Wednesday 30 April 2014

سلمية جد؟ جد سلمية. مسألة مبدأ

قلت ان الحركات والتنظيمات السياسية في السودان ليس حركات سلمية. هي تنظيمات غير مسلحة. واستند في ذلك على انها تعتمد النضال السلمي اما كتكتيك او كاستراتيجية. وهنا في رأيي موطن الخلل. فالنضال السلمي لا بد ان يرتكز على مبدأ - "كلمة مبدأ هنا تبدو في غاية الرومانسية لكنها سأوضح انها على النقيض من ذلك تماما


النضال السلمي كخيار تكتيكي: والمعني بذلك هو ان التنظيم ليس لديه الكادر او السلاح للقيام بعمل مسلح او انه التنظيم غير قادر على تحمل تبعات العمل المسلح ، اي انه يفتقر لرؤية شاملة للعمل المسلح تجعله يستطيع ان يجني ثماره ويحقق من خلاله الغاية (او ان تمدد جناح عسكري للتنظيم قد يؤثر سلبا على تركيبته) فعندها يعلن التنظيم التحول للعمل السلمي

والمشكلة في ذلك هو ان السلطة في الغالب تقوم بترجمة ذلك التحول ترجمة صحيحة ان التنظيم يعاني اما من شرخ سياسي او انه يفتقر للقوة المسلحة. عندها تضرب السلطة التنظيم بكل قوة وبكل شراسة. 

النضال السلمي كخيار استراتيجي: هو ان يرى التنظيم ان انسب وسيلة للنضال في مرحلة ما هو النضال السلمي. كأن يرى التنظيم ان الفرصة الان مواتية لتصعيد العمل السلمي وهناك "هامش للحريات" او ان تصعيد العمل المسلح سيؤهل البلاد للتمزق وتمدد الحرب لكل أنحاء البلاد وما الى ذلك. فيقرر انه خيار النضال السلمي في هذه المرحلة هو المرجح على خيار العمل المسلح

 والمشكلة في ذلك هو ان كلفة النضال السلمي  عالية جدا، والتحديات التي تجابهه كثيرة ومريرة واحباطاته واخفاقاته الظاهرية متكررة. مما يؤثر على تماسك الكادر التنظيمي امام جدوى النضال السلمي وسرعان ما ينجرف نحو العمل المسلح -ان وجد- او ان تتفكك البنية الداخلية للتنظيم باختلاف الرؤي ما بين القيادة التي تخطط والكادر الذي ينفذ. والنضال السلمي يعتمد اعتمادا كليا على تماسك عضوية التنظيم وعناده - برضو عناد هنا شكلها كلمة رومانسية لكنها في الحقيقة وسيلة نضال كما سنوضح

أظن ان التنظيمات الوحيدة التي تستطيع ان تتجول بحرية ما بين خيار العمل السلمي والمسلح هي التنظيمات العقائدية، حيث يكون الانتماء والرابطة التنظيمية في اساسها رابطة "عنيفة" بحيث انها حتى حين تعتمد خيار العمل السلمي فإنها تعكف عليه بشكل محموم وكتائبي. ولعل المثال الابلغ هنا هو تنظيم الاخوان المسلمين في مصر.، حيث ان عضويته ظلت متماسكة في كل التحولات المرحلية للتنظيم عند اعتماد خيار العمل المسلح او التصعيد السياسي عبر العمل النقابي او 
الحملات الانتخابية او التمدد عبر العمل الاهلي والطوعي او التظاهر السلمي- وحيث الى حد ما يرى ان "الغاية" تبرر 
الوسيلة. فالغاية ينظر اليها بعاطفة "جياشة" و"مجيشة

احب ان اضيف هذه الفقرة : القول بأن النضال السلمي هو نضال صفوي او انه نضال من لا يطأ الحارة فيه كثير من التضليل. فليس هناك اكثر صفوية من النزاع المسلح اذ انه يدور في صفوة مختارة (التي تمتلك السلاح والقدرة على استعماله) مقصية بذلك فئات كثيرة من المجتمع، ثم انها تصطفي زمن النضال (مواجهة مع الطرف المسلح، الكماين) على النقيض من العمل السلمي الذي هو متاح للكل وفي كل وقت- انتهت الفقرة- نعود للمقال

يعني هل الفارق كله اذا في اعتماد النضال السلمي كمبدأ؟ بس؟ 

في رأيي- نعم

كل الحركات السلمية التاريخية اعتمدت "مبدأ" للنضال السلمي، اعني بذلك مثلا الارتكاز الى مفهوم روحي او الى رؤية انسانية سامية. يبدو ظاهريا انه تصريح في غاية الرومانسية، لذا تجدني دائما ما يلتبس علي الامر . هل المهاتما غاندي قديس ام انه رجل حذق ومخطط سياسي بارع؟ 

الا انه هذا من ذاك. المبدأ الذي تعتمده لبناء حركة نضال السلمي هي التي تملي عليك تكتيك واستراتيجية العمل السياسي والحقوقي وهي التي تضمن لك نجاحه

مثلا عند المهاتما غاندي كان المبدأ المرتكز عليه هو مبدأ روحاني يرى ان الانسان في اصله محض خير، وانه له قدرة على ارتكاب الشر فقط عندما يتذرعه بذريعة. لكن ما ان تسقط تلك الذرائع واحد تلو الاخرى ويتبدى الشر عاريا من كل ذريعة حتى ينهار بانحياز الانسان الى الخير. مثلا- عند غاندي- والي ولاية الخرطوم الخضر لا يرى انه يسمح بتمدد الفساد وتفشيه في مكتبه لانه هو ذات نفسه رجل فاسد سيبتدع حيلة "التحلل" لذر الرماد على العيون. ويعيش سعيدا مع زمرة فساده. عند غاندي لا يستطيع المرء الشرير ان يعيش بصورة شريرة عن نفسه لذا يقوم بتجميلها ليختبئ من حقيقة فعله الكريه. فيقول الخضر ((انا سأسمح بتفشي الفساد واستغلال النفوذ والمنصب في مكتبي للحفاظ على تماسك التنظيم في السلطة، في الوقت الحالي لا يسعنا ان نقوم بحملة تطهير ونحن بحاجة الى وجود كوادر لها ولاء للمؤتمر والا لتساقط النظام وعمت الفوضى في البلاد، صحيح ان الوضع سيء لكن غيابنا سيكون اسوأ، ثم المشكلة الاساسية تكمن في انه تم اختلاس اموال من الخزينة وها هم المختلسون سيرجعون جزء منها وهو بالتأكيد افضل من عدم ارجاعها. اضف الى ذلك سأعوض الشعب بأن انوي ببناء ثماني مدارس ثانوية في امبدة ومراكز صحية في الثورة)) بهذا السيناريو الداخلي يستطيع الخضر ان يخلد الى النوم وان يستيقظ الصباح ويتسوك ويصلي ويفطر ويسلم على زوجه ويرتدي ثيابه ويتجه الى عمله من جديد
فالذي تفعله حركة غاندي هو العمل على تفكيك هذا السيناريو الداخلي ونزع الذرائع واحدة تلو الاخرى حتى لا يكون امام الخضر مناصا او ملاذا يختبئ خلفه سوى ان يشير الى ذاته العارية قائلا : انا فاسد

لذا كانت ابرز تكتيكات العمل لدى حركة المهاتما هو التوثيق وجمع الحقائق. التوثيق الدقيق لكل شاردة وواردة. لمن شاهدوا فلم غاندي يدركون ان هذا التكتيك تحديدا كان له اثر بالغ فيما يعرف باحداث "تشامبران" حين فرضت الحكومة البريطانية الاتاوة على المزارعين الفقراء بعد ان منعتهم من زراعة المحاصيل الغذائية. في نهاية هذه اللقطة ينضم الى غاندي شبان ومحامون من المدينة يسألونه عن ما يمكن ان يقدموه فأجابهم ان يوثقوا لكل ما يحدث بشكل صادق ودقيق. وهذا ما جرى على مدى شهرين. كانت التقارير التي ترد من الاقليم الهندي تخجل الامبراطورية البريطانية. وهناك امر هام في هذه الحادثة رفض غاندي رفضا تاما ان يتم قرن مطالب مزارعي الاقليم بالغاء الضريبة بمطالب الجلاء او الحرية. ليه؟
لو كان فعل ذلك كان الظلم تخفى تحت الذريعة التي يريدها : حفظ امن الامبراطورية


في القروب الذي تم انشاؤه حديثا على الفيسبوك (يا زول استقيل)- انشأه الاستاذ حسين ملاسي- لاحظت الكثير من التعليقات التي تقول : هي بقت على الخضر؟ الحكاية دي علاجها ذهاب النظام كله؟ وما الى ذلك...لالا
 ارى ان يوضع الامر هكذا. والي غير قادر على ادارة الفساد في مكتبه فكيف به في ولاية؟ وان يتم التركيز على هذه النقطة. علينا ان لا ننشغل بالكلام عن "التحليل" وما الى ذلك. الامر ببساطة اختلاس مبالغ ضخمة واستغلال نفوذ في مكتب الوالي (مكتبه مش ولايته) رجل لا يستطيع ضبط مكتبه بالضرورة لا يستطيع ضبط ولاية . وهكذا يتم التركيز على عجز الرجل حتى لا يجد النظام مناصا ان يقول هو عاجز


نعود الى المقال
 هناك مبدأ اخر يرتكز عليه غاندي وهو ان "في المعاناة الخلاص" ليس المعاناة التي نعانيها كل يوم.. بل معاناة يختار المناضل ان يتكبدها من اجل قضيته- قد تبدو هذه عوارة- خاصة بالنسبة لي وانا لا احب المعاناة خالص!! لكن تكتيكيا واستراتيجيا يا له من مبدأعبقري على عدة نواحي. من ناحية ما يبدو ظاهريا كضعف هو قوة تماسك لعضويتك، بحيث تتحول كل ما درج تسميته على هزائم من "قمع و سجن وجلد ومصادرة ممتلكات وتعذيب ومحاكم كاذبة" الى انتصارات يعيشها المناضل. هذه القوة تمنع تساقط العضوية. والنضال السلمي يعتمد على الحراك الجماهيري (صحيح يجد الالهام في المبادرات الفردية) لكنه في اصله حراك جمعي ويلزمك ان تفكر دائما في الطريقة التي تلزم تماسك جماهيرك


عند مارتن لوثر كنق اتبع معظم ما سار عليه غاندي وزاد عليه مبدأ المحبة. فعند مارتن لوثر كنق الكراهية هي داء يستهلك صاحبه دون ان يضر خصمه.  اهمية هذا المبدأ على المستوى التكتيكي والاستراتيجي هو ان الفرق بين الهند وبين امريكا انك هنا لا تحارب في قوة استعمارية مفروضة على اصحاب الارض ولكنك تحارب في دولة تحظى مؤسساتها بتأييد شعبي من السكان البيض. فخدمت هذه الاستراتيجية في منع الانجراف نحو العنف الذي بدا في كثير من الاحيان مستحقا "للرد على الجرائم التي ارتكبت في حق السود" والاهم من ذلك منع الجدل حول حقوق السود من ان ينجرف نحو خطاب عاطفي من الطرفين يمنعهم من الجلوس سويا والتوصل الى نتائج

المحبة -كمبدأ واستراتيجية وتكتيك عمل -ميزتها انها طاقة نفس طويل بعكس الكراهية التي هي طاقة نفس قصير . توظيف خطاب عنصري مضاد وكراهية سرعان ما سيذوي (وقد كان يحدث ذلك عبر فترات من تاريخ نضال الزنوج) لأنه يقرع ابواب صماء ولانه سرعان ما يقمع بالة عنف عمياء. وسرعان ما ستستهلك كادرك في نضال قصير الامد. لكن المحبة -لا اعني بالضرورة الحقيقية- لكن خطاب المحبة-يعطي للمناضل قوة "الصواب" مما يجعل الاستمرار ممكنا

ليس ضروريا ان يكون مبدأ روحانيا- يمكن ان يستند الى واقع نعيشه اليوم. حيث تتفشى سياسات "التخويف من الاخر" فتحرص كل دولة خائفة ان تقتني ما يكفيها من اسلحة الدمار الشامل. او كما يقول مارتن لوثر كنق : الخيار اليوم ليس بين اللاعنف او العنف...الخيار اصبح بين اللاعنف او الفناء

 ان اي حجة تطلقها للعنف في اي بقعة من بقاع الارض هي حجة عليك. فالعنف لا يفرق بين نصير له او عدو

من المبدأ تبدو الخطوات الاربع لأي حملة لاعنف معقولة - كلمة حملة لماذا؟ 
ما كان يميز حركات النضال السلمي هو انها لم تكن تعمل من اجل اهداف مجردة. لم تقم حملة من اجل العدالة او المساواة او السلم. قامت حملات من اجل التساوي في ركوب الباصات في مونتغومري، قامت مسيرة الى واشنطن من اجل المساواة في فرص التوظيف ومن اجل تمرير وثيقة الحقوق المدنية في الكونجرس، قامت مسيرة من اجل فك احتكار صناعة الملح في الهند. لماذا؟ لأن لديك كادر عليك ان تحفظ تماسكه. على الكادر ان يرى نتيجة وقوفه واعتصامه وسهره ملموسة امامه في شكل تمرير قانون او فك حظر ما  او رد فعل مباشر... فكيف تقول لكادر ها قد جنيت الحرية؟


الخطوات الاربعة هي : جمع الحقائق التوثيق لكل اوجه ومناحي الظلم واثباته بحيث لا يجد الظلم ذريعة يتخفى حوله 
ثم الخطوة الثانية هي التفاوض - وهذه التي نجد فيها عصلجة دوما.. والمقصود بالتفاوض الوصول الى ارضية عمل مشتركة مع السلطة لتحقيق بما فيها قبول الحد الادنى ( الكثيرون من المناضلون يعلقون صورة مانديلا-يهللون ماديبا ماديبا) سمح فلنقدر نكون زي ماديبا الذي "تفاوض" وقبل "الحد الأدنى" وبعضنا يأنف من التفاوض يقول لا تفاوض بل زوال السلطة كلها- مارتن لوثر كنق ابان حملته لانهاء التفرقة في قوانين السكن والايجار..ليس لدي مانع ان افاوض كل مؤجر في امريكا واحد واحد لانهاء التفرقة في السكن
ثم عند فشل التفاوض ما يسمى "بالتطهير الذاتي" اي الاستعداد للمعاناة النبيلة او المعاناة الخلاقة.. بمعنى الاستعداد الروحي والفعلي للفعل المباشر وهذا ما عرجنا عليه في المقال السابق- والاستعداد يمكن ان يكون عبر نشر الوعي حول ابعاد القضية المقصودة او تهيئة الكادر او الجماهير للخطوة الاخيرة والتي هي الفعل المباشر
ثم الخطوة الاخيرة الفعل المباشر والتي الهدف منها هي استفزاز رد فعل من السلطة..مش فعل مباشر والسلام. سواء كان ذلك اعتصاما او فك حظر ما او توزيع المناشير او المسيرات ...الخ

طب نحن هسي نجيب مبدأ من وين. في تاريخنا السوداني مثال ناصع نرتكز عليه هو ثورة اكتوبر والتي برع الاستاذ محمود محمد طه في تحليلها لاحقا واستلهامها كمبدأ للحركة السلمية، وعندي انا فإن الحركة الجمهورية ابان الاستاذ محمود محمد طه هي الحركة السلمية الوحيدة التي اعرفها (اعرفها انا) سأعرج على ذلك في المقال القادم ولن انسى ان اذكر لكل المشككين ومن بينها نفسي التي بين جنبي... ان اطرح تساؤل : ماذا عن تأييده لانقلاب مايو؟

2 comments:

  1. في انتظار المقال القادم
    شكرا ميسون

    ReplyDelete
  2. السياسة هي فن الممكن ، للأسف جميع التيارات السياسية السودانية لديها تنظيمات عسكرية أو إمتدادات و أجنحة مسلحة ، بما في ذلك التنظيمات اللا عقائدية ، بإستثناء الجمهوريين، و إن كانوا فكرة صوفية أكثر من كونها فكرة سياسية ،،،الشخصية السودانية و العربية عموما ذات نفس قصير لذلك تلجأ للعنف بجميع أشكاله بداية من العنف اللفظي ضد الآخر

    ReplyDelete