Wednesday 10 October 2012

أنا فريدا


انا فريدا كاهلو

 

ما من أمر يثقل علي كلحظة الحضور أمام عدسة الكاميرا. أمر اتجنبه إما بتصنع الإنشغال بأمر ما، أو الإستسلام تماما لإلحاح الكاميرا فيعنكس على وجهي ما يجيش بداخلي من رهق وإعياء وحيرة. كيف لا؟ فعدسة الكاميرا تسأل ذلك الذي نحرص جميعا على تجنبه بإفتراضات خائبة ، ألا وهو "من أنت؟" بل الأفدح  "من أنت في هذه اللحظة، في هذه الشريحة من الثانية؟".  فالسؤال الأول نقضي عمرا في الإجابة عليه دون أن نوفق في ذلك تماما.. وتعديل السؤال يتطلب أن أفكك نفسي في تلك اللحظة من الثانية وإعادة بنائها بما أنتقيه من عناصر وجودي لأجيب على السؤال. تلك العناصر المكوّنة التي أحرص على الإنشغال عنها بالشهيق والزفير ، بالدماء المضخوخة عبر أوردة الجسد..الخ من وظائف الكائن الحي.

في الطفولة يبدو الأمر أكثر سهولة ، فصاحب العدسة يملي عليك من تكونه "أنت فتاة عيد ميلاد سعيدة" "أنت تقضين إجازة ممتعة"  "أنت متحمسة لأول يوم لك في المدرسة" .

 

أما مع فريدا؟ فالأمر يختلف تماما

 

الكتاب الذي أعدته "مارجريت هوكس" والمعنون ب"فريدا كاهلو: بورتريهات لأيقونة" هو تجميع لصور فوتوغرافية للفنانة المكسيكية عرضت في سان فرانسيسكو بمعرض يحمل نفس الإسم. بدءا من صورة التقطها والد فريدا وهي في الرابعة  مرورا بالصور التي صورها لها أشهر مصوري القرن العشرين على الإطلاق نهاية بصورتها ممدة على فراش موتها.

كتاب مصوّر يفتتح بمقالة يتيمة "فريدا: الكاميرا والصورة". تقول فيها مارجريت هوكس "ولدت فريدا في عام 1907 إلا أن ذلك التاريخ لم يرق لها ، فقامت بتعديله إلى عام 1910 وهو عام الثورة المكسيكية، وانطلاقا من هذه الثورة خلقت البلاد صورة جديدة لنفسها. وهو نفس ما قامت به فريدا من خلال صورها : إعادة خلق نفسها في كل مرة تقف فيها أمام الكاميرا. وتقول الكاتبة معلقة أن سهولة تنقلها من شخصية لأخرى هو ما جعل صورها متداولة ومحبوبة وبها جاذبية فريدة حتى يومنا هذا.
فريدا في الرابعة من عمرها و ترى الجرأة التي تنظر بها للكاميرا

فريدا تنتمي إلى جيلين من المصورين. فجدها لوالدها "هنريك كاهلو" اليهودي المجري المهاجر إلى المكسيك كان موردا لأدوات ومواد التصوير، بينما جدها لوالدتها "انتونيو كالديرون" كان مصورا ذائع الصيت بالبلاد وهو الذي دفع والد فريدا "ويلهيلم" كي يمتهن التصوير. وأصبح ويلهيلم كاهلو مصورا معتبرا ، وأول من حظى بإسم مصوّر رسمي للمكسيك، فقد كان يجوب البلاد ليصوّر المعالم المعمارية الأثرية مصطحبا معه ابنته الأثيرة فريدا. كان  مصابا بالصرع وقد أوكل إليها حمايته وحماية أجهز التصوير الثقيلة إذا ما انتابته احدى النوبات .  

