Monday 5 November 2012

مامون التبيعة 3 : للكاتب عماد عبدالله



مامون التبيعة
"في سيرة الظل من العويش إلى اللبلاب"
3

خريف:

قالوا : أمطرت الدنيا

فسحبوا ما في الحوش كله لداخل البرندتين , و ما يزال الراديو الأزرق الكبير المضبوط على إذاعة لندن " يشخشخ " كلما أرعدت أو أبرقت السماء , فتتضاير بت المرين و تزوم متطيرةً تقول : (الليلة يا بركة شيوخي حوالينا و ما علينا , الحوبا بيك يا ستي نور القبلي , بركة سيدي الحسن راجل كسلا تغتي علينا يا إلهي يا سَيّدي ). ثم ملتفتةً للمتحلقين في ركينة البرندة من نسلها : (إنتو يا البوم المشغلين إزاعة السجم دي .. النبي فيكم إمّا قفلتوها .. قالو ليكم " الرادي " بيجُر الصاقعة .. بالتفرطق إضنينكم ديل رجيت الله عليكم)

كلما أرعدت و أبرقت تقول بت المرين ذات دعواها لذات السماء الغضبى , و تشتم ذات سبها لتعود تنكمش داخل فراشها الهبابي رعباً و قلة حيلة .

ثم لما تواصل الماء هطولا , قاموا فسحبوا اللحفات و المراتب و تبروقة الصلاة الكبيرة جرباء الصوف ، و " برش الدخان - الملفوف على فركته - و البنابر الخشبيات الثلاث و سراويل و عراريق حاج صالح المنشرات على الحبل البلاستيكي . و سحبوا الطاولة الخشبية الكبيرة , و عنقريب المخرطة الكبير . انسحبوا جميعهم اتقاء الماء الذي انفتحت له قِرَب السموات . إلا مامون أبى و استكبر :

 (شكشاكة ياخ .. دي شكشاكة ساكت ولّلاي , ما زي مطرة ناس عمتي فوزية حقت بالليل ديك .. ياخي ديك , ديييييييييييينك كانت شديدة شدة ، ديك الإتزلق فيها روري عمك رمضان جوه خور التُرب ) . ذلك ، و بقى مامون تحت الوابل الخريفي و تحت انهمار لعنات بت المرين عليه لأبو اليوم الذي جاء به .

كان مامون التبيعة معتوهاً كبيرا .. أقول لكم .

ما اهتم كثيرا بالمطر , لا و لا بالرعد و اللعنات , و الإستجداءات . فبقي " متداغلاً " يتمترس بالبطانية الصوفية الرمادية بالخط الأحمر الباقية من مخلفات عهدة الجيش , و التي ورثها عن خاله عباس الأورطي . تلفع المعتوه بها و تدمدم منتصفاً للسرير . ثم لما أعياه النوم قام يلف اللحاف " المائي " هارعاً لداخل البرندة , ليكاد يهوي منزلقاً من لزوجة طين الحوش الذي تحول بركة مائعة .

قالوا : فلما حاول مامون التبيعة الإستناد بحمله " اللحافي " المترع الثقيل على أيما سندٍ يقيه شر السقطة ، لم يجد أقرب إليه من شباك الخشب الكبير . فأناخ بكلكله عليه , لينهار الشبك الطلل القديم آخذاً معه " حلق " الشباك .. و العتب الأسمنتي و " قرمةً " كُبرى من مدماكه الطين اللبِن .

قالوا أنّ جده صالح ود الكرسني بقى لعشرة أيامٍ يرتاد فيهن " البصير ود خوجلي " في أقصى القوز ليرد عليه كتفه الذي " خلعته " له هبركة حلق ذاك الشباك المسكين و هو لا إيدو لا كراعوا و في أمانة الله يرقد كعهده الدائم تماماً بين مدخل البرندة و سريحة الحوش الجوانية تماماً تحت ذاك الشباك المجني عليه ، متوسداً ضراعه و متلفعاً بالتوب النقادي القديم ، من قبل أن ينهار عليه المعتوه مامون و اللحاف و المدماك و الشباك و القرمة الكبرى للأسمنت الخرصاني . فما أفلحت جبيرة الكتف و لا الكي و لا الفهق و المليخ .. حتى انهم حجموا له كامل ظهره و لا طائل . فكان أن بقي حاج صالح " عضيراً " حتى أخذ صاحب الوداعة وداعته .

ما علينا .. أقول طنطن مامون ليلتها مغضباً و محنقاً من جده حاج صالح و " شوبيره " كما أسماه :

( جدي ياخ وللاي إتّ دايماً بتلاوز لي , عليك دينك كتّ أتكل ليك في شنو ؟ زاتو الحمدوللاهي إتّ ما كتّ جنبي .. و الله لو كتّ إتكلت عليك , كت قلعت ليك حلقك إتّ زاتك .. صاح ؟ ) ..

قال بذلك ماطاً شفتيه الغليظتين لأقصى تلاليشها – يفعل التبيعة ذلك حين يتملكه الغضب أو الفرح أو ساكت كده بس

لم يحر حاج صالح جوابا , فهمهم منكساً الرأس مسقطاً في يده : ( ياربي ليك الحمُد يارب .. الله لا كسّبك و لا غزّ فيك بركة يا ود عطانة بركة الأوليا ) .

الكوكة :

حكوا فقالوا :

فقط في يوم الخميس , و قليلاً قبيل أن يفرش " منعم الجاك " برشيه المهترئين لصلاة العصر أمام الزاوية الطينية ذات الطوفات الطينية الثلاث . فقط حينها يطل ( عبدالله النقادي ) :

- طالب من الله

- و من كرم الله

- و من جود الله

- و مما اعطاكم الله

- جلابية في سبيلي الله

- عبدالله

- طالب

- لله

و قد كان متسولاً وسيماً قسيما أشيبا أبيض البشرة حلو الصوت .. منغمه , بجلبابٍ متسخٍ و عمامة هي أصغر من أن تسمى بذلك , ثم بجيوبٍ في الجلباب مكتنزة متكورة امتلاءً بما لا يعرف كنهه أحدا . تلك كانت ملامحه في كل عصرٍ من أيام الخميس و على مدى سنوات طوال .

قالوا : و قد كان صاحب " كوكة " !! .. هكذا .

كل ما عرفه الصبية عن تلك النصيبة المسماة كوكة , أنها كانت تخرج صوتاً غريباً إن أُحرِقت لها ريشة طائر عن قرب . و أن ما من أحدٍ قد سمع ذاك الصوت البديع من سنوات بعيدات . لكن بت المرين ما كفت في كل مناسبةٍ عن الجزم بسماعها لصوت كوكة " ميدوب " الفلاتي . و انه كان يعمل زمانها مكوجياً في دكانة منصور أب لكيلك . و أن أخوها المرحوم " بشرى " كان قد غافل " ميدوب " و وضع له ريشات حمام في المكواة الحديدية المجمرة , و ان ميدوب حين اشتم رائحة الريح المحروق جرى إلى داخل الدكانة فتقرقب ببطانية التفريش القديمة , و أنه تصادف أن الصبي محمود ود ناس باشاب كان داخل الدكانة حينها لاستلام هدوم .. فقطع قلبه هجمة " ميدوب " داخلاٍ , و ذاك الصوت الغريب خارجٌ من سرواله , فبقي يتراجع و هو يردد في خوف : فِسسسسس ... فسسسسس .

قالوا , فاستهوت مامون التبيعة تلك الأقصوصة , و راح يؤسطر لها على مسامع الشفع من صبية الحي .. فقضت عليهم المضاجع .

: شفت صوت الضب ؟ .. شفتو ؟ بس ياهو . قال " همزة " بذلك , فأمن عليه " الفاتح " و " عصام جِنجة " . و زاد عصام فقال : ( أنحنا زاتنا مره كده في ربك سمعنا صوتا ولّلاي . شفتا , زي كجكجة الضب , هي حقت زول كده كان ديّاشي اسمو " برين " , شفت لمن حرقنا ليهو صوفة الحمامة قامت الكوكة حقتو كوركت كواريك .. أنحنا قمنا جارين طوالي عشان لو عضتنا بتقوم تعادينا و بنكوّك , يُمه بتول قالت كده ) .

قال مامون التبيعة حاسماً للكلام - فهو الأعتى و الأكبر و الأضرط - , قال بأنه أعد العدة لعبدالله النقادي : ( إتّو دايرين تسمعوها .. صاح ؟ .. عاين عاين , أنا بتلبد ليكم ورا زريبة ناس " قسِم " . شفت لمن النقادي يقيف جنبها إنتو أعملو لي حركة كده . انا بولع الصوفة طوالي . إتّو بس أسمعوها كويس .. طيب ؟ ) .. و قد كان .

تمترس الشفع عند زاوية " دكان فضُل " . جاء عبدالله النقادي فمر على بيت ناس " عبد اللطيف الدنقلاوي " , ثم إلى ناس " حاج مصطفى شاويش " , فـ " يوسف القبطي " و إلى بيت ناس " حُسنة بت الضكير " حتى وقف بباب ناس " قسم " و تماماً عند الركن الشرقي للزريبة حيث اختبأ " التبيعة " . ثم تنحنح عبد الله النقادي و أطلق نغمته فيما يشبه المديح :

- طالب من الله

- و من كرم الله

- و من جود الله

- و مما اعطاكم الله

- جلابية في سبيلِ الله

- عبدالله

- طالب

- لله

قليلٌ بعد , حتى ارتفع دخانٌ خفيف من وراء سور الزريبة !! .. لكن ما من شيء حدث ! .. و ظل عبدالله النقادي واقفاُ مادحا .

خرج مامون من مخبئه محبطاً فلحق به الصبية , كان يحمل كومة من الريش واقفاً قبالة عبدالله النقادي : ( كوكتك كوركتْ ؟ .. ما كوركت .. صاح ؟ ) ..

نظر إليه عبدالله النقادي .. و إلى عصابة الشفع . ثم ملاوزاً واصل مديحه لناس " قسم " ..

: ( أسمع هووي , هي بتكورك كيف ؟ .. صحي عندها خشم كده هناي كده ؟ .. هي قاعدة وين هي ؟.. شغلها لينا .. دايرنها تكورك لينا )

ذُهِل عبدالله النقادي فانتهرهم في توجسٍ قلِق , و اهتاج غاضباً لأول مرة منذ عرفه الناس : أعوزو بللاه .. أعوزو بللاه - ثم صائحاً في خوف حقيقي و مسكنة - يا قسم .. يا حاج مصطفى .. يا ناس تعالو لمو العيال دول .. اعوزو باللاه .

قال بهذا ثم أسرع الخطو مهرولاً , خلفه ركض الصبية يقودهم مامون : ( ويييي ويييي عبدالله اب كوكة .. : ويييي ويييي عبدالله اب كوكة ) .

قالوا : في جريه سقط الرجل إلى خور المدرسة الذي آل إلى مكبٍ للنفايات , فقفز مامون التبيعة إليه و جثم على صدره محاولاً استكشاف موقع الكوكة من عبدالله . ماداً طراريمه الغليظات بقي يصيح : ( شغلها لينا .. شغلها .. شغل الكوكة ياخ عليك دينك ) ..

قالوا : كسر عبدالله النقادي حوضه فلزم المستشفى شهورا جراء القفزة الشهيرة تلك . ثم لم يره أحدهم في الحلة لسنوات . فيما بقي مامون التبيعة لائماً للشفع - و أيضاً لسنوات - :

( كلو منكم .. كنتو تولعو الصوف ياخ و أنا مثبتو ليكم في الكوشة .. هسه كنا عرفنا حِس الكوكة كيف .. صاح ؟ )

 

 

No comments:

Post a Comment