Thursday, 28 April 2016

حَيطَوِّل؟ ما حيطوِّل



"أعرف أنكم تتساءلون اليوم، حتى متى سيطول هذا الأمر؟ حتى متى ستغمض الكراهية أعين الرجال؟ 
لقد جئت لأخبركم في هذا المساء، انه برغم صعوبة اللحظة، رغم يأس الساعة، فإن الأمر لن يطول
لأن الحق المصروع على الأرض سينهض من جديد
هل سيطول؟ لن يطول
لأنه ما من كذبة مكتوب لها الخلود
هل سيطول؟ لن يطول
لأننا نحصد ما نزرع
هل سيطول؟ لن يطول
قد يكون الحق على المقصلة
والباطل على العرش
ولكن المقصلة مثقلة بالحقيقة تتأرجح بالغد القادم
وفي ضباب المجهول ، الله خلف ظل الغيب شاهد علينا
 هل سيطول؟ لن يطول
لأن قوس الفضيلة الكوني قد يطول وتره لكنه ينحني في الآخر نحو العدالة
هل سيطول؟ لن يطول
لأن عيناي قد أبصرت مجد الإله القادم
لقد هدم صوامع الحنق المٌخَمَّر
وقد شع بريق سيفه المهيب
وحقيقته تتقدم
لقد نفث في بوق نصره الذي لا يعرف الخذلان
ها هو يغربل قلوب الرجال أمام عرشه 
اه ، كن صافيا يا قلبي، امرحي يا قدماي 
فإلهنا يتقدم، إلهنا يتقدم
(قلوري هللويا، قلوري هللويا) المجد للأعالي، المجد للأعالي
فحقيقته تتقدم"
من خطاب مارتن لوثر كنق


Monday, 11 April 2016

بعد الجامعة "آشك"

"آشْكْ" هو الصوت الذي يصدره بعضنا في التعبير عن اختفاء الشيء دفعة واحدة. وكأنه بفعل السحر

بإختصار ولن آخذ من زمنكم كثيرا

في الحقيقة منذ خبر نقل جامعة الخرطوم الى منطقة في سوبا وكنت اتوقع وأرى رأي العيان القروبات التي سأضاف إليها والمشحونة بالعاطفة الحارة والصادقة تجاه الجامعة. عاطفة الحنين للأمكنة والأحداث واسترجاع لتاريخ المقاومة الطلابية القديم، عاطفية التعلق بالرمز الوطني الذي يعرفه القاصي والداني في السودان 

وأنا أيضا عاطفية في كل ما أكتب عنه واذهب إليه، لذا كتبت وقتها في استيتس شخصي أنني أفتقر لتلك الحميمية التي تجعلني أكترث عاطفيا بالحملة. لكن حقيقة لقد غيرت رأيي

في البدء اعترضت على جملة " الجامعة خط أحمر" قبالة كل الخطوط الحمراء التي دهسها النظام الإنقاذي الحالي. لكن مع تدقيق النظر. فإن في نقل الجامعة أمر خطير وخط أحمر يداس فعلا 

فللنظام يدان تطوقان بها على عنق المواطن: اليد اليمنى يد الحرب والسلطة الأمنية ، واليد الثانية: هي يد سياسة التخلي والنفض الإقتصادي- بمعنى سعي النظام منذ بداية وجوده في يونيو ٨٩ من التحلل من أي نفقات ينفقها على الدولة وعلى المواطن- البايخ دا.

هناك شوكات حوت تقف في حنك هذا النظام وقد نجح في التحلل منها ، مشروع الجزيرة، المستشفيات الحكومية (والتي هي مرادف للصرف على الصحة العامة لأنو ما عندنا صحة عامة غيرها نصرف عليها-اللهم الا حملات التطعيم القومية)، وأخيرا التعليم


حسب ظني الفكرة عبقرية وشريرة. 

اذا رفعت الحكومة يدها عن جامعة الخرطوم. ف ياتو مؤسسة تعليمية من بعدها تستطيع أن تقول بغم؟ لو حقق النظام هذا، فلن ترى اي مؤسسة تعليمية منذ اليوم لا قرشا أحمر ولا أبيض. لا مدرسة ولا جامعة ولا دكاترة ولا معلمين ولا عمال. لا جامعة الجزيرة ولا أمدرمان ولا السودان ولا بحري (جوبا سابقا) ولا الجامعات الولائية. هذه الجامعة التي يتزايد طلابها بمتوالية عددية كل عام.

سيكون من الصعب على الحكومة خصخصة الجامعة في مبانيها التاريخية. هذه المباني التي تسرد تاريخا قديما كانت فيه الجامعة تحت جناح ورعاية الجهاز التنفيذي المباشر ويفرد لها حصة من ميزانية الدولة. كييييف ياخ، مدير جامعة الخرطوم بيعين بواسطة الرئيس شخصيا!! 

لكن اقوم انقل الجامعة إلى سوبا في مباني جديدة من الطوب الأبيض والزجاج الأزرق.  ثم ستدع الحكومة الامر يخمر لمدة سنة، سنة ونص ثم ستقول مثلا: أيلولة الجامعة لولاية الخرطوم (أي ان على الولاية تدبر امر مصاريف الجامعة لا الحكومة)، سنة اخرى و ستبتدع ولاية الخرطوم شي تسميه : إدارة الشراكة الذكية. بين الجامعة وبين مستثمر ما. بعدها لن تضطر الحكومة لإدعاء اي أمر اخر. 

بعدها سنرى شراكات ذكية في كل مرفق تعليمي عام

والحقيقة أن الحكومة شرعت في سياسة تقليل الصرف والتخلي مع جامعة الخرطوم "بالتدريج الميت" منذ زمن، بدءا من "القبول الخاص" و"الدبلومات"، تهالك الداخليات واخلائها ، مرورا بالإستغناء عن خدمات (كبار الاساتذة) والاكتفاء معهم بعقود المشاهرة ، اضافة الى كورسات معاهد الدراسات العليا الخاصة، وبيع بعض مرافق الجامعة. وتأخرها في دفع مرتبات العمال (تذكرون اضراب نقابة جامعة الخرطوم -وهي نقابة حكومية ضمن قانون نقابة المنشأة وهي ذات النقابة التي ضربت بها الحكومة نقابة اساتذة جامعة الخرطوم- بسبب عدم دفع المرتبات).

 كل ذلك كان اجراءا ميتا.

ليس ضروري ان تبيع الحكومة مباني جامعة الخرطوم الحالية ولا اراضيها. ممكن تخليها كدا. سنة ، سنتين، تلاتة، اربعة ، خمسة، عشرة، عشرين. لكنها سترتاح من مصاريف جامعة الخرطوم (وبالتالي اي مؤسسة تعليمية اخرى) في التو والحال.  

ال ١٨٪ التي تدفعها الحكومة المركزية تجاه المؤسسات التعليمية الولائية (مدارس، جامعات، مرتبات) سترتاح منها وستكون في ذمة الولاة الذين إن لم يوفوا بمستحقات التعليم فمسئؤلون -أمام الله- كما قال سيادة الريس عمر البشير.


ال ١٦٪من الصرف الحكومي على التعليم و ٣ ٪ من قيمة الناتج القومي. "آشك" -ناس الحكومة ارتاحوا

طلاب الخرطوم الآن خرجوا ضد نقل مبانيهم اليوم وخصختها في الغد، لكن الحق اقول على طلاب واساتذة جامعة الجزيرة والسودان والاسلامية وبحري وسنار والفاشر والدويم وغيرهم أن يتحسسوا مقاعدهم 

طلاب المدارس الحكومية في الخرطوم والولايات أيضا، قدر الفي دا تاني مافي

العمال ، بعد الخصخصة سيكون هناك تقليص للعمالة، وتعاقد بشروط أكثر اجحافا، وربما عمالة مؤقتة. فتحسسوا

بعدها ستتفرغ الحكومة للصرف على نفسها وعلى "صيفها الساخن" في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق التي اصطلينا منها منذ ثلاثة عشر سنة

ولن تبخل بعد اليوم على جهازها الأمني. الذي لن تطلقه على النشطاء، بل على المعترضين على نزع الأراضي، والزعلانين من انقطاع المياة، والبرمجة غير المبرمجة للكهرباء، والجوعى، والمرضى.  


جامعة الخرطوم هي  ثور الأبيض في مراح ثيران الحكومة البيض. إن أُكِل....كملن لحيماتنا الفضلن.







Saturday, 2 April 2016

توسيع خيال المواطن

انحسار الخيال. أستلف العبارة من أرونداتي روي، الكاتبة والروائية الهندية الفظيعة والتي أٌجْمٍل بها كل تعديات وتجنيات الأنظمة المتسلطة والمدافعين عن بعض أفعالها من المواطنين "الموضوعيين" ، وهو العجز عن رؤية الصورة كاملة، العجز عن تخيل احتمالات أخرى.


وهو ما خطر في ذهني عند انتشار خبر اعتقال الناشطة في مجال حقوق الطفل الأستاذة نسرين علي مصطفى قبل عام ، وفي يوم يصادف تراكم ٤٦ عاما من تعاقب نظامين مهيمنين علينا. ٢٥ مايو ٢٠١٥. ولليوم دلالته! تم اعتقال الأستاذة نسرين علي مصطفى لقرابة العشرين يوما(حيث تم اطلاق سراحها في ١١ يونيو)  بواسطة جهاز الأمن لأنها تحدثت في ندوة أقامتها جمعية حماية المستهلك عن ما يحدث للأطفال في حافلات ترحيل المدارس من تحرش جنسي. بعد حبس عشرين يوما خرجت الأستاذة نسرين معتذرة للرأي عن كلامها الذي قالت أنه افتقر للشواهد والأدلة.
وبعكس ما جرى إليه من مناصري نسرين أو من الشامتين الحانقين على النشطاء. كان سؤال واحد يلح على ذهني. جهاز الأمن الوطني؟ حقا؟ يحتاج الأمر إلى حبس عشرين يوم، ومصادرة للصحف (بعد النشر) بسبب خبر (كاذب) حسب ما اتهمه بها جهاز الأمن؟؟ ألم يكن يكفي مثلا الزام الصحف  بنشر نفي واعتذار، ورفع قضية على المتحدثة وتغريمها؟ لماذا جهاز الأمن؟ ولماذا الاعتقال؟ (جهاز الأمن أسماه استدعاء- لكن اعتقد ان الإحتجاز لأكثر من يوم يمكن أن يسمى اعتقال ولا شنو؟)





لاحقا في حوار أجرته الصحفية لينا يعقوب مع مدير جهاز الأمن " محمد عطا" علل فيه  أنه تم حبسها لأن القضية تمس الأمن القومي!! وعضد ذلك بشرح حالة الهلع التي اصابتها المتحدثة وسط الآباء الذين لديهم اطفال في الترحيلات


كلو ولا الترحيل (!!)


كلام مدير الأمن محمد عطا يقودنا إلى الخلل الأساسي في قانون جهاز الأمن المغلق ، وهو غياب جسم رقابي عليه. مما يجعل البراح واسعا لجهاز الأمن أن يحدد على كيفه ما هو ومن هو المهدد للأمن. ثم له ان يتصرف بعد ذلك على كيفه: حبس عشرين يوم، حبس خمسة ايام، حبس 11 شهر . وهذا الغياب يدفعني لأن أردد كثيرا أن جهاز الأمن وفق توصيف قانونه لعام 2010 يجعله أشبه بمليشيا خاصة للسلطة الحاكمة، اداة تأديبية للتنكيل بخصومها ،تستخدم سلطة وصلاحية الضبط  والاعتقال كوسيلة تأديب (لا وسيلة تحري وتقصي).


فمن ناحية-كما نبهني الأستاذ نبيل أديب المحامي وقد نوه إلى ذات الأمر في عمل الشرطة السودانية- أنه لا بد من علة للضبط. أي لازم يكون في سبب للحجز والإعتقال. ففي حالة الأستاذة نسرين ما هي حلة الإعتقال لدى جهاز الأمن لمدة عشرين يوم ؟ هل هناك خوف من تدمير أدلة ما إذا لم يتم احتجازها؟ هل هناك خوف من هرب المتهم وعدم مثوله أمام جهة قضائية (اذا ما وجهت في الأصل تهمة). يبدو أن الغاية فعلا هو استخدام الحجز والاعتقال كأداة تأديب وتنكيل. وهذه ليست من صلاحيات جهاز الأمن.
لذا كان ما نادى به العديد من المناهضين لقانون الأمن الوطني 2010 أنه لا بد أن تضبط أهلية وصلاحية التحقيق والضبط والإعتقال بواسطة طرف ثاني (غير تنفيذي) هو السلطة القضائية (كقاضي مستقل) أو سلطة عدلية (كمكتب النائب العام). ليكون العبء على جهاز الأمن أن يثبت للطرف الثاني أن المستهدف هو مهدد امني ولماذا هو مهدد أمني، فإما أن يؤيد الطرف الثاني هذا الطلب وبذا يتحرك جهاز الأمن أو أن يرفضه فلا يكون لجهاز الأمن من سبيل على المستهدف.
وأعود مرة أخرى لقضية الأستاذة نسرين وقولها المهدد للأمن الإجتماعي بحسب وصف مدير الأمن محمد عطا، والذي سبب بلبلة لدى اولياء الأمور. حقا! أكثر من البلبلة التي كان يمكن ان تثيرها وزارة التربية والتعليم ولاية الخرطوم حين كان من ضمن مقترحاتها (بعد الكشف عن اعتداء معلم على ٢٦ طالب عام ٢٠١٢ّ) من أن يخضع المعلمون والتربويون في المدارس "لقسم وميثاق شرف".
ثم وتنبيه اخر من الاستاذ نبيل أديب المحامي: ما هو عنصر "التهديد الأمني" هل هو "القول"بأن هنالك تحرش جنسي في الحافلات؟ اذا كان ذاك؟ فما فائدة الإعتقال؟ كلام نشر وانتشر، وهو مثبت عليها. فأذهب به إلى المحكمة. أو أن "وجود" التحرش الجنسي هو المهدد الأمني؟ الأجدى اذا ان تستعين بمن نبهك بوجوده.


لكن في الحقيقة ستسوقك كل الإجابات إلى أن الإعتقال كان لمعاقبة الأستاذة نسرين على قولها (صادقا كان الحديث ام ملفقا لا يهم)- وتجد أنك مواجه بحقيقة : أن المعاقبة ليست من صلاحيات جهاز الأمن.


إنتهى الإعتقال بالإفراج عن الأستاذة نسرين علي مصطفى واعتذارها للرأي العام على ازعاجه. وتلقف هذا الإعتذار الكثير من "الموضوعيين" والذين يمكن أن تطلق عليهم "اصحاب التفكير البسيط" شامتين على النشطاء الملفقين ، مربتين على كتف جهاز الأمن : أن لا غبار ولا تثريب. خاصة وأنها : تستاهل. هؤلاء البسطاء الذين أزعجهم "تلفيق الناشطة" انحسر خيالهم لدرجة أنهم رأووا تنكيل جهاز الأمن بها أمر عادي، فهو كل يوم ينكل بالنشطاء، هذا ما عرفناه عن جهاز الأمن منذ بزوغ نجمه مع "نظام مايو" حتى يومنا هذا .
اذ ان الفوضى التي نعيش في أطنابها منذ أكثر من عشرين سنة، أفقدت المواطن القدرة على تخيل الدور المناط لمؤسسات الدولة ومعنى القانون واهمية "تحديد السلطات" و "محدوديتها"- محدوديتها- محدوديتها.
لا بد من خطاب التغيير الذي يعمل على شحذ خيال المواطن البسيط المنحسر الخيال، حتى لا نرى الدعوات ل"اعدام المغتصبين في الميادين العامة" او تهليلنا لسحل المتهمين في الشوارع أو الشماتة المجانية على النشطاء متغاضين عن أبو كبيرة.

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

ملحق:

قضية التحرش الجنسي والاعتداء على الأطفال (سواء بدنيا او معنويا او بالإهمال) هي مسألة في غاية الحساسية  ولا بد من التنويه للمناطق التي يمكن أن يجري فيها التحرش والتي فيها مساحة انفراد بالأطفال و التي يجب أن تكون محل سهر ومحل نظر السلطات ك"حافلات الترحيل، كمركبات الأطفال في الحدائق العامة والملاهي، كالحمامات العامة في مناطق تجمعات الأسر، كأندية الأطفال.. الخ ". و تشترط أن يكون هناك اشراف للترحيل المدرسي ، تشترط أن تكون هناك رخصة خاصة تسمى (رخصة العمل مع الأطفال) لكل من يعمل في مجال له اتصال بالأطفال. من شأن هذه الرخصة أن تصنع سجلا للعاملين مع الأطفال ، بحيث ما إن تثبت حادثة اعتداء او تحرش أو اهمال من قبل عامل في حق طفل ، يمنع من العمل مع الأطفال .

Sunday, 24 January 2016

كبسولة سينما المقاومة


كنت أشاهد حوارا على اليوتيوب جمع بين ارونداتي روي وطارق علي (حبائب قلبي) حول مواضيع شتى، ثم عرجوا بالحديث عن السينما. وكما هي العادة مع ارونداتي روي "الأشياء ليست هي الأشياء" كان الحديث عن سينما الأمس وسينما اليوم وسينما الغد. وجاء الحديث عن ما يسمى بأفلام الآرت هاوس، والتي بدأت كأفلام مستقلة في مواجهة افلام بوليوود الطاغية ذات التوجهات القومية، ولكن الفرز ليس بهذه البساطة كما توضح ارونداتي روي مع تحول الأفلام المستقلة نحو التجارية والاستهلاكية، مع اختفاء دور السينما القومية وظهور معارض السينما الصغيرة والمكيفة في المولات والمراكز الثقافية الأجنبية والممولة من قبل الشركات التجارية. 
لفت نظري في نهاية حديثها عن توجهات السينما الهندية، عن حركة بدأت قبل عشر سنوات، وهي حركة سينما المقاومة. عبارة عن مهرجان افلام وثائقية متنقل، يتحرك من مدينة إلى مدينة . الحركة بدأت في مدينة قورابور بلإقليم الشمالي، مجموعة من صناع السينما اقاموا مهرجانا ثقافيا لا يستلم قرشا واحد للرعاية من اي من الشركات التجارية او المؤيسسات الثقافية او المنظمات الطوعية العالمية. يعمل بجهود محلية، ويعرض أفلاما لهواة ومحترفين من كافة انحاء الهند والعالم، بأماكن عرض مرتجلة في العراء، او قاعات الجامعات، في المقاهي ، في الورش والمصانع، في قاعات المراكز الثقافية. وثائقيات ساخنة تتحدث عن كل شيء، كل شيء هو محجوب عن سينما بوليوود الملمعة في الآونة الأخيرة. هنا لا رجال اعمال يسافرون الى لندن ويبحثون عن فتاة متمردة ومع ذلك محبة للتقاليد. لا يوجد تبسيط مخل لحقيقة الصراع الديني في الهند، لا يوجد كما تقول ارونداتي روي خلق نمطيات خطيرة: المسلم الارهابي او المسلم الوطني الذي يموت من اجل هندوستان، ثم تصف ببراعة: لا يوجد فقر بورنوغرافي. الفقر الذي اصبحت بولييود تتمتع بتصميمه وعرضه بشكل بلاستيكي، تماما كما فعل الفيلم الهوليوودي "سلم دوق مليونير"
هنا، افلام عن نزاعات الأقاليم، كشمير، نمور التامل، حرب الدولة ضد الفقراء، نضالات العمال، انتحارات المزارعين، عن قهر المرأة، عن تاريخ الطوائف في الهند (الطوائف هنا المقصود بها المحظيات اللائي كنا يخدمن في بلاط الأمراء) ، افلام تعرض من حول العالم حول اسئلة وجودية وسياسية عصية. وفي بلد بها ٢٢ لغة رسمية، و١٢٢ لغة رئيسية،  والعروض التي تكون بين فقراء بعضهم لا يجيد القراءة، بعضهم لم يبارح قريته، الترجمة فورية بواسطة مترجم يقف الى جانب الشاشة. ويبدي المشاهدون تفهما عظيما للأفلام العالمية والمحلية ويديرون نقاشات فريدة من نوعها. 
يأتي هذا المهرجان الأهلي في مواجهة المهرجانات الثقافية التي هي برعاية المؤسسات الاستثمارية الكبرى، وتحاول الأخيرة هذه ان تعكس صورة الهند في الإعلام العالمي، الهند المتطورة، "اكبر" ديمقراطية في العالم، الهند صاحبة النمو الاقتصادي، صاحبة أكبر طبقة متوسطة. بينما المهرجان الثاني يفتح الضوء امام ما لا يمكن انكاره : النمو الساحق للملايين، الطرق والسدود والمناجم التي تجرف البشر قبل ان تجرف الأرض، العبودية بزيها الجديد المسمى العمالة. وغيرها. 

