Sunday 24 January 2016

كبسولة سينما المقاومة


كنت أشاهد حوارا على اليوتيوب جمع بين ارونداتي روي وطارق علي (حبائب قلبي) حول مواضيع شتى، ثم عرجوا بالحديث عن السينما. وكما هي العادة مع ارونداتي روي "الأشياء ليست هي الأشياء" كان الحديث عن سينما الأمس وسينما اليوم وسينما الغد. وجاء الحديث عن ما يسمى بأفلام الآرت هاوس، والتي بدأت كأفلام مستقلة في مواجهة افلام بوليوود الطاغية ذات التوجهات القومية، ولكن الفرز ليس بهذه البساطة كما توضح ارونداتي روي مع تحول الأفلام المستقلة نحو التجارية والاستهلاكية، مع اختفاء دور السينما القومية وظهور معارض السينما الصغيرة والمكيفة في المولات والمراكز الثقافية الأجنبية والممولة من قبل الشركات التجارية. 
لفت نظري في نهاية حديثها عن توجهات السينما الهندية، عن حركة بدأت قبل عشر سنوات، وهي حركة سينما المقاومة. عبارة عن مهرجان افلام وثائقية متنقل، يتحرك من مدينة إلى مدينة . الحركة بدأت في مدينة قورابور بلإقليم الشمالي، مجموعة من صناع السينما اقاموا مهرجانا ثقافيا لا يستلم قرشا واحد للرعاية من اي من الشركات التجارية او المؤيسسات الثقافية او المنظمات الطوعية العالمية. يعمل بجهود محلية، ويعرض أفلاما لهواة ومحترفين من كافة انحاء الهند والعالم، بأماكن عرض مرتجلة في العراء، او قاعات الجامعات، في المقاهي ، في الورش والمصانع، في قاعات المراكز الثقافية. وثائقيات ساخنة تتحدث عن كل شيء، كل شيء هو محجوب عن سينما بوليوود الملمعة في الآونة الأخيرة. هنا لا رجال اعمال يسافرون الى لندن ويبحثون عن فتاة متمردة ومع ذلك محبة للتقاليد. لا يوجد تبسيط مخل لحقيقة الصراع الديني في الهند، لا يوجد كما تقول ارونداتي روي خلق نمطيات خطيرة: المسلم الارهابي او المسلم الوطني الذي يموت من اجل هندوستان، ثم تصف ببراعة: لا يوجد فقر بورنوغرافي. الفقر الذي اصبحت بولييود تتمتع بتصميمه وعرضه بشكل بلاستيكي، تماما كما فعل الفيلم الهوليوودي "سلم دوق مليونير"
هنا، افلام عن نزاعات الأقاليم، كشمير، نمور التامل، حرب الدولة ضد الفقراء، نضالات العمال، انتحارات المزارعين، عن قهر المرأة، عن تاريخ الطوائف في الهند (الطوائف هنا المقصود بها المحظيات اللائي كنا يخدمن في بلاط الأمراء) ، افلام تعرض من حول العالم حول اسئلة وجودية وسياسية عصية. وفي بلد بها ٢٢ لغة رسمية، و١٢٢ لغة رئيسية،  والعروض التي تكون بين فقراء بعضهم لا يجيد القراءة، بعضهم لم يبارح قريته، الترجمة فورية بواسطة مترجم يقف الى جانب الشاشة. ويبدي المشاهدون تفهما عظيما للأفلام العالمية والمحلية ويديرون نقاشات فريدة من نوعها. 
يأتي هذا المهرجان الأهلي في مواجهة المهرجانات الثقافية التي هي برعاية المؤسسات الاستثمارية الكبرى، وتحاول الأخيرة هذه ان تعكس صورة الهند في الإعلام العالمي، الهند المتطورة، "اكبر" ديمقراطية في العالم، الهند صاحبة النمو الاقتصادي، صاحبة أكبر طبقة متوسطة. بينما المهرجان الثاني يفتح الضوء امام ما لا يمكن انكاره : النمو الساحق للملايين، الطرق والسدود والمناجم التي تجرف البشر قبل ان تجرف الأرض، العبودية بزيها الجديد المسمى العمالة. وغيرها. 

موسم الأفلام هذه اصبح يحج إليها صناع السينما العالميين من كافة انحاء العالم. بعضهم يلغي التزاماته مع مهرجانات معتبرة كمهرجان كان، كي لا يفوت فرصة جمهور ليس له مثيل. 

هذا اعلان مهرجان كلكتا الشعبي للأفلام. ضمن حركة سينما المقاومة ،جميل بشكل 

السينما والنيوليبرالية. اول من لفت نظري لهذه العلاقة هو حوار مع نعوم تشومسكي يتحدث فيه عن بداية تفكك احدى اقوى حركات اليسار في العالم وهي النقابات العمالية الأمريكية. تفكك بدأ منذ الخمسينيات، بأفلام يري تشومسكي انها تشيطن من الحركة النقابية، ومن المتعاطفين مع اليسار عموما بوصفهم خونة وما إلى ذلك. ضرب مثلا بالفيلم الحائز على جائزة اوسكار "على الواجهة البحرية" بطولة مارلون براندو، الذي يقف فيه البطل قبالة فساد وتسلط رؤساء النقابات -وهذا يحدث كما يقول تشومسكي- لكن السبب في أنه وجد تشجيعا من الإعلام هو تلك الرسالة التي يحملها. 

