Wednesday 7 December 2011

أنا مواطن..ارى الاتي اقتصاديا


أنا مواطن..ارى الاتي
اقتصاديا

أنا من الذين يرفضون "بعناد" الاعتقاد بأن الخوض في شئون ادراة الدولة هو حكر على "المتخصصين"، لأنه في المقام الأول ترجمة لاحتياجات ورغبات ما نسميهم "العامة". ما يحدث حاليا في غالب دول العالم ، هو أن المتخصصين اصبحوا يصادرون رغبات العامة واحتياجاتهم واعادة إملائها عليهم وفق توجهات تخصهم، قد تكون ايديولوجية أو اكاديمية أو سلطوية.


كنت قد اشرت في مقال من قبل أن الثورة الحقيقة في الربيع العربي، كانت في اعادة علاقة بين الحاكم والمحكوم، هنا كان الانقلاب الحقيقي، لذا ذكرت في مقالتي "الخروج من متاهة التحرير" أن ثورتي اكتوبر وابريل لا يمكن ان تعد سابقة لأخواتها من الثورات في الربيع العربي، قلت لأنها -اكتوبر وابريل- نزعت السلطة من حاكم لتدرعها في حاكم اخر ولم يكن "المحكوم" سوى وسيط لهذه العملية.
لذا تأتي هذه الورقة المساهمة في البرنامج الاقتصادي للتنظيم الحديث. هي عكس للعلاقة السابقة، هي املاء من "العامة" "للمتخصصين" لبعض الرغبات والاحتياجات. وهي تأتي في صيغة موجهات عامة.
وقبل أن اشرع في تفصيل هذه الموجهات لا بد أن اشير إلى مفهوم اخر اخذ في التغيير، وهو مفهوم الحزب المعارض أي خارج الحكومة. هو خارج الحكومة إلا أنه ليس خارج عن السلطة. ويتضح هذا المفهوم في دول العالم الأول. فوجود المعارضة خارج تشكيلة الحكومة أو حتى البرلمان لا يعني حصر عملها في انتظار دورها في الحكم. بل تعمل حتى من موقعها كمعارضة في تمرير برنامجها الحزبي بطرق مختلفة كالضغط والحشد (لمؤسسات المجتمع المدني). وتصبح فعالية الحزب في المعارضة اشبه باستعراض كفاءة، لذا تكون تلك الاحزاب في المعارضة اكثر فعالية منها في الحكم. وددت أن تكون هذه الورقة فاعلة منذ اللحظة، وأن لا تتحول شأن برامج الاحزاب إلى مجرد بيان أو اعلان أو اقرار حال statement
أو  ان تركن لحين استلام السلطة. صحيح البرنامج الحزبي هو وسيلة ترشح وهو دعاية انتخابية. لكنه أيضا خطة عمل    Plan of action

ورقة مساهمة في البرنامج الاقتصادي للتنظيم الحديث:
هذه الورقة عبارة عن موجهات عامة، هي ثلاثة بالتحديد.

الموجه الأول:إعلان المبدأ الاقتصادي:
          لا بد ان يكون للحزب رؤية عامة مفصّلة وقابلة للتحقيق، يحدد وجهة الحزب تجاه أي نشاط/مشروع/ممارسة اقتصادية.
فالمقولات المضمنة في النظام الاساسي للتنظيمات السياسية ك "التنمية المستدامة" أو " الاشتراكية" أو "جني المنتجين لثمرات الانتاج" أو "السوق المحكومة" هي عبارات تفهم بأكثر من معنى ، وذلك ليس مؤشر للمرونة بقدر ما هو مؤشر للغموض. فهي عبارات غامضة لا يمكن على اساسها أن تقيس توجه هذه الاحزاب نحو الانشطة الاقتصادية، أو تحاكمها على اساسها.

في مقالي المعنون "من نحن؟" كنت حاولت أن اضع فيه السمات العامة للتنظيم الحديث الذي هو "يساري معتدل". ذكرت أن احد المبادئ الاقتصادية التي اود أن تكون من الموجهات الأساسية للتنظيم. هي فكرة "الاتاحة" أو ال"accessibility" .
اعني أن تكون الخدمات والاحتياجات الاساسية متاحة لكل المواطنين (اخذين في الاعتبار أن كلمة خدمة اساسية او احتياج اساسي هي متغير وليس ثابت، فخدمة اتاحة المعلومة اصبحت احتياج اساسي في دول العالم الأول، توفير خدمة الانترنت اصبحت مقارنة بـ ومساوية لتوفير مياه صحية ونظيفة) . فتوجه الحكومة في السوق هو تحت مبدأ الاتاحة ، فهي تتدخل في التنافس الاقتصادي إذا ما كان سيتسبب في منع قطاع من السكان من خدمة اساسية. والاتاحة هو مبدأ اكثر من عملية ومرونة عند التعامل مع مسألة "مجانية" بعض الخدمات الاساسية أو مسألة "تخصيص المرافق العامة أو تأميم المرافق الخاصة"

وأرى أن هذا المبدأ سيسهل على الحزب كثيرا التفاعل اليومي مع النشاط الاقتصادي، دون الانتظار وقياس الأمور بشكل مكتمل wholistic
 ونقل النشاط الحزبي من مجرد رد الفعل الرافض (أي انتظار اكتمال الممارسة الاقتصادية ثم التعليق عليها) إلى المنع blocking بل وتوجيه النشاط الاقتصادي .





الموجه الثاني: موجه عام معاصر:

أي يهتم بتحليل الوضع الاقتصادي الحالي، وبناء البرنامج الاقتصادي على اساسه. والناظر إلى الوضع الحالي تحت ظل هذه الحكومة يرى 3 معضلات اساسية:

1- الأول هو قطع النظام الحالي لدورة التصنيع وحصرها في مرحلة أو مراحل أولية. فأما أنها تنتهى في مرحلتها الأولى . كالقطاع الحيواني مثلا. أو أنها تهلهل بعيدا عن المرحلة الأولى، فمراكز انتاج المواد الخام ليست هي مراكز تصنيع المواد الخام، وليست هي مراكز تسويق المواد المصنعة. والمشكلة في هذا التهلهل هو أنها لا تساهم في تعدد النشاط الاقتصادي او تنوع الأسواق وانتشارها على عدة مراكز، والذي بالتالي يمنع التطور والتقدم الاقتصادي. بسبب انعدام الخيارات.
فكر فيما قد يحققه هذا الاكتمال في جذب قطاع سكاني "متطور المهارات" او "ذو مهارات تقنية متطورة ومتنوعة" لمراحل التصنيع المختلفة (ترحيل وتصنيع وتسويق واعادة تصنيع وتخلص) والذي له احتياجات مختلفة و بدوره سيشجع جذب نشاطات اقتصادية جديدة على المنطقة (مراكز تسوق، مواصلات، تعليم عالي،....) إلى اخر ما هو معلوم لدى الاقتصاديين
لا بد أن يكون من ضمن برامج الحزب هو دراسة خارطة النشاطات الاقتصادية للسودان، ووضع برامج تعمل على اكمال دورة التصنيع في هذه المراكز. وهذا الحديث مهم جدا، إذا كان الحزب يريد ان يتحدث عن لامركزