Tuesday 22 January 2013

نمرة 12

                        
                           "يا مجنونة يا كورة"!
قبل فترة وأنا أتصفح مدونة الصديق الفنان والكاتب طلال ناير، لفت نظري نعي أفرده للاعب الكرة النيجيري المشهور "رشيدي يقيني"، مات وحيدا مهملا في شقته في بلدة معزولة عن أهله وأصحابه. وقد أحزنني الخبر أيما حزن، وجر معه قاطرة من الذكريات لزمن جميل. (كل الأزمان ليها جمالها )
كان كأس العالم للعام 1998، يومها تكدسنا أمام التلفزيون القومي (ما قبل احتكار الفضائيات الخاصة) ونحن نهتف ملء الحناجر لفريق نيجيريا في مباراته أمام بلغاريا، ساعتها لم نكن نهتف لفريق نفضله فحسب...كنا نهتف ضد الامبريالية، ضد الكولونالية الحديثة  وشايلين لسة من جراحات الاستعمار القديم.(ولو إنو بلغاريا ما استعمار خاالص..يحليلها) هتفنا للقارة السوداء...هتفنا للأنسانية المسحوقة... هتفنا لتخطي العقبات وتحدي المستحيل.... للتمريرة البديعة من فيندي جورج...يستلمها رشيدي يقيني (الحائط الرشيق) يتقدم ويتقدم ويتقدم...ويسدد...و قووووووون.... ودخل رشيدي في الشبكة وحضنها ورفع يدينه ابتهالا لله.....بكينا طبعا...نان من الصباح بحكي ليكم في شنو؟ الانسانية المسحوقة وكدا. صديق لأسرتي أخبرني فيما بعد أن ابنته اللطيفة "يقين" مسماة على تلك اللحظة المعجزة.
ياااااه....الكلام دا كان قبل زمن....في وقت كانت كرة القدم أشبه بالحلم، بالأساطير ...كرة القدم كانت ملحمة، بأبطال مجهولين بيظهروا في اللحظة الأخيرة لإنقاذ الموقف، بفرسان برزوا من قاع المجتمع ليكونوا من نجومه، من نيازك لمعت ثم هوت وانطفأت وأكلها النسيان...كانت قصة.  دا ما قبل هجمة شركات الاستثمار الكبرى على الأندية الرياضية، وعلى الاعلام الرياضي واعلامييه وعلى لعيبة كرة القدم وعلى قصصهم وعلى ملاعبهم وملابسهم وتسريحة شعرهم، وعلى الفيفا... وأصبحنا نتابع أخبار كرة القدم على الشريط الأخباري في التلفزيون كما نتابع أخبار البورصة...النادي الفرتكاني اشترى عقد اللاعب الفلاني ودفع خلو رجل للنادي الأولاني. اللاعب العلاني سعره نزل في السوق فاشتراه النادي داك من باب التوفير. وكان زمان عقد اللاعب مع النادي كما العهد المقدس لا يفض إلا بتقاعد اللاعب، وكانت الولاءات للأندية مقدسة لا تستبدل ولا تنتهي. فالان بدلا من لحظات ذهبية يسجلها اللاعب بقلبه وروحه، اصبح اللاعب يلعب بماهية وفقا لمتطلبات الوظيفة term of reference
تابعتم انتقال هيثم مصطفى إلى المريخ؟ حالات الاغماء وسط الجماهير...و الحيرة ...واحساس الخيانة؟ الجمهور الكروي هو القطاع الوحيد الذي لم يفقد شيئا بعد من رومانسية الملحمة، هو الذي لم تستطع الشركات الاستثمارية من الاستيلاء عليه بالكامل...صحيح بتقوم باستغلاله ، بيلبس فنيلة الفريق بلوقو الشركة، كما علق رسام الكاريكاتير الأمريكي الأشهر "ريتشارد كرومب":  "لقد اصبحنا عبارة عن يافطات اعلان متحركة للشركات الكبرى". لكنها لم تستطع السيطرة عليه بالكامل. ما زال الجمهور يشجع بحنق فريقه الكحيان، ويتوعده ويهدده بالهجران، ثم يعود إليه باكيا راجيا الغفران، مسترجعا عذب الذكريات محفزا للزمان أن يرجع يا زمان كما تقول السيدة أم كلثوم.
"نمرة 12" أحد أفلام الدورة الثانية لورشة صناعة الأفلام – سودان فيلم فاكتوري، الفيلم لفت نظري وانتباهي، تحديدا حركة الكاميرا الناضجة بالنسبة لتجربة أولى. دونا عن كل الأفلام الأخرى في الدورة الأولى والثانية فإن هذا الوصف هو الأليق لهذا الفيلم...النضج. الفيلم كان يسير في تراك/مسار مخطط له بعناية ودقة بدءا من الفكرة، والشخصية الملائمة للفكرة،و السيناريو، التنفيذ مشتملا مواقع تصوير، واللقطات، وحركة الكاميرا التي كما قلت، تعرف تماما ماذا تريد، ولعل هذا ما افتقدته الأفلام الأخرى ، بيد أن كل واحدة من أفلام الورشة كانت تحمل مزية تخصها. الفيلم يستعرض قصة مشجع هلالابي على السكين، عن محبته لنادي الهلال، وعن تكوينه لما يعرف بالألتراس هلال، وعنوان الفيلم البسيط لكنه يحمل دلالات كثيرة يقوم المشجع بشرحها أثناء الفيلم من خلال رؤيته لنفسه كعنصر أساسي لفريق كرة القدم.
في فيلم أخر من أفلام الورشة "رف كت"، قام برصد أحداث ورشة صناعة السينما، شاهدت مدرب الورشة يحاول أن يوجه المتدربين في عملية اختيار الفيلم، وذكرني ذلك بتدريبي الأول في الإذاعة، كيف كانت تمزق سيناريوهات تقاريرنا الإذاعية العظيمة بلا رحمة...كانت عظيمة إذ أنها تحمل أفكارا عظيمة وسامية..فكان المدرب يهز كتفيه باستخفاف قائلا...أنا لا أريد سموا! ولا أفكارا عظيمة لتبحثوا لها عن أحداث واقعية تجاريها...أريد أحداثا واقعية صادقة...وستتولد الأفكار السامية بنفسها من تلك اللحظات الصادقة
بس! لهذا السبب تحديدا أنا حبيت الفيلم وحبيت شخصية الفيلم، لأنه بعيدا عن الكرة ...الفيلم كان بيوثق لحالة عشق، passion وكان ذلك بالتحديد أكثر ما شدني للفيلم، في خضم اليومي والمستهلك والنافق–disposable في بلادي، يظهر هذا الفتى، يجابه كل ذلك بعشق لأمر قد نراه تافها، إلا أن العشق وهو الدائم، والثابت والأصيل، فإن العشق في حد ذاته هو مجابهة للاستهلاكية والهشاشة المستفحلة في الوطن.
تلك اللحظة البديعة التي التقطتها الكاميرا وقد تركت المشجع يسترسل وهو يسرد وقائع مباراة الترجي التونسي قبالة فريقه، تعابير وجهه تتلذذ بوصف ذلك الهدف الأول، المتعة والبهجة تطل من عينه وبسمته وكأن اللحظة طازجة استطاع  أن يخرجها بعناية من ثلاجة ذاكرته، ثم يأخذه الحكي على غرة منه ليستذكر هدف التعادل لفريق الترجي، ثم هدف الفوز ، ثم توالي الأهداف وتكدسها إلى ستة، وأظنه عند وصوله للهدف الرابع تخنقه "عبرة" حرى وصادقة، تلمس في قلبك وترا، ولو لم يكن لك أي عشق كروي...فالعشق هو العشق كرويا كان أم غيره، تعرف فيه لحظات الحسرة والخيبة والفقدان ...والأمل أيضا.
هنا تكمن العبقرية المخبأة في الفيلم، ذلك التواصل، ال click كما يقول الخواجات، ذلك الرصد لحالة رهافة انسانية في سياق غير متوقع. مشجع كرة؟ من كان يظن.


No comments:

Post a Comment