ثم هناك الحديث الذي نعرفه حول تنميط العدو لأمريكا "الروسي" "الصيني" "الشرق اوروبي" "العربي"..الخ. او هو شيء اخطر من التنميط، شيء من التمثيل : representation
شخصية نمطية تشكل موقفك من شعب وسياسة كاملة. 

في كتابها الأخير تشير نعومي كلاين إلى ظاهرة أفلام "نهاية العالم الطبيعية" والفئة الناجية. عرفتوها؟ تلك الأفلام التي تصور نهاية العالم بالتغير المناخي الجليدي /الجفاف او الرجم النيزكي او  او غزو فايروسي وما إلى ذلك، موت الجميع ونجاة فئة قليلة لها الحق في ركوب سفينة النجاة التي تكون الحكومة قد جهزتها مسبقا لإستمرار البشرية، اما مدينة تحت الأرض او سفينة تنطلق هاربة إلى الفضاء او ما إلى ذلك. 

فكرة الفئة الناجية تقول الكاتبة نعومي كلاين هي فكرة نيوليبرالية عن جدارة، ليس غريبا أن ردود فعل النيوليبراليين تجاه اي كارثة مقتبسة من عبارات انجيلية "الطوفان النوحي" "القيامة" حيث النجاة لفئة مختارة. وتقول هذه الفكرة المكررة في هوليوود اصبحت تلقى قبولا من العامة، ان قبالة كل كارثة طبيعية هناك طن من الضحايا قبال فئة ناجية. بل اصبح هناك بزنس لترويج تلك الفكرة. فبعد اعصار كاترينا، اصبحت هناك شركات تتكفل بإنقاذك وحدك من بين جيرانك واحبابك إلى مكان امن بينما الآخرون في الخارج يحرقون او يغرقون او يموتون. تحدثت عن شركات التأمين التي توفر خدمة اطفاء الحرائق للذين يسكنون في المناطق الغابية الطرفية. تخيل تأتي عربة اطفاء مقتحمة الغابة المحترقة ، متجاوزة البيوت المولولة من الحريق، للتجه نحو بيتك لإنقاذه فحسب. 

هذه الفكرة التي تتوازى مع انسحاب الحكومة الأمريكية من خدمات الدفاع المدني والطوارىء ، حيث اصبحت عبارة عن وكالات عاجزة بالية. وتتوازى مع انسحاب الحكومة البريطانية ايضا من خدمات الدفاع المدني والطوارئ وبتنا نشاهد غرق مدنها تحت المياه كل شتاء. 

عندما نقول سينما المقاومة، نحن بالضرورة نتحدث عن المهدد الأوحد للبشرية اليوم وهو "النيوليبرالية" بشكلها الذي نعرفه في عالمنا اليوم. والمعني بها انكماش الدولة عن تقديم أي خدمات عامة، ورفع الرقابة عن المؤسسات الاستثمارية وحرية السوق (بما يخدم المؤسسات الاستثمارية-اذا ان الحرية اذا ما هددت هذه المؤسسات سارعت الحكومات لفرض القيود) . 

مهرجان السودان للسنيما المستقلة في دورته الثالثة والتي تحت شعار المقاومة الثقافية سيقدم محاضرة للدكتور شريف شحاتة بعنوان الثقافة والنيوليبرالية، يوم الثلاثاء ٢٦ يناير في المركز الثقافي امدرمان، بعد عرض فيلم رادياتور/سخان، المزمع عرضه في تمام الساعة السابعة والنصف. الدكتور شريف شحاتة -وأنا مقصرة في الاطلاع على اعماله يا دوب الواحد يلاحق- هو مفكر وكاتب ماركسي . وفكرت ان الواحد يدخل المناقشة وفي باله هذه الكبسولة السريعة حول علاقة السينما- بشكل خاص- والنيوليبرالية. 


الدكتور شريف شحاتة بسينما كوبر- تصوير طلال عفيفي


جدير بالذكر انه يوم الاثنين، وفي مركز امدرمان نفسه في الرابعة عصرا سيعرض فيلم بابا موخيكا، او الأب الروحي والذي يحكي قصة الرئيس الأروغوايي، والذي كنا نتبادل صوره وهو يركب دراجة ونهلل بأنه أفقر رئيس في العالم، ولا يزال يسكن في حيه الفقير. جدير بالذكر انه يعتبر بشكل ما ضمن التحالف اللاتيني المتصدي لمشروع التوسع النيوليبرالي الذي ذاقت منه امريكا اللاتينية المر في فترة السبعينيات والثمانينيات  وكانت اولى ارض تجاربه الاقتصادية.


1 comment:

  1. نجومي تسطع بكل تواضع من حيث نريد، هنيئا لنا بكِ

    ReplyDelete