Wednesday 13 April 2011

في مذهب نجلاء التوم



منذ مدة تساورني الكتابة عن منزلة الرمق، كنت أتهيب ذلك، لأن لذلك الكتاب حياة تخصه، لم أرد أن اقلق منام ذلك الكائن الغافي ، أو أن أجرح جلده اللزج الثخين بمبضعي البارد.
مذهب في كمال النحول.. دعوني اقول لكم، عندما تقلب صفحات الكتاب أو تقرأه من الخلف إلى الأمام "كما يحلو لي أحيانا" لن تحتاج إلى الحذاقة لتدرك بداهة لغتها-نجلاء- المصقولة، للفتاة حياة مع اللغة، عركتها اللغة وعركتها نجلاء اللغة، في قصائدها لا تعوزها الكلمات، ولا تدخل "اطلاقا" في متاهة اللغة (لا ، وإن أوعزت هي بذلك). كمال النحول، الكلمتان تسيران في اتجاهين متضادين ، لتطرح التساؤل" هل يسيران فعلا في اتجاه معاكس؟" لو قالت مذهب في تمام النحول ربما اختلف الامر...لكنها تقول بالكمال.
للصوفية لغة في حد ذاتها مغرية للشعراء، وقد أغوت الكثيرون نحو مصطلحاتها وتعابيرها الجاهزة. التكنيك أصبح- لن اقول مستهلكا، فالسياق لا متناهي- لكنه أصبح متوقعا predictable. نجلاء تستوعب الصوفية كتجربة وكفلسفة، أي ببعديها الذاتي والموضوعي، لتنتج تجربتها وطقسها الروحاني الخاص. وهذا ضروري في ديوانها لأنه كتابات ذاتية شديدة الخصوصية، يصعب معها استلاف تعابير قد تستدعي دلالات وسياقات مختلفة لدى القارئ. حتى لا يكون حديثي مبهما، لن تستخدم لفظة "حضرة" والكلمة لها دلالات قوية لديك أنت القارئ. حتى إذا ما استخدمت المألوف من التراكيب فهو يأتي في سياق مغاير تماما، تأمل:
قلت أطرق الجهات المنسية عليك
وإذا لم أحظ بالنسيان
أتحايل على يديك بالسهر ...والحمى (ذرة بيضاء)
مزيد من التوضيح فيما أعنيه بانتاج تجربتها الصوفية الخاصة، ستجد في الديوان ضمائر تشير إلى ذاتها (رأيتني) وكانك في متاهة ، الضمائر تعيدك إلى نقطة البداية (ذات الشاعرة)، وإذا الفت المأثورات الصوفية تجد شيئا من هذا القبيل. ستجد في الديوان صيغة الحكي الإنجيلي (وكان أن العراء رأي عريه فتصلف). في معظم القصائد ستجد صيغة النداء...وهي الأقرب إلى "المناجاة أو الدعاء"...ثم أيضا التكنيك الرائع(!) التكرار...خذ مثلا في قصيدة في مستودع الأثر... استلف 3 مقاطع:
أيها الحال
مستودع الاثر وبيت كان
في ما سبقني إليك بلحظة واحدة
في ما ولد قبلي بشهقة
في ما رأى الشمس تطلع ورايتها طالعة
في ما حفر لي الحفرة واعتبرني أخيه (عبارة ذكية)
في ما أحصى النجوم وطير القوافل وتجشم البوصلة وهيكل السفينة وصمم الفيضان وخلق الزيتون في لقطة الحمامة"
ولابد أن أنبه هنا على شيء سأعود إليه، لنجلاء احساس قوي بالريتم، تبدأ بعبارات قصيرة، تتصاعد شيئا لتصبح أكثر تعقيدا climax وتفعل ذلك في العبارة الأخيرة بأن لا تدع مجالا لوقفة أو التقاط نفس لا بفاصلة ولا بكلمة مستعصية اللفظ لتقف عندها، بل تتركك لتستمر حتى نهاية الجملة..ثم القفلة مع الفعل السريع الذي يدعوك إلى الخفوت: في لقطة الحمامة. سنعود إلى ذلك. دعونا مع التكرار والأثر الصوفي .الاقتباس الثاني من نفس القصيدة:
صعدت إلى النجاة ولم أنج.
أخبرتني زرافة أني هلكت
أخبرني الصقر أني بعينه طفلة
أخبرني الباب بخروجي
اخبرتني عتمة بخروجي
أخبرني القانون، الكائن ثم أوهامة: تفضلي.
أخبرني الصمغ أنت بلد
أخبرتني أمي في الفنجان
أخبرني أبي انت بنت
أخبرني ربي . (سكتة بارعة)
التكرار ...كالتنويم المغناطيسي، وفي الطقوس الدينية الشرقية يسمى بالمانترا، ليست ترنيمة بل شيء أشبه بالتعويذة. الاقتباس الثالث من نفس القصيدة فقط لأؤكد من رأيي:
يا اله المساكين
هل تراني..؟
يا الهي
قلبي وردية الليل
قلبي الحمامة في بحرك قلبي
قلبي نوم الظالم
قلبي لحم الخشب في ملح المحيط
قلبي تماسيح خزفي منك
قلبي خياشيمها تأكلك
يا الهي
قلبي هو قلبك
ذراعك في الموجة
ذراعك في النيزك
ذراعك في الفضة في النقش
ذراعك في دموعك إلي
وتنساني؟
اسمي نجلاء...."
انتهى الاقتباس وهذه هي قفلة القصيدة المدروسة جدا ، ولا نجتاج (والشاعرة لا تطلب منا ذلك) ان نتقصى قصة الطوفان ونوح، لأني كما ذكرت من قبل ، ستستخدم الشاعرة المألوف والعام في سياق مغاير وهو الخاص والذاتي.

