Tuesday 22 January 2013

كن خطيرا

                         
مفبركة – مشكوك فيها- مختلقة- مفتراة- دعاية- كذب صراح – صورة بلد اخر في مكان اخر ..الى اخرها من الكلمات التي بها اتجنب سؤال : ( والان وقد علمت، ماذا انت فاعلة؟) ، كلما طالعت صورة تشير إلى ويلات الحرب في غرب بلادنا، وجنوبها، كلما قرأت خبرا لناشط سياسي أو حقوقي عن ما تعرض له من تعذيب. وحالي لا يختلف عن حال امرأة أمريكية قبل خمسين سنة تطالع صورا في صحيفة أو تقرأ خبرا عن ويلات الحرب والفظائع التي ترتكبها بلادها ضد قوم عزل في قرى فيتنام.  بالضبط حالنا مطابق لحال معظم الأمريكيين في ستينات القرن الماضي، وهم ينكرون ويسدون اذانهم عن ما يصلهم من شهادات الحرب. ليس محبة في الوطن..ليس بالضرورة...بل هروبا من ذواتهم، من ثخن الجلد وتبلد الروح .
حين أطالع تلك الصور وأقرأ تلك الاخبار ، أزن نسبة الصدق والكذب فيها بالخمسين في المائة ، كي أفر فرارا إلى الخمسين التي لا تطالبني أن افعل شيئا، الخمسين التي تلزمني جانب السلامة والنجاة.
لكني حين أطالع تلك الصورة ، تلك السيدة التي تحتضن ابنها في كهف، تطالع السماء خوفا ورعبا، يسري في دمي رعب طفيف خفيف بالكاد أحسه، لوهلة أراني تلك السيدة أحتضن ابني الصغير أطالع السماء ، أراني حبيسة في صورة عبرت مئات الأميال كي تحرك قلبا ما في مكان ما، وأرى سيدة مثلي تطالع الصورة، وأنا هناك في الصورة أستصرخها في صمت، وهي تفكر فيما إذا كنت حقيقة أو وهما أو فبركة..وانا استصرخها "لكنني هنا...هذا الرعب حقيقة..هذا البؤس حقيقة..هذا الموت حقيـ..." وتقلب السيدة الصفحة.
يا الله...هذا الاحتمال الطفيف ...يرعبني
  جو الرخامة القومي العام الذي نعيشه الان..عاشته أمريكا في الستينيات عندما شنت حربها على فيتنام، ولزم الناس جانب السلامة، جانب الخمسين في المائة من الشك في ما يتوارد إليهم من أخبار "غير رسمية". لكن كان هناك رجال ونساء خطيرون... خطيرون حقا..قرروا..يا سادة... أن يعبروا إلى جانب الخمسين في المائة من ترجيح احتمال التصديق و لو لمرة   . أحد هؤلاء الرجال يدعى "دانيال ايلزبيرق" وقد نعت في زمانه "بأخطر رجل في أمريكا" ، هو الرجل الذي سرب أوراق البنتاقون التي كانت تؤرخ لبداية الحرب الكذبة في فيتنام. كان دانيال شابا لامعا، يعمل محللا استراتيجيا في الاستخبارات العسكرية الأمريكية . في الثامنة والعشرين من عمره كان يملك الدنيا، وظيفة مرموقة ، تعليم رفيع، مرتب عالي، والنفوذ.
 
