Tuesday 22 January 2013

الخروج من محنة المدارس الاستثمارية

طيب، قلنا نخرج من محنة المدارس الاستثمارية عبر مشروع شراكة متين بين المدرسة والمجتمع المحلي ومجلس اباء قوي، وتكون وزارة التربية والتعليم هي المراقب والمشرف على العملية التعليمية والتربوية. وذلك بأن ندفع المدرسة لكي تكون وحدة تعليمية شبه مستقلة عن الوزارة . في الوقت الحالي ما نعنيه بالاستقلالية، هو الاستقلالية المالية وإلى حد ما الاستقلالية في تنفيذ المنهج المدرسي.لكن الشيء الذي سينال الحظوة هو "تحسين وتطوير البيئة المدرسية" وهو أمر لو تعلمون عظيم، وهو قلب العملية التربوية والتعليمية، البيئة المدرسية دي أهم من تطوير المنهج، أو تحسين المرافق المدرسية ، أعني تطوير المناخ الذي يحقق أهداف الخطة التربوية والأكاديمية، من أنشطة مدرسية ومن توفير بيئة صحية تخلق لدى التلميذ فضولا للتعلم وللمعرفة، وتحتضن مواهبه وتهيئة لمواجهة العالم الخارجي.
المشروع الذي عكفنا عليه أنا وسلافة الأمين ومحمد أبوبكر ومجاهد وعلياء مبارك. هو مشروع يتعرف على أربعة شركاء أصليين، وهم: ادارة المدرسة، مجلس اباء، المجتمع المحلي(الحلة أو المربوع التي توجد فيه المدرسة) و كيان الطلاب.
 
نبدأ بإدارة المدرسة: سيتم استهداف ادارة مدرسة بعدة ورش وبرامج تدريبية في الادارة المالية ، ضبط الميزانية، اقامة دراسات جدوى، استقطاب الدعم المادي للمدرسة، كتابة المشاريع، استغلال الموارد المتاحة رصد مواطن القصور وأفضل الطرق لمعالجتها. أي باختصار فإن ادارة المدرسة ستهيأ لها الظروف كي تتمكن من أن تخاطب جهات الدعم  من منظمات مجتمع مدني أو مؤسسات خيرية، أو القيام ببرامج شراكة ومشاريع استثمار مؤقت تدر عليها دعما لإثراء البيئة المدرسية. سيتم ربط المدرسة بعدة شبكات لاستقطاب الدعم وتعريفها على منظمات المجتمع المدني.
 
من جانب اخر، سيتم تدريب ادارة المدرسة على اليات ادارة الحوار وفض النزاع كي تتمكن من التحاور مع شركائها الجدد (مجلس الاباء- المجتمع المحلي – كيان الطلاب)
 
قبل أن أفصل حول ما سيتم تقديمه للشركاء الأخرين، لا بد أن أشرح عن سبب اختيارنا لفكرة الشراكة التي لم تأتي اعتباطا، فقبل أن يكونوا شركاءا فهم أهم مورد ومصدر لإثراء البيئة المدرسية ولدفع المسيرة التربوية والتعليمية قدما. وهو مورد لا يتم استغلاله في الغالب رغم أهميته. ومن المهم أن يوضعوا في مقام "الشريك" كي تضمن استمرارية مساهمتهم في دعم المدرسة.
 
وفكرة الشراكة بين اسر التلاميذ و المجتمع المحلي هي فلسفة قامت بتبنيها أنظمة الدول في العالم الأول مؤخرا، لأنهم وجدوا ان المدرسة هي أحد القنوات الهامة لتمرير سياسات الدولة وللتنوير بها، كالحملات الصحية، أو حملات ترشيد استهلاك الطاقة، أو حتى انذارات الكوارث الطبيعية (!!)، بل وحتى في التذكير بالحملات الانتخابية.  فعبر المدرسة يمكنهم الوصول إلى شريحة عظمى من المجتمع، وما أحوجنا نحن بذلك خاصة وأن غالبية السكان في السودان هم من الأطفال والشباب. وفكرة الشراكة هي فكرة لا بد أن تنتبه لها منظمات المجتمع المدني النشطة العاملة في مجال الصحة الأسرية أو حقوق الطفل أو برامج التوعية والتنوير، فإذا ما استطعنا أن نجعل المدرسة هي الرابط الحيوي والمتين بين أسر التلاميذ و"المجتمع المحلي المحيط" للمدرسة، تخيل مدى سهولة انزال البرامج أو تدفق المعلومات بشكل منظم لأعداد منتظمة من البشر.
 
المقصود بالمجتمع المحلي كما ذكرت هو "المربوع" أو "الفريق" أو "الحلة" التي توجد بها المدرسة وليس التقسيم الإداري..يعني ليس المقصود هو "المحلية"، بيد أن المحلية يمكن أن تكون مساهم فاعل في هذه الشراكة. أي أعني بذلك : مسجد الحلة، المركز الصحي في الحلة، نقطة الشرطة، النادي الإجتماعي أو الرياضي في الحلة، فريق كرة القدم بالحلة، البقالة، الحداد، النجار....الخ. كل هؤلاء بوسعهم أن يكونوا رافدا مهما لإثراء البيئة المدرسية، وبوسع المدرسة أن تكون رافدا مهما في انعاش الحياة الإجتماعية والاقتصادية في الحلة.
كيف؟ أفضل أن أشرح بالأمثلة. سأطرح خمسة فيها ملامح من هذه الشراكة أكره أن اشرحها بشكل تقريري
 
المثال الأول: قلت أن المدرسة شبة مستقلة عن الوزارة في طريقة تنفيذها للمنهج الأكاديمي والتربوي. أي ان المدرسة تقوم باستيعاب ما تريده الوزارة من الطالب في كل مرحلة مدرسية وتقوم المدرسة بتنفيذه حسبما تراه مناسبا (قياسا على خلفية الطلبة الموجودين لديها، وعلى الفرص المتاحة والأمكانيات) . ما يحدث الان هو ان المدرسة تلتزم باكمال المقرر الأكاديمي لا "الغرض" منه. أي أن المدرسة ملتزمة باكمال كتاب "مسكننا" للصف الثالث الابتدائي، لا "الغرض" من تدريس مثل هذا الكتاب (وأحسب أن الغرض هو تعريف الطلبة على التنوع الثقافي بين البشر وكيف يظهر هذا التنوع في الملبس والمسكن..الخ) ومثل هذا "الغرض" يمكن توضيحه بطرق شتى، وليس فقط عبر اجلاس الطلبة أمام السبورة و"كر" الكتاب أمامهم. دعوني لا أطيل. وأدلف إلى المثال. تقوم المدرسة بتنفيذ المنهج الأكاديمي عبر "برامج" متعددة. وهذه الفكرة رأيتها اثناء اقامتي في استراليا ، بدلا من التزام طريقة واحدة في انزال المنهج المدرسي، يتم تنفيذها عبر برامج متنوعة بالتعاقد مع شركاء مختلفين، وبذلك يضمنون توسعا أكبر في انزال المنهج وعدم تململ الطلبة.
مثلا التربية الرياضية "قد" تفرض الوزارة على المدارس تقديم حصة رياضة اسبوعية ثابتة للطلبة. بدلا من التعاقد مع استاذ تربية رياضية يقدم حركات مكررة رياضية كل اسبوع، تقوم المدرسة بالتعاقد لمدة شهرين مع فريق الحلة لكرة القدم، بتقديم حصة كرة قدم اسبوعية للتلاميذ، يعلمونهم شيئا عن رياضة الكرة ومهاراتها الملحقة، بطبيعة الحال المنفعة متبادلة، فريق الحلة يجد مكسبا ماديا يدعم به وجوده والمدرسة تكسب برنامجا رياضيا حيويا. ولمدة شهرين بعدها تتعاقد مع نقطة الشرطة لتقديم تمارين احماء لمدة شهرين وهكذا، ولن تعدم المدرسة الوسيلة ولا الحيلة. قس على ذلك برنامج موسيقي من أحد فناني الحي، أو دروس نجارة خفيفة...الخ
المثال الثاني: هو حول أشكال الاستثمار المشترك بين المدرسة والحي: في احد المدارس فإن العيادة المدرسية هي أيضا مركز صحي نسوي، تشارك فيه أمهات الطلبة و نساء الحي في حلقات توعية صحية اسبوعية، حول التغذية السليمة، وحملات التطعيم، والتوعية الصحية، والنظافة الشخصية والصحة النفسية، بل وتنطلق من العيادة حملات صحية في الحي. تخيل مركزا صحيا في المدرسة يكون شراكة بين المدرسة والحي، يعمل فيه طبيب من ابناء الحي، يعالج أبناء الحلة بمبلغ رمزي، ويكون طبيب المدرسة ، مقابل المكان والعائد المادي الذي يعود عليه، اما تمويل المركز؟ تخيل مركزا تنطلق منه حملات توعية صحية تستطيع الوصول إلى فئة مقدرة ونشطة مثل أمهات الطلبة ونساء الحي...لن يعدم ما يؤسسه من امكانيات من قبل المنظمات التي تنهك نفسها لكي تصل إلى فئات هي المجتمع تتواجد بشكل عشوائي. فكرة العيادة المدرسية هي القناة المناسبة لتنفيذ حملات توعية صحية نشطة ومستمرة.
 

المثال الثالث: قلنا أن تطوير البيئة المدرسية أهم من حشك الطالب بمعلومات أكاديمية تحيل الطالب إلى حمار يحمل أسفارا، كما ذكرت في مقال سابق فإن محاولة المدرسة حشو الطالب بأكبر قدر من المعلومات هو أمر غير مجدي بل إنه عقيم!! فالعلم أصبح يتطور بسرعة مخيفة، فما تعرفه اليوم يتبدل غدا، ويعجز أي منهج مدرسي عن متابعة التدفق الهائل واليومي للمعلومات، كل ما يجب على المدرسة القيام به، هو تمليك الطالب القدرة على الاستنباط والاستناج واستغلال المعلومة، والأهم من ذلك زرع النهم للمعرفة فيه. والباب نحو ذلك سهل ومفتوح، ويحتاج إلى ذهن متفتح يدرك أن الكون كله والعالم من حولنا هو مجال حيوي للتعلم والمعرفة.
تعاقدت مدرسة ابني مع احدى نساء الحي تقيم مشروعا لتربية الدواجن، لديها "فقاسة" في منزلها، فقامت باحضارها إلى المدرسة، وكان الطلاب يتابعون في فضول عملية فقس البيض وخروج الصوص ، تبعت تلك العملية البسيطة سيل من الأسئلة والفضول حول ولادة الكائنات الحية وخروجها للحياة...هو ما قلت النهم للمعرفة
 
المثال الرابع: في دول العالم المتقدم، التي تتبني مشروع الشراكة بين المجتمع والمدرسة، فإن عمليات الصيانة والبناء المدرسي، تتم بالتعاقد مع الموردين المحليين: نجار الحلة، حداد الحلة، بناء الحلة، مغلق الحلة، مشتل الحلة، بل وحتى بقالة الحلة...خلق مثل هذه العلاقة المستمرة والموثقة والمتينة، تتيح للمدرسة الحصول على فرص تعاقد أفضل على المدى الطويل بدل من البحث عن السعر الأفضل والأسرع خارج الحلة، ليس هذا فحسب، فإن هذه التجارات الصغيرة ستحرص على استمرار المدرسة عندما تصبح أهم زبون لديها.
المثال الخامس: يتم تدريب مجلس الأباء على منهج للحوار وفض النزاعات ومراقبة الميزانية (كي يتسنى لهم التحاور مع الإدارة حول منصرفات المدرسة، الكثيرون يظنون أن المال المتدفق على المدرسة هو حق ادارة المدرسة تتصرف فيه كما تشاء، لا ! عزيزي المواطن والمواطنة، المال من حقك...وحقك في أن تراقب كيف يصرف) وسيتم الاستفادة من مجلس الأباء في العديد من المشاريع. معظم من لديهم ابناء يدرسون في بلاد الفرنجة يعرفون أن مجلس الأباء يقوم بعدة مشروعات تطوعية وحيوية للمساهمة في المدرسة، مثلا، بعض الاباء يتبرع بساعة من وقتهم صباح كل يوم أو بعد الدوام لمساعدة الطلاب في قطع الشارع العام. بعض الاباء يشارك في مجموعات القراءة أثناء اليوم المدرسي، بعض الأباء يتقاسمون نوبات بيع الافطار المدرسي ، بعض الاباء يشاركون في يوم لشتل المدرسة، كل الاباء ينتهزون فترة الانتخابات وتحول المدرسة إلى مركز اقتراع كي يبيعوا الحلوى والبارد ليعود ريع ذلك إلى المدرسة.
 
أختم فقد أطلت عليكم، ليس هذا المشروع بديل لواجب الدولة تجاه المدارس، بل هو أكثر من ذلك ، هو ادخال شركاء مهمين في العملية التربوية ، يراقبون عمل وزارة التربية والتعليم ويضعونها في موضع المساءلة والمحاسبة تجاة كل ما تقدمه لمدرسة ابنائهم،وقد كانت توكل هذه المهمة لإدارة المدرسة وحدها.
حتى وإن قامت الدولة – بمعجزة ما- بصرف فوق ال30  المائة (كما نرجو) تجاه التعليم (بعد أن تضحي بنثريات ضباط الأمن) فإن مثل هذا المشروع يظل هاما ولازما.
ما حكيت ليكم عن محنة الست كوثر المعلمة بالصف الأول؟ لازم احكي ليكم عنها في المقالة الجاية




 


No comments:

Post a Comment