Monday 5 November 2012

مامون التبيعة :عماد عبدالله


مامون التبيعة
"في سيرة الظل من العويش إلى اللبلاب"
 1
عماد عبدالله  
قال خاله عباس : ( دفنوا الولد و خلو التبيعة .. الله لا كسّبك يا ود عطانة و لا غزّا فيك بركة (

حكى لي أيضا فقال : ( ناس حبوبتك " بت المرين " كانوا لمن المره تولد , يقومن يشيلن التبيعة في طش كبير يا كمان قصرية , و يجيبن سعفات نخل .. سمعت مني ؟!! .. و سبعة حبات عيش ، معاهن سبعة فحمايات و سبعة تمرات و سبعة حلاوات .. سمعت ؟!! و ينادوا شفع الحلة يتلموا كلهم بي سلامتهم . تتحفر حفرة في ركن البيت قريب الباب كدي , و يقومن يدفنن التبيعة و معاها العيش و الفحم و التمر و الحلاوات السبعة ديلاكا .. سمعت مني ؟!! حتين بعد داك يغزوا فوقهم السعفات . الشفع لازم يكونوا بيضحكوا في اسناء الحكاية دي , إشّالا بالغصِب , لغاية ما تنتهي خالس .. سمعت ؟!! . أها يومو داك لمن ولدوا مامون , الشفع كانوا في الفسحة مغبرين و عجاجتم رابطة . نادوهم عشان يجوا يضحكوا . الفاتح ود سعيد و نادر ود اليماني و معاهم يونس طمبل , الشفع التلاتة ديل أبو يضحكو كلو كلو , سمعت .. ؟!! كانوا متشاكلين اظنهم و يصرصروا لي بعض !! .. بت المرين و عمتي سعدية و خالك عبدالرحيم دقوهم دق العيش عشان يضحكوا .. بقوا يضحكوا و يبكوا .. سمعت ؟! . الله يرحمو أبوي صالح راقد في ضل الديوان يعاين سااااكت , ضحك رحمتو اللاهي عليهو و قال لينا : غايتو الشافع ده يا مرق غنماية ساكت .. ولّلا كمان جاب لينا الكَفوَه) .

عرفت لاحقاً بأن " شريفة الداية " كانت قد سحبت رجل مامون في يومٍ بدأ صباحه مترباً . إذ استيقظت الناس على إظلام تام للمدينة التي قبعت فوقها سحابة سوداء من " الهبوب " سادةً للأفق داير ما يدور . تشاءمت شريفة الداية و أسرّت للنساء حولها : (أريتا يا يمُه ما تمرق بنية .. عاد كُررر كان مرقت بنيه !!! ). لكنها و الدنيا قريب المغارب كانت قد سحبت رجل مامون على أية حال, ممنية النفس بغنيمة السماية و بقية العطايا . فيما بقيت المدينة مكندكة بحالها المترب ذاك حتى دخلها الليل .
قالوا أن الهبوب تلك و في يومها ذاك بقيت قياساً ,فلسنوات من بعدها تناقلت الحكايات ما مفاده أن " سقف الزنك حق ناس ود العمدة " طار فسقط على فريق القنا فقطع رؤوساً كثيرة . ثم ما وجدوه من بعد بحثٍ كبير إلا مغروزاً في الخلاْ خلف " الحزام اللخدر " . و أن طيارة الصباح الفوكرز قد زحفت جراء الهبوب من المطار و إلى الغرب زحفاً كنست فيه من بيوت كرتون حلة الفلاتة ما كنست , فما أوقفتها إلا شجيرات الدوم الثلاث " لحجة خدوم " شمال مقابر فاروق . و أن الناس يومهم داك وجدوا " نعيمة أم سوط " بت الحلب الضعيفونة معلقة فوق درابزين السكة حديد من بعد أن شالتا الهبوب و طاردها أرضاً عمك " يوسف القبطي " و أولاده . و أن " خجيجة خَشُم شكّو " أخرجت مئات صحون البليلة عملاً لي الله حين تهبرك سقف الحصير و الطين لأدبخانتهم الجديدة , فأخذ معه المرحوم زوجها في طياته نزولاً لبير الأدبخانة المحفور بطول خمسطاشر راجل , فأراحها الله و الهبوب من زوجها " السماني ود بابكر " النقناق .. فعادت في مسماها : أمةُ لله تشد العرقي .

ليوم بطوله , و من لحظة ولادته و مامون لم يصرخ و لم يبك كحال المواليد !!!, لكنه ظل مبحلقاً إلى سقف الغرفة ذو الحصير و المروق القنا , حتى أخاف النسوة جزعاً على جزعهن من الهبوب الرازحة البلدة تحت عصفها , فقرأن حرزاً سوراً من القرآن حافظات و تحوطن و انسحبن خفية إلى بيوتهن . قال جده لأبيه , الحاج حامد ود الكرسني : ( بت أبوهاشم فوق ود الكرسني .. الله يحضرنا زمنو الشافع ده . ياهو الجايبا لينا ضقلا يكركب).

في أربعينها أتوا لأمه بمغنية تقدمت السيرة حتى البحر . حملته أمه ملفوفاً على ملاءة حريرية حمراء , و علقت حجابين على صدره , فيما جدلت جدته " فاطنة المرين " أنشوطة حول رسغه محلاة بسوميتة . ما كف مامون عن البكاء عالياً حتى طغى " حِسه " و حلقومه الكبير فوق فرقعات ( الشّتّم ) و الدلوكة التي جهدت المغنية " الرضية " في ضربها محمولة على كتف النسوة من الحلة و حتى ( الشريف يوسف الهندي ) في بري بحر أزرق . هناك غسلوا وجهه بماء النهر سبعاً , حملته أمه إلى داخل الماء خوضاً حتى إلى ما تحت ركبتيها .. فغسلت وجهها كذلك , ثم أخرجت ثدييها فغسلتهما لها خالتها " مكة " و دلكت على حلمتي صدرها و هي تبرطم بطلاسم و أدعية و أهازيج غير مفهوماتٍ " نادِهة " بها على شيوخها و جدودها " رجال القُبب " .

حكوا فقالوا أنه و في ذات المساء و مباشرة من بعد عودة السيرة , حُملت المغنية الرضية للبصيرة " آمنة بت الرجال " و هي تولول من لواية أصابت بطنها فما أفلحت في مداوتها بالحرجل و السنمكة و الجردقة السفوفة . قالوا فما أن انتصف النهار إلا قليلا في يومها التالي إلا وكانوا قد دفنوها !! .

" مامون التبيعة " كان معتوهاً كبيراً و جميلا . قيل أنه قفز في مرةٍ إلى ظهر حصان عربة الكارو و هي محملة بجوالات الفحم .. فلما أعيته محاولة تقمص دور الكابوي روبرت ميتشوم , أفلت فانزلق فتشبث بعنق الحصان و خنقه " كربون " خشية السقوط تحت حوافر البهيمة الضحية . حكى مامون الواقعة لمحاسن ابنة عمته في معرض دفوعاته في شأن حبه لها , و الذي بقي يقطعه في حشاه : ( شفتي يا بت .. قلت الليلة بس يا أنا ياهو . قمت قمطتو ليك بالجنبة كده قمطة عجيبة خلاص , عشان يبرك قبلو .. عشان لو جرى بيعوقني , صاح ؟ كنكشت ليك فيهو لمن هو زاتو آآآمن . ياخ حصان قوي قوة !! ) . المهم أن مامون و في عتهه ذاك كان قد قبقب الحصان بلا فكاك . ما راعت مامون " البسطونة " في يد صاحب الكارو المهجوم و التي أكلت من لحم ساقه و فخذه , و لا استمرار غضبة الرجل حين أفاق من فداحة المفاجأة الفريدة التي أرادها الله له فما سكت يرغي و يكورك و يسب مامون و ينهال ضرباً عليه .

حكى العارفون فقالوا أنْ كان قد فزع الحصان المسكين فجفل من هول " القهمة " التي رماه الله بها حتى قلب حاله فرساً ستاليون وارد سهول الروكي و جبال الإنديز , يقفز إليه عوير الفيلم الويسترن الهوليوودي بطلاً . و هو ما هو إلا حصان كارو أجرب شغال طالع نازل بين مغالق و جخانين سوق السجانة و أزقة البلدة المتمدينة .

قيل فكانت كارثة يومذاك تطلبت جمهرة رجال الحي كلهم للجم الحصان " المخلوع " و صاحبه المرعوب , ثم جمعاً لجوالات الفحم التي تناثرت مبعثراتٍ من أول حلة الشوايقة و حتى فريق السوق 


3 comments:

  1. إمتاع بلا حدود
    يذكرني الطيب صالح
    لماذا لا أدري
    و لكنه سودان صار كخيال في قصة ماركيزية الطابع

    ReplyDelete