قلت، للشاعرة أذن قوية جدا فيما يتعلق بالريتم. وعندما نتحدث عن الشعر الحديث وكسر عمود الشعر، فالتعويض الموسيقي يكون إما بالريتم أو موسيقى اللفظ. ضربت من قبل مثال المانترا والترنيمة عبر التكرار، وأمثلتها كثيرة في الديوان تكاد لا تخلو قصيدة منها . الأثر الثاني هو عبر الحركة الموسيقية، تبدأ القصيدة بايقاع محدد، ثم تنقلب إلى ايقاع اخر، ثم تعود لايقاع الأول. في قصيدة ذرة بيضاء مثلا، ولكن لأننا اقتبسنا منها من قبل،ساخذ نص الطعنة الأخرى. تبدأ بايقاع بطيء وكأنها تسرد لك على مهل قصة ما :
في المفازة
التي تكبر رعبها،
وتغطيه بالكائن.
في المفازة
التي
ممتدة ومغرية
بالفناء
ايقاع بطيء متمهل، يستمر كذلك نحو صفحتين أو ثلاث، ثم يبدأ في التصاعد عبر المزاج قبل الريتم
لنا أن نركع في الجهات
نتباكى وأن نسال أن نرزق برب
ندعوه بأن نفترق
ونضيع.
هذا التضرع والتجزع الذي ينتهي بالفعل المفتوح ونضيع، يفتح مجالا لتغيير عجلة الايقاع في نغم يشبه الصلاة المحمومةfervent prayer، التسابيح والهذيان:
يا اسفار الرعونة والصلف،أما اكتمل كون الظهيرة منذ صباح فاحش، أما انحشر
الال في الصدى والمدى في الجماد، لكن السماء تصم أذنيها، لكن المراة تعرج، الدمى
تتناسل، وكان أن تحول العراء كله إلى نظرة فراى عريه فتصلف. وكان لم يعشب بل
احترق شيء هو العشب ذاته في الهجرات، وما ان تحول الهواء إلى طحلب ضخم في
هيئة حكمة وتماثيل ارجوانية حتى انفقعت كثرة من الافيال ونظارة وموتى وحيض ، بل
سال شيء عظيم وشيء عظيم لم يسل ، بل بثور مائة أو تزيد (....)والشيء الذي لم
يسل راه البعض زكنت بعضهم فرأيت كنت حالما ارى ارتد وارتد وارتد.
اللعنة
الطريق تتقصع
هل تلاحظون الريتم، تمهل، تصاعد، تعقيد، ثم تكرار يوحي بالتباطؤ(أرتد وارتد) فوقفة pause مع كلمة "اللعنة".
نجلاء التوم تفخخ كل قصائدها بمشاهد ممعنة في التفصيل ، كأنها تخفي عنا السياق الذي وردت منه، وكأنه مشهد مسروق من حكاية ، خذ مثلا من "منزلة الرمق":
و أنا – في كافة الذعر- أفقر إليك من حمامة عمياء في سرة الكاهن
أو في قصيدة ذرة بيضاء:
جالسين إلى العتمة كتفا لكتف
نأكل مسامير الوقت ونتفرج على الخوف
غابة هشاب فاجأها الطلق تركض من لوحة إلى اخرى
. في (منزلة الرمق) تقلب الشاعرة احشائها على السطح، وهذه القابلية للتعرض للأذى vulnerability هي مكمن الجزالة و القوة في تعبيرها الشعري.
هل تقلق الشاعرة من غبار سيعلو كتابها لتكاسل الحركة النقدية في بلادنا وفي العالم العربي؟ هذا كتاب تتحرق لتلقفه ايد من بعد.وسيوقظون الكائن المغط في نومه


 الصورة من موقع سودانيز أنك* 

No comments:

Post a Comment