Tuesday 9 September 2014

يا مهلة الصالحين

مشتاقون
عليم الله زيارتك لي في المنام فرحت بيها زي ما كنت بفرح بزيارتك زمان قبل ما تفارقينا
فْتي دنيتنا دي قبل اكتر من عشرة سنين

في البال والله. بيقولو الخلٌف ما مات، ما خلفتي من حشاك، الا خلفتي الذكرى الطيبة وسيرة صعب انها تنعاد

اذا غشيت في الصباح الباكر بيت عمي عبدالرحمن عليه رحمة الله ودخلت من بابه الصغير، تجدها قبالتك في الراكوبة على بمبر خفيض ، تسرح في لطائف الله، تفتل طرف مسيرتها وتضفرها، وهلة ثم تنتبه وترفع الكسرة عن الصاج.
ترنو اليك من فيء عينيها النجلاوين، لتسالمك سلاما قريبا وئيدا مهذبا- كذا حالها مع الصغير والكبير، مع القريب والبعيد

اذا غشيتها عند انتصاف الظهيرة. تدخل البرندة لتجدها في الاوضة على شمالك، وقد خرجت لتوها من حمامها الرائق، تطوي ثوبها بيمينها و رغم تثاقل خطوها نحو فراش القيلولة. الا أن النوم يخف اليها بسراع. وامي تقول "دي علامة صلاح. الراس سليم والقلب سليم والنفس خالية، فكيف لا يسرع اليها النوم؟"


يا سيدنا النبي.. ما رأيناك ، انما نقارب ونسدد. فقول السيدة عائشة بأنك كنت اجود من الريح المرسلة، تبيناهو في العمة زهرة. وقد خلق الله يديها للعطاء. هي امرأة تجود بكل ما فيها وكل ما لديها. وكأن كفيها مجرد معبر للغنيمة. لا شيء يبقى. ويحدث كل هذا بلطف فائق وحسن تدبير عجيب. فهي مع هذا امرأة مميزة- بكلامنا السوداني. عطاء الذوق لست الذوق. وما تعاظمها عطاء قط ولا تتلفت للسخاء (وبعضنا يتحرج من العطاء- نقول حتى نجد ما هو اهل للعطاء) فليس مثل هذه الهواجس تنتاب ذوي النفوس العظيمة الذين يستوي عندهم القرش والقرشين والالف. في عرض الدنيا الزائل هذه لا كبير ولا صغير.


يا مهلة الصالحين! مهلنا يا رب... ممهولة يا عمتي الزهرة. ويقع للمرء نظرية نسبية الزمن تماما لما يعاين ليك. كأنو الزمن يطوى لحضرتها. ما اظنني رأيتها على عجلة من أمرها قط. مهلة عجيبة. المرء يتذكر مشيتها الوئيدة في الدرب، ومع ذلك ما فات عليها يوم مواعيد الزيارة في المستشفى، ولا زارت الناس في وقت حرج ولا تأخرت عن واجب، اذكر تستيف شنطتها الممهول وما قام البص وفاتها (ولا المترو في القاهرة) ،مهلتها بين ارفف المطبخ ولا خرج غدائها متأخرا ولا ..ولا .. وتجد الواحد منا يتصربع في كلو شي ولا يحصل شيئا.


شفوقة على الناس دونما شَفَقَة، وبها شيء من شجن ملازم، وكأن فروع الحزن تتدلى قريبا في نفسها. وكأن الذين فارقوا ما بارحوها (اخوها عبدالرحمن وابنه عثمان -صغيرها، امها ستنا، اخوها الطاهر ) ، حزن لا يزعزع يقينها اننا كلنا مفارقون، لذا لا ينتابك قلق اذا ما اضطررت لتنقل اليها خبر رحيل. رحمة الله عليك يا الراكزة من مثلك؟



والكدر لا يمر على وجهها الا كما الطيف. تقطيبة سريعة لا تكاد تلمحها -الا اذا كنت شغوفا مثلي بمراقبة وجهها الصبوح. في مجالس النميمة والغيبة التي لا تخلو منها مجالس النساء يمر كل ذلك من فوقها دون ان يلامس طرف ثوبها. ما بها قدرة على الكلام الشين. لي ذكرى بعيدة لأمرأة تنسب لنفسها صلاحا تحكي لأمي عن شجار حصل وذكرت اسم عمتي في طرف الكلام، فردت امي دون حدة وكأنها تقول حقيقة لا جدال فيها ،كأن تقول الأرض كروية- قالت   :( كذابة يا فلانة. ليست زهرة من  تقول كذا وما قالت مثلها قط) فردت فلانة دونما حرج ايضا (اي والله قد كذبت).