من تلك الجولات اكتسبت فريدا خبرة واسعة في التعامل مع الكاميرا وفن التصوير، وكانت تشارك والدها في التحميض وفي تعديل الصور بفرشاة الألوان (وذاك ما قبل الفوتوشوب). إلى جانب ذلك كان "كاهلو" يخصص جانبا من وقته لتصوير البورتريه. وهو الفن الذي تأثرت به فريدا كثيرا.ويتضح ذلك جليا في لوحاتها، فأكثر من كونها لوحات شخصية فهي أشبه بالصور الفوتوغرافية، ويلاحظ ذلك في الخلفيات التي ترسمها فريدا للبورتريه، فهي أشبه بالديكورات التي تجدها في استديوهات المكسيك القديمة أو التي يحملها معهم المصورين الجوالة . وتبدو الشخصيات وكأنها تطفو على المكان لا جزءا من منه. مثال لوحة/ لوثر بربانك 1932


في لوحتها: بورتريه لوالدي ويلهيلم كاهلو 1951. رسمت فريدا أبيها عن صوره أهداها اياها بعد الحادث الشهير الذي اقعدها، وكان قد كتب عليها "تذكري الحب الذي يحمله والدك لك" . الصورة جامدة الملامج والتي يخترق فيها بصر كاهلو الكاميرا ستصبح سمة بارزة في صور فريدا التي تبدو وكأنها في حوار مع عدسة الكاميرا وليست مجرد موضوعا لها. أعتقد أنه لهذا السبب تحس بنوع من السيطرة لفريدا على الصورة. أعني غالبا ما توصف الصور أنها "حبس" لشخصية في زمان ومكان معين. لكن ليس مع فريدا. الأمر معكوس تماما....عودة إلى بورتريه والدها، إلى جانبه رسمت الكاميرا، وكما لاحظت الكاتبة مارغريت هوكس أن بريق العدسة مماثل للبريق الساطع الذي أضافته لعيني أبيها ، ثم البويضات التي ملأت بها خلفية اللوحة وقد حورت عيني أبيها إلى شكل دائري مماثل لشكل البويضة... تعلق الكاتبة قائلة أن الربط بين الكاميرا والبويضة رمز الخصوبة و عيني أبيها هو ترجمة لما تقوم به فريدا عند جلوسها أمام الكاميرا، تلك العلاقة مع العدسة التي فيها شيء من الغموض والإغواء والسحر وغزل فاضح للكاميرا، بابتسامتها النصفية التي ستصبح علامة مسجلة لكل صورها وكأنها تخبئ سرا ماجنا.












صورة ملتقطة لها من قبل عسيقها لعشرة اعوام و المصور الشهير نيكولاس مري



 

الأزياء في صورها: منذ وقت مبكر أدركت فريدا أهمية الزي في خلق والتعبير عن شخصياتها المبتكرة للعدسة . في السنين الباكرة تشهد في صورها شيء من التجريب المرح في أزيائها ، كانت فريدا تنتمي إلى مجموعة من تلميذات المدرسة الذكيات الساخرات الجريئات، الحريصات على التعبير عن روح التمرد بداخلهن بشيء من الدعابة. ثم حادثة القطار، مسبوقة بندمها على تجاربها الجنسية المثلية (مع مدرسة في المدرسة) مع قراءتها المتوسعة في اليهودية والمسيحية واعادة تعميدها في الكنيسة الكاثوليكية ، ظهرت فريدا في صورها بأزياء كتلك التي في القرون الوسطى، الفساتين الطويلة المحتشمة والقاتمة وتحشد خلفيات صورها برموز دينية . ثم فجأة تظهر فريدا في صورة عائلية ترتدي فيها بدلة وبنطال رجالي وشعر قصير. شخصية جديدة طرأت وثياب ملائمة.
فريدا  اقصى يسار الصورة
 

بعد حمى الإنشغال الديني ، تصيب فريدا حمى أخرى، الثورية السياسية، فتنتمي إلى الحزب الشيوعي المكسيكي، وهنا فريدا في صورها ترتدي قمصان عمالية خشنة وفساتين قطنية متقشفة. وفي خضم كل ذلك تلتقي فريدا بدييغو دي ريفيرا، ويحدث تغيير جذري. ففي احدى رحلات دييغو على ضفاف التهوانا يفتتن بالثقافة المحلية الغنية بالمنطقة وأكثر ما يجذبه كانت أزياء النساء التهوانيات الباذخة والتي تعبر عن اعتداهن بأنفسهن وقوتهن، وقد امتلأت جدارياته في تلك الفترة بنماذج من نساء التهوانا، وكان لذلك أثر كبير على فريدا . وخلقت لها شخصية جديدة وجدت لها متنفسا ، ليس خلال أزياء التهوانيات فحسب بل كافة الثقافات المكسيكية ، عبرت فيها فريدا عن اعتدادها بأصلها الهندي وتبنت تلك الثقافات تماما مقصية كل ما هو أوروبي، كان احتفاءا بالتاريخ الما قبل اسباني للمكسيك.
فريدا على مقعد أبيض ...صورها نيكولاس مري

 

يشهد معظم المصورين الذين استحوذت على عدساتهم فريدا جلسات التحضير للصور بأنها أشبه بالطقس الديني أو أنها لخظة خلق فني، جلسات التحضير تمتد لساعات، تفيض فيها غرفة فريدا بأمواج من الفساتين والقمصان والأوشحة والأوان، تختار منها ما تشاء بعناية فائقة، حريصة أن يبدو الزي في أبهى حالاته، ولا تبالي أن ينتظر المصور بينما تخيط بيدها فتقا هنا ، أو ترسل إحدى الخادمات لكي ثنية صغيرة هناك. ثم تبدأ بعدها عملية اختيار الحذاء المناسب، وتتكدس حجرتها بكل أنواع الأحذية والصنادل المحلية أو بوتات رعاة البقر الجلدية أو الكعب العالي. ثم أخيرا اختيار الاكسسوارات والتي تتنوع أيضا من المجوهرات العتيقة الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة والتي كان يغدق عليها منها دييغو، وكانت تمتلك منها ما يكفي لمهر أميرة أزديكية، أو حلية محلية رخيصة اشترتها من بائع متجول.

 

لكن لا شيء كان يضاهي مشهدها وهي تصفف شعرها الحالك الطويل، طقس حسي وجنساني كان يحرص عشاقها ومعجبيها أن يكونوا حضورا فيه. أحد أصحاب المعارض صور سلسلة من الصور البديعة لفريدا وهي تصفف شعرها عارية تماما. 
تصوير جوليان ليفي -نيويورك
 
 
 
 
 
يبدأ طقسها بتفريش خصل الشعر بحيوية حتى تبرق فيه لمعة الحياة، ثم تقوم بجدله ورفعه وتزيينه إما بورود برية أو أمشاط مصنوعة من قوقعة السلاحف أو بشرائط الحرير اللامعة أو خيوط الصوف الزاهية. وكانت تبدو مستمتعة بالعملية شبه الماشوسية للي الشعر وتجديله بحزم وغرس الدبابيس فيه وتكميمه بالشرائط حتى تخرج مزهوة بالصورة المرضية لها.
 

ومع تقدمها في العمر وقرب موتها وأشتداد وطأة المرض عليها، كانت تخفي فريدا من ضعفها بأرطال من الأصباغ والمساحيق على وجهها ، وملابس متكلفة في المرح، وتصفيفات شعر صاخبة حتى أنه ليصعب أن تبصر الروح الحقيقية المتوثبة لفريدا تحت وطأة المساحيق والأزياء...سوى عينيها اللتان تخترق عدسة الكاميرا متجاوزة فخ الزمان والمكان اللتان تنصبهما بمكر، وتقوم بدورها هي الأيقاع بك في شراك نظرتها الآسرة.
فريدا على فراش موتها صورتها بناء على رغبتها صديقتها الفنانة لولا الفاريز برافو
 


فريدا كانت تعشق الكاميرا، كانت تحرص أن تطوعها لتخرج صورها كما تريدها تماما، ثم تقوم بتوزيع الصور على أصدقائها والمقربين إليها وكأنها بذلك تؤكد حضورها المتجاوز لقيد الزمان والمكان.. تقول:

                                      "أنا فريدا...لا تنسوني"

 

تصوير ليليان بلوخ
 



 
تصوير لولا الفاريز برافو

 
تصوير نيكولاس مري



No comments:

Post a Comment