عندما التحق دانيال بعمله كمحلل استراتيجي كانت الحرب في فيتنام تسير على قدم وساق، فشارك فيها بكل حماسة وانضم إلى الصفوف الأمامية للجيش الأمريكي كمجند، وهناك بدا رحلة  تصديق ما كان يشاع عن فظائع بلاده.                                  
كان وحده! وقرر أن يكون خطيرا بأن يوقظ أمريكا من سباتها ، أن يعينها على عبور خط الشك. أجمل ما في قصة دانيال التي وثقها فيلم "اخطر رجل في امريكا" هي مثابرة هذا الرجل ومن تأثر به في فتح أعين الناس. يبدأ بادئ الامر في تسريب أجزاء من التقرير إلى صحيفة نيويورك تايمز، التي تدرك خطورة الأمر وتخصص فريق كامل من الصحفيين لمتابعة نشر أوراق البنتاغون. ومن شدة خوفهم من أن يقطع مهمتهم رجال السلطة نقلوا مكاتبهم إلى مكان سري ليتابعوا عملهم. تمكنت السلطة التنفيذية بالحصول على أمر قضائي بوقف نشر الأوراق بحجة أنها تهدد الامن القومي. وتتوقف التايمز عن نشر الصحيفة. فيتصل دانيال بصحيفة الواشنطن بوست التي تبدي استعداد كاملا لنشر سلسلة الأوراق مع علمها أن أمرا قضائيا ينتظرها فور بدئها بالنشر (مبالغة شبه شديد لحالنا ، مش؟) . وبالفعل يتم ايقاف الصحيفة من متابعة نشر السلسلة، فيتصل دانيال بالصحف المحلية وصحف الدرجة الثانية، فأصبحت الصحف هنا وهناك تنشر مقتطفات من التقرير.
وانتاب دانيال قلق من أن لا يتسنى له نشر الحقيقة وأن تصل إليه أيادي الاستخبارات التي تضيق الحصار عليه، يتصل بكذا عضو في الكونغرس ويسرب إليهم نسخ من التقرير. ولكن الخوف كان يتملك الجميع في تلك الأيام. فسكتوا ولزموا جانب السلامة. فيتصل دانيال بنائب صغير في الكونغرس من ولاية الاسكا، وهي ولاية قليلة النفوذ، وكان الرجل أيضا خطيرا، فهو كان ممن مالوا نحو تصديق ما يشاع عن خطأ بلادهم في الحرب، وكان "وحده" يعارض تمديد قانون التجنيد الإلزامي التي رمت بالشباب في أتون الحرب، ولما بدا له أن الأمر في البرلمان سيسير على غير ما يشتهي ، يبدأ حملة "فيليبستر" ....والفيليبستر هو تقليد برلماني غربي جميل وعريق يصل حتى أول برلمان في أثينا ابان الحضارة الإغريقية، وهي حيلة يبتدعها نائب البرلمان في أن يقود جدلا طويلا جدا حول مقترح قانون معروض للتصويت، وبهذه الإطالة يماجج ويحاجج ويعطل تمرير القانون حتى يسأم النواب من التصويت لتمريره.
كان "مايك قرافيل" يقود فيليبسترا يوميا يعارض فيه أمر التجنيد الإلزامي، فيعرض عليه دانيال أن يقرأ أوراق البنتاغون ضمن فيليبستره. فيوافق مايك ويعلن نيته أن يقرأ التقرير ضمن فيليبستره، فيعارضه البرلمانيون بأن الأوراق ليس لها علاقة بموضوع قانون التجنيد. لكن مايك الخطير لا يستسلم; يبتدع حيلة جديدة، فقد كان هو أيضا رئيس لجنة متابعة مشاريع البناء والتشيد بالبرلمان، يطلب من صديق له يعمل في احدى المشاريع أن يشهد بأن الصرف على حرب فيتنام أثر على الصرف على مشاريع البناء الحيوية(!!! تخيلوا (، ويستخدم مايك هذه الشهادة ليصرح ب"أن أولوية الصرف من الأفضل أن توجه لمشاريع البناء من الصرف على حرب عقيمة، والدليل على أنها عقيمة الاتي...." ويشرع في قراءة اوراق البنتاغون المحملة في صناديق ثقيلة، يقرأ أمام لجنة البناء العمارة التي تتكون من شخصه (وحسب) وأمام مجموعة من الصحفيين قام بدعوتهم لحضور جلسته. يقرا لثلاث ساعات متواصله حتى يصيبه الإعياء، يقرأ ما  يثقل عليه فيبكي من الأسى أمام شاشات الكاميرا على كذبة بلاده. وبعد أن يقرأ يصيح للجنة التي تتكون من شخصه: انا أنادي بأن تعتمد هذه الأوراق ضمن سجلات لجنة البناء بالبرلمان، هل من معترض؟" يسائل نفسه ويجيب "لا معترض! إذا تعتمد الأوراق!" ويضرب بالمطرقة وتعتمد أوراق البنتاغون كوثائق برلمانية رسمية!!! متاحة للعامة وتخرج عن دائرة السرية. الباقي نعرفه عن حرب فيتنام والنهاية المخزية/ المشرفة التي انتهت عليها. مخزية لأهل السلطة والنفوذ ، مشرفة لكل من وقفوا في وجه صلف السلطة.
 
سأعود إلى أمرنا بعد أن أعرج على هذا الأمر، في أثناء معركة أوراق البنتاغون ، يتم القبض على دانيال ايلزبيرق ومحاكمته بتهمة التجسس وتهديد الأمن القومي (هي! زينا واحد) و عند اختيار هيئة المحلفين، اجتمع محاموا ايلزبيرق حول من يجب اختيارهم من بين المحلفين للمحاكمة، فاتفقوا على أن يختاروا شبابا في مقتبل عمرهم، وأن لا يختاروا رجالا في منتصف العمر لأنهم بلا شك مر عليهم موقف كموقف ايلزبيرق اضطروا أن يختاروا فيه بين ضميرهم وبين سلامتهم ، فأختاروا السلامة- بعكس دانيال الذي ضحى بمستقبله المرموق وباستقراره الاسري من أجل ضميره. أولئك الذين لن تفارق المرارة أفواههم ما حيوا ولن يستطيعوا الهروب طويلا من وجوههم أمام المرآة.
 
المطلوب: أن ننتقل من السلامة إلى الخطورة، نحن مكلفون ومسئولون عن ما يجري حولنا، ركوننا إلى السلامة لن يعفينا من الحساب. المطلوب أن لا نركن إلى السلامة والطمأنينة التي تبثها السلطة بقولها أن ما يجري هو كذب وغير حادث فنصم اذاننا فرحين مكذبين. المطلوب ان نركن إلى الخطورة وأن نسائل السلطة أن نتحقق بأنفسنا عما يجري في جنوب كردفان، في معسكرات النازحين في دارفور، نريد لجنة تحقيق نختارها –نحن- تنقل لنا ما يجري هناك. نريد أن يفتح الباب لمراسلي صحفنا في التواجد هناك ونقل ما يرونه كما هو لتحقيق الأمن القومي ..إذ ما الأمن القومي؟ هل هي طائرات حربية تحلق في الأجواء ؟هل هي استنفار على الكباري والطرقات؟ هل هي طوارئ وحظر تجوال؟ هل حالة التوجس والخوف التي نعيشها كل يوم هي أمنا؟ قوميا؟ أم أن الضمير الهانئ المعلي من الحق المستكين إلى العدالة هي الامن القومي؟
المطلوب؟ يقول النبي عليه السلام: "ومن لم يستطع فبقلبه" ذا أمرنا وذا تكليفنا في تغيير المنكر. فلنغير حالة قلوبنا من السلامة المصدقة إلى خطر التشكيك، فإن ورد خبر نفته السلطة; لا تأمن إليه حتى تستبين بنفسك. قل : ((حتى تنقل لنا صور وأخبار الطمأنينة والسلامة من من نتوسم فيهم الحيدة والحق من صحافتنا ومن منظماتنا الحقوقية الوطنية التي نختار...فلا أمان تصديق...بل خطورة الشك)).


9 comments:

  1. مؤلمة أنت يا ميسون بفصاحتك المحببه
    أتاريهم في أمريكا مناضلين بحق و حقيقة
    و الديمقراطية تصنع و لا توهب !!

    سلم يراعك

    ReplyDelete
  2. حاجة غريبة جدا في وجه الشبه بين امريكا والسودان!!

    ReplyDelete
  3. بالجد الموضوع بيننا و بين أنفسنا أولا! نحن بنقلب الصفحة و احيانا ما بنقيف قدامها نتساءل زاتو. كان الله في العون. شكرا ميسون

    ReplyDelete
  4. افهم ان يقول بهذا من حد انتشار انواع الظلم في بلادنا من وعيهم لكن ان يدعو "مثقفينا الثوريين" الي قيام لجنة تحقيق لتساعدهم في ايقاظ ضمائرهم لتتجاوز تبني خط الحكومة الدعائي في انكار معاناة شعبنا الذي قتل منه حتى الان ثلاثة ملايين و نصف خلال الاربعة و العشرين عاما الماضية انكار ويلات الحروب المعروفة بديهة لكل ذي عقل اذا لا يسعني الا ان اقول لك الله يا شعب

    ReplyDelete
  5. جميلة بطعم الاسى

    ReplyDelete
  6. روري..لست أدري من الذي تعنيه بالمثقفين الثوريين..فأنا لست منهم
    أنا من مناصري النضال السلمي
    ولعل قليل يعرف أنه يتم على اربعة مراحل
    أولى هذه الخطوات هي التوثيق.. والمقصد من التوثيق: أن تبين الظلم بائنا لا يتخفى خلف أي حجة..الحكومة الان تتخفى خلف الحجج، اما بالعدوان المسلح، أو تكذيب كل ما يرد

    ReplyDelete
  7. جميل جدا و هادف و لكن في إعتقادي نصيب كبير من الأزمة يكمن في أننا كسودانيين من الصعوبة إن لم يكن مستحيلا أن نتحلى بشجاعة الإتفاق حتى يصبح من الممكن لضمير متكلمين واحد أن يعبر عنا

    ReplyDelete
  8. المطلوب: أن ننتقل من السلامة إلى الخطورة، نحن مكلفون ومسئولون عن ما يجري حولنا، ركوننا إلى السلامة لن يعفينا من الحساب.

    ReplyDelete
  9. كالعادة جيدة في تحديد المشكل وتوضيح الخلل وايراد الحل وكتابة عالية اللغة واسلوب رائع معك الله بالصحة ورانا يوما تكوني فيه علي قيادة البلد وليس ذلك بكثير عليك

    ReplyDelete