Tuesday 16 October 2012

روحي أنقذها من حلقات التلاوة

روحي أنقذها من حلقات التلاوة
 
تمهيد:
كنت أتحدث مع صديقتي عن خشيتي أن أكون أذيت مشاعر أحدهم، فأجابت بصدق وتلقائية أني ما دمت قد أديت حق الله فيهم فلا داعي للخوف. وما كانت تعنيه صديقتي هو مراعاتي للأدب الشرعي في معاملة الاخرين :الصدق- الأمانة-العدل- السبق بالخير – الخ . أقلقني حديثها الطيب أيما قلق. فبرغم صوابه البائن ، لكن الفكرة أرعبتني "أي والله أرعبتني ولعلي ممن يسهل ارعابهم" ، تراءى لي ذلك الصواب بهيئة قاطرة حديد عتيدة تسير بعزم وحزم لا هوادة فيها، تراءي لي مشهدي وأنا أفرم ذلك الشخص تحت قاطرة صوابي أو الأفدح أنني أفرم تحت قاطرة صواب أحدهم.
 
 فكأن ذلك الصواب "اداء حق الله" يبيح لي أن أضب ضميري في خزانة مظلمة بعيدة معتمة منسية مهملة. إذ أن هناك ظن أن الضمير والصواب أمران متطابقان. وذلك لعمري مفزع مفزع مفزع . لكنني أفهم الان..أفهم جلوس ورثة ما حول تركة الميت يتقاسمونها بحق الله، فيأخذ قادر مستطيع مقدار ما يأخذ عاجز محتاج، بحق الله، مودعا ضميره في خزانة بعيدة وصدره ممتلئا صوابا. وفهمت رجل أدى حق امرأته كاملا (وأداء الحق ممكن بالشرع) فكساها والبسها وأحسن اليها ثم انصرف عنها لأخرى بحق الله، مسكنا ذلك الوخز بكبسولة الصواب، رأيت تلك المرأة تحترق بنار الصواب. رأيت احداهن تواجه صديقتها خفيفة اليد ناصحة راجية لها التوبة رأيتها تمسح دموع المسكينة بمنديل الصواب. ومنديل الصواب يمسح كل شيء
 
لا...الضمير والشرع لا يتطابقان، ولا أعني بذلك أنهما يتعارضان، ولكننا بسلوكنا نجعلهما كذلك. كيف؟ بظننا أن الله وضع التشريع بديلا للخلق الإنساني فإننا بذلك نضل أيما ضلال... خذ الزكاة والصدقة... يظن المرء أنهما بديلان للتعاطف الإنساني. والمرء إذ يراهما كذلك فإن بوسعه أخيرا أن يفهم صمت المجتمع المريب عن ما يحدث حولنا من مآسي وكوارث انسانية، فالصدقة تطفيء غضب الرب وتسكن وخز الضمير.
هناك مقولة جميلة، بحق جميلة للأستاذ الشهيد محمود محمد طه يقول "الله ما بشرع لكماله هو، لكن بشرع لضعفنا احنا" ، الشرائع تنزلت بحسب طاقة ضمير المجتمع في وقت محدد ، لكن الحقيقة أن الضمير الإنساني له قدرة تتخطى هذه التشاريع، فمعنى كلام الأستاذ ان هذه التشاريع ليست بديلا للأخلاق، ولكنها محفز لها ، موقظ لها، وخز للضمير كي يصحو وينطلق من الضيق المحدود إلى الواسع المطلق...والضمير الإنساني لا حد له.
يعني!  الله شرع الزكاة وحبب الصدقة، لكن في مقصوده أن تقودك الزكاة والصدقة لشيء أسمى وأعلى من العطف والشفقة، يريدها أن تقودك نحو التعاطف ورابطة الأخوة الإنسانية الحقيقية. وفي الحديث النبوي الشريف "الصدقة أوساخ الناس" تنبيه لهذه الحقيقة، فالنبي عليه الصلاة والسلام بلطفه الغامر يريدنا أن ننتقل من كون الصدقة تنظيف لسجل الصواب لمرمى أسمى وأعلى، أن تقودك لمشاعر إخاء حقيقية، كتلك التي نحسها تجاه عصبة الدم، الخوف والمراعاة والمسئولية والقرب...القرب.
كاشفتني صديقتي الحميمة قبل عشرة أعوام خلت وكنا بعد صغيرتين غرتين، كاشفتني بأنها تكره الصدقة وتتجنبها لأنها تكره كلمات الثناء والشكر التي تخرج من المحتاج وكأنها فعلت شيئا ما، كاشفتني بأن الصدقة لا تجعلها تشعر بأنها أفضل، وإن شعرت لوهلة أنها أفضل فإن ذلك يجعلها تشعر أنها أسوأ. (لخبطة شديدة) وتساءلت بحنق عن الحكمة في تشريع الصدقة إن كانت كل ما تجره عليك هو الشعور بالحنق على نفسك وتحقيرها. كان ذلك في السوق العربي أيام ما كان موقفا للمواصلات، أذكر أننا جلسنا على ناصية نتفاكر في ذا الأمر العجيب.
 
