Wednesday 16 April 2014

سلمية جد؟ جد سلمية ١- رسائل المرحاض

سلمية جد؟ جد سلمية
كل ما واجهت السلطة المواطنين العزل بالسلاح وبالعنف برز التساؤل في اوساط المثقفين والمتابعين للشأن العام حول جدوى النضال السلمي وترتفع دعاوي رفع السلاح والعنف المضاد. غير ان السؤال الذي يخطر الى ذهني حالما اسمع هذه الدعوات انو "أين النضال السلمي؟". فلا يعني النضال السلمي عدم حمل السلاح  او الصياح في وجه كومرات السلطة المدججة والصماء : سلمية! سلمية!
فالنضال السلمي ذلك الارث الانساني العظيم الذي خلفته لنا العديد من الحركات في ارجااء العالم ، فأضافت كل منها له او حوّرته بما يتناسب مع مطالبها او ظرفها التاريخي: هذا النضال له اصول وقواعد.
ينقسم هذا المقال الى ثلاثة أجزاء. الجزء الاول ليس سوى حكاية  لم استطع –ولعلني لا اريد- تجاوزها. واستميح لياقتكم في عنوانها:

1- 
  رسائل المرحاض


(هذا ما اصطلحت لجنة التنظيم لمسيرة واشنطن 1963 على تسمية الخطابات التي كان تترى على 
نائب رئيس اللجنة  المنظمة والدينامو المحرك لها: بايارد راستين.)

في كل عام يتم تخليد ذكرى المسيرة الحرية والعدالة في التوظيف سنويا في امريكا، التي سار فيها ربع مليون امريكي اسود من الولايات الجنوبيد الى العاصمة واشنطن. وجرت العادة في ذلك اليوم تخليد ذكرى المبجل مارتن لوثر كينق صاحب الخطاب الشهير الذي القي في تلك المسيرة، خطاب "انا لدي حلم" والذي لا يزال يرن عبر العصور وحتى يومنا هذا. وفي العام الماضي 2013 كرّم الرئيس اوباما المناضل الراحل "بايارد راستين" ضمن حملة اهتمام متنامية لمؤرخي حركة الحقوق المدنية في ابراز دور الجنود المجهولين في تنظيم تلك المسيرة المهيبة الى واشنطن، المسيرة الاكبر في تاريخ الولايات المتحدة حتى يومنا هذا. ومجرد التأمل في هذا الامر يفرض عليك ان تحترم هؤلاء الجنود 
المجهولين الذين نظموا مسيرة ضمت ما يزيد عن المائتان وخمسين الف امريكي .





"بايارد راستين" –والذي اخرج فيلم وثائقي عن حياته في العام الماضي يدعى "الاخ بايارد"- لطالما غمط حقه- في رأيي- من الاعتراف بدوره الهام في حركة نضال السود السلمية في امريكا ،  منذ بدايات عمله، حتى اثناء التنظيم للمسيرة حيث كان هناك اعتراض من اللجنة التنفيذية للمسيرة على تعيينه نائبا لتنظيم المسيرة، ولعل ذلك يعود لانه كان مثليا وكان ذلك مرفوضا في المجتمع الامريكي في ذلك الوقت، بالاضافة الى تاريخه اليساري، فقد كان عضوا منظما في تحالف الشباب الشيوعي. الا ان خبرته الطويلة في العمل التنظيمي وانخراطه في حركات النضال السلمي العالمي اكسبته مهارات كانت غائبة عن حركة الحقوق المدنية، فقد كان الرجل وراء كل الفعاليات الجماهيرية من مسيرات واضرابات ومقاطعات واعتصامات وهو الناصح الاول والاساسي لمارتن لوثر كنق ولولاه لظل الرجل حبيسا للخطب الرنانة والمجيشة للمشاعر لولا وجود بايارد الذي استطاع ان يحول القوة الناتجة من خطب كنق الى طاقة تنظيمية لا تزال تنال اعجاب المؤرخين والناشطين الحقوقيين.
وتقوم فلسفة النضال السلمي على ركيزة أساسية وهي جعل النضال السلمي في متناول يد الجماهير ، وتيسيره وبذله لجعله ممكنا، هذه هي الركيزة الاساسية، اذ ان حركة النضال الرافضة 
لاستخدام اي وسيلة للعنف لا بد لها ان تجعل الوقوف امام الة الدولة العنيفة الصماء ممكنة ومؤثرة. فلا يجمع على الجماهير التي لا بد ان التوجس يتملكها حين مواجهتها للعنف –لا يجمع عليها فوق 
ذلك المشقة والعنت، بل لعل هذا التيسير والتنظيم الدقيق له اثره في نبذ الخوف عن قلوب الجماهير. 
واصلو العنف لا ينبع الا من الخوف كما شرح الاستاذ محمود محمد طه في العديد من محاضراته.


بايارد راستن على يمين الصورة.. ومارتن لوثر كنق على اليسار


اذا لديك ربع مليون شخص سيسير الى واشنطن من الولايات الجنوبية من مدن الظلم والقهر والاستبداد الى مركز صناعة القرار السياسي، وسظ خوف وترهيب من وسائل الاعلام ومن صناع القرار البيض حول خطورة وجود قرابة الثلاثمائة الف شخص في مكان واحد دون ان يتحول هذا 
الحشد الى مجزرة.



فلسفة بايارد راسنين في التنظيم كانت في جعل المسيرة مريحة ومطمئنة قدر الامكان لكل مشارك فيها. بدءا من تحركهم من مدنهم في الجنوب حتى وصولهم واشنطن ومسيرهم الى نقظة التجمع امام تمثال لنكولن المهيب.  مناديب المسيرة في كل مكان عملوا على توفير سبل التنقل الى واشنطن والعودة منها ، عبر التفاوض مع شركات الباصات او القطارات، عبر اسستئجار مركبات خاصة بما توفر من اموال. اذا اردت ان تبقي المسيرة سلمية فلا ينبغي ان يكون لديك جمهورا قلقا حول سبل 
الرجوع والعودة.


خارطة المسيرة.. تلاحظون اعلى الورقة ملحوظة كتبت للمبجل  كنق تشير الى وفاة الكاتب الامريكي الافريقي دوبويز وتذكير بان يشاراليه في  الخطاب. دوبويز ايضا من مؤسسي حركة الحقوق المدنية (تم تكريمه بلحظة صمت حدادا على روحه في المسيرة


تدفق المعلومات وكان هذا امرا هاما لـ"بايارد" ، كان هناك برنامجا يبث على التلفاز القومي بارشادات حول المسيرة، اين؟ متى؟ كيف؟ والتحضير لها على مستوى فردي، ما الذي يجب ان تحضره معك ، كيف ستتصرف؟ من تسأل؟ عبر هذا البرنامج وعبر الاذاعات المحلية والنشرات الورقية كان الهدف الاساسي تمليك الجماهير كافة المعلومات اللارمة (الخوف ينبع ايضا من الجهالة). لجان استقبال ويافطات ارشادات نصبت في كل محطات الوصول. كل شهود العيان وصفوا توجسهم وقلقهم طوال ساعات سفرهم ومعظمهم يرى واشنطن لأول مرة في حياتهم، ثم زوال 
قلقهم فور رؤيتهم ارشادات التحرك الى المسيرة ولجان الاستقبال.
حسنا يا سيد "بايارد" قد وصلت الجماهير، لديك 300 الف شخص من كافة الولايات الجنوبية والشمالية. نسبة كبيرة من ميزانية المسيرة تم صرفها لاستئجار نوافير مياه شرب ، ومراحيض متحركة (تعرفون المثل: لا رأي لمحقون) . تقول المساعدة لبايارد ، السيدة راشيل هورويتز: كانت تصلنا رسائل من بعض السياسيين البيض تسأل، لديكم قرابة المائة الف متظاهر..اين سيتبولون؟ وكنا نضحك على تلك الرسائل، اسميناها خطابات المرحاض، الا ان بايارد كان يأخذ تلك المسائل بمنتهى الجدية.

تقول راشيل، في يوم دخل بايارد علينا قبل المسيرة بأيام- وكنا مشغولون بمهام تفوق طاقاتنا- قائلا: اريد نشرات توزع الى كافة مناديبنا في الولايات ان يحمل الناس معهم ساندويتشات زبدة الفول السوداني والمربى. صحنا : ولكن يا سيد بايارد. فصاح في عزم: هذا البند ليس للمناقشة!! تقول راشيل: كانت قد جاءتنا توصية من جمعية الصليب الاحمر تحذر من بعض المخاطر الصحية. كان هناك خوف ان يأتي بعض الناس او ان توزع ساندويتشات البيض والمايونيز او اللحوم فتفسد ، 
وقد كان الطقس لا يزال حارا في اغسطس.

فرق الطعام في المسيرة


انتشار حالات اعياء وسط الجماهير كانت ستسبب قلقا وسط الحشد. اما المبلغ الاكبر في الميرانية فتم صرفه على "الساوند". يقول بايارد: لم اكن اريد ان يكون هناك مائة الف شخص يقفون ولا يدرون ما الذي يجري حولهم، وما الفائدة من احضار الناس عبر الاف الاميال ولا يسمعوا ما يقال؟ وكيف بامكاني الحفاظ على النظام حينها؟ . بلغت تكلفة ايجار النظام الصوتي  16 الف دولار. يذكر احد المشاكرين في المسيرة: سمعت صوت ماهيليا جاكسون وهي تنشد : لقد سخروا مني ولكني ابقيت على ايماني ،يغمر واشنطن. اذا كان بوسعكم ان تستمعوا اليها عبر اليوتيوب انصحكم 
ان تفعلوا عبر الرابط
https://www.youtube.com/watch?v=TALcOreZi0A



كان هناك توجسا عظيما قبل المسيرة، كان هناك استعداد عسكري كامل من واشنطون، وتم استدعاء الحرس الاحتياطي، المستشفيات تم تجهيزها بزجاجات الدم استعدادا للمجزرة، تم تهيئة السجون لاستقبال حالات الاعتقال الجماعي التي ستحدث. بايارد المحنك والخبير بدروب العمل الجماهيري، يدرك تاريخ الاحتكاك الطويل بين الشرطة والسود، فدخل مع قوات شرطة واشنطن في مفاوضات طويلة ان لا تكون قوات الشرطة في المسيرة مسلحة، واستطاع ان يقنعهم "لن تكون هناك اي مشاكل، سيقوم مناديبنا بمنع اي شغب اثناء المسيرة، نحن سنتولى أمر المشاركين، انتم تولوا امر مثيري الشغب والمندسين من خارج المسيرة" بالفعل لم تسجل اي حادثة شغب وسط الجماهير، بل كثيرون 
يصفون هذه المسيرة انها كانت عبارد عن نزهة كبيرة.



احدى شبكات التلفزيون ارسلت مراسلها على طائرة هيليكوبتر لمراقبة تطورات الاحداث وتصوير المجزرة عن قرب، يستذكر المراسل ذلك الوم قائلا: لم يحدث شيء ، انتظرنا لساعات لكن كل شيء كان سلميا، لم اجد ما انقله، اخبرت قائد الهيليكوبتر ان يطير فوق منزلي لأتفقد سطح المنظل اذ كنت اقوم ببعض الاصلاحات عليه، ثم طلبت منه ان يعود اذ تأكد لي انه لن يحدث شيء"
منظر الشرطة المدججين بالسلاح كان كفيلا بأن يثير الرعب والقلق لدى المتجمعين، وكان كل عمل بايارد يهدف الى تهدئة اي مخاوف قد تبرز قبل ان تبرز منذ بدء المسيرة الى نهايتها.
المغني الاسود الشهير بيلافونتي كان له دور محوري في حشد نجوم من هوليوود للحضور الى المسيرة، كمارلون براندون، بول نيومان (الشهير بدور جيمس بوند) وغيرهم، مع توجيههم بالاختلاط وسط الجماهير، واظنه كان عاملا مطمئنا في جو التوجس.

ربما اكثر الصور المؤثرة من المسيرة، هي تلك الصورة التي التقطت عند الغروب وقد ركب الناس خافلاتهم وقاطراتهم في طريق العودة، ورجال ينحنون لالتقاط مخلفات ورق الساندويتشات والاكواب الورقية واليافطات التي ملأت المكان .