موسم الأفلام هذه اصبح يحج إليها صناع السينما العالميين من كافة انحاء العالم. بعضهم يلغي التزاماته مع مهرجانات معتبرة كمهرجان كان، كي لا يفوت فرصة جمهور ليس له مثيل. 

هذا اعلان مهرجان كلكتا الشعبي للأفلام. ضمن حركة سينما المقاومة ،جميل بشكل 

السينما والنيوليبرالية. اول من لفت نظري لهذه العلاقة هو حوار مع نعوم تشومسكي يتحدث فيه عن بداية تفكك احدى اقوى حركات اليسار في العالم وهي النقابات العمالية الأمريكية. تفكك بدأ منذ الخمسينيات، بأفلام يري تشومسكي انها تشيطن من الحركة النقابية، ومن المتعاطفين مع اليسار عموما بوصفهم خونة وما إلى ذلك. ضرب مثلا بالفيلم الحائز على جائزة اوسكار "على الواجهة البحرية" بطولة مارلون براندو، الذي يقف فيه البطل قبالة فساد وتسلط رؤساء النقابات -وهذا يحدث كما يقول تشومسكي- لكن السبب في أنه وجد تشجيعا من الإعلام هو تلك الرسالة التي يحملها. 

ثم هناك الحديث الذي نعرفه حول تنميط العدو لأمريكا "الروسي" "الصيني" "الشرق اوروبي" "العربي"..الخ. او هو شيء اخطر من التنميط، شيء من التمثيل : representation
شخصية نمطية تشكل موقفك من شعب وسياسة كاملة. 

في كتابها الأخير تشير نعومي كلاين إلى ظاهرة أفلام "نهاية العالم الطبيعية" والفئة الناجية. عرفتوها؟ تلك الأفلام التي تصور نهاية العالم بالتغير المناخي الجليدي /الجفاف او الرجم النيزكي او  او غزو فايروسي وما إلى ذلك، موت الجميع ونجاة فئة قليلة لها الحق في ركوب سفينة النجاة التي تكون الحكومة قد جهزتها مسبقا لإستمرار البشرية، اما مدينة تحت الأرض او سفينة تنطلق هاربة إلى الفضاء او ما إلى ذلك. 

فكرة الفئة الناجية تقول الكاتبة نعومي كلاين هي فكرة نيوليبرالية عن جدارة، ليس غريبا أن ردود فعل النيوليبراليين تجاه اي كارثة مقتبسة من عبارات انجيلية "الطوفان النوحي" "القيامة" حيث النجاة لفئة مختارة. وتقول هذه الفكرة المكررة في هوليوود اصبحت تلقى قبولا من العامة، ان قبالة كل كارثة طبيعية هناك طن من الضحايا قبال فئة ناجية. بل اصبح هناك بزنس لترويج تلك الفكرة. فبعد اعصار كاترينا، اصبحت هناك شركات تتكفل بإنقاذك وحدك من بين جيرانك واحبابك إلى مكان امن بينما الآخرون في الخارج يحرقون او يغرقون او يموتون. تحدثت عن شركات التأمين التي توفر خدمة اطفاء الحرائق للذين يسكنون في المناطق الغابية الطرفية. تخيل تأتي عربة اطفاء مقتحمة الغابة المحترقة ، متجاوزة البيوت المولولة من الحريق، للتجه نحو بيتك لإنقاذه فحسب. 

هذه الفكرة التي تتوازى مع انسحاب الحكومة الأمريكية من خدمات الدفاع المدني والطوارىء ، حيث اصبحت عبارة عن وكالات عاجزة بالية. وتتوازى مع انسحاب الحكومة البريطانية ايضا من خدمات الدفاع المدني والطوارئ وبتنا نشاهد غرق مدنها تحت المياه كل شتاء. 

عندما نقول سينما المقاومة، نحن بالضرورة نتحدث عن المهدد الأوحد للبشرية اليوم وهو "النيوليبرالية" بشكلها الذي نعرفه في عالمنا اليوم. والمعني بها انكماش الدولة عن تقديم أي خدمات عامة، ورفع الرقابة عن المؤسسات الاستثمارية وحرية السوق (بما يخدم المؤسسات الاستثمارية-اذا ان الحرية اذا ما هددت هذه المؤسسات سارعت الحكومات لفرض القيود) . 

مهرجان السودان للسنيما المستقلة في دورته الثالثة والتي تحت شعار المقاومة الثقافية سيقدم محاضرة للدكتور شريف شحاتة بعنوان الثقافة والنيوليبرالية، يوم الثلاثاء ٢٦ يناير في المركز الثقافي امدرمان، بعد عرض فيلم رادياتور/سخان، المزمع عرضه في تمام الساعة السابعة والنصف. الدكتور شريف شحاتة -وأنا مقصرة في الاطلاع على اعماله يا دوب الواحد يلاحق- هو مفكر وكاتب ماركسي . وفكرت ان الواحد يدخل المناقشة وفي باله هذه الكبسولة السريعة حول علاقة السينما- بشكل خاص- والنيوليبرالية. 


الدكتور شريف شحاتة بسينما كوبر- تصوير طلال عفيفي


جدير بالذكر انه يوم الاثنين، وفي مركز امدرمان نفسه في الرابعة عصرا سيعرض فيلم بابا موخيكا، او الأب الروحي والذي يحكي قصة الرئيس الأروغوايي، والذي كنا نتبادل صوره وهو يركب دراجة ونهلل بأنه أفقر رئيس في العالم، ولا يزال يسكن في حيه الفقير. جدير بالذكر انه يعتبر بشكل ما ضمن التحالف اللاتيني المتصدي لمشروع التوسع النيوليبرالي الذي ذاقت منه امريكا اللاتينية المر في فترة السبعينيات والثمانينيات  وكانت اولى ارض تجاربه الاقتصادية.


Wednesday, 23 December 2015

بزغة منو

برنامج نسخة طبق الأصل..او فولة وانقسمت نصين.. او التسمية الأدق: بزغة منه. برنامج دُمى سياسي اجتماعي ساخر ظهر في بدايات الثمانينات واستمر في التسعينات، يتمسخر على ابرز الشخصيات السياسية البريطانية والعائلة المالكة وبعض الأحداث العالمية والنجوم. وكانت حكومة مارجريت تاتشر قد نالت النصيب الأكبر من السخرية فيه. ومعروف ان تاتشر كان تبغض البرنامج بغضا شديدا والذي كان يظهرها في شكل المتنمرة المسيطرة على حزبها. اما بقية السياسيين فانقسمت اراؤهم ما بين مبغض لهذه السخرية اللاذعة، وما بين متحمس لها ، فكما ذكر وثائقي حول هذا الموضوع: اذا لم تُصنع لك دمية في البرنامج فهذا يعني انك لست ذو معنى في عالم السياسة. هذا المقتطف الذي ترجمته، الذي يرسم صورة للطريقة التي كانت تدير بها مارجريت تاتشر مجلس وزرائها وكأنها استاذة في فصل والوزراء مجرد تلاميذ. (اعتذر عن كمية التسميات الخاطئة للمناصب السياسية بالاضافة للتحولات الكثيرة التي كانت داخل المجلس فتتلخبط بعض المناصب. ارجو ناس انجلترا يناولوني كل ما يلاحظوا حاجة بالتصحيح، حاولت الاستعانة بويكبيديا وقوقل قدر الامكان)  الفيديو بالإنجليزية ادناه




مارجريت تاتشر (رئيسة الوزراء) : اذا نحن مجمعون على الحد من صرف المحليات؟ هل في زول غير مجمع؟

نورمان فاولر (وزير الصحة) يتحدث بصوت متردد خافت:  اممممم... نحن.. في ناس مننا...شنو نقيض كلمة مجمعون؟ (يونانيموس)

 تاتشر: وريه يا ليون

ليون بريتان (وزير الداخلية) : انيمس (= عدواني)

 تاتشر تخبطه بالمسطرة على رأسه: خطأ! نقيض كلمة مجمعون هو مطرود!

جيفري هاو (وزير الخارجية وشئون الكومنويلث): فضلك! (يناولها تفاحة)

تاتشر : شكرا  (تشمها) جيفري؟؟؟!! دي تفاحة فرنسية!! (تقذف بها من الشباك) 

(ريتشارد اتينبرو المخرج الشهير الذي اخرج فيلم غاندي الحائز على اوسكار يتلقف التفاحة ويهتف بالشكر على تسلم هذه الجائزة العظيمة)

تاتشر: اديروا وجوهكم وركزوا معاي.. قلت شنو يا نورمان؟

وزير الصحة : (بخوف) ولا حاجة

تاتشر: نورمان، انا شفت شفايفك بتتحرك ، اذا كان عندك شي تقوله قوله لمجلس الوزراء كله!

المجلس: اي اي قوله

تاتشر: اسكتوا!.. نورمان... علّي صوتك.. واتكلم بصدق إنت ما واقف في منبر عام هسي

وزير الصحة : نايجل سرق قلمي

مارجريت : (محدثة وزير الخزانة) نايجل؟ الكلام دا صحي؟

المجلس: سرقوا آي سرقوا

نايجل لوسون (وزير الخزانة): (يهز رأسه نافيا)

مارجريت: أنت عارف سياستي فيما يخص السرقة من الأصحاب... مجلس؟ بنسميه شنو لما الواحد يمشي ويسرق ممتلكات الناس التانيين؟ إنت! جاوب! (تضرب وزير الداخلية في رأسه)

(وزير الداخلية فمه محشو بالطعام) : نسميه اقتصاد السوق الحر؟

(وزير الخارجية يضحك عليه)

مارجريت تاتشر : زفت!! (متحدثة برقة لوزير الدولة بوزارة الداخلية وصاحب نفوذها داخل حزب المحافظين) ديفيد؟ ماذا نسميه؟
ديفيد وادينغتون : نسميها اشتراكية

مارجريت (بذات الرقة) احسنت يا ديفيد... والآن خلينا نناقش قضية احصاءات البطالة المزعجة. قبل خمس سنوات انا كان كلمتكم تذاكروها في البيت وتجيبو لي افكار بخصوصها ، جيفري؟ خلينا نسمع افكارك هه؟

(وزير الخارجية) انا والله حليتهم في البيت والله.. لكن نسيتهم في الباص

المجلس يضحك

تاتشر: يا الهي.. اكتب الف مرة : لن اركب مواصلات لندن العامة. (لوزير الخزانة) نايجل؟ بطل البتعمل فيه دا (تنتبه لورقة يمررها وزير الدفاع لوزير الداخلية) مايكل؟ دي شنو الورقة المررتها لليون؟ أقراها لينا بالله يا مايكل أنا متأكدة المجلس حابي يسمع ورقتك!! 

مايكل هيسلتاين (وزير الدفاع): ااا مكتوب ، مسودة حول استرداد اراضي الفولكلاند

المجلس يضحك

تاتشر: شنو؟ كم مرة كلمتك انه وقت المجلس ما لممارسة الهوايات! ارمي الورقة في الزبالة يا مايكل

الجرس يرن

تاتشر: يلا يلا! انصراف. وبعد فسحة الفطور كنوع من الترويح حنناقش الدفاع

المجلس : هيييييه



Thursday, 10 December 2015

أناقة القنفذ

من كتبي المفضلة ، رواية اناقة القنفذ للكاتبة الفرنسية موريل باربري. هذه الرواية تصدرت قائمة افضل الكتب مبيعا سنة ٢٠٠٦. الرواية تحكي عن بوابة-غفيرة تعمل في مبنى عريق يسكنه اثرياء، بعضهم ورثة عريقون لعهد اقطاعي ماضي، بعضهم ورثة لعهد صناعي تنويري ماضي، بعضهم محافظ وبعضهم يتبنى اراء "تقدمية" لكنك تلحظ من سخريتها أنها لا تفرق بينهم. البوابة رينيه تخفي سرا عظيما وهي أنها قارئة من الطراز الأول (الطراز الذي يقرأ جد جد ،لا للتربص ولا للفشخرة- قليلون هم) ومثقفة عاتية. تخفي هذه الحقيقة لكي تحافظ على وظيفتها، فلا أحد يحب أن يعمل لديه غفير يعرف أكثر منه أو حتى مثله. وفي يوم يحدث امر غريب. يموت أحد ساكني الشقق دون وريث  (كل الشقق سكانها يتوارثونها) مما يعني أن غريب سيسكن الشقة. هنا يأتي السيد كاكورو أوشو، ثري ياباني متقاعد. الذي سيكشف سر رينيه من أول وهلة . 
نادر ما تلقى خلطة في رواية تجمع بين الرومانسية (التي أحب) والأدب والفلسفة، والفن، والموسيقى والكوميديا والدراما. 
كما انه امنيتي في الحياة ان اتقاعد كرينيه. استلف الكتاب كلما مررت بالمكتبة. اظنني استلفته اكثر من سبع مرات، ان الأوان كي اشتريه عديل كدا. وكلما قرأت الكتاب اتقمص حالة رينيه فآكل الشوكولاتة الداكنة، والنودلز، واركن للشعر وتنقص هموم الحياة.
هذه الترجمة المتصربعة مني ارجو أن تكون محفزة كي يحاول بعضكم ان يجد الكتاب. الكتاب سمح عديل كدا، هناك ترجمة بالعربية له ولكنني لا أدري إن كانت جيدة أو هي بمثل صربعة ترجمتي هذه... لو سلكت بترجم مقاطع أخرى تحفيزية

النصوص بالترجمة الإنجليزية في هذا اللينك، في فقرة الريفيو 
جدير بالذكر أنه ايضا تم تحويل الكتاب إلى فيلم - يعني ما بطال، منه استلفت هذه الصور 



-----------------------------------------------------------------------
-----------------------------------


"ماركس غير نظرتي للعالم!!"
صاح ابن الباليرز هذا الصباح، رغم انه بالعادة لا يتفوه بكلمة  ناحيتي
انتوان باليرز، وريث عائلة صناعية عريقة، وابن احد مرؤوسيّ الثمانية.  ها هو ذا يقف امامي-آخر تجليات لطبقة النخبة المهيمنة، وهي طبقة تتكاثر بفعل شهقات أنيقة ولائقة- مُشعا بإكتشافه الجديد، مُتَصَدًّقا به علي دون أن يتخيل للحظة أنني قد أفهم أو أدرك ما يشير إليه. كيف يمكن للطبقة العاملة أن تفهم ماركس؟ إن قراءته مهمة شاقة ، فأسلوبه رفيع، لغته راقية، وأطروحته معقدة. 

وهنا- كدت بغبائي- أن أكشف عن سري...

"عليك إذا بقراءة الأيدلوجيا الألمانية" رددت عليه. ذلك الأبله في معطفه الصوفي الأخضر المحرشف.

لكي نفهم ماركس ونفهم أين أخطأ، علينا أن نقرأ كتابه (الأيدلوجيا الألمانية)، فهو اللبنة الأساسية التي سيبني عليها فرضيات عالمه الجديد، والتي ترتكز على مفهوم خرساني: أن البشرية المحكوم عليها بالخراب بسبب رغائبها، بوسعها أن تتعافى إذا الزمت نفسها بإحتياجاتها الأساسية. ففي عالم تُهزَم فيه غطرسة الرغبة ستبرز منظومة اجتماعية جديدة، مُنقّاة من الصراع والإضطهاد والطبقية المدمرة.
"من يزرع الرغبة يحصد الإضطهاد" برطمت بصوت خفيض وكأني أحادث قطتي.

ولكن انطوان باليرز، بسوالفه الطفولية القبيحة والتي لا تحمل أي ملامح قططية، يحدق في فاغرا فاهه لا يستوعب ما أقول. كالعادة لقد انقذني عجز البشرية عن استيعاب كل ما من شأنه أن يهيل حيطان افتراضاتهم الذهنية. فالبوابين لا يقرأون (الأيدلوجيا الألمانية) وبالتالي ليس بوسعهم اقتباس احدى مقولات الفصل الحادي عشر عن فيورباخ، فالبواب الذي يقرأ ماركس لا بد وأنه تحريضي، او باع روحه للشيطان المعروف بإسم نقابة العمال. أما فكرة أن البوابة تقرأ ماركس فقط لتعلي من قدراتها الذهنية هو خرافة من ضرب الخيال ليس بوسع فرد من البرجوازية استيعابه.
"سلّم لي على أمك" أوصدت الباب في وجهه وأنا أؤمل أن عقود من التحامل الطبقي ستخفي التناقض البادي بين الجملتين اللتين تفوهت بهما. 


-------
 إسمي رينيه، ٥٤ سنة، أعمل كبوابة لسبع وعشرين عاما في المبنى رقم ٣، شارع قرينيل، مبنى عريق تتوسطه ساحة وحدائق خاصة مقسمة بين ثماني شقق فخمة، كلها مسكونة وكلها فسيحة. أنا أرملة، قصيرة، قبيحة وممتلئة القامة. قدماي تشكوان من التورم، وفي بعض الصباحات التي أعزوها لإحتقاري لنفسي اصحو برائحة فم الماموث. أتممت فقط المرحلة الأولية في المدرسة، نشأت كفتاة فقيرة، متحفظة، غير ذات أهمية. أسكن وحدي مع قط ضخم لا يحمل أي مزايا سوى أن مخالبه تصدر رائحة منتنة حين يكون منزعجا. كلانا يعفي نفسه من الإلتزامات الإجتماعية تجاه فصائلنا. ولأنني لست ودودة ولكنني مهذبة، فالجميع يحتملني دون أن يحبني. فأنا اتجاوب بشكل جيد مع الصورة التي رسمها التحامل المجتمعي تجاه البواب الفرنسي التقليدي، لدرجة انه بوسعك ان تصفني كمسمار في دولاب الفكرة الوهمية الكونية. تلك الوهمة التي تفترض أنه بوسعنا اطلاق تعميمات على العالم وفهمه طبقا لذلك.
وبما أنه مكتوب في مكان ما أن كل البوابين قصار وقبيحين ومسيخين، فقد نسخ في ذلك اللوح أيضا أنهم يملكون قططا بدينة كسولة تقضي اليوم كله تتمغى على وسائد الكروشيه. 

-------------------

في كل يوم ثلاثاء وخميس تزورني مانويلا، صديقتي الوحيدة، لنتحتسي كاسات الشاي الأخضر. مانويلا امرأة بسيطة، السنوات العشرين التي قضتها في كنس الغبار عن منازل الأثرياء لم ينقصها شيئا من ألقها . طبعا الوصف "كنس الغبار" هو مجرد استعارة. فمع الأثرياء فإن الأشياء نادرا ما تسمى بأسمائها.
"أنا افرغ سلال من الفوط الصحية، أمسح قيء الكلب، انظف قفص العصافير من الفضلات.. لن تصدقي كمية الفضلات التي يخرجها كائن صغير كهذا، واكشط الحمامات، قال كنس الغبار قال!!" تقول بلكنتها البرتغالية الرقيقة. 
مانويلا تأتي لزيارتي في تمام الساعة الثانية بعد الظهر من يوم الثلاثاء بعد أن تفرغ من نظافة شقة الأرتينز، وشقة دو بغويز يوم الخميس، تكون قد لمعت الحمامات بالقطنة. قد تكون هذه حمامات صاحبة دمغة"السعفة ذهبية-اي خمسة نجوم" ولكنها بعفنة أي حمام على الكوكب، لأنه إن كان هناك شيء مشترك بين الأثرياء والفقراء هو انهم كغيرهم تفرغ احشاءهم فضلاتها في مكان لا بد أن تطق عفنته. 
لذا تستحق مانويلا تقديرنا، برغم انها من النساء اللاتي قدر لهن ان يقمن ببعض المهام في عالمنا هذا، بينما ترفع نساء اخريات انوفهن تقززا منها، الا أن مانويلا استطاعت أن تحتفظ لنفسها بألق ورقي يتجاوز كل دمغات السعفات الذهبيات.
"لا بد أن تستعملي منديلا حين تتناولين الجوز" وتخرج من سلتها السعفية الأنيقة بسكوت اللوز الهش ملفوف في مناديل قرمزية بعناية، بينما أُحَضِّر أنا قدر القهوة التي لن نشربها وإنما سنغرق في عبقها بينما نحتسي كاسات الشاي الأخضر ونقرقض بسكوت اللوز في صمت.

بنفس خيانتي للصورة التقليدية للبواب، فمانويلا خائنة للصورة التقليدية للخادمة البرتغالية، رغم غفلتها تماما عن خيانتها هذه. هذه الفتاة من مقاطعة فارو،  ولدت تحت شجرة تين بعد سبعة اخوة ليليها ستة اخوة اخرين، اجبرت منذ طفولتها للعمل في الحقول لتهرب بالكاد من حياتها هذه بزواجها من حرفي، وتلد منه اربعة اطفال، فرنسيون بالمولد والنشأة ولكن المجتمع ينظر إليهم كبرتغاليين مهاجرين. هذه السيدة من فارو كما كنت احكي لكم، التي تلبس الجوارب السوداء الإجبارية وتربط منديلا على رأسها.. ارستقراطية! نعم ارستقراطية، ارستقراطية اصيلة ، من النوع الذي لا يمكن تجادل عن عراقته. الارستقراطية محفورة في اصلها، وتسخر من كل الألقاب والتشريفات التي يزين بها الناس اسماءهم . إذا من هي الأرستقراطية؟ هي سيدة محاطة بالسوقية من كل جانب دون أن تتلطخ بها. 






Tuesday, 1 December 2015

هذا يغير كل شيء (٢، قصة البلونير المجنون)

معظمنا يتابع هذه الأيام مؤتمر المناخ في باريس، وأحد أبرز العناوين التي تجد طريقها في أوساط الإعلام لتسيطر على المشهد العام هو خبر: تحالف الطاقة النظيفة الذي شهد تعاون دول ثرية كأمريكا وكندا واستراليا وبليونيرات كمارك زوكربيرق وحبيب الملايين: بيل قيتس.

في فاصل مؤثر من الكتاب تحكي نعومي كلاين رحلتها القاسية لمدة سبع سنوات في محاولتها للإنجاب، ما تضمنته تلك الرحلة من أحزان على أجنة مجهضة، أدوية  وكيماويات وفحوصات اشعاعية مرهقة للجسد، رحلات خائبة إلى الأطباء، الترقب والإنتظار الذي ينتهي بانطفاء الأمل. تقارب نعومي كلاين ما حدث لها وجسدها الذي اصبح حقل تجارب للآراء الطبية الحديثة، وبين جهود البليونيرات والصفوة لإيجاد حلول للكوكب عبر عقاقير سحرية.
تنتهي رحلة نعومي بحملها وولادة ابنها "توما"، كان ذلك بعد أن جربت عيادة للعلاج الطبيعي. الطبيبة المعالجة سألت نعومي أسئلة كثيرة عن طبيعة حياتها التي تضمنت سفرا طويلا، وتنقلات، وركض وراء مواعيد تسليم، ومقابلات وضغوطات. الطبيبة اخبرتها ان جسدها يرسل إشارات واضحة تقول أنه يفتقر للطاقة والحيوية اللازمة لحضانة حياة جديدة بداخله. وهنا يكمن الفرق تقول نعومي. فعيادات التخصيب تعمل على محاربة هذه الإشارات وخداع الجسد ليحمل الجنين، بينما عيادة العلاج الطبيعي تنظر إلى جذر المشكلة.
 بعد جلسات يوقا، ورحيل نعومي إلى منزل ذويها على ساحل البحر، وتبنيها لنظام غذائي صحي وابتعادها عن المنغصات وتركيزها على نفسها. اعلن جسدها استعداده لحمل حياة جديدة فكان ابنها توما.



 في اثناء ذلك كان نعومي زارت معهد الأرض الذي يديره ويس جاكسون بكانساس، والذي بإختصار يعمل على حل مشكلة الزراعة التي عمرها ١٠ الاف سنة كما يقول، منذ أن بدأ الإنسان بتقسيم الأرض وحرثها وتطويعها لزراعة المحاصيل. معهد الأرض يعمل على دعم الأرض في مسيرة اخصابها، اذا ارادت ان تنبت مترا من القمح وبعده مترا من الفول ثم مترا من الأعشاب..دعها! للأرض حكمة في ذلك. وهذه هي المقاربة التي تضربها نعومي لسبب أساسي لتحكي عن علاقة الإنسان بالأرض وترى أنها مشكلة ثقافة في الأساس (ثقافة غربية)، ثقافة سيادة، وليست ثقافة كون الإنسان جزء من منظومة كاملة. ثم تربط ذلك بفصل كامل عن : العقار السحري لمشكلة المناخ والتي يروج لها بيل قيتس وريتشارد برانسون ومجموعة البليونيرات ومن تبعهم من المخترعين. والعقار هو في صيغة تكنلوجيا تعمل على حل مشكلة المناخ مع ضمان.. وهذا هو المهم..مع ضمان أن نستمر في طريقة حياتنا السوبر استهلاكية كما هي. نسافر بطياراتنا في كل مكان، ونأكل فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، ونستهلك ونستهلك.
بيل قيتس يرعى العديد من هذه الإختراعات التي هي من شاكلة : الات لإمتصاص الكربون من المناخ، الات لحجب حرارة الشمس. ودون أن يشعر بأي نوع من التناقض يستثمر قيتس في كل من شركة بي بي النفطية وشركة اكسون بحوالي البليون دولار. وعند مواجهته بهذا السؤال المحرج : كيف تدعي حرصك على المناخ وأنت تستثمر في احدى اكبر الملوثين لها. يرد قائلا: نحن لازلنا نعتمد على النفط، والى حين ايجاد تكنلوجيا بديلة (غير الواح الطاقة الشمسية التي يرى انها مضيعة للوقت وغير اقتصادية) يحتاج الناس ان يقودوا عربياتهم وان يتنقلوا بالطائرات ويشعلوا اللمبات. 


قبل فترة - قبل مؤتمر المناخ في باريس- تهكم بعض الصحفيين على الإنترنت من بيل قيتس كونه يؤمن بتدخل حميد وحيد للدولة في الإقتصاد، ألا وهو رعاية البحث العلمي. حيث صرح أن البحث العلمي يستحيل أن يمول عبر جهود السوق والقطاع الخاص ، ولا بد من ميزانية الدولة لتصرف عليه دون هوادة.

ثم يأتي مؤتمر المناخ، لتكون واحدة من أهم مخرجاته : صندوق تحالف الطاقة النظيفة ، والذي كما ذكرت يشمل حكومات ٢٠ دولة ومجموعة بليونيرات (ما عليكم الا تنظروا الى قائمة البليونيرات المريبة) ويعمل بشكل أساسي بدعم البحث في الطاقة النظيفة (جانب الإختراع فيه، وليس جانب السياسات) والفرق هنا مهم.
تمويل البحث العلمي كتر على البليونيرات، وكعادتهم المعتادة سيحملونه للدولة ويجنون من بعده الكاش

فبرغم موجة الفرح التي عمت بعض الشركات الصغيرة والمجموعات العلمية التي تحتاج لمثل هذا الدعم المالي والمستمر بشدة، الا أن المراقبون نوهوا لأمر هام : مثل هذه الإختراعات لا جدوى منها في ظل دولة ضعيفة الإلتزام تجاه سياسات شاملة تدعم من استخدام الطاقة النظيفة ، وتسحب دعمها من الإستثمار في الطاقة العضوية.

اوباما -الرجل الذي يتحدث كقائد مناخي كما تقول نعومي- والذي القى خطبة مؤثرة في مؤتمر المناخ، أكد على دعمه لهذه المجهودات. اوباما يقول نعم ..نعم انا معكم.. نعم للطاقة الخضراء..لكنه يحتاج أكثر أن يقول لا.. لا لأجل عقودات تنقيب نفطية جديدة، لا للإستثمار في النفط، لا للأنابيب التي تضخ النفط المستخرج من البيتومين، لا لحاجات كثيرة. 

وهنا يكمن الخوف، أنه لا يزال قادة العالم يماطلون في قضية المناخ الملحة والتي نحس بآثارها كل يوم،- كما سخرت نعومي في تويتر قبل يومين من خطاب الرئيس الصيني الذي أعلن ان المؤتمر هو البداية لمعالجة مسألة المناخ، فردت : فقط في الأمم المتحدة نسمي مرور ٢١ عاما :بداية!! (جدير بالذكر أن هذه هي دورة المؤتمر الحادية والعشرين) -قضية المناخ التي  تفاقم حدة الفقر والكوارث الطبيعية والهاربين من ديارهم إلى اطراف الأرض. والمماطلة ستتلخص في التطبيل العالي ..العالي جدا لهذا التحالف- تحالف الطاقة النظيفة، ليمنح الحكومات فرصة عدم مواجهة شركات النفط الثرية وعدم معالجة المشكلة من جذورها

والآن مع فاصل طريف...

قصة الانجليزي المجنون صاحب المنطاد

هناك فاصل مخصص لرجل الأعمال الانجليزي المشهور بتقليعاته المجنونة ريتشارد برانسون صاحب شركات فيرجن العالمية. في عام 2006 اعلن برانسون تأثره الشديد بعد لقاء جمعه بنائب الرئيس الامريكي الأسبق :ال قور، صاحب فيلم وكتاب "حقيقة غير مريحة" حول التغير المناخي . فدق برانسون صدره قائلا انه في العشرة سنوات القادمة يتعهد بصرف ٣ بليون دولار من عوائد شركاته التي تلوث البيئة (تحديدا الخطوط الجوية فيرجن- وخطوط قطارات فيرجن) لصالح التحول نحو طاقة نظيفة وظريفة والبحث عن وقود نظيف لهذه الشركات- وان واجهت هذه الشركات اي خسارات لم تمكني من تحصيل ال٣ بليون سأصرف عليها من شركاتي التانية. 


شهق العالم من هذه الهاشمية
والان ، ماذا حدث ونحن نقارب على انتهاء مهلة العشرة اعوام؟ تقول ناومي كلاين انه: العهد الذي تحول الى مجرد "نية" او "بادرة"
تم صرف ٢٠٠ مليون دولار في شبه استثمارات لمشاريع تطمح الى استخراج الطاقة من مصادر طبيعية كالأشجار او نفايات الغاز - شبه استثمار إذ انه لم يدخل كشريك مالي، انما كمروّج وكمعلن وكشريك علاقات عامة- سرعان ما صرف النظر عنها - وتهربا من "الزنقة" الإعلامية التي تابعت عرضه الكريم الاولاني، فإن برانسون تحول من البحث عن وقود نظيف الى البحث عن عن اي طاقة نظيفة، الى دعم اي حاجة عندها علاقة بالبيئة والسلام (لذا هو يقوم بتجميع اي مبادرة بيئية قام بها ليضيفها عساها تحصل ال3 بليون- بما في ذلك جزيرته الخاصة في الكاريبي والتي تعمل بالطاقة النظيفة والتي بها فندق تبلغ كلفة الليلة الواحدة فيه 60 الف دولار)

لكن دعونا مما صرفه، فلنركز فيما فعله. في اليوم الذي دق فيه صدره كان برانسون على وشك اعلان خط طيران جديد الى دبي، وقال بصراحة انه على غير استعداد ان يتراجع عنه، ولا بأس في ذلك ،فرغم انه صرح انه سيخفض من انبعاث الكربون الناتج من اعماله الاستثمارية، الا انه قام بعدها بافتتاح فيرجن اميركا للطيران، واستطاع في 2013 ان يزيد من رحلات طائراته من 40 رحلة في اليوم الى 177 رحلة في اليوم في وقت تتراجع فيه الرحلات الداخلية في امريكا، وتعود هذه الزيادة لسعر رحلاته المخفض لتصل إلى ٦٠ دولار فقط للرحلة ( الا ان هذه عادت عليه بخسائر فادحة)، رحلاته الى استراليا زادت بنسبة ٢٧ ٪، بالاضافة لإعلانه عن خط طيران داخلي في انجلترا : ليتل ريد والتي اعلن عنها بغرابته المعهودة فقط اكتب على قوقل
 Little red branson- 
باختصار نسبة انبعاث غار الكربون من خطوط طيران برانسون زادت بنسبة ٤٠٪ منذ اعلان تعهده امام كاميرات الاعلام. وزيادة نسبة الانبعاثات لا تعود فقط لزيادة الرحلات فقط، بل لأن طائراته لم تقم بالتعديلات التقنية اللازمة لتوفر في الوقود وجاء في المرتبة التاسعة بين منافسيه في امريكا ( من ناحية توفير الوقود (رغم ان طائراته احدث من طائراتهم وكان بوسعه اتخاذ تدابير للتقليل من حدة الانبعاثات) .لكن برانسون لا يزال يخبىء شيئا في جعبته، جائزة الاختراع السحري للطاقة (او تحدي الأرض) والذي رصد لها ٢٥٠ مليون دولار لمن يتوصل لاختراع يمتص غاز الكربون من الفضاء (لا يزال البحث جاريا) والبليونير القلق في هذه الأثناء أعلن عن اطلاق فرع جديد اسمه "فيرجن قلاكتيا" والذي يطمح في تنظيم رحلات فضائية إلى المريخ ،كما أعلن عن ما يمكن أن تسميه خطة اسكانية في المريخ (لا عزاء لقصي همرور والهاربين من جحيم الأرض) وذكر في خطته أن خطته السكانية ستشمل علماء فيزياء، كوميديانات، اناس ممتعون، اناس جميلون، اناس قبيحون، عينة معتبرة من كوكب الأرض للحفاظ على النسل الإنساني، لأن خطة انقاذ الأرض قد لا تنجح.