Monday 20 August 2012

ثمة ثورة تنتظر


ثمة ثورة تنتظر



كمقالتي السابقة ،هنا أنا أؤكد أن تغيير المستقبل يبدأ الان-في الحاضر. وهنا أيضا أشير إلى أمر اخر، أنه ومع كل الثورات في المنطقة التي نتابعها –ثمة ثورة أخرى تنتظر.

في مقالته المعنونة : جسر من ميدان التحرير إلى ميدان ماديسون، كتب نعوم تشومسكي عن رسالة بعثها القائد العمالي المصري كمال عباس في العشرين من فبراير 2011 إلى الولايات المتحدة مفادها: ثوار ميدان التحرير يقفون جنبا إلى جنب ثوار ميدان ماديسون. نعوم تشومسكي يرى أن ثورة الخامس والعشرين من يناير هي "عمالية" في عظمها ، دفع بها إلى ذروتها شباب مسلح بوسائط الإتصال، مشيرا بذلك إلى اضراب 6  ابريل الشهير لعمال النسيج في المحلة، التي كللت مطالبها لا برفع أجور عمالها في المحلة فحسب بل رفع الحد الأدنى للأجور في كل مصر. هنا ، يرى تشومسكي- كانت الانطلاقة الحقيقية لثورة الخامس والعشرين من يناير. قد يرى البعض في تحليله شيء من التبسيط . إلا أن نعوم تشومسكي مبصّر عظيم ، لا يأبه بتحليل القشور بل ينفذ دوما إلى عظم الأشياء، وقد أعانه على ذلك نشاط لم يفتر ولم يكل دام لأكثر من 40 عاما مناهضا للدكتاتوريات الصريحة والمقنعة. والتي تدلف إليها الان ثورات الربيع بكل نعومة. تشومسكي يرى بإختصار أن الرسالة كانت حصيفة جدا من القائد العمالي ، فثوار التحرير انتفضوا لإسقاط نظام مصادر للديمقراطية، وكذا الحال في ولاية ويسكونسن في أمريكا . فالنقابيون انتفضوا للحفاظ على الديمقراطية في أمريكا التي تباهي العالم بإرثها الديمقراطي . وقد كان حاكم الولاية سكوت ووكرز قد طرح مشروع قرار يجعل من  "التفاوض الجمعي" غير قانوني. ويرى تشومسكي أن هذا مهدد حقيقي للديمقراطية في أمريكا. كيف؟ ...


قبل 40 عاما ، وببصيرة عالية تليق بمقام الأستاذ محمود محمد طه، في محاضرة حول الدستور والحقوق الأساسية، تناول الأستاذ موضوع الديمقراطية، قائلا أنها و الأشتراكية تمشيان يدا بيد. معرضا بالوضع في قطبي العالم في ذلك الوقت: أمريكا وروسيا. قال: غياب الديمقراطية هزم الإشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وغياب الإشتراكية هزم الديمقراطية في أمريكا. وذلك صحيح، معلوم أن مصادرة حريات الأفراد في الاتحاد السوفييتي حوّل البلاد إلى اقطاعيات مصغرة تتبع لقيادات الحزب الشيوعي والنظام، وحوّل الشعب من سخرة النبلاء إلى سخرة الدولة. كذا الحال في أمريكا فإن النظام الرأسمالي القاهر يحول دون اكتمال عملية الديمقراطية التي تصادرها "الحاجة" و"الرزق". فاستبدلت الديكتاتورية التقليدية، بديكتاتورية حديثة هي ديكتاتورية صاحب العمل، أو صاحب المال الذي يملك صوتك ويشتريه، وتبعا لذلك تشرع قوانين الدولة بما يخدم مصالح الشخصية ومصالح عمله.

نعم ، ثمة ثورة أخرى في الجوار تنتظر، وقد تتطاير شررها .

ووجهت حركة "احتلوا" التي اجتاحت شمال أمريكا وغرب أوروبا بالعديد من الإنتقادات، في أنها حركة عفوية ويمكنك أن تقول من شعاراتها أنها عاطفية، لا تحمل هدفا محددا ولا سقف طموح لشكل ونوع التغيير، إن كان هناك شبيه لهذه الحركة فهي حركة الهيبيز في السبعينيات من القرن الماضي . وجه الشبه في أنهما اللإثنان حركتا احتجاج ورفض. تختلف وتتباين أهداف الحركة بشكل جذري ولكن هناك شيء واحد يجمعهم ويوحدهم وهو شعور بعدم الرضا، برفض عميق وضيق شديد بالنظام الحالي.

قد يرى البعض أن مقارنة ما يحدث في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية بما يحدث في نصفها الشمالي فيه شيء من المبالغة، لما بينهما من فوارق عظيمة في تاريخ التطور السياسي، فأين دول يعود عمر ديمقراطيتها إلى مائة عام، إلى دول ما كادت تتفكك من أنظمة الحكم المتوارث عليها مذ قرون.

بديهي أن التطور السياسي في دول العالم المتقدمة كان رهينا بالتطور الإقتصادي من مجتمع زراعي إلى نهضة صناعية ، والتي لم تتم بين ليلة وضحاها بل أستوت على نيران النزاعات العنيفة والسلمية عشرات السنين مفضية إلى نظام السياسي –الإقتصادي في وقتنا الراهن. كتاب الموجة الثالثة للإقتصادي آلفين توفلر  يؤرخ فيه لنهضة ثالثة قامت بعد عصر الصناعة الا وهو عصر المعلوماتية. ويرى توفلر  أن التطور السياسي المصاحب لا يزال متخلفا عن التطور الإقتصادي الحالي –اي اقتصاد المعلوماتية- إذ أنه لا يزال في مكانه الأول في عهد الصناعة، وأهم ملامحه تمركز القوى والتسلسل الهرميى في اتخاذ القرار، والثقل البيروقراطي والقانوني اللازمين لضبط العمل وتوزيع الأدوار السياسية .  لاحظ الانتاج في عهد الصناعة يعتمد على المصانع الجامدة الضخمة في المواقع الثابتة، وتسلسل الأوامر من المدير إلى الغفير وسلسلة من الإجراءات الميكانيكية المتكررة والتخصصية والمهنية اللازمتين لتسيير العمال .هناك توافق تام بين طبيعة الإنتاج المنتج الإقتصادي، وانتاج القرار السياسي.

 بينما الإنتاج في عصر المعلومات رشيق وخفيف، لا يعتمد على الموقع الثابت، وقد ضرب توفلر بذلك مثلا أنه بوسعك أن تقيم مصنعا للثلاجات من سرداب منزلك، فلا يلزمك إقامة مصنع ضخم ينتج الاف الثلاجات لتغطي بها ما تقدره من احتياج السوق المحلي والعالمي، فمن منزلك وعبر وسيلة اتصال متطورة يمكنك رصد الحاجة في السوق المحلي فقط (فلا تلزمك كلفة الإنتاج أن تغرق السوق المحلي وما جاورها بالمنتج) فقط تنتج الكمية اللازمة للأحتياج المحلي وتسوقها وتشخنها. فتبعا لذلك لا بد أن يكون التطور السياسي المصاحب خفيفا، فيصبح القرار لا مركزيا ، وأن يكون أكثر اغراقا في المحلية، يعتمد على التعدد الوظيفي- multi-tasking ، شبكي في اتخاذ القرار لاتسلسليا.

في عام 2003 تقدمت بطلب انضمام لحركة القوى الديمقراطية الجديدة في ذلك الوقت، (وبشي من الغرور) كان طلب الإنضمام عبارة عن مقترح لطبيعة العمل التنظيمي في تنظيم سياسي حديث، وأذكر أني اختصرت الامر برسم مبسط لشكل القرار، كان دائرة كبيرة تحيط بدائرة صغيرة، وكان القرار يصدر من اتجاهات متعددة من محيط الدائرة الخارجي إلى مركز الدائرة








 






 
ما الغرض من هذا التشريق والتغريب في الحديث، أن الثورات التي نشهدها في دول العالم المتقدم هي ثورة على النظام السياسي الذي ما عاد مستوفيا لمتطلبات عصر المعلوماتية الحالي، فالعهد الذي نعيش فيه حقا خطير. فالقرار المنتج أو الحدث السياسي يصل بسرعة طرف من الثانية ليعمم على الجميع بتفاصيله الدقيقة، وكذا التفاعل معه يمكنه أن يصل إلى بؤرة مركز اتخاذ القرار (مؤكد أن البشير شاهد النقاش الدائر تحت لينك اليوتيوب الذي صوره في حفل زفاف)، وبفضل الوسيط الإعلامي المتطور أصبح لا يوجد حدث تافه في بلدة طرفية بعيدة، بل أصبحت كل نقطة على الكوكب هي مركزا مؤثرا. ما نشهده من قلق على الشوراع المحيطة بمكاتب البورصة ونواصي البنوك في مدن أوروبا وأمريكا، هي قلق من هذا التخلف السياسي الذي يدفع بالمواطن على هامش اتخاذ القرار، ولا يريد منه سوى أن يبصم مؤيدا أو أن ينسحب ساخطا، فالكل يريد أن يغمس يده في حلّة القرار السياسي ( لاحظ نسخ قرارات المحاكم القاضية بمصادرة منزل أحدهم لأنه لم يستطع أن يسدد قيمة فوائد الأقساط على منزله، لاحظ نسخ قرار المحكمة العليا بوسكونسين بمنع التفاوض الجمعي فعضوية النقابات لا تزال نشطة، نقابة المعلمين مثلا في ويسكونسين تجمع اشتراكات عضويتها وتتصل بهم عبر شبكة الانترنت)



وما شأننا نحن بذلك، يقول الكاتب آلفين توفلر -صاحب كتاب الموجة الثالثة أن خطورة هذا العهد تكمن في أنه كائن من كان يستطيع مواكبته، فالتطور الاتصالي لا يحتاج إلى بنية تحتية مكلفة ولا تحتاج لأن نمر بالتسلسل التاريخي: زراعة –صناعة-معلوماتية. (نعرف ذلك تماما الان، فالمزارع في الخلا يستخدم هاتفه في تدبير شئون حواشته، ونعرف أن نظام الإتصال المعلوماتي قائم وموجود بشكل حديث ومستقر ومتطور حتى في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة واضرابات سياسية متكررة: كالكونغو!!). تأكد تماما ، أن الاعتصامات في شوارع مدريد و أثينا و ويسكونسين وتل أبيب تعنينا نحن في الخرطوم تماما. فأول الأمر يصبح سؤال البديل عقيما، لأنه يجيب عن تساؤل يخص عهد الصناعة البائد ، الذي يوجه ناظريه دوما نحو رئيس مجلس الإدارة أو مدير المصنع. فالسؤال في عهد المعلوماتية يبحث عن "البدائل". فرئيس العمال في نبطشية الليل في مصنع ما، هو بأهمية رئيس الجمهورية.



فالتثاؤب الذي نشهده الان والتراخي عن أحزابنا وقياداتنا السياسية هو ذاته الذي يشهده الحزب الديمقراطي والجمهوري، فهي تنظيمات عهد بائد ما عاد مستوفيا لمتطلبات العصر. وعجزهم عن مواكبة تطلبات العصر لا يكمن في عدم قدرتهم على تبني مواقف تقدمية كما ذكرت في مؤتمر حركة القوى الديمقراطية الجديدة، بل في عدم القدرة على صنع القرار بشكل تقدمي.



