Saturday 20 September 2014

أبو الأمزان


من المسلمات عندي انو ذوقي في المزيكا فنان..فناااان... واعزي ذلك لأخي مازن من ضمن حاجات كتيرة-

ان شاء الله يوم شكرك ما يجي- وربنا يديمك فوق راسنا زي ما بقولو الشوام- ونفرح بيك قريب (عشان ماما ومي يرتاحو)

مازن وأحمد من اعز اصدقائي سندي اليمين والشمال (مي ومها ديل مثلي الأعلى في الحياة. وزي ما قالت لي اعز صحباتي انتي مشكلتك انك عاوزة تكوني مي ومها في الوقت نفسو عشان كدا طلعتي حاجة مشوهة لوول) 

بيتنا كلو عجيب، لكن خلينا نركز في مازن. طبعا مقولة مازن اعز اصحابي دي حتضحك ناس كتار من اهلنا. لأنو الشافنا في صغرنا شاف فعل الشحمة والنار، توم وجيري، كنا لا نوفر ضرا لبعض. مازن بالمقالب الكتيرة، وانا بالفتن والتوسل بمحبة أبوي ضدو.

"ريدة شنو يا حبوبة!"- دا كان ردي على حبوبة لما تقول لي دا كلو بنقلب لريدة. وبنت خالتي راوية (اللي هي نفس من حبوبة) كانت زمان بتقول لينا "ما تشوفوهم كدا بموتو في بعض"- وانا في راسي اقول الناس دي جنت ولا شنو؟

المهم طلع كلامهم صاح.. والواحد لما يفكر فيها برغم الدبابيس البغزها جيري في عين توم، ورغم محاولات توم المستميتة في اكل جيري لكن بتلقى جواها في محبة كبيرة صاح؟


وانقلبت الشحناء الى رفقة -بل ومناصرة- ضد سلطة البيت ، ومن أحب الحاجات الى قلبي لما زول يسألني "انتي اخت مازن النجومي"- ولعله لا يعلم اني مدينة له بأفضل ما في- واني اشعر بفخر كبير لما يقرا لي.

مازن -او جون كما يناديه اصحابو- خلطة عجيبة ما تقدر تخت يدك عليها. اي تصنيف تختو فيهو... غلطططط ما ياهو.. حاول مرة تانية. بسبب صمته الغامض تلقى حياتو ملفوفة بالكثير من الحكاوي لا تعرف صحيحها من خطئها- وكمان مازن ما بساعدك لا يؤكد ولا ينفي- سوى من "مشيب مافي كلام زي دا" وهي جملة مريبة!! لذا اعتدت أيام العالي لحكاوي النقائض عن مازن (ما شفتي مازن في دار المهندس عمل شنو؟)- ثم حكاية أشبه بعمايل ابو طويلة او اشكي كومار في الأفلام الهندية، او تأتي احداهن تحدثك عن استدلال مازن عن قصة تحكي جمال بنت الحسين وذؤابتي شعرها اللتان تخرجان من تحت الحجاب. مازن عصي على التصنيف

خد مثلا المزيكا: كرررو رزعوو وراب من بيت الكلاوي وريغاي لمغنين الكلوبات ودي من اهم صفات مازن (انو ما بسمع زول معروف في السوق) شفت المزيكا الأندرقراوند.. هو بمشي للتحتها. لكن في نفس الوقت تظبط اخوك بيتكلم مع اصحابو عن المزيكا العجيبة في اغنية "بنت الشلبية" لفيروز، او تلقاهو يغني مع يحيى ود عمتي "سافر...سافر...مطارات الوداع ضججججت"، او فجأة يتلفت لدي جي هندي اسمو "بالي ساقو" يقول ليك "شوف الزول دا اصلي كيف"

مازن ود السفير، اصحابو من اولاد شهادة لندن قرا معظم حياتو في مدارس انجليزية، يتحدثها بطلاقة بائنة ثم ما ان تبدا عركة يسل الحزام وتشوف العجاجة قايمة (مازن قليل الكلام- تلقاهو بديك نظرة جانبية- امتعاضة- نظرة جانبية- صمت- اخر نظرة جانبية تترجمها يا زول متأكد انك عاوز تواصل في حركاتك دي- ثم عينك ما تشوف الا النور)

مازن ود الطائف، لكنك لن تفهم الونسة الدقاقة بينه وبين سيد الدكان، او وصايا ست العشوائي ليهو- أو ألفته مع السكران البنلقاهو مبطوح في الميدان الورا بيتنا كلو صباح. 

