Saturday 8 July 2017

معثور عليه في الترجمة- عن قلزار صاحب

كنت قد ترجمت من قبل مقطعا من محاضرة قدمها مجموعة من الدارسين المنتمين لجمعية ابن عربي وضمنتها في مقالة نشرت في مجلة البعيد الالكترونية بعنوان " بستان المحبوب" وكان المحاضرون قد ووجهوا بسؤال حول قدرة اللغة الأجنبية على تحمل ثقل المعاني المضمنة في كتابات ابن عربي. فتفتقت اجابات محبة عاشقة للسؤال بوسعكم الاطلاع عليها في المقال، لكني استهل هذه الكتابة باجابة احدى المشاركين التي نصحت طلابها في تخصص الترجمة بأن لا يبحثوا عن ما هو مفقود في الترجمة بل عن المعثور عليه.
ثم افاضت بالحديث عن اهمية الترجمة جيدة كانت ام رديئة، حيث انها ان كانت رديئة فهي  أشبه بالفسيل الذي يشق دربا في ارض اللغة الجديدة ولا بد يوما ان تبزغ وتزهر ثمرا.
وأنا بدوري اشبه الأمر بالفراش والعتة حول اللهب. حيث ان النص في لغته متوهج حار منير، ومهما كان الفراش قاتما او العتة بغيضة او سمينة او كسولة فإن شيئا من تبر النار لا بد أن ينعكس عليها.
كمعظم أبناء شعبي ، تهبش أغاني الأفلام الهندية وترا عندي، استطعم حروفها في حلقي، وأحلق مع معانيها، أتابع الترجمة المقتضبة العجولة المستهبلة احيانا أو هكذا أظنها مستهبلة، وبطول الزمن تشكلت عندي ملامح شاعر وملامح شعره، اتلمسها بثلاث عناصر. فإن كان في الأغنية  أولا مزاج صوفي بمفردات الحضرة والكشف والسكر وتجلي المقدس في المعبود والمعبود في المقدس ثم ثانيا عبرت عن نوع خاص من الحب حيث يتشكل فيه المحبوب أبا وابنا للمحبوبة في آن، معبرا عن رعاية فائقة وعن احتياج عارم ، واخيرا ان حوت الأغنية وصفا بديعا و ساحرا للطبيعة كما لم توصف من قبل، أدرك عندها أنني في حضرة الشاعر الهندي قُلزار. وبدأت أتنسم سيرة هذا الشاعر البديع والأعمال التي شارك فيها ووجدت تقاطعا بينه وبين سيرة شاعر اوردي متصوف في قرن سابق هو ميرزا غالب- واه! رباه!   من شعره كما يقول الهنود استحسانا واستطعاما للشعر- وعلمت أن هنالك عملا دراميا تلفزيونيا في الثمانينيات تم انتاجه حول سيرة أسد الله ميرزا غالب وليس في الأمر عجب فإن كاتب سيناريو العمل هو الشاعر المعاصر قُلزار. ولقلزار أيضا ترجمات من البنغالية للهندية للشاعر العظيم طاغور.

للبوليوديون الأصليون، تجدون تلك الخلطة الثلاثية لشعره في أشهر الأغنيات التي كتبها قلزار، وهي تشيا-تشيا أو (امشي امشي) من فيلم ديل سيه ، وفيها يقول :
مفضوح عطرها التي تختبئ في خيلاء الوردة
سأدرعها تعويذة حين اجدها ايتي المقدسة
محبوبتي وايماني
هي النغمة وهي الكلمة

ثم في أغنية "أجنبي" التي هي عندي من أجمل أغاني بوليوود يقول مقطع منها وقد صرح قُلزار أنها من مفضلاته، يقول:
" أيا طائرا جاي من بعيد
أيا غريب، أينما كنت، نادني، أجري اسمي على لسانك
ها أنا أحيا مبعثرا
وانت هناك مثلي مبعثرة
في غدوها ورواحها توشوشني ريح حريرية
الزهرة الحليبية المعصومة أين هي
نورك ،حياتك أين هي؟
ها أنا أحيا مبعثرا
أنت هناك مثلي مبعثرة"