ما هذه الحكوة؟ حدث عارض.. هل له معنى؟ لكن اردت ان اقول  انها امرأة صالحة، لكن ليس ذاك الصلاح الذي يضايقك- ايوة في صلاح بضايق- الصلاح الذي يتهم تقصيرك. هي ما كدا.. هي كانت هالة من اللطف والذوق والتهذيب الذي لا يعرف كيف يمد اصبعه متهما

تقول امي بعد ان تخرج من ونسة مع زهرة:  هذه هي ونسة زهرة النجومية: عبدو قال وعبدو فعل (عبدو حفيدها ابن ابن اخيها) وكان له محبة خاصة دونا عننا كلنا (عارف الكلام دا يا عبدالرحمن؟)، وحديث مهذب لطيف، وعالم تراه بعين الرضا- اذا انحرف لسانك بقطيعة ما في حضرتها،دون ان تحس تجدها قد شقت في درب نميمتك مجرى يجرك الى حديث طيب حول من اردت ان تغتابه.


وبرغم من مهلتك.. خروجك من ها الدنيا الزايفة كان سريعا. شكواك القليلة وصبرك المتين اغفلنا عن ما تكابدين. "ما عندك شي يا عمتي زهرة، الدكتور قال مافي حاجة" كان ذلك قبل فترة من رحيلك. الا من خبر طبعك- بابا- وتربى عليه. هاتف من السودان ينبئه بأنك متوجعة، فينزعج والدي ويتكدر "افعلوا كذا وافعلوا لها ذاك... هي لا تشتكي" ثم يخرج عن طوره "الأن ليس لها ولدا؟".. كنا قد استغربنا ضيق والدي...ذهبوا بها الى الخرطوم وعادوا وبعد أيام جاءه هاتف اخر ينبئه برحيلها. كان والدي في المكتب. ينهار. يرعف رعافا ثقيلا، اقلق شاب سوداني عليك: دعني اوصلك يا عم محمد! -لا لا داعي. لكن الفجيعة التي لم تخفى على احد تجبره ان يقود سيارته خلف سيارة ابي حتى يطمئن الى وصوله الى البيت. لا زلت اذكر قميص والدي ملطخا بالدماء.


جلسنا ثلاثتنا نتنادم بسيرتها.انا ومها وصفية "لاحظتي في أيامها الأخيرة، كانت تطيل النظر في اوجهنا ؟" "وكأنها تودع" . ثم ندم عارم على غفلتنا عن وجعها المكتوم. صمت. بعدها برزت فكرة ان نتنسم سيرتها وان نقتفي أثرها. الواحد يعيش في هذه الحياة كما عاشتها زهرة. لكن كيف عاشت؟ سرها شنو؟ تركتهم يصوبون اسهم ظنهم "الطيبة؟ طيييبة كان صاح؟" "لا ما الطيبة بس.. الحنية؟ حنييينة؟" "في ناس حنان كتار ..في حاجة تانية.. خشمها عندها بس الله يقدرنا على خشمنا"  "المواصلة، مواصلتها للناس؟" كانت الأسهم تطيش عن سرها. قلت -وقد فرغت من عملية تأمل روحي عميق (يسميه البعض ايضا غسيل العدة)- "اجمل ما كان في عمتي زهرة انها ما بتحسسك انك متلوم ، كانت تجد عذرا للكل، تخرج من عندها خفيفا محبا لنفسك ظانا بها الخير، تزورها بعد انقطاع وغفلة فتحس انك سيد الواجب وسيد المحنة ورب العطاء "


اقول لكم هناك ثقل في عمل الخير. ثقل الشكر، والشعور بالامتنان، رد الجميل، الشعور بالتقصير مقابل البذل.


الصالح هو من يغنيك عن كل هذا


لا نزكيك على الله.. انما نقول بما نعرف. من كحل عينه برؤياها سيقول اني والله ما زدت عليها.. من عرفها سيقول : ما قلتي شيئا


ادعو لها بالرحمة. فوالله انك لتدعون لروح طيبة زكية. وبما اعرفه من كرمها ابشركم بأنها سترد التحية بأحسن منها











No comments:

Post a Comment