 ببساطة شديدة ، هو العودة لكلام الأستاذ، أن الضمير الإنساني لا حد له...وأنه واسع وبحر،  فالصدقة التي كانت قمة في عهد الإسلام الأول تجاوزها الضمير الإنساني الان بمراحل –وذاك مراد الله ومرضاته- فالضمير الإنساني يتحرك بقوة وشدة نحو التعاطف لا العطف. أن تشعر أن عافيتك لا تكتمل إلا بعافية كل الناس، كبيرهم وصغيرهم ، غنيهم وفقيرهم، طيبهم وشريرهم.
 
خذ عندك الصدق، أعرف كثيرون ممن يتذرعون بالصدق عند ايذاء مشاعر الاخرين، والصدق عندهم مرادف للصواب، فالصدق هو أن تقول الصواب. كان ذلك في عهد قديم عندما كانت خيوط الثقة بين البشر واهية ومهترئة وكان الكذب المباح (تدليس الحقائق) حيلة القادر على الغافل يستخدم لإغتنام الغنائم وإشعال الفتن. فاستهجن الكذب الصريح وكان الصدق(الصواب) هو عقد الثقة بين أفراد المجتمع. فالكذب استهجن لقدرته على ايذاء البشر، وكان الصدق (الصواب) لتطييب ذلك الجرح، فما بالنا اليوم بالصدق الجارح الفاضح الذي يجرح تلك الثقة، إن كان هذا المثال محيرا، فأحيلكم للمعارك المدارة على منابر النت، والتي يفضخ بعضنا البعض بضعفه البشري، كله بالحق والله..لكنه مؤذي، قد تراه بغير ذلك وأنت عاليا على صهوة جواد الصواب، ولكن قل ذلك لمن هو تحت حافر صوابك.
فالصدق قوة، ولا بد أن يؤدي إلى قوة. هناك أمر محير في قوة "ساتياقرها " وهي حركة النضال السلمي للمهاتما غاندي، والتي نحاول "دون جدوى" أن نتبناها هنا في السودان، فمصدر هذه الطاقة أن النضال السلمي لا بد أن يقوي لا أن يضعف، فالسبب الأساسي الذي جعل غاندي مؤمنا بقوة السلام والسلم، هو ايمانه بنفس القوة أن الشر "عارض" وليس "أصلا" في البشر، كنت أقرأ مذكرات المهاتما عن نضاله في جنوب افريقيا وكنت أدهش من تفويته لفرص ذهبية "أو هكذا ظننت" للنيل من خصمه في لحظات ضعفه، فهو كان يصر أن الحق لا بد أن يقوي الطرفين المتخاصمين ، الظالم والمظلوم...المظلوم بنيله الحق، والظالم بتقوية ضميره وتبصيره بالحق....ألم أقل لكم ان امر الغاندي صعب ووعر؟
 
كثير من "المستنيرين" يحذرون من تمدد التيار السلفي في المجتمع السوداني، والامر لا يقلقني كثيرا، لأن التيارات المتشددة تسارع بأكل بنيها أولا، فالتعصب يورد المرء في مهالك تنهكه قبل أن تمكنه من خصمه. لكن يقلقني هذه الحركة التي أسميتها "بالتطهيرية" التي أراها في المجتمع (تطهيرية من حركة البيوريتانيزم التي قامت في القرن السادس عشر في انجلترا وتمددت إلى أمريكا) ، حركة متمثلة في دروس العلم وحلقات التلاوة التي أصبحت منتشرة في كل منزل وزاوية، رأيت صديقاتي يتحولن من انسانيتهم إلى الات صواب عتيدة (هل رأي منكم احدا فيلما لسلفيستر ستالوني اسمه القاضي المرعب أو جدج دريد يتحول المجتمع فيه كله إلى الات صواب مرعبة لا يسرقون ولا يشتمون...شاهدوا الفيلم لتفهموا رعب الصواب...الصواب المميت للضمير) ، فكل أمر لديهم يحتكم إلى جدول الصواب المعد سلفا لضمائرهم، رأيتهم يحاسبون ويحاكمون الناس وأنفسهم أيضا وفقا للجدول، وكل سؤال يسكن بالصواب، وكل خاطرة تسكت بالصواب. المشكلة في الصواب كما قلت لكم أنها تلجم الضمير من أن يرمح إلى ما هو أعلى وما هو أجمل وما هو أسمى وما هو رباني...رباني كأمر المسيح لحواريه "أن يكونوا ربانيين" وربنا سبحانه وتعالى أعلى من الصواب...أحب مقولة نحلتها في لحظة صفا: ان ربنا بيحكم بالعدل..لكن ميزانه الرحمة. 
دعوني أقول لكم حركة التطهيرين في قرنها السادس عشر التي نشرت رعب الصواب بين الناس كادت أن تدمر أجمل ما قدمته البشرية من علوم وفنون وموسيقى ومسرح وسياسة أيضا. جدير بالذكر أن التطهيرين هم من حرقوا مسرح شيكسبير عام 1601 . لولا رحمة الله بالبشر، لولا الخطاءين..الذين لوهلة خالفوا الصواب ...الان الحديث النبوي الشريف يحمل ابعادا أخرى أنه لو لم نخطيء لخلق الله من يخطئون ويتوبون. ففي الخطأ رحمة كما في الصواب هدى.
كذا حلقات التلاوة التي تحبس رؤانا وأحلامنا وأخلاقنا في صندوق صغير ضيق تجعلنا نتساءل عن ما إذا كان العطر ذي الكحول حلال أم حرام.... تجعلنا نتصل بلهف لبرنامج الفتاوي نتساءل عن حكم مشاهدة القناة التي لا تقطع مباراة كرة قدم لرفع الأذان. أنا لا أعترض على السؤال بتاتا، فقط اعترض على حشر النفس البشرية  في صندوق ضيق حرج. اعترض على صقله في قالب واحد اسمه الصواب.
أرجو أن لا يفهم أني ضد وجود حلقات التلاوة... فقد كنت متحمسة جدا للانضمام إليها، فأنا أرى أن فن التلاوة هو فن بديع لا بد أن يقف المرء عنده، فالقران الكريم له أكثر من مدخل...مدخل التفسير احداهما ،والمدخل الاخر هو المعايشة، وما من أمر كالتلاوة يساعدك بالتمتع في معايشة النص القراني. لكني لم أكن متحمسة لل"بونس" أو الهدية الملحقة بحلقات التلاوة ..ألا وهي دروس الصواب. وهذا هو الإسم الصحيح لها..فهي ليست دروسا للعلم، بل هي حلقات للصواب، دروس في الصواب، فالعلم يحتمل الجدل والرد والأختلاف، ودروس العلم التي أراها لا تحتمل ذلك، وقد كانت دروس العلم التي نسمع عنها في تاريخنا الإسلامي منبتا للخلافات والإختلافات التي رفدت الفكر الإسلامي بأمثال الأئمة الأربعة والغزالي وابن رشد وابن حزم
أنا خوفي كل خوفي من هذا القالب الأصم الواحد. طيب بالله عليكم أسألكم سؤال...بكل أمانة...مش البنات في الخرطوم بقوا بشبهوا بعض؟ بنات حلقات التلاوة؟ نفس الشكل..نفس لفة الطرحة...نفس الانحناءة الخفيفة في الظهر...نفس الصوت الصيني الهامس..نفس الضحكة الخافتة...نفس غرودة العيون بالتقوى (صدقوني ..في غرويدة كدا بتاعت تقوى)..نفس المصطلحات "جمعة مباركة" "جزاك الله خير" "بكرة أحلى"
طيب أنا عاوزة شنو؟ في كتاب "كل –صلي – حب" والذي تحول إلى فيلم بطولة جوليا روبرتس، هناك مشهد تقول فيه الكاتبة/ البطلة المعتكفة بالمعبد والتي كانت تعافر مع ايمانها دون جدوى، رغم ما فرضته على نفسها من صيام وصمت وخشوع وخضوع وتجهم، حتى طلبت منها احدى راهبات المعبد أن تقوم بدور المضيف والمرحب بالقادمين الجدد إلى المعبد وأن تحرص على جعل رحلتهم الروحية أكثر سهولة، في بذلها نفسها بهذه الطريقة الشبيهة بها وجدت البطلة الإيمان. فقالت معقبة أن الرب ليس متحمسا لرؤية أناس يتجولون يغرودون أعينهم بالتقوى ليقول هؤلاء هم المؤمنون، الرب يريد أن يراك أنت الضاحك ، أو الثرثار، أو الخجول، أو الحنون أو المنطرب او المهترش...أن يراك انت ...كما أنت...مؤمنا.
وكانت هناك اشارة لطيفة في غاية اللطف من الأستاذ حول هذا الأمر في تعليقه على سمت رجال الدين..في الهيئة والقعدة والمشية..ان ذلك الذي يظنونه سمت النبي عليه السلام ليس هو..فقد كان النبي يجلس بين أصحابة ولا يعرف، فينزل الرجل من راحلته يتوجه إلى جمع الصحاب فيتساءل "ايكم محمد؟"
 
