Wednesday 30 January 2013

قانون ما قبل موت الأطفال.

ما زالت قوانيننا هنا في السودان ذات طابع ردعي وعقابي penal بمعنى أنها تنتظر حدوث الجريمة لتعاقب الجاني فتأمل أن تكون في العقوبة منعا للمعتدي من تكرارها وأن تكون في نفس الوقت أمثولة يتعظ بها الأخرون. إلا أنه في العديد من بلدان العالم الأول، وجدوا أن هناك بعض الجرائم لا يكفي معها وجود قانون عقابي، وذلك أن في مجرد حدوثها ضرر لا يمكن تلافيه ولا معالجته. من ضمن هذه الجرائم هي جريمة الإعتداء على الأطفال. فالأثر الذي تتركه جريمة الإعتداء على الطفل تظل مؤثرة في حياته وماثلة بشكل عميق بحيث تصبح فكرة معاقبة الجاني عبثية مقارنة بالضرر الذي يسببه الجاني.  لذا كان وضع قانون "وقائي" يقيم ضوابط كثيرة يمنع حدوث الجريمة من أصلها. ويسمى في العديد من البلدان : قانون (حماية) الطفل.
الدهشة التي أجدها في وجوه الكثيرين عند قراءتهم لخبر اعتداء أستاذ جنسيا على طفل، أو اعتداء سائق الترحيل، أو شيخ خلوة، أو عم الطفل أو خاله، أو الجار أو السيد الدكان تؤكد على شيء واحد، أن هناك جهل عميق من المجتمع تجاه فهم جريمة الإعتداء على الطفل. وهو جهل أصبح لا عذر له وتساءل عنه الدولة خاصة وقد ورد على لسان أحد مسئوليها (وزير التعليم بولاية الخرطوم) ووصفها بأنها (ظاهرة) ، رغم أنه في بلاد الغرب يسمونها (وباء) وفي التسميتن يتضح اختلاف عمل الدول عندنا وعندهم، فبينما الوصف الأول يعطي ايحاء (ظاهرة من ظواهر الكون لا يد للإنسان فيها) نجد التسمية الثانية تلقي بشيء من مسئولية المكافحة والمعالجة على عاتق الدولة..لكننا لن ندقق كثيرا في التسمية .
قلت أن هناك جهلا بفهم ظاهرة الاعتداء على طفل عندما أجد دهشة الناس من "المعتدي"  ذات نفسه، فالإعتداء على الطفل لأنها جريمة خطيرة تجد استهجانا مباشرا من المجتمع ليست كأي جريمة أخرى كإغتصاب امرأة أو قتل رجل اخر حيث يمكن تبرير الجريمة بأن المرحوم كان غلطان وإلقاء شيء من اللوم على الضحية، إلا أن جريمة الإعتداء على طفل لا تجد لها أي مبرر فالضحية بريئة بريئة! لا تجد لها تبريرا على الإطلاق (بإستثناء ذلك القاضي الشنيع البشع الذي لم يجد في نفسه غضاضة ولا حرجا أن يواجه طفلة في الثالثة عشرة من عمرها ويحملها شيئا من مسئولية الاعتداء الجنسي عليها..يحدث هذا عندنا في السودان...ربي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا). فلأن الجريمة شنيعة، يحرص المعتدي أبدا على أن لا يفتضح، وكي لا يفتضح لا بد أن تكون هناك علاقة ثقة بينه وبين الطفل، وبينه وبين أسرته، تتيح له فرصة الإنفراد بالطفل، وتتيح له ضمان سكوته.  ونجد علاقة الثقة هذه في ذلك الشخص المألوف الذي تبتعد عنه الشبهات عادة، كالمعلم، كرجل الدين، كالطبيب، كالقريب، كالجار، كالشرطي. فعلاقة الثقة هذه هي المدخل الوحيد للإعتداء على الطفل...المدخل الوحيد ..هل وضح تأكيدي هذا؟ أؤكده لأن الناس تفضل أن ترى المعتدي هو مدمن المخدرات أو مجرم محترف أو العزابي الذي يسكن وحيدا منعزلا في غرفته... وفرصة هؤلاء في الانفراد بالطفل أضعف من فرصة اهل الثقة الذين ذكرتهم. أؤكد مرة أخيرة..لا بد للمعتدي من مدخل على الطفل..هذا المدخل هو عامل الثقة!
وهذه الجريمة الشنيعة المرضية، لا تنتج عن مرض نفسي متجذر واضح..اي أنها لا تصلح معها اختبارات نفسية (كما رأت وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم)، فوفق دراسات أقيمت في البلدان التي تأخذ هذا الأمر على محمل الجد، كثيرون من المعتدين هم أرباب أسر محبوبين من أطفالهم، أو هم من أولئك الذين لم يرتكبوا جريمة في حياتهم ولم يتعاطوا مخدرا أو مهلوسا، أو هم من أولئك الذين لم يخبروا اي اعتداء في حياتهم أو في طفولتهم! فالإعتداء قد ينتج من ظرف نفسي عارض بسبب ضغط حياتي طارئ، كأن يفقد أحدهم وظيفته ومصدر دخله، كأن يكون المعتدي يعاني في حياته الخاصة من ضغوط أسرية، كأن يحس بالإضطهاد...وقد لا يكون لأي سبب من هذه الأسباب، فقد يكون فقط بسبب إغواء الجريمة ، قد يجد المرء فرصة سانحة وجاهزة للاعتداء على طفل دون أن يكشف أمره فيفعلها..وهذا معروف لدينا...بل معروف لدينا في الفقه الشرعي ..أليست من شروط اقامة الحد على السارق أن لا يكون المال مكشوفا مغريا بالسرقة..نعم! هناك اغواء الجريمة!
أنا لا أريد أن أدعو إلى قيام مجتمع تشوبه الريبة والشكوك، خاصة وأن المجتمع السوداني هو مجتمع قائم على علاقات الثقة المتبادلة بين أفراده، فلا تجد في ثقافتنا وصولات الأمانة أو عقود التعامل، وجزء كبير من تماسك الأسره هي علاقات الثقة المتبادلة...إلا أن اهمال الدولة لظاهرة الإعتداء على الأطفال ستكون لها عواقب وخيمة على علاقات الثقة المتبادله هذه. وهناك عدة تدابير لا بد للدولة من أن تقوم بها لدعم قيام مجتمع صحي. أهمها هي وضع قانون يمنع وقوع الجريمة من أصلها!
ملامح القانون:
هناك حديث كثير من قبل منظماتنا السودانية العاملة في مجال حماية الطفل  حول تعريف الاعتداء الجنسي على الطفل وتوسيع مفهومه وعدم الاكتفاء بتعريفه كعملية الأعتداء المباشر بل أن تتعداه إلى أن يكون تعريض الطفل للألفاظ الجنسية الجارحة، أو تفريجه على مشاهد أو صور جنسية من ضمن الاعتداء الجنسي على الطفل. والشكر الف شكر لمنظماتنا الوطنية الواعية لهذه الخطوة في توسيع مفهوم الاعتداء على الطفل...فما لا يعرفه الجاهلون بطبيعة الإعتداء الجنسي أنه أيضا يحدث على مراحل، وأن كل مرحلة تؤدي إلى أخرى، تعريض الطفل لرؤية مشاهد جنسية، أو اشراكه في القاء نكت بذيئة تؤدي لمناداة الطفل للقيام بعمليات جنسية طفيفة (حرص وزير التربية والتعليم بولاية الخرطوم أن يؤكد على تسميتها بالتحرش) والتحرش يؤدي بدوره إلى الاعتداء، فجريمة الاعتداء على الطفل هي جريمة تصاعدية، وذلك وفق دراسات أقامتها الدول التي تأخذ أمر الاعتداء على الطفل على محمل الجد، فلم تجد الدراسات أن هناك مدير مدرسة احترف وتخصص في  "التحرش الجنسي" طوالة عشرين سنة  من عمله مثلا..فالتحرش يؤدي إلى الاغتصاب الكامل..رغم أن الطفل لا يفرق بين العملية الجنسية الكاملة ولا الناقصة فالأثر مدمر في كلا الحالتين!
توسيع مفهوم الاعتداء مفهوم مهم جدا لأنها كما قلنا جريمة تصاعدية الصغير منها يؤدي إلى الكبير. وبالمناسبة أنا أحببت أن أقول "اعتداء" لأن الضرب اعتداء أيضا على الطفل، والسماح بثقافة جلد الأطفال في المدارس بالمسطرة على أيديهم تفسح المجال بضربهم بخراطيم المياه وسيور الكهرباء وتسبيب العاهات الجسدية والنفسية لهم...لكن عموما أتفهم ميلان المجتمع للاهتمام أكثر بظاهرة الاعتداء الجنسي على الطفل.
كي نستطيع أن نضع قانونا لحماية الطفل لا بد من عدة ضوابط، هذه الضوابط تفرض على كل من لهم علاقة مباشرة بالطفل. واحدة منها هي "تصريح العمل مع الطفل" وهو تصريح يخرج من وزارة الداخلية يقول بأن هذا الشخص مؤهل للعمل مع الأطفال حيث أنه لم يتورط من قبل في أي جريمة قد تسمح بتورطه بجريمة اعتداء على طفل (كجريمة اغتصاب لا كمخالفة مرورية) . في نفس الوقت عند استخراج هذا التصريح يكون هناك ملفا لدى وزارة الداخلية لهذا الشخص العامل مع الأطفال، بحيث أنه من إن تحدث جريمة تدون في ملفه، ولا يسمح لأي مدرسة أو مستشفى أو نادي أو أي مؤسسة تعمل مع أطفال أن تقوم بتعيين هذا الشخص في أي عمل يتطلب تداخلا مباشرا مع الأطفال أو يعطيه الفرصة بالتعامل معهم.  هذا الملف هو بمثابة "الداتا بيس" للدولة حول العاملين مع الأطفال كالأساتذة، كسواق الترحيل، كشيخ الخلوة، كالمدرب في نادي السباحة في نادي الضباط، كالمقاول لبناء فصول بالمدرسة العالمية العربية، كالأخصائي النفسي، كطبيب الأطفال، كالمتطوعين في مجال الأطفال كالعاملين بالملاهي والحدائق العامة، كالحاوي في المناسبات العامة واعياد الميلاد...الخ والأمثلة كثيرة.
الملمح الثاني من هذا القانون هو توزيع المسئولية القانونية لحماية الطفل على كل من له علاقة عمل مباشرة مع الطفل...كإدارة المدرسة، كالمعلم في الفصل، كإدارة النادي، كمدرب النادي، كوالدي الطفل وأسرته أو من يتولاه بالرعاية، كإدارة المستشفى أو العيادة، كالطبيب المباشر كالبقالة التي تبيع الحلوى ، كسيد الدكان..وكل من يقع تحت عمله تعامل مباشر مع طفل فهو مسئول مسئولية مباشره عن رعايته وحمايته وهي معروفة في القانون بإسم (مسئولية الرعاية) Duty of care .
الملمح الثالث له علاقة بالملمح الثاني هو التبليغ الإجباري، فمجتمعنا مجتمع محافظ، وجريمة الاعتداء على الأطفال ليست جديدة على الإطلاق! لا داعي للمراوغة...فاعتداء المدرسين على التلاميذ قديم جدا، أو العاملين بالمنزل، أو سيد الدكان، أو شيخ الخلوة، أو أحد الأقارب...لكن هي جرائم اثرنا التكتم عليها حماية للنسيج الاجتماعي وحماية للطفل من معرة (ليس هو طرف فيها بأي حال من الاحوال) ، لكن لم يعد هذا صالحا في أيامنا هذه، مع ضغوط الحياة الاقتصادية المستمرة وغياب الرقابة الأسرية الجماعية المباشرة على الطفل وتعدد أماكن التعامل المباشر مع الطفل (كالأندية الرياضية والحدائق العامة والملاهي ورياض الأطفال والترحيل المدرسي) أصبح التكتم على الجريمة هو اعطائها رخصة كي تتكرر بشكل مهول في المجتمع. لا بد لكل من يرى عملية اعتداء على طفل أن يقوم بالإبلاغ الفوري عنها أو فإنه يقع تحت طائلة التستر على جريمة الإعتداء. ولأن مجتمعنا السوداني ليس وحده المجتمع المحافظ ، ومثل قانون التبليغ الإجباري قد يخلق مجتمعا تسوده الريبة والشك والإتهام بالباطل، فإن هناك ضوابط تقام وورشات تدريب تقدم لكل من تقع عليه مسئولية التبليغ الأجباري. فالطبيب الذي يرى اثار اعتداء جنسي على طفل عليه واجب ابلاغ الاسرة وواجب ابلاغ الجهات الرسمية المختصة، والاستاذ الذي يرى استاذا اخر أو مدير ينفرد لساعات طويلة مع طفل اخر دون مبرر عليه ابلاغ ادارة المدرسة وعليه أن يطالب اداره المدرسة بأن تقدم تبريرا لهذا الانفراد وإذا لم تفعل أن يذهب إلى الجهات الرسمية المختصة.
الجهات الرسمية المختصة من هي...هي إدارة كما أتصور يتم افتراعها بالشراكة بين وزارة الداخلية ووزارة الرعاية الاجتماعية، تسمى إدارة حماية الطفل لها سلطة قانونية تخولها في التعامل الحساس والمحترف مع  الاطفال وأسرهم ومع المشتبه به في التعدي، وهذه الإدارة هي حلقة الوصل الحساسة التي تستطيع أن تمنع الجريمة وفي نفس الوقت لها القدرة على حماية نسيج المجتمع من تفشي الريبة والشك فيه.
ثم هناك حملة التوعية الشاملة بحماية أطفالنا من الاعتداء الجنسي وحول مفهوم الاعتداء الجنسي الذي تتوزع مسئوليته أيضا على الدولة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات العاملة في مجال الطفل....حملة لا بد أن توضع خطتها شراكة بين كافة الأطراف ، يأتي في بالي "الخط الساخن" الذي افترعته الولاية  قبل ثلاث أعوام مضت للإبلاغ عن اي اشتباه في اختطاف طفل او الإعتداء عليه، الفكرة في حد ذاتها مقدرة لكنها تشبه خطة إدارة المرور بتركيب رادارات الكترونية على طرقات ليست بها أي اشارات مرورية لتنظيم المرور ولا يافطات تضع حد أقصى للسرعة فإنت غالبا بتكون ماشي وما عندك أي فكرة إنك بتكون ارتكبت ياتو مخالفة مرورية. قبل الكاميرات الالكترونية بالشيء الفلاني ضع علامات مرورية تنظم السرعة والسير، قبل الخط الساخن بالشي الفلاني لا بد من حملة توعية توضح الإبلاغ عن ماذا. غايتو
ألا هل بلغت ؟ اللهم فأشهد


3 comments:

  1. بلّغتى وزيادة ، فقط اود ان اضيف قصة الدكتور الذى اختاره الرئيس الراحل جعفر نميرى وزيرا واعتذربحجة ان السودانيين سوف يسترجعون ... فى الابتدائى وانا افضل عليها كلمة الاعتداء الذى وقع عليه وهو طفل بالابتدائى وحرم السودان آنذاك من كفاءة كان يمكن ان تقدم الكثير وليس هذا المغزى من هذه القصة ولا من الاذى الذى يمكن ان تلحقه بأسرته عند نبشها وانما ان يصبح الاعتداء اداة ابتزاز يتم رعايتها من وقت باكر حتى يصبح الطفل فى موقع الوزير ليرغمه الاعتداء القديم تمرير سياسات ضارة بالمصلحة العامة ، اخشى ان تكون عملية الاعتداء على الاطفال فعلا ممنهجا لفئة مجرمة داخل المجتمع تتحكم به مستقبلا بموقع ذلك الطفل الضحية ، قد يبدو هذا الرأى شطحة كبيرة ولكن عندما يتخذ الاعتداء فى المجتمع شكل الفضيحة حتى للضحية فأن الفضيحة اكثر وسائل السيطرة فعالية حتى لدى الاجهزة المخابراتية .

    ReplyDelete
  2. الاغتصاب سببه فشل الاستاذ و العم و الخال و سائق الترحيل في الحياة بصورة طبيعيه و الزواج الذي اصبح مستحيلاً فيلجأ لاغتصاب ما يعتقد انه حقاً له من شخص اضعف منه و هذا إسقاط واضح لواقع الحال بين النظام الفاشي المغتصب للسلطه و هذا الشعب الجاهل الجبان

    ReplyDelete
  3. طيب الاغتصاب المقنن ده نعمل معاه شنو أعني زواج القاصرات

    ReplyDelete