هذه هي احدى ركائز العمل السلمي المفقود في عملنا السياسي، ان تعضد جماهيرك بكل ما يحفزهم على العمل السلمي، بالطبع لا يفوت علي الفارق بين واشنطن وقتها والخرطوم الان (أقول واشنطون اذ ان مدن الولايات الجنوبية في ذلك الوقت لا تختلف كثيرا عن مدننا اليوم من قتل وسفك واعتقال تعسفي) . لكن في البال والخاطر المسيرة "السلمية" التي تم الدعوة لها في سبتمبر الماضي، وكنا نصيح "سلمية سلمية" لا ايمانا بالسلم، لكن في امر اشبه باستجداء واستعطاف السلطة ان لا تستخدم العنف معنا – و ليست هذه هي السلمية ولم يكن لنا اي دراية بمعنى الكلمة، لو كنا نعلم ما النضال السلمي لطقشت اذاننا مصطلح "المعاناة لخلاقة" كما سماها مارتن لوثر كينق 
، او كما شرحها غاندي، هي القوة والقدرة على الصمود للعنف لا الانجرار وراؤه او الفرار منه. واذكر

 في اثناء التظاهرة التي كانت في بانت امدرمان تقودها اعلام عليها شعار حزب الامة والانصار وبعض المتحمسين (تعالو بجاي..أمشوا بجاي... البوليس هندا كوركوا سلمية) ، كنت تلقائيا (من سنين الجامعة) ارقب الشوارع التي نسير فيها ، اطمئن تارة "هنا شارع مفتوح يطل على زقاقات، هنا شارع مأهول بالبيوت حيث يمكنك الدخول، هنا صينية (حيث لا يمكن ان تعمل الكومرات حاجزا لحبسك) حتى وصلنا الى نهاية شارع الاربعين وخاف المتظاهرون من التقدم اذ ان الشارع كان يفضي للسلاح الطبي، فطلبوا من الناس التوقف، وسرى قلقهم الينا، ثم تلفتنا حولنا وقد حصرنا بصف كامل من الدكاكين الملتصقة ببعضها البعض دون اي منفذ. وحصل ما كان متوقع ، عندما اطلق الغاز المسيل للدموع بعد المحاصرة بين كومرين، لم يكن هناك منفذ، حدث حالة اضطراب حيث تكدس الناس بعضهم فوق بعض واختنفوا بالغاز بعد استنشاقه لدقائق طويلة، وتركونا ننفض لكن دون عودة.

بعد مقتل علي ابكر موسى، تجمع الطلاب في المشرحة واستمعت الى مخاطبة احد المشاركين الذي كان في غاية التأثر، الا انه قال امرا توقفت عنده طويلا، قال مخاطبا الجمع الحاضر في المستشفى من غير الطلاب، ان يتحركوا سويا، ان يقوم المواطنون بحماية الطلاب، اذ ما من سوء يصيبهم – هم الطلاب- والجماهير حولهم ملتفة.

انا في الحقيقة عذرت الطالب، وهو حدث السن وكان مفجوعا، لكن الاولى ان الطلبة هم المنظمون واصحاب القضية الماثلة –مقتل زميلهم- والجماهير اصحاب قضية غائبة – ضنك العيش والضيم. فالطلاب هنا هم الدرع لحماية الجماهير لا العكس. نحن نريد ان نملك الجماهير وسيلة نضال، لا ان يكونوا هم أداة ووسيلة نضال. وهذا هو الخطأ المتكرر في كافة الفعاليات السياسية من ندوات وتجمعات جماهيرية، هو استخدام الجماهير كوسيلة نضال، وهذا الفهم هو الذي يجعل فكرة مسئولية التنظيم السياسي عن الجمهور فكرة غريبة وبعيدة عن ذهنه. فالفعاليات السياسية لا تراعي زمن بداية او انتهائها او حتى الالتزام بها، لا تراعي وجود اطفال ومسنين بينهم لتعد لهم خروجا امنا، لا تستطيع رسم توقع لمالات الفعالية (بمبان؟ لازم في مواد اسعافية ومكان مفتوح واخلاء مبكر للاطفال والمسنين، اعتقالات؟ مجموعة محامين جاهزين لاخطارهم والتوجه نحو مخافر الشرطة. توثيق دقيق؟ 
لا يوجد)


في المقال الثاني والثالث، اريد ان اوضح انه ما من حركات نضال سلمي حاليا في السوداني وسأعرج على النموذج الوحيد في رأيي لحركة سلمية في تاريخنا.. ثم هي الخطوات التي يجب ان تتخذ لتكون هناك حركة سلمية في السودان

2 comments: