Wednesday 12 April 2017

الفن أولا... الفن أخيرا


نشر بالممر الثقافية بصحيفة السوداني

الفن أخيرا ... الفن أولا

كثيرا ما يدور الجدل حول أولوية الفنون بين الإحتياجات الإنسانية الأخرى. وكثير ما يجد الفن نفسه معافرا للخروج من موقعه الأخير في قوائم الأولويات المختلفة كقائمة المناهج المدرسية أو قائمة منصرفات الدولة أو قائمة النضال . ولا يختلف جوهر هذا الجدل في البلدان المتطورة أو النامية أو المضعضعة ولكن قد تختلف حدته أو نبرته.
وفي خضم هذا الجدل تبرز صورا مختلفة للفن، تارة كمكافأة وصول لليوتوبيا ومجتمع الكفاية والعدل، أو هو منشط الإنسان الكامل الذي تجاوز الحاجة الحيوانية الملحة و يسعى لتحقيق انسانيته، هو وسيلة تربوية لترقية الفرد والمجتمع، أم هو تعبير وتجلي انساني مُلحّ و عنصر وجوده.
أم هو الدرب والوجهة ومركب الوصول على حد السواء؟
في عام 2014 ألقت الممثلة الآسترالية المعروفة "كيت بلانشيت" خطابا في تأبين رئيس وزراء أستراليا السابق (قوف ويتلام) والذي يعتبره الكثيرون – رغم قصر فترة حكمه-مؤسسا للدولة الأسترالية الحديثة ورائدا لنهضتها وواضع اللبنات اللآساسية لمؤسسات الرعاية والرفاه الإجتماعي. خطاب بلانشيت هز الأوساط الأسترالية و الإعلامية أكثر من الخطابات التي ألقاها السياسيون المخضرمون. بسبب توقيته الملتهب. فقد القي في خضم جدل واسع حول سياسات الحكومة الليبرالية التي لا تألوا جهدا في التملص من السياسات التي غرس ثمارها قوف ويتلام. وتجدون في فيديو الخطاب على اليوتيوب –والذي أنصح تماما بمشاهدته- تصفيقا حادا من الجمهور (وحتى العازفين على المسرح) في كل فقرة من الخطاب تشير فيها لهذا التملص وترون تجهما واضحا وحنقا غير خفي من وفد الحكومة والحزب الليبرالي المشارك في التأبين.
أجد نفسي أقارب بين قوف ويتلام و جمال عبدالناصر في الوسامة التي لا تخطئها العين والجسامة والسيرة الملحمية لكليهما وكذلك النهاية التراجيدية. فقوف ويتلام ترأس وزارة أستراليا في الفترة من 1972 حتى عام 1975 حين تم حل حكومته بواسطة الحاكم العام  (السير جون كير) بسبب تعنت المعارضة التي كانت تملك أغلبية في مقاعد مجلس الشيوخ. يومها كانت وقفته ملحمية أمام مقر الحاكم العام الذي انتهى لتوه من قراءة قرار التنحية واختتمها بالجملة المعتادة "فليحمي الرب الملكة" ، صمتت الجماهير المجتمعة في حديقة المبنى في انتظار تعقيب قوف الذي ابتدر الخطاب بقوله " نعم، فليحمي الرب الملكة جيدا لأنه ما من شيء سيحمي السيد كير (من محاكمة التاريخ)" وثارت الجماهير بتصفيق حاد وضحك سخرية ثم أضاف "إن القرار الذي تلاه عليكم السيد الحاكم العام كان بمباركة السيد فريزر (رئيس المعارضة والحزب الليبرالي) والذي سيذكره التاريخ في مثل هذا اليوم بـ"جرو" السيد كير" –مستخدما هنا ببراعة التشابه الصوتي بين اسم الحاكم "كير" وكلمة كلب هجين بالإنجليزية.
فإلى خطاب كيت بلانشيت   (الخطاب موجود على اليوتيوب انصح تماما بمشاهدته)
"عندما سمعت بوفاة قوف ويتلام اعتراني حزن طاغي، وأسى عظيم. لم أكن قد بلغت سن المدرسة حين انتهت فترة رئاسته، فلماذا أبكيه ؟ أن حضوره في مسيرة حياتي محوري وهام، ولم يكن أبدا مختالا فخورا، فما الذي افتقدته؟
الفقدان الذي أحسه منبعه عميق وبسيط في آن، فأنا ابنة التعليم العالي المجاني. (تصفيق حاد بمشاركة العازفين على المسرح) عندما دخلت الجامعة كان بوسعي استكشاف مختلف التخصصات و الاندماج في أنشطة وبرامج اتحاد الطلاب، وكان عبر هذه الأنشطة أن اكتشفت حبي للتمثيل.
أنا ابنة الرعاية الصحية المجانية الجيدة، (تصفيق حماسي والكاميرا تلتقط تجهم رئيس الوزراء الحالي وحاشيته) وهذا يعني أن القليل الذي كنت أكسبه من عملي بعد دفع الإيجار والضرائب أنفقه في حضور الفرق الموسيقية والمعارض والمسارح والحياة داخل تعبير جيلي.
أنا ابنة المجلس الأسترالي، وابنة سياسة خارجية وضعتنا على مسرح الأحداث العالمي. انا ابنة استراليا تتفاعل مع العالم وتتحاور بصدق مع تاريخها وسكانها الأصليين.
أنا جزء صغير من حكاية نضج استراليا، وكل هذه المبادرات التي ذكرتها تم وضعها وأنا بعد في الثالثة من عمري.
في عام 2004 وبعد أعوام من العمل خارج البلاد، رجعت إلى استراليا للمشاركة في مسرحية (هيدا قابلر) من انتاج فرقة مسرح سيدني, فرقة أحبها جدا. فرقة مسرحية ما كانت لتوجد دون مبادرات قوف ويتلام، ودون سيرته الخالدة.
ثم قمت بتصوير فيلم صغير في ذات العام اسمه (سمك صغير). رواية مدينية في حي متنوع ثقافيا في غرب سيدني. قصة تحكي عن شابة في علاقة مع شاب استرالي اسيوي، خلفيتها تتخللها حكايا عن المخدرات واشباح الماضي. أن مثل هذه القصة ما كانت لتروى لولا التغيرات الجذرية في الحوار الثقافي الأسترالي الذي شكلته سيرة قوف ويتلام.
ففي عام 1972 وقبل ويتلام ، كانت الدراما الأسترالية عبارة عن اهزوجة رعوية، لا علاقة لها بالحضر ولا التنوع الثقافي. الفيلم كان من بطولة هوقو ويفنج، نوني هيزلهيرست وسام نيل، ممثلون بارعون وكلهم ابناء الموجة السينمائية الأسترالية التي أطلق لها قوف ويتلام العنان ابان فترته في الحكومة.
القصة احتضنت اسيا والتنوع الثقافي، كانت قصة قاسية حادة وغير رومانسية  أخرجها مخرج استرالي بارع هو روان وودز وكاتبة استرالية جاكلين بيرسك، كلاهما تخرج من (أفترز- المعهد الآسترالي للفيلم والتلفريون والراديو، جسم حكومي تأسس في عهد ويتلام لتطوير وترقية الفنون) وغالبا درسوا فيه مجانا، والفلم انتجته شركة بورش لايت، برعاية مؤسسات فيلم حكومية برزت للوجود بفضل مبادرات خرجت من فترة حكم قوف ويتلام.
فيلم (سمك صغير) عبر بطريقته الخاصة عن نضج الحس الدرامي الأسترالي على أكثر من مستوى –بعد ثلاثين عاما من التغيرات الأساسية والدعم الذي غرسه قوف ويتلام.
أنا لا أحكي هذه القصة لأشوح فخورة بفيلم سمك صغير في وجوهكم، لكن لهذا السبب البسيط. فالفيلم تم تصويره في حي كبراماتا- سلامات يا أهالي كابرماتا !! – في قلب الدائرة الإنتخابية لقوف ويتلام. واليوم وجدت نفسي مكلفة للحديث عن الأثر الذي خلفه قوف ويتلام على النساء وعلى الفنون، فغرقت في الحيرة ولم اعرف من أين أبدأ.
لذا غرزت دبوسة بشكل عشوائي على الخريطة، ذلك أن أثره في الخريطة السياسية الثقافية هي من الاتساع بحيث انه اينما غرزت دبوسك انهمر فيض من سيرة قوف ويتلام. ممثلون استراليون بارعون- مخرجون وكتاب افلام- المعهد الأسترالي للفيلم والتلفريون والراديو، فرقة سيدني المسرحية-كابراماتا- التعدد الثقافي- حكايا المدينة- علاقة استراليا مع اسيا- ثقافة قومية معقدة تعيد فحص ذاتها عبر دراما معقدة ومكتوبة ببراعة- والقائمة تطول !! وكل هذا من غرزة دبوس واحدة في فرع من الفنون من منتفعة واحدة. وها أنا أشعر بالإرهاق لمجرد المحاولة في تصور الأمر.
على ذكر الإرهاق! انا ام عاملة لثلاثة ابناء، عندما قبلت الدور في فيلم (سمك صغير) كنت قد أنجبت لتوي ابني الثاني. لم يرتفع نحوي حاجبا. لم يصدر أحد حكما. لم يصمني أحد بالعجز. ذلك أن ثقافة الوعي بالمرأة وحقها في الأجر المساوي في العمل كان قد خاطبته حكومة قوف ويتلام بهمة عالية.
كحق الأمهات في الدعم المادي.قبل عام 1973 وقبل قوف ويتلام. كان ذلك المعاش محصورا للأرامل، لذا توسيع المعاش ليشمل الأخرين أتاح فرصة الخيار للأمهات العازبات في الطريقة التي يربين فيها ابناْءهن، وساهمات في محو الوصمة التي كانت تحيط بالأم العزباء.
هناك الكثير الذي أود أن أقوله. حتى من زاوية نظري الصغيرة الضئيلة الهامشية. لذا ما أود فعلا أن أفعله في هذا التأبين أن أتخيل أنني فوف ويتلام لدقيقة. لا تقلقوا لن أقوم بتقليده ، فما من أحد بوسعه ذلك.
قال قوف ويتلام عن حكومته:
" في أي مجتمع متحضر، لا بد للفنون  ووسائط الترفيه أن تشغل موقعا مركزيا فيها. لا يجب أن ينظر إلى التمتع بها بشكل منقطع عن الحياة اليومية العادية. ما من هدف من بين أهداف حكومتي يشغل أولوية قصوى كتشجيع وترقية الفنون وحفظ واثراء تراثنا الثقافي والفكري. بل أود أن أثبت أن كل أهداف حكومة العمال من الإصلاح الإجتماعي، والعدل والمساواة في توزيع خدمات الرعاية الإجتماعية والفرص التعليمية تحمل في قلبها غاية خلق مجتمع تزهر فيه الفنون والقيم الفكرية والروحية. لذا فإن أهدافنا ما هي إلا وسيلة لغاية. والتمتع بالفنون هي الغاية."
وأي غاية!

No comments:

Post a Comment