كل رجائي لرواد حلقات "العلم" أن يهدموا جدران الصواب المغلقة الضيقة لوهلة...وأن يطلقوا عنان الضمير ليرمح فقد ان اوان اطلاقه ..واستفت قلبك...لا صوابك...استفت قلبك وإن افتاك الصواب.


Wednesday 10 October 2012

أنا فريدا


انا فريدا كاهلو

 

ما من أمر يثقل علي كلحظة الحضور أمام عدسة الكاميرا. أمر اتجنبه إما بتصنع الإنشغال بأمر ما، أو الإستسلام تماما لإلحاح الكاميرا فيعنكس على وجهي ما يجيش بداخلي من رهق وإعياء وحيرة. كيف لا؟ فعدسة الكاميرا تسأل ذلك الذي نحرص جميعا على تجنبه بإفتراضات خائبة ، ألا وهو "من أنت؟" بل الأفدح  "من أنت في هذه اللحظة، في هذه الشريحة من الثانية؟".  فالسؤال الأول نقضي عمرا في الإجابة عليه دون أن نوفق في ذلك تماما.. وتعديل السؤال يتطلب أن أفكك نفسي في تلك اللحظة من الثانية وإعادة بنائها بما أنتقيه من عناصر وجودي لأجيب على السؤال. تلك العناصر المكوّنة التي أحرص على الإنشغال عنها بالشهيق والزفير ، بالدماء المضخوخة عبر أوردة الجسد..الخ من وظائف الكائن الحي.

في الطفولة يبدو الأمر أكثر سهولة ، فصاحب العدسة يملي عليك من تكونه "أنت فتاة عيد ميلاد سعيدة" "أنت تقضين إجازة ممتعة"  "أنت متحمسة لأول يوم لك في المدرسة" .

 

أما مع فريدا؟ فالأمر يختلف تماما

 

الكتاب الذي أعدته "مارجريت هوكس" والمعنون ب"فريدا كاهلو: بورتريهات لأيقونة" هو تجميع لصور فوتوغرافية للفنانة المكسيكية عرضت في سان فرانسيسكو بمعرض يحمل نفس الإسم. بدءا من صورة التقطها والد فريدا وهي في الرابعة  مرورا بالصور التي صورها لها أشهر مصوري القرن العشرين على الإطلاق نهاية بصورتها ممدة على فراش موتها.

كتاب مصوّر يفتتح بمقالة يتيمة "فريدا: الكاميرا والصورة". تقول فيها مارجريت هوكس "ولدت فريدا في عام 1907 إلا أن ذلك التاريخ لم يرق لها ، فقامت بتعديله إلى عام 1910 وهو عام الثورة المكسيكية، وانطلاقا من هذه الثورة خلقت البلاد صورة جديدة لنفسها. وهو نفس ما قامت به فريدا من خلال صورها : إعادة خلق نفسها في كل مرة تقف فيها أمام الكاميرا. وتقول الكاتبة معلقة أن سهولة تنقلها من شخصية لأخرى هو ما جعل صورها متداولة ومحبوبة وبها جاذبية فريدة حتى يومنا هذا.
فريدا في الرابعة من عمرها و ترى الجرأة التي تنظر بها للكاميرا

فريدا تنتمي إلى جيلين من المصورين. فجدها لوالدها "هنريك كاهلو" اليهودي المجري المهاجر إلى المكسيك كان موردا لأدوات ومواد التصوير، بينما جدها لوالدتها "انتونيو كالديرون" كان مصورا ذائع الصيت بالبلاد وهو الذي دفع والد فريدا "ويلهيلم" كي يمتهن التصوير. وأصبح ويلهيلم كاهلو مصورا معتبرا ، وأول من حظى بإسم مصوّر رسمي للمكسيك، فقد كان يجوب البلاد ليصوّر المعالم المعمارية الأثرية مصطحبا معه ابنته الأثيرة فريدا. كان  مصابا بالصرع وقد أوكل إليها حمايته وحماية أجهز التصوير الثقيلة إذا ما انتابته احدى النوبات .  

من تلك الجولات اكتسبت فريدا خبرة واسعة في التعامل مع الكاميرا وفن التصوير، وكانت تشارك والدها في التحميض وفي تعديل الصور بفرشاة الألوان (وذاك ما قبل الفوتوشوب). إلى جانب ذلك كان "كاهلو" يخصص جانبا من وقته لتصوير البورتريه. وهو الفن الذي تأثرت به فريدا كثيرا.ويتضح ذلك جليا في لوحاتها، فأكثر من كونها لوحات شخصية فهي أشبه بالصور الفوتوغرافية، ويلاحظ ذلك في الخلفيات التي ترسمها فريدا للبورتريه، فهي أشبه بالديكورات التي تجدها في استديوهات المكسيك القديمة أو التي يحملها معهم المصورين الجوالة . وتبدو الشخصيات وكأنها تطفو على المكان لا جزءا من منه. مثال لوحة/ لوثر بربانك 1932


في لوحتها: بورتريه لوالدي ويلهيلم كاهلو 1951. رسمت فريدا أبيها عن صوره أهداها اياها بعد الحادث الشهير الذي اقعدها، وكان قد كتب عليها "تذكري الحب الذي يحمله والدك لك" . الصورة جامدة الملامج والتي يخترق فيها بصر كاهلو الكاميرا ستصبح سمة بارزة في صور فريدا التي تبدو وكأنها في حوار مع عدسة الكاميرا وليست مجرد موضوعا لها. أعتقد أنه لهذا السبب تحس بنوع من السيطرة لفريدا على الصورة. أعني غالبا ما توصف الصور أنها "حبس" لشخصية في زمان ومكان معين. لكن ليس مع فريدا. الأمر معكوس تماما....عودة إلى بورتريه والدها، إلى جانبه رسمت الكاميرا، وكما لاحظت الكاتبة مارغريت هوكس أن بريق العدسة مماثل للبريق الساطع الذي أضافته لعيني أبيها ، ثم البويضات التي ملأت بها خلفية اللوحة وقد حورت عيني أبيها إلى شكل دائري مماثل لشكل البويضة... تعلق الكاتبة قائلة أن الربط بين الكاميرا والبويضة رمز الخصوبة و عيني أبيها هو ترجمة لما تقوم به فريدا عند جلوسها أمام الكاميرا، تلك العلاقة مع العدسة التي فيها شيء من الغموض والإغواء والسحر وغزل فاضح للكاميرا، بابتسامتها النصفية التي ستصبح علامة مسجلة لكل صورها وكأنها تخبئ سرا ماجنا.












صورة ملتقطة لها من قبل عسيقها لعشرة اعوام و المصور الشهير نيكولاس مري



 

الأزياء في صورها: منذ وقت مبكر أدركت فريدا أهمية الزي في خلق والتعبير عن شخصياتها المبتكرة للعدسة . في السنين الباكرة تشهد في صورها شيء من التجريب المرح في أزيائها ، كانت فريدا تنتمي إلى مجموعة من تلميذات المدرسة الذكيات الساخرات الجريئات، الحريصات على التعبير عن روح التمرد بداخلهن بشيء من الدعابة. ثم حادثة القطار، مسبوقة بندمها على تجاربها الجنسية المثلية (مع مدرسة في المدرسة) مع قراءتها المتوسعة في اليهودية والمسيحية واعادة تعميدها في الكنيسة الكاثوليكية ، ظهرت فريدا في صورها بأزياء كتلك التي في القرون الوسطى، الفساتين الطويلة المحتشمة والقاتمة وتحشد خلفيات صورها برموز دينية . ثم فجأة تظهر فريدا في صورة عائلية ترتدي فيها بدلة وبنطال رجالي وشعر قصير. شخصية جديدة طرأت وثياب ملائمة.
فريدا  اقصى يسار الصورة
 

