Saturday 2 April 2016

توسيع خيال المواطن

انحسار الخيال. أستلف العبارة من أرونداتي روي، الكاتبة والروائية الهندية الفظيعة والتي أٌجْمٍل بها كل تعديات وتجنيات الأنظمة المتسلطة والمدافعين عن بعض أفعالها من المواطنين "الموضوعيين" ، وهو العجز عن رؤية الصورة كاملة، العجز عن تخيل احتمالات أخرى.


وهو ما خطر في ذهني عند انتشار خبر اعتقال الناشطة في مجال حقوق الطفل الأستاذة نسرين علي مصطفى قبل عام ، وفي يوم يصادف تراكم ٤٦ عاما من تعاقب نظامين مهيمنين علينا. ٢٥ مايو ٢٠١٥. ولليوم دلالته! تم اعتقال الأستاذة نسرين علي مصطفى لقرابة العشرين يوما(حيث تم اطلاق سراحها في ١١ يونيو)  بواسطة جهاز الأمن لأنها تحدثت في ندوة أقامتها جمعية حماية المستهلك عن ما يحدث للأطفال في حافلات ترحيل المدارس من تحرش جنسي. بعد حبس عشرين يوما خرجت الأستاذة نسرين معتذرة للرأي عن كلامها الذي قالت أنه افتقر للشواهد والأدلة.
وبعكس ما جرى إليه من مناصري نسرين أو من الشامتين الحانقين على النشطاء. كان سؤال واحد يلح على ذهني. جهاز الأمن الوطني؟ حقا؟ يحتاج الأمر إلى حبس عشرين يوم، ومصادرة للصحف (بعد النشر) بسبب خبر (كاذب) حسب ما اتهمه بها جهاز الأمن؟؟ ألم يكن يكفي مثلا الزام الصحف  بنشر نفي واعتذار، ورفع قضية على المتحدثة وتغريمها؟ لماذا جهاز الأمن؟ ولماذا الاعتقال؟ (جهاز الأمن أسماه استدعاء- لكن اعتقد ان الإحتجاز لأكثر من يوم يمكن أن يسمى اعتقال ولا شنو؟)





لاحقا في حوار أجرته الصحفية لينا يعقوب مع مدير جهاز الأمن " محمد عطا" علل فيه  أنه تم حبسها لأن القضية تمس الأمن القومي!! وعضد ذلك بشرح حالة الهلع التي اصابتها المتحدثة وسط الآباء الذين لديهم اطفال في الترحيلات


كلو ولا الترحيل (!!)


كلام مدير الأمن محمد عطا يقودنا إلى الخلل الأساسي في قانون جهاز الأمن المغلق ، وهو غياب جسم رقابي عليه. مما يجعل البراح واسعا لجهاز الأمن أن يحدد على كيفه ما هو ومن هو المهدد للأمن. ثم له ان يتصرف بعد ذلك على كيفه: حبس عشرين يوم، حبس خمسة ايام، حبس 11 شهر . وهذا الغياب يدفعني لأن أردد كثيرا أن جهاز الأمن وفق توصيف قانونه لعام 2010 يجعله أشبه بمليشيا خاصة للسلطة الحاكمة، اداة تأديبية للتنكيل بخصومها ،تستخدم سلطة وصلاحية الضبط  والاعتقال كوسيلة تأديب (لا وسيلة تحري وتقصي).


فمن ناحية-كما نبهني الأستاذ نبيل أديب المحامي وقد نوه إلى ذات الأمر في عمل الشرطة السودانية- أنه لا بد من علة للضبط. أي لازم يكون في سبب للحجز والإعتقال. ففي حالة الأستاذة نسرين ما هي حلة الإعتقال لدى جهاز الأمن لمدة عشرين يوم ؟ هل هناك خوف من تدمير أدلة ما إذا لم يتم احتجازها؟ هل هناك خوف من هرب المتهم وعدم مثوله أمام جهة قضائية (اذا ما وجهت في الأصل تهمة). يبدو أن الغاية فعلا هو استخدام الحجز والاعتقال كأداة تأديب وتنكيل. وهذه ليست من صلاحيات جهاز الأمن.
لذا كان ما نادى به العديد من المناهضين لقانون الأمن الوطني 2010 أنه لا بد أن تضبط أهلية وصلاحية التحقيق والضبط والإعتقال بواسطة طرف ثاني (غير تنفيذي) هو السلطة القضائية (كقاضي مستقل) أو سلطة عدلية (كمكتب النائب العام). ليكون العبء على جهاز الأمن أن يثبت للطرف الثاني أن المستهدف هو مهدد امني ولماذا هو مهدد أمني، فإما أن يؤيد الطرف الثاني هذا الطلب وبذا يتحرك جهاز الأمن أو أن يرفضه فلا يكون لجهاز الأمن من سبيل على المستهدف.
وأعود مرة أخرى لقضية الأستاذة نسرين وقولها المهدد للأمن الإجتماعي بحسب وصف مدير الأمن محمد عطا، والذي سبب بلبلة لدى اولياء الأمور. حقا! أكثر من البلبلة التي كان يمكن ان تثيرها وزارة التربية والتعليم ولاية الخرطوم حين كان من ضمن مقترحاتها (بعد الكشف عن اعتداء معلم على ٢٦ طالب عام ٢٠١٢ّ) من أن يخضع المعلمون والتربويون في المدارس "لقسم وميثاق شرف".
ثم وتنبيه اخر من الاستاذ نبيل أديب المحامي: ما هو عنصر "التهديد الأمني" هل هو "القول"بأن هنالك تحرش جنسي في الحافلات؟ اذا كان ذاك؟ فما فائدة الإعتقال؟ كلام نشر وانتشر، وهو مثبت عليها. فأذهب به إلى المحكمة. أو أن "وجود" التحرش الجنسي هو المهدد الأمني؟ الأجدى اذا ان تستعين بمن نبهك بوجوده.


لكن في الحقيقة ستسوقك كل الإجابات إلى أن الإعتقال كان لمعاقبة الأستاذة نسرين على قولها (صادقا كان الحديث ام ملفقا لا يهم)- وتجد أنك مواجه بحقيقة : أن المعاقبة ليست من صلاحيات جهاز الأمن.


إنتهى الإعتقال بالإفراج عن الأستاذة نسرين علي مصطفى واعتذارها للرأي العام على ازعاجه. وتلقف هذا الإعتذار الكثير من "الموضوعيين" والذين يمكن أن تطلق عليهم "اصحاب التفكير البسيط" شامتين على النشطاء الملفقين ، مربتين على كتف جهاز الأمن : أن لا غبار ولا تثريب. خاصة وأنها : تستاهل. هؤلاء البسطاء الذين أزعجهم "تلفيق الناشطة" انحسر خيالهم لدرجة أنهم رأووا تنكيل جهاز الأمن بها أمر عادي، فهو كل يوم ينكل بالنشطاء، هذا ما عرفناه عن جهاز الأمن منذ بزوغ نجمه مع "نظام مايو" حتى يومنا هذا .
اذ ان الفوضى التي نعيش في أطنابها منذ أكثر من عشرين سنة، أفقدت المواطن القدرة على تخيل الدور المناط لمؤسسات الدولة ومعنى القانون واهمية "تحديد السلطات" و "محدوديتها"- محدوديتها- محدوديتها.
لا بد من خطاب التغيير الذي يعمل على شحذ خيال المواطن البسيط المنحسر الخيال، حتى لا نرى الدعوات ل"اعدام المغتصبين في الميادين العامة" او تهليلنا لسحل المتهمين في الشوارع أو الشماتة المجانية على النشطاء متغاضين عن أبو كبيرة.

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

ملحق:

قضية التحرش الجنسي والاعتداء على الأطفال (سواء بدنيا او معنويا او بالإهمال) هي مسألة في غاية الحساسية  ولا بد من التنويه للمناطق التي يمكن أن يجري فيها التحرش والتي فيها مساحة انفراد بالأطفال و التي يجب أن تكون محل سهر ومحل نظر السلطات ك"حافلات الترحيل، كمركبات الأطفال في الحدائق العامة والملاهي، كالحمامات العامة في مناطق تجمعات الأسر، كأندية الأطفال.. الخ ". و تشترط أن يكون هناك اشراف للترحيل المدرسي ، تشترط أن تكون هناك رخصة خاصة تسمى (رخصة العمل مع الأطفال) لكل من يعمل في مجال له اتصال بالأطفال. من شأن هذه الرخصة أن تصنع سجلا للعاملين مع الأطفال ، بحيث ما إن تثبت حادثة اعتداء او تحرش أو اهمال من قبل عامل في حق طفل ، يمنع من العمل مع الأطفال .

No comments:

Post a Comment