، ويرجوه هيلي أن يُبقِي المسودةَ كما هي، فإنما هي مرآة لما كان يراه مالكولم، حقاً، في محبوبه. أخيرا..رضي مالكولم، الذي كان مفجوعاً من انهيار صورة المبجل وما تبعها من انهيارات في حياته من أن ينصرف نحو تصويب حياته على الورق. وهذا من حظنا، أن نراه يكتب بتخبطٍ وبعنفٍ شديدٍ تجاه الإليجا وأعوانه، وكأن الفاصل، وما يليه، مكتوبين من قبل شخصين مختلفين تماماً. لكنه يُجَمِّل خلافه مع الإليجا بحكمة بالغة قائلاً: (أظنني آمنت به أكثر مما آمن هو بنفسه

يختم مالكولم بتلك الفرصة السانحة التي أتاحتها له أخته (المنقذة له دوماً) إيلّلا بأن يذهب إلى الحج، ويهرب من تضييق الأليجا ومن معه عليه. وينشر هيلي الرسائل المتبادلة بينه ومالكولم من حجه ورحلته إلى أفريقيا كخاتمة للكتاب، وفيها تلك الدهشة الأولى لمالكولم في حجّ التمازج والتآلف بين مختلف الألوان؛ في تلك الحضرة التي تختفي فيها الفوارق إلا من أتى الله بقلب سليم. ويطوف إفريقيا ويراسل ألكس، يخبره عن ازدواجية الشخصية للرجل الأبيض، الذي يجالس القادة الأفارقة، ويبشر بإفريقيا الجديدة، بينما الرجل الأسود مستعبدٌ في أمريكا. ويخبر ألكس  بأن له رؤية جديدة سيعمل على تحقيقها عندما يعود، عملٌ يعكس التناغم الذي رآه في مكة؛ الأبيض والأسود والملون. رسالة يستبشر فيها بمستقبلٍ مشرق. ومرة أخرى، نحن القراء، وحدنا، ندرك المأساة المرتقبة، الثلاثين رصاصة التي تخترق
صدر الرجل أمام زوجته وبناته
.
أليكس هيلي يضع نهاية الرجل في مقدمة الكتاب، عن دفنه الذي حضره جمع غفير من الناس في جوٍّ من التوتر والترقب، ثم ذلك الرجل الأسطوري مقتحماً شوارع هارلم، الشيخ السوداني وحواريه، رافعاً عصاه، يخبر الجمع أن الدفن غير إسلامي، فيعيدون غسله وتكفينه ودفنه كما شرع الله.
يقول الكاتب جيمس بولدوين، رغم اختلاف آراء الناس حول مالكولم وأفكاره، لكنه وجوده كان ضرورياً في حياة الرجل الأسود؛ فقد مثل كرامته وعزته، التي فشلت في إبرازها حركة الحقوق المدنية التي عززت من الروح المسيحية المتسامحة للرجل الزنجي المكسور، فمالكولم كان ينادي، ثابتاً، بتفوق الأسود. وهذا تحديدا شيء لم يختبره الأسود في أمريكا؛ الشعور-لا بمساواته بالأبيض، بل وتفوقه عليه. وتلك الأنفة التي كان يبثها عن الاندماج بالأبيض، معززا من احساس الإكتفاء بذات الأسود، والذي ظلّ، إلى الأبد، في ذهنه ذلك التساؤل إن كان بوسعه العيش حقا دون الأبيض. ذلك الظن الذي زرعه الأبيض في نفس الزنجي، كما يقول مالكولم بطريقته الحذقة التي تجمع لهجة الشارع وحكمته وثقافته الموسوعية: "لقد خدعتم، استنكحتم، وركبتم التونسية"
You've been hade, done over, bamboozled"









No comments:

Post a Comment