بعد حمى الإنشغال الديني ، تصيب فريدا حمى أخرى، الثورية السياسية، فتنتمي إلى الحزب الشيوعي المكسيكي، وهنا فريدا في صورها ترتدي قمصان عمالية خشنة وفساتين قطنية متقشفة. وفي خضم كل ذلك تلتقي فريدا بدييغو دي ريفيرا، ويحدث تغيير جذري. ففي احدى رحلات دييغو على ضفاف التهوانا يفتتن بالثقافة المحلية الغنية بالمنطقة وأكثر ما يجذبه كانت أزياء النساء التهوانيات الباذخة والتي تعبر عن اعتداهن بأنفسهن وقوتهن، وقد امتلأت جدارياته في تلك الفترة بنماذج من نساء التهوانا، وكان لذلك أثر كبير على فريدا . وخلقت لها شخصية جديدة وجدت لها متنفسا ، ليس خلال أزياء التهوانيات فحسب بل كافة الثقافات المكسيكية ، عبرت فيها فريدا عن اعتدادها بأصلها الهندي وتبنت تلك الثقافات تماما مقصية كل ما هو أوروبي، كان احتفاءا بالتاريخ الما قبل اسباني للمكسيك.
فريدا على مقعد أبيض ...صورها نيكولاس مري

 

يشهد معظم المصورين الذين استحوذت على عدساتهم فريدا جلسات التحضير للصور بأنها أشبه بالطقس الديني أو أنها لخظة خلق فني، جلسات التحضير تمتد لساعات، تفيض فيها غرفة فريدا بأمواج من الفساتين والقمصان والأوشحة والأوان، تختار منها ما تشاء بعناية فائقة، حريصة أن يبدو الزي في أبهى حالاته، ولا تبالي أن ينتظر المصور بينما تخيط بيدها فتقا هنا ، أو ترسل إحدى الخادمات لكي ثنية صغيرة هناك. ثم تبدأ بعدها عملية اختيار الحذاء المناسب، وتتكدس حجرتها بكل أنواع الأحذية والصنادل المحلية أو بوتات رعاة البقر الجلدية أو الكعب العالي. ثم أخيرا اختيار الاكسسوارات والتي تتنوع أيضا من المجوهرات العتيقة الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة والتي كان يغدق عليها منها دييغو، وكانت تمتلك منها ما يكفي لمهر أميرة أزديكية، أو حلية محلية رخيصة اشترتها من بائع متجول.

 

لكن لا شيء كان يضاهي مشهدها وهي تصفف شعرها الحالك الطويل، طقس حسي وجنساني كان يحرص عشاقها ومعجبيها أن يكونوا حضورا فيه. أحد أصحاب المعارض صور سلسلة من الصور البديعة لفريدا وهي تصفف شعرها عارية تماما. 
تصوير جوليان ليفي -نيويورك
 
 
 
 
 
يبدأ طقسها بتفريش خصل الشعر بحيوية حتى تبرق فيه لمعة الحياة، ثم تقوم بجدله ورفعه وتزيينه إما بورود برية أو أمشاط مصنوعة من قوقعة السلاحف أو بشرائط الحرير اللامعة أو خيوط الصوف الزاهية. وكانت تبدو مستمتعة بالعملية شبه الماشوسية للي الشعر وتجديله بحزم وغرس الدبابيس فيه وتكميمه بالشرائط حتى تخرج مزهوة بالصورة المرضية لها.
 

ومع تقدمها في العمر وقرب موتها وأشتداد وطأة المرض عليها، كانت تخفي فريدا من ضعفها بأرطال من الأصباغ والمساحيق على وجهها ، وملابس متكلفة في المرح، وتصفيفات شعر صاخبة حتى أنه ليصعب أن تبصر الروح الحقيقية المتوثبة لفريدا تحت وطأة المساحيق والأزياء...سوى عينيها اللتان تخترق عدسة الكاميرا متجاوزة فخ الزمان والمكان اللتان تنصبهما بمكر، وتقوم بدورها هي الأيقاع بك في شراك نظرتها الآسرة.
فريدا على فراش موتها صورتها بناء على رغبتها صديقتها الفنانة لولا الفاريز برافو
 


فريدا كانت تعشق الكاميرا، كانت تحرص أن تطوعها لتخرج صورها كما تريدها تماما، ثم تقوم بتوزيع الصور على أصدقائها والمقربين إليها وكأنها بذلك تؤكد حضورها المتجاوز لقيد الزمان والمكان.. تقول:

                                      "أنا فريدا...لا تنسوني"

 

تصوير ليليان بلوخ
 



 
تصوير لولا الفاريز برافو

 
تصوير نيكولاس مري