 إذا سمح لي القارئ بتخريمة أخرى، أصبت بخيبة أمل كبيرة عند صدور قرار اعادة اصدار جريدة الميدان في عام 2005 كما أظن، فقد افسدت علي حلم يقظتي الذي فيه تصدر ميادين لا ميدان واحد ، فصحيفة الميدان –الخرطوم وصحيفة الميدان-سنار، وصحيفة الميدان –مدني، وصحيفة الميدان- الفاشر، وصحيفة الميدان –نيالا. فقد أصبحنا أكثر غرقا في المحلية وأكثر اهتماما بالقرار المحلي الذي هو أيضا احد السمات الهامة لعهد المعلوماتية كما شرحنا أعلاه (هسي ما فات شي).بل أكثر اغراقا نحو الفردية فما عاد مجزيا تجاوز الفرد بسبب "الأغلبية" كما كان ضروريا ولازما في عهد الصناعة. وقد بشر بهذا ودعا إليه الأستاذ محمود محمد طه في حديثة عن التطور السياسي المواكب لأنسان القرن العشرين والذي تكرس فيه التكنلوجيا لاحداث توافق لا يتغول على الفردية ولا يفرط في حقوق الجماعة ، والذي تعلو فيه كرامة الفرد العامل فلا يكون مجرد صامولة في دولاب العمل، مجرد الة أخرى، بل أن يكون صاحب قرار ورؤية فيما يعمل .كما دعا تشومسكي لتكريس التكنلوجيا ووسائط الإتصال كي تسد الفجوة بين مركز القرار وطرفه، بدءا من المصنع  ومكان العمال انتهاءا إلى البرلمان. فقد شبه تشومسكي حال الموظف أو العامل بالمصنع المغيب عن مركز اتخاذ القرار وكأنه أجير، تستأجر خبرته ووقته وحياته للقيام بمهمة صغيرة، وما عاد ذلك مرضيا للكرامة الإنسانية.وذاك حديث اخر إذا يسر الله له مقالة أخرى



الختام وبالبلدي البسيط: لا تمدون أعينكم للتحول السياسي الظاهري في ثورات الربيع العربي فتلك ثورات ما لم تستصحب القلق الدائر في النصف الأعلى من الكرة الأرضية، فستأكل نفسها بنفسها، وستكرس –(شاءت أم أبت..سواء بيد مرسي أو بالبرادعي أو بصباحي أو بغيره) لديتكتاوريات جديدة.و ارانا في مجالسنا ننتناقل نذارة الأستاذ المحذرة من حكم الإخوان المسلمين، وللمتابع محاضرات الأستاذ وكتاباته، فالأمر لا يتعلق برأيه حول التنظيم، فإن له نظرة أكثر عمقا وبصيرة  عرف فيه أن النظام الاتي سيعتمد على "الزكاة" و"الصدقة" للضعيف بدلا من "الحق المكفول" للجميع. وهو ما نراه اليوم فقد استبدل نظام الضمان الإجتماعي بدواوين الزكاة ومشاريع الصدقات للمواطنين من غير ذوي السلطة والنفوذ، وفيه يسمح باحتكار السلطة السياسية والنفوذ المالي في يد ال1% . مقالتي القادمة إن شاء الله تعالي ستكون عن ملامح الثورة المرتقبة في السودان على هذا الضوء



هذا المقال على تواضعه أهديه لروح الاستاذ على الطاهر، موظف فصل من عمله فصلا تعسفيا أثناء قيامه بعمله دون ابداء أي سبب. وانضم إلى لجنة المفصولين من الخدمة ولما أعيته السبل توجه صوب كوبري القوات المسلحة وألقى بنفسه من أعلاه. تاركا خلفة اسرته.

الفيديو المصاحب لملابسات غرق الاستاذ على الطاهر، منقول عن الناشطة الصحفية نجلاء سعيد










2 comments:

  1. استاذة ميسون تحياتي
    ان الثورات لا تنتظر حتي انبلاج صباحها فهي حتما تاتي حينا في النور واحيانا عبر الظلمات الي انبثاق فجرها ..نحن هم الذين ينتظرون فجر الثورات نحن المنتظرون عجزا وتواكلا ولكنها حتما تاتي .
    شكرا

    ReplyDelete
  2. استاذة ميسون
    انا احيي كتاباتك و اعتقد انها بتصب حقيقة في صميم المشكلة، اعجبت كثيرا بمقالك السابق عن دور المجتمع المدني وكيف انة قادر علي التغيير ولو رأيناهو بعيد
    محتاجين نبشر بالتغيير دا التغيير الحقيقي بين الناشطين في مجتمعنا المدني لاني احيانا اري ان حتي ناشطينا عملية النظر لما هو حقا يحتاج التغيير شوية اصبحت ضبابية عندنا

    ReplyDelete