ثم أغنية أخرى هي "كجراري" أو "طرفك المكحول" والتي قوبلت بشيء من الاستهجان لإيغالها في الدارجية واللغة اليومية، فيرد مدافعا : وفي اللغة اليومية شعر! الأغنية كما فسرها تدور أحداثها في استراحة طريق سفري فلا بد أن تكتب بلغة حكمة اللواري المسطورة في حديدها. يقول فيها:
"لا زلت أذكر لقاءنا في دلهي القديمة
منقوشة حكايتنا في دلهي القديمة
من "باليماران" وحتى "درب تالاك"
(وقد اختلف محبوا قلزار في تفسير هذا المقطع وذكر هاتين المنطقتين تحديدا باليماران ودرب تالاك الأولى مربوع قديم في حي شعبي هو تشاندي تشوك والثانية درب مشهور للجواهرجية في دلهي تباع فيها الأحجار الكريمة -كما خان الخليلي في القاهرة، لكن حوار من حواريي قلزار قال أن باليرمان هو المربوع الذي يضم منزل ومزار الشاعر الأوردي ميرزا غالب الذي افتتن به قلزار اما درب الجواهرجية فليس مجرد درب شعبي بل هو المربوع الذي ضم بيت شاعر عظيم اقدم هو مير تقي مير والذي كان غالب نفسه مفتون به. سلسلة افتتان هي اذا) – نواصل الأغنية فيقول:  
أعيذك باسم المتشح سوادا
اقسم يعينيك السوداويين
نفسي ترقي عينيك السوداوين
نفسي تصلي لعينيك السوداوين
قلبي مثقل وفمي مشرع فتعالي
(وكان هناك ملاحظة لطيفة من أحد حواريي قلزار اعتمدتها في الترجمة حيث أن المقدس المتشح سوادا قد تكون الإلهة الهندية كالي وقد يكون المتشح سوادا هو اشارة للنبي عليه السلام الذي كان يتلفح شالا اسود)

أما في وصفه الطبيعة فيقول في احدى أغنياتي المفضلة "بول نا هالكي " هامسني، او كلمني همسا" يبتدر الأغية ب
"استل لك خيطا من شعاع القمر
انسج خمارا من هالته المضيئة
أن كنت خجلا فتدثر بحضني
ودع أنفاسنا تشتبك"


قلزار شاعر له مكانة لدى العامة في الهند وتلمست من احدى قراءاته لشعره أن له طريقة في الإلقاء والحضور يشبه حضرة شعرائنا الدارجيين الفصيحين كحميد أو محجوب شريف، وله معزة يفصح عنها احتجاج جمهوره عن سبب عدم ترشحه بعد لجائزة نوبل للأدب. (بالمناسبة نال قلزار جائزة اوسكار مناصفة مع الموسيقار الشاب العظيم ا ر رحمان عن اغنية جي هو من فيلم سلم دوق مليونير)
وجدت أمسية شعرية على اليوتيوب جمع بين الشاعر قلزار وصديقه ومترجم أعماله بافان بارما وهو ايضا شاعر وسفير دولة الهند في جمهورية بوتان، ودارت بينهم محادثة لطيفة حول الترجمة، يقول المترجم أنه حين أرسل احدى الترجمات لقلزار رد عليها بكلمة واحدة "خائنة!" فأصابه القلق لعل الترجمة لم تكن بالمستوى المطلوب فعندما استفهمه عن رده قال  "خائنة لأنها جميلة، كما في  المقولة أن العشيقة إن كانت دميمة فهي وفية وإن كانت جميلة فهي خائنة"
وهذه مقاطع ترجمتها عن ترجمة المترجم عسى أن يجد القارئ في رمادها شرر من هذا الشاعر العبقري
القصيدة الأولى عن عملية الخلق الشعري
" حينما دفنت فكرة في ورقة
فَتَحَت القصيدة عينيها ورأت
كم  التلال التي أهيلت عليها
صوت كالبخار خافت تهادى قرب أذني
لم تكتبني بكلمات كثيرة؟
نظمك يخنقني بقبضته
وفي عويل استعاراتك طويت كل حركة لي
هل تحتاج كل هذه الحجارة لتدفن فكرة؟
*****************
القصيدة الثانية يقول قلزار أنه استوحاها من سيرة شاعر دالتي (اي منبوذ) قديم:
وسط ضمخ التبغ والثوم
في تلك الخمارة ذات السقف الخفيض
حيث تجول الموسيقى عارية ترقص بخطل وتدب بقدميها
في خضم عبق التوابل النيئة والعرق والبصل وسخونة الدخان المعلق
يجلس شاعر على طاولة الرخام الباردة
يقطع حبلا سريا
مضرجا بالدماء
لعله الآن قد ولدت قصيدة
القصيدة الثالثة أيضا عن كتابة الشعر
قصيدة رَكَّت على لحظة  مسجونة في شبكة للفراش
قطعوا جناحيها
ثم دبسوها في كتاب
إذا لم يكن هذا هو عين الظلم فما هو؟
في شربكة الورق تصبح اللحظة محنطة
وحدها أصباغ القصيدة تقطر من أصابعي
مأساة السدود ليست وحدها عندنا وكثيرا ما وددت لو أننا تحركنا نحوها لا كمسأالة سودانية أو نوبية خاصة بل شأن يخص الكوكب كله كما فعل الناشطون في الهند. يحكي قلزار عن سد قائلا:
في هذا الوادي المضطجع بين جبال ثلاث، سيشيد سد
سيشيد سد
تعال وأحمل على رأسك فتات هذه القرية
كوّم قراباتك وأنسابك على عربة وأدفرها
أرفع على كتفك سلة واحشر فيها سلالاتك
 وأحشو جيوبك بقبور أحبابك
الطقوس والعادات والتقاليد وما يعرف بالثقافة اعقدها حول عنقك قبل الرحيل
وحول خصرك اربط اولادك العرايا
الأضرحة وحلو الذكريات وعذب المياه والأبار اقتلعها جميعا
اقتلعها وارحل
النهر الذي منذ دهور كان ينساب متهدلا  بين الجبال الثلاث
سيترقفص كأفعى في الوادي
*************
:وقصيدة عن شجرتين :مشمشة و جوزة
شجرة مشمش وشجرة جوز جلستا قرب بعض لزمن
وحين يسقط ظليهما على النهر الجاري
يخلعان ملابسهما ويعومان طوال اليوم عراة
مرات يبعدان حتى الضفة الثانية
المشمشة كانت مكتنزة
والجوزة فارعة
وحين تطارد المشمشة  دوامة تحتضن صخرة قريبة وتنجو
ممسكة بيد الجوزة
عبثا تحاول الجوزة أن تفهمها
اسمعيني يا مشمشة لا تشتبكي مع الدوامة فهي ستسحب الأرض من تحت قدميك
وفي يوم هاج النهر
و سحبت دوامة المشمشة من قدميها فقفزت في المياه الهائجة