بشيء من الطنقعة وقد اغراك مازن بصمته الجميل، تتفلقص له بالكلام وتقعره  وتنخدع بمجلات العربات في غرفته  (اول مرة اعرف بحكاية انو في مجلات للعربات) ولكنك لا تعرف مازن قارئ من الطراز الأول (الطراز الأول دا ياتو؟ دا الطراز الما محكوم بموجهات معينة) تاريخ : مهدية وحرب عالمية وامراء امويين والعقد الفريد، ادب وشعر، سياسة، اقتصاد، رواية والصحف اليومية (ديل كلهم تحت المرتبة) - لكنه يعبر عن كل ذلك بايماءة او جملة عابرة او لتسنده في مغالطة مع الشباب- او للحنك . ويمكن من مازن تعلمت تلك الروح السمحة في القراءة -اذ انه يرى قيمة في كل ما يقرأ- سواء كانت تلك القيمة تعبير جميل او زاوية شوف جديدة- او حاجة مضحكة. 

اشتاق كثيرا لونساتنا في المطبخ -طبعا مافي زول ممكن يصدق انو زول ممكن "يمثل" ليك مقال!!! (تتذكر مقال الفاتج جبرة بتاع الزول النزل انتخابات برمز اللوري ههههه هيلاريوس : اللوري بتاعي وينو؟) في المطبخ ونسة افلام وسياسة ومزيكا واحوال حلتنا وناس بيتنا وذكريات طفولة .

مازن أخوي الكبير. وكثير ما كانت صديقاتي تتأمل في تلك العلاقة الأريحية بيننا (مافي سلطة؟ مافي كبت؟) مافي.. لكن في توجيه خفي جميل. زي ما قلت ليكم هو ما كثير الكلام. هي نظرة. رفعة حاجب تعني (انتي يا ميسون؟) تجعل الواحد يخجل من روحو ويسب ويلعن. He'll make a great dad

ممكن اوقع ليكم وصف مازن كالاتي: يخرج متأنقا في الصباح الباكر لمكتبه في احدى المنظمات الأجنبية. يعود للغداء وينظر الى دخان مظاهرات بعيد. يخرج. يرجع منها مغبرا ، ثم مجددا يخرج متأنقا لحفلة. 

وهو تارة :ابو الأمزان- وتارة قاشر.
هو الذي تجده متفلتا من كل ثقيلة التزام، وتفاجأ بوجوده ثابتا عند الحارة 

قال أبي معلقا قبل اكثر من عشرة اعوام وكان لتوه قد خرج من وساطة من احدى العركات الكتييييرة التي هي سمة لشباب الوقت داك (هسي شفع الزمن دا غيتو بالجل وبناطلين السستم- زمان الغيتو نظام حياة- وست سايد ستوري) وبعد أن يئس من نصحة عن الابتعاد عن صحبة المشاكل قال "غايتو مازن دا is very loyal" الكلمة دي لصقت في راسي. الوفاء فعلا عملة نادرة. ومازن وفي لأصحابو... تمر أكثر من عشرة سنين وتتأمل في صحبته المستمرة منذ ايام مدارس الكويت، مدرسة سنجة الوسطى ،والمعادي، ومدرسة الثانوية العسكرية، والخرطوم القديمة، وأمريكا . اصحاب المشاكل والاصحاب الكويسين كلهم لسة في معية مازن. كثيرا ما تفلت مني ابتسامة اثر رؤيتي لأحد اصدقاء مازن والذين كانوا مصنفين من اصدقاء المشاكل وقد مرت عليه السنين واصبح منهمكا في ونسة عن المرا والبيت والعيال. 

مازن يكره حاجتين ويفر منهم فرار السليم من الجرب "الناس النقاقة-كان طيبين كان كعبين" و "ناس الدرامات" و "الناس أم وشين" - ولا يكلف نفسه عناء الرد على اللوم عند انقطاعه عن هؤلاء الناس. خلاص قلبو أباهم

ورغم نقة ماما وبابا حول مواصلة الأهل "ما بتمشي لبكا نسيب خال بت عمتك ليه؟" "الود دا جافي خلاص" لكن قليلون يعرفون بمعزة مازن عند الحبوبات واعمامك والخالات من اسرتي.ومعزتو عند اولاد الخؤولة واولاد العمومة وهذه الصورة تعبر عن تلك المحبة الخاصة التي كانت من حبوبتي "بكيري" لمازن ومحبته هو ليها. وقد كان من القلة التي خصهم القدر بأن يشهدو أيامها الأخيرة


Saturday 13 September 2014

دكتورة حدوتة

اول ايميل وصلني من هذه الشابة كان موقع بأسفله : صادقوا على قرار ١٨٩ج... انا بالأول افتكرتها شغالة في واحدة من المنظمات البيدمغو جوابات العاملين لديهم بشعارها. زي ايام ما كنت شغالة مع المجلس البريطاني ، كنت اذا رسلت لواحد تقول ليهو صباح الخير تلقى مكتوب بتحت انك شغال في منظمة تعمل نحو خلق مساحة للابداع وتدعم الثقافة والمعرفة وكدا. 

ثم تكشف لي الأمر شيئا فشيئا... انو دي قضية تكرس لها حدالزين وقتها وجهدها بكل حماسة. قضية : العمال المنزليين . اتفاقية منظمة العمل الدولية C189 هو خاص بخلق ظروف عمل عادلة للعمال المنزليين. وكان مشروع دراستها للحصول على درجة الدكتوراة.

قبل فترة تساءلت حدالزين عن جدوى ما تفعله (وهذه من أعراض الدكتوراة الشائعة) . كيف يعني؟؟؟ فبفضل ايميلاتها القصيرة والمركزة المليئة بالطاقة حول قضية هامة وحيوية استطاعت ان تشق بها دربا في عقلي المصكوك (نحن ناس بتاعين دولة مدنية وتنمية مستدامة و أللل أللل أللل..) الواحد بقا يعرف يمسك قضية بعينها ويرصد تشابكاتها وظلالها على السياسة والاقتصاد والاجتماع. 

أللل هي Blah blah



لذا عندما ظهرت حملات محاربة "جشع الخادمات" بقا الواحد عندو معرفة يواجه الكلام دا بدون عاطفة وهتافية غياظة. انو المسألة مسألة تنظيم وتهيئة ظروف عمل ممكنة وانسانية (دون ان تعني الانسانية فقط :وجبات الغداء الأساسية والشاي بالبسكويت والعلاج عند الدكتور)

حدالزين نالت درجة الدكتوراة عن جامعة السودان مركز ثقافة السلام وكان عنوان رسالتها العمل اللائق لعمال المنازل-المقاييس المحلية لدولة السودان. قامت فيها باستعراض الخلفية التاريخية والمعاصرة للعمل المنزلي في السودان و دراسة تفاصيل العلاقة التعاقدية لعمل المنازل و قدمت في النهاية اقتراح مراجعة وتعديل القوانين المحلية لعمل المنازل بالأخص اتفاقية منظمة العمل الدولية ١٨٩

حدالزين قضت معظم فترة الدراسة متراوحة بين اديس ابابا والخرطوم. وكان اول ما لفت نظري اليها كتابة ممتعة لها على صفحات جريدة سيتزن تتحدث عن حفل حضرته للفنان تيدي افرو وقد نجحت اخيرا فيما فشل فيه الاخرون معي : ان اسمع تيدي افرو. كانت فترة دراستها في اثيوبيا ضمن منحة تلقتها من جامعة السلام التابعة للأمم المتحدة (برنامج افريقيا) وهي اول دارس يتلقى هذه المنحة من شمال شرق افريقيا- واول امرأة كذلك. 



في حواري مع حدالزين على الايميل سألتها عن دوافع قيامها بهذه الرسالة، اذ أن قضية العمالة المنزلية (قبل الانفجار الاخير) ليست قضية شائعة بيننا السودانيين في مجال دراسات السلام وحقوق الانسان. فحكت لي عن علاقة وطيدة  وشخصية ربطت بينها وبين قضية العمالة المنزلية:

"من احنا اطفال كانت بتربطني أنا واختي علاقة وطيدة ببناتنا الشغالات، زي ألمظ الكانت بتنومنا جمبها وتلولينا بلغة غريبة عننا، او منى الكانت بتمشي المدرسة بالليل وهسي بقت ممرضة ، فاطمة اللطيفة التي الخلت الشغل ومشت تحارب في اريتريا، التومة الشفتة اللهلوبة ،وحتيتة الشايلة بيتنا وبيتا .. لكن الفتح عيوني اني مشيت هولندا للدراسة واضطريت أشتغل زي البنيات ديل وعرفت قيمة عملهن واختلاف تقييم الناس ليهم" 




ومن الدكتوراة - التي قدمت سلسلة من الاقتراحات لتنظيم العلاقة العمالية (والذي يؤكد على ضرورته الجميع :مكاتب العمل ووزارة القوى العاملة ومجتمع مدني ومشرعين ومشغلين ومشغَّلين) ، ستعمل حدالزين على تقديم مسودة للمجلس الوطني والمجلس التشريعي لولاية الخرطوم باقتراح تعديل القوانين المحلية على ضوء الإتفاقية العالمية. -وهو من انماط المناصرة المحببة الى قلبي والتي بح صوت الواحد في الكلام عنها برغم الاعتراض الكسول الذي يجده الواحد انو "دا حيفيد بشنو؟ الحكومة ما حتسوي اي حاجة" - فالكلام عن نشر الوعي لا يظن المرء انه مجرد مجموعة مقالات في الصحف او مقابلات تلفزيونية او مخاطبات جماهيرية فهو فوق هذا تنظيم حملات دؤوبة تعمل على تغيير الواقع الحالي عبر مخاطبة القوانين الحالية والتفاف الناس حول مشروع اصلاحي بديل.

بالمناسبة مشكلة حقوق العمال المنزليين دي في كل العالم ما نتحسس ساي..لكن الوعي بيها ماشي في كل العالم 


على جانب اخر تعمل على توفير مادة لعمل المناصرة وزيادة الوعي حول العمالة المنزلية. ولما سألتها عن خططها المستقبلية تحدثت عن حلمها بانشاء  مركز بحوث معني بالدراسات العمالية والمناصرة والتدريب للوظائف غير الرسمية -كعمال المنازل- يا صلاة النبي أحسن. ولكل من يعرفني ففكرة مركز كهذا تهبش حتة جوة من قلبي. (يعني جملة فيها كلمات زي: عمالية ومناصرة وغير رسمية-مبالغة!)
mmmhmm...count me in
عندما سألتها عن رأيها في الحملات التي تستهدف "جشع" العمال الأجانب ، كان ردها ما هو متوقع منها مما يثلج الصدر انه
"يا عزيزتي كيف يمكننا ان نصنف هذا او ذاك بأنه طماع ونحن نعيش في غابة من الفوضى وغياب التنظيم والتي تتيح لكل من له سلطة أن يفرض شروطه أو ان يدمغ اخر بالطمع في غياب تام للقوانين وللتنظيم وللرقابة"

 مش كدا؟ فالحملة التي تتطايرت فيها الأصابع كل طرف يتهم فيها الآخر ، والتي لن تحل مشكلة بل ستفاقمها- تحتاج ان نلتف جميعا حول تنظيم علاقة العمل لتخرج من دائرة : سيد وخادم الى موظف وموظفة يجمع بينهما تعاقد عمل يلبي احتياجات الطرفين ولا يعتمد فقط على "حسن النية" و "طيبة القلب" التي يمكن للمرء ان يخرج من طوريهما. او كما قالت حدالزين:

" بدل ما نستسلم للفوضى وننتظر التغيير يجينا ، أحسن نغير ما بأنفسنا أول نفهم يعني شنو عمل لائق ونعرف القوانين المختصة البتكفل حقوقنا وحقوق غيرنا ونبدأ نطبقها جوة بيوتنا"


وأخيرا سألتها عن الشعار اللطيف الذي اصبح واجهة لإيميلاتها والذي قام بتنفيذه اخوها الشاب النبيه "احمد" فقالت :

"اللوقو بيرمز لعامل المنزل المتعدد الوظايف (سبع صنايع...) ففي أثناء ما هو بيعمل في اشغالو دي بهمة واهتمام بالو دايما سرحان بعالم عمل لائق يكون فيه هو وشغله مقدرين ومحترمين.. عالم فيهو عدالة ومساواة في الحقوق وفي الفرص- بما فيها التعليم"


دا طرف من حواري مع دكتورة حدوتة ...الف مبروك لينا وليكي  يا دوك

Tuesday 9 September 2014

يا مهلة الصالحين

مشتاقون
عليم الله زيارتك لي في المنام فرحت بيها زي ما كنت بفرح بزيارتك زمان قبل ما تفارقينا
فْتي دنيتنا دي قبل اكتر من عشرة سنين

في البال والله. بيقولو الخلٌف ما مات، ما خلفتي من حشاك، الا خلفتي الذكرى الطيبة وسيرة صعب انها تنعاد

اذا غشيت في الصباح الباكر بيت عمي عبدالرحمن عليه رحمة الله ودخلت من بابه الصغير، تجدها قبالتك في الراكوبة على بمبر خفيض ، تسرح في لطائف الله، تفتل طرف مسيرتها وتضفرها، وهلة ثم تنتبه وترفع الكسرة عن الصاج.
ترنو اليك من فيء عينيها النجلاوين، لتسالمك سلاما قريبا وئيدا مهذبا- كذا حالها مع الصغير والكبير، مع القريب والبعيد

اذا غشيتها عند انتصاف الظهيرة. تدخل البرندة لتجدها في الاوضة على شمالك، وقد خرجت لتوها من حمامها الرائق، تطوي ثوبها بيمينها و رغم تثاقل خطوها نحو فراش القيلولة. الا أن النوم يخف اليها بسراع. وامي تقول "دي علامة صلاح. الراس سليم والقلب سليم والنفس خالية، فكيف لا يسرع اليها النوم؟"


يا سيدنا النبي.. ما رأيناك ، انما نقارب ونسدد. فقول السيدة عائشة بأنك كنت اجود من الريح المرسلة، تبيناهو في العمة زهرة. وقد خلق الله يديها للعطاء. هي امرأة تجود بكل ما فيها وكل ما لديها. وكأن كفيها مجرد معبر للغنيمة. لا شيء يبقى. ويحدث كل هذا بلطف فائق وحسن تدبير عجيب. فهي مع هذا امرأة مميزة- بكلامنا السوداني. عطاء الذوق لست الذوق. وما تعاظمها عطاء قط ولا تتلفت للسخاء (وبعضنا يتحرج من العطاء- نقول حتى نجد ما هو اهل للعطاء) فليس مثل هذه الهواجس تنتاب ذوي النفوس العظيمة الذين يستوي عندهم القرش والقرشين والالف. في عرض الدنيا الزائل هذه لا كبير ولا صغير.


يا مهلة الصالحين! مهلنا يا رب... ممهولة يا عمتي الزهرة. ويقع للمرء نظرية نسبية الزمن تماما لما يعاين ليك. كأنو الزمن يطوى لحضرتها. ما اظنني رأيتها على عجلة من أمرها قط. مهلة عجيبة. المرء يتذكر مشيتها الوئيدة في الدرب، ومع ذلك ما فات عليها يوم مواعيد الزيارة في المستشفى، ولا زارت الناس في وقت حرج ولا تأخرت عن واجب، اذكر تستيف شنطتها الممهول وما قام البص وفاتها (ولا المترو في القاهرة) ،مهلتها بين ارفف المطبخ ولا خرج غدائها متأخرا ولا ..ولا .. وتجد الواحد منا يتصربع في كلو شي ولا يحصل شيئا.


شفوقة على الناس دونما شَفَقَة، وبها شيء من شجن ملازم، وكأن فروع الحزن تتدلى قريبا في نفسها. وكأن الذين فارقوا ما بارحوها (اخوها عبدالرحمن وابنه عثمان -صغيرها، امها ستنا، اخوها الطاهر ) ، حزن لا يزعزع يقينها اننا كلنا مفارقون، لذا لا ينتابك قلق اذا ما اضطررت لتنقل اليها خبر رحيل. رحمة الله عليك يا الراكزة من مثلك؟



والكدر لا يمر على وجهها الا كما الطيف. تقطيبة سريعة لا تكاد تلمحها -الا اذا كنت شغوفا مثلي بمراقبة وجهها الصبوح. في مجالس النميمة والغيبة التي لا تخلو منها مجالس النساء يمر كل ذلك من فوقها دون ان يلامس طرف ثوبها. ما بها قدرة على الكلام الشين. لي ذكرى بعيدة لأمرأة تنسب لنفسها صلاحا تحكي لأمي عن شجار حصل وذكرت اسم عمتي في طرف الكلام، فردت امي دون حدة وكأنها تقول حقيقة لا جدال فيها ،كأن تقول الأرض كروية- قالت   :( كذابة يا فلانة. ليست زهرة من  تقول كذا وما قالت مثلها قط) فردت فلانة دونما حرج ايضا (اي والله قد كذبت).

ما هذه الحكوة؟ حدث عارض.. هل له معنى؟ لكن اردت ان اقول  انها امرأة صالحة، لكن ليس ذاك الصلاح الذي يضايقك- ايوة في صلاح بضايق- الصلاح الذي يتهم تقصيرك. هي ما كدا.. هي كانت هالة من اللطف والذوق والتهذيب الذي لا يعرف كيف يمد اصبعه متهما

تقول امي بعد ان تخرج من ونسة مع زهرة:  هذه هي ونسة زهرة النجومية: عبدو قال وعبدو فعل (عبدو حفيدها ابن ابن اخيها) وكان له محبة خاصة دونا عننا كلنا (عارف الكلام دا يا عبدالرحمن؟)، وحديث مهذب لطيف، وعالم تراه بعين الرضا- اذا انحرف لسانك بقطيعة ما في حضرتها،دون ان تحس تجدها قد شقت في درب نميمتك مجرى يجرك الى حديث طيب حول من اردت ان تغتابه.


وبرغم من مهلتك.. خروجك من ها الدنيا الزايفة كان سريعا. شكواك القليلة وصبرك المتين اغفلنا عن ما تكابدين. "ما عندك شي يا عمتي زهرة، الدكتور قال مافي حاجة" كان ذلك قبل فترة من رحيلك. الا من خبر طبعك- بابا- وتربى عليه. هاتف من السودان ينبئه بأنك متوجعة، فينزعج والدي ويتكدر "افعلوا كذا وافعلوا لها ذاك... هي لا تشتكي" ثم يخرج عن طوره "الأن ليس لها ولدا؟".. كنا قد استغربنا ضيق والدي...ذهبوا بها الى الخرطوم وعادوا وبعد أيام جاءه هاتف اخر ينبئه برحيلها. كان والدي في المكتب. ينهار. يرعف رعافا ثقيلا، اقلق شاب سوداني عليك: دعني اوصلك يا عم محمد! -لا لا داعي. لكن الفجيعة التي لم تخفى على احد تجبره ان يقود سيارته خلف سيارة ابي حتى يطمئن الى وصوله الى البيت. لا زلت اذكر قميص والدي ملطخا بالدماء.


جلسنا ثلاثتنا نتنادم بسيرتها.انا ومها وصفية "لاحظتي في أيامها الأخيرة، كانت تطيل النظر في اوجهنا ؟" "وكأنها تودع" . ثم ندم عارم على غفلتنا عن وجعها المكتوم. صمت. بعدها برزت فكرة ان نتنسم سيرتها وان نقتفي أثرها. الواحد يعيش في هذه الحياة كما عاشتها زهرة. لكن كيف عاشت؟ سرها شنو؟ تركتهم يصوبون اسهم ظنهم "الطيبة؟ طيييبة كان صاح؟" "لا ما الطيبة بس.. الحنية؟ حنييينة؟" "في ناس حنان كتار ..في حاجة تانية.. خشمها عندها بس الله يقدرنا على خشمنا"  "المواصلة، مواصلتها للناس؟" كانت الأسهم تطيش عن سرها. قلت -وقد فرغت من عملية تأمل روحي عميق (يسميه البعض ايضا غسيل العدة)- "اجمل ما كان في عمتي زهرة انها ما بتحسسك انك متلوم ، كانت تجد عذرا للكل، تخرج من عندها خفيفا محبا لنفسك ظانا بها الخير، تزورها بعد انقطاع وغفلة فتحس انك سيد الواجب وسيد المحنة ورب العطاء "


اقول لكم هناك ثقل في عمل الخير. ثقل الشكر، والشعور بالامتنان، رد الجميل، الشعور بالتقصير مقابل البذل.


الصالح هو من يغنيك عن كل هذا


لا نزكيك على الله.. انما نقول بما نعرف. من كحل عينه برؤياها سيقول اني والله ما زدت عليها.. من عرفها سيقول : ما قلتي شيئا


ادعو لها بالرحمة. فوالله انك لتدعون لروح طيبة زكية. وبما اعرفه من كرمها ابشركم بأنها سترد التحية بأحسن منها











Wednesday 3 September 2014

خواء حمور زيادة وبديعه

(الإشارة في العنوان إلى اسم قصتين وردتا بمجموعته الأولى :سيرة امدرمانية، كانتا معنونتان: خواء ، والاخرى كان اسمها: بديع آخر الزمان)

هناك ونسة لطيفة ننجر إليها دوما أنا والكاتب حمور زيادة حول فن كتابة الرواية. وكنت في بادىء الأمر أتخذ موقفا مغايرا لرؤيته. فحمور يرى ان على كاتب الرواية أن يظل مخلصا إلى "الحدوتة"، فما من شيء يحرك الإنسان تجاه الرواية "كالفضول" بتفاصيل القصة : من فعل ماذا لمن؟ ويرى أن هذا كان العامل الأكثر جاذبية في كتابات الطيب صالح، التفاته لتلك التفاصيل الدقيقة (ولعل جدل : من هو مصطفى سعيد حقيقة؟ وهل هو الطيب صالح نفسه؟ لدليل بيّن على ذلك) ، بينما كان موقفي المغاير في أن القارىء دوما يريد شيئا اضافيا- الفضول وحده لا يكفي، الامر يتمثل لي ك "بونس" -حاجة فوق البيعة.

ليست الرسالة!!! هذا أمر نتفق فيه أنا وحمور تماما. كلانا يمقت سؤال "ما هي الرسالة خلف الرواية"، وأرى إن كان لا بد من هذا فليكن بمحض الصدفة.

الخلاف عندي يتمثل في مقولة ت.س.اليوت عندما شاهد المناظر المتحركة على شاشة السينما (لن يعود الشعر شعرا بعد اليوم). فالرواية أخذت منحنى حادا بعد اختراع السينما والتلفاز فخرجت من دائرة صندوق الحكايا الى فن آخر تماما.

لكن بالتدقيق أكثر لما كان يلفتني إليه حمور أصبح لدي تقدير أكبر لفنيات وتقنيات الحدوتة- وهي امر ما هين بتاتا!! وليس من هو أعلم بمضنى كتابة الحدوتة كمن حاولها بنفسه- تجربة روائية فاشلة لكاتبة هذه الأسطر- ولعل هذا يفسر هروب الكثيرين بالرواية نحو التداعي الذاتي أو كما علق برنارد شو في بعض كتاباته انها عبارة عن "ابواق" لآرائه . في تجربتيه الأوليين : سيرة امدرمانية (مجموعة قصصية) ورواية (الكونج) كان تقديري نابعا عن براعة الكاتب في الفرار من السقطات التي تواجه الكاتب في اولى تجاربه: انفلات السرد عن يده، وعدم اتساق شخصيات الرواية. فحمور استطاع ان يضبط السرد من ان ينفلت نحو ما لا لازم له ، فهو لم يسقط في فخ غواية اللغة والتأمل وبالتالي لم يقحم شخصيات الرواية في ما لا يلائمها. 
لم يغب عني بعض ما اشرت اليه في الرواية من غلبة المحرك الخارجي للسرد بمعنى ان العقدة تستعين بمعين خارجي. واشرت الى ايثار الراوي للسلامة في اختيار مكان٬آمن ومغلق للرواية تقل فيه التغيرات (كقرية الكونج)

لكن منطقة التوافق بيني وبين حمور كانت فيما يسمى بالرواية التاريخية. وهي الحدوتة التي تدور داخل ظرف تاريخي وتتفاعل بمكوناتها وفي الوقت نفسه تتفاعل بعناصر وعوامل التوثيق التاريخي. وفي رأيي انها من اصعب الكتابات. 

وكانت قد لفتت نظري قصة: الخواء التي وردت في مجموعة سيرة امدرمانية. ولحمور قدرة بديعة في التعامل مع التاريخ في السرد. ويعرف هذا عن حمور من كان يتابع كتاباته في سودانيز اون لاين- فحمور حاضر الذهن عند الكتابة عن التاريخ- وهي خاصية نادرة قلما يجدها المرء- لذا يتحرك في ثناياه بحرية كاملة من كل مناحيه. وليس هناك تفصيل هامشي في قراءته للتاريخ فكل حدث مهما كان صغيرا له دلالته ويخضع لتحليل ما عنده. 
واعتقد ان هذه المزية بالذات ما جعلت كتابته في التاريخ متميزة. في قصة الخواء وهي قصة مؤثرة حول اللحظات الأخيرة لسقوط مدينة امدرمان المهدية. نجد مقاتلا يواجه اصعب ما يمكن ان يواجه : لا الهزيمة- ذاك أمر هين- ولكن : الخواء بعد ان تفقد الايمان.  
"القبة كانت تلوح من بعيد بلا رأس، الثغرة في اعلاها كانت كفم مفغور دهشة مما أصابها" - الخواء

في رواية بديع اخر الزمان، تتبدى أزمة الأفندي -المثقف- الأزلية ، ما بين السلامة رغم المعرفة، وبين اتباع المعرفة وما يجره ذلك على المرء- هكذا تبدت لي القصة. مثقفون يقولون ولا يفعلون ويعيشون بالسلامة على هامش الحياة. وبديع اخر الزمان الذي يعرف ويتبع ويجرب وينزلق في مهاوي التجربة والمعرفة.

في رواية شوق الدرويش،  هناك نضج واضح في التعامل مع العناصر التاريخية وتوظيفها في الحبكة - اصبح هناك انتقاء للأحداث -حيث نلحظ في قصة الخواء كان هناك حرص على سلامة التوثيق التاريخي مما اثر على سير القصة ولغتها. وأنا لدي رأي ان اذا بدأ الراوي بداية صحيحة فكل الأشياء تقع في محلها : لغة السرد- الشخصيات- تسلسل الحبكة- الحوار. بل وحتى الحكي عن الرواية بعد نهايتها -فقد قرأت حوارات تجلى فيها حمور زيادة وهو يحكي عنها بمتعة تضاهي السرد

تتشابك خيوط الحدوتة الممتعة بحق، بين عدة شخصيات: بخيت منديل، حواء-ثيودورا اسيرة المهدية- الحسن الجريفاوي المجاهد النبيل. يلتقيان في فترة حرجة من التاريخ -فترة سقوط الدولة المهدية وانسحابها. هنا استغل حمور فضوله في التاريخ ليستدرج فضولنا نحو الحبكة.  هناك حرفنة حقيقية في الطريقة التي بها تتكشف تفاصيل الحبكة، حرفنة في اختيار الشخصيات التي تحرك السرد (محرك داخلي) حرفنة في الحوارات ذات الدلالة العميقة بين الشخصيات.
والمرء تتخطفه اثناء القراءة التفاصيل التاريخية، وحبكة الحدوتة و اللغة المحكمة للحوار .

كما قلت: هناك نضج واضح وقد احببت الرواية

مثل هذه الروايات مهمة جدا، اذ أنها تمنح التوثيق التاريخي بعدا جديدا، برغم ثراء هذه الحقبة بكتابات "السيرة" و الروايات الشفاهية لكن هذه الروايات أشبه بتجميع لهذه التفاصيل التاريخية في بناء واحد مما يحفز خيال المرء في تخيل الحياة داخل ذلك الظرف التاريخي المحدد. اعتقد ان أي تحليل تاريخي لا يجد اكتمالا دون مثل هذه الروايات.

اتمنى ان تثير الرواية الضجة التي هي أهل للضجة من بين فرق القراءات التاريخية المختلفة، بين مؤيدي ومعارضي المهدية، وجدل فن الرواية القديم. فهي تستاهل

النصيحة؟ انصح بهذه الرواية تماما للمكتبة السودانية. من حسن الطالع انها الان بمعرض الخرطوم الدولي  بجناح الهيئة العامة للكتاب وقد تبقى خمسة ايام على انقضاء المعرض