لا تزال الجوزة محدقة باتجاه سريان النهر
قامتها انحسرت شيئا ما
*******************
عرديبة:
في مدينة كسبا عند الناصية تقف شجرة عرديب عاتية
ساخطة ابدا
مفاصلها المريضة معقودة كجذور الجنزيل
تهرش جلدها طوال اليوم- مصابة هي بالأكزيما
وفي المنعطف حيث تقف الحافلة
يسارع الناس ويطفئون برنجياتهم على جسدها قبل أن يركبوا
يبصقون تبغهم عليها
قطعوا أغصانها بالسكاكين
رموا الحجارة عليها- هكذا- في انتظارهم العاطل
ولهذا هي ساخطة أبدا
ولهذا هي تبتلع الذباب والعناكب الحمراء والسمراء
تنفض عن يدها سنجابا لاهيا
وتستأنس النمل حتى اذا ما اتكأ عليها أحد ونظف حذاءه بجذعها
أطلقت عليه نملها
ساخطة أبدا
عند ناصية مدينة كسبا تقف شجرة عرديب
************
قصيدة عن شجرة أم:
يا للمهملات التي يخلفها الناس في حوشها، فتضطر الأم أن تجر مكنستها مرتين في اليوم
لكل الضيوف الزائرين تمنحهم بذورها، للبغاوات والحمام الجالس على أغصانها طوال اليوم
ياكلون القليل ويخلفون الكثير، ملقون بالأنوية على الحوش قبل الرحيل
حتى العصافير بنت أعشاشها على فروعها فتتطاير شظاياها على حوشها طوال اليوم
ومن دغش الفجر حتى عفر المغيب يجري سنجاب متوتر أعلى واسفل فروعها الرب وحده يعلم فيما عجلته
وعلى أعلى فرع فيها يجلس صقر كمجنون يظل محادثا نفسه
والغربان الملعونة تأكل العظام واللحم الذي نهبته على أغصانها ، الغربان التي تدعي الوقار
تهشهم الأم :هش!! هش!! فيحلقون ساخرين رامين بقايا وحشيتهم عليها
ومع ذلك- من يدري لماذا- تصيح الأم خلفهم: يا غراب، حين يُحمل نعشي، تعال! بالله عليك، تعال!
**************************
وأخيرا قصيدة تستلهم أسطورة الخلق من  لتحكي عن ما يعرف بأثر الفراشة- كيف يمكن لشيء صغير ان يغير مجرى الكون:
يحكى أن شجرة تين تنزلت من قمة جليدية (شجرة التين يتكرر ذكرها في البوذية والهندوسية كشجرة للمعرفة أو شجرة الخلق)  
النهر المضطجع تحت الشمس كان نائما
خطت عليه التينة وتوقفت
رأت الشمس صورة التينة في عين النهر
طوال النهار يدندن النهر مغنيا وفي الليل يضع رأسه في حجر التينة مفكرا
ليته بوسعي الوقوف على قدمي فأعانق التينة
الغروب تتبختر بوركيها كل يوم عند المقابر
حيث تمر الدهور ويشيب شعر السماء عند المفرق
وفي يوم أمسكت التينة يد الغروب الماجنة
لماذا تهرولين عبر السموات الى أحضان الشمس لتسودي اسمك؟
علت حمرة في وجنتي الغروب
اقتلعت التينة ورقة من بين أفرعها
"سلمي هذه الورقة لرب السموات"
وقبل أن يمتقع وجهها شاحبا جرت الغروب
ولكن في الطريق لاقاها القمر لوى رسغها وانتزع الورقة
راهو كيتو جرى نحوها ليحرر يدها (راهو و كيتو في الهندوسية المرموز لهما بجسد أفعى ورأسه منفصلان، لهما دور في اسطورة الخلق وهما أيضا في علم الفلك الهندوسي يرمزان لعقدتي مدار القمر- عقدة تصاعدية وعقدة تنازلية لعل أهل الفلك اقدر على التفسير)
فانخلع سوار يدها وامسك به زحل
نجمة هيليس النمامة جرت من مدار لمدار تنشر الخبر
ولعقود ذاعت هذه الحادثة في الكون
مرت دهور او ربما في نفس اللحظة التي خطا فيها الزمن بنعله الخشبي على الكواكب عابرا الكون
ورقة تينة متهادية التصقت بظهر الزمن فغير الزمن مجراه
وحينما نزلت من الجبل ماذا رأت؟
كان الغروب مستلقيا في حجر الليل
والنهر على قدميه مجدولا مع التينة
وعلى صدر الجبل نبت أول العشب

No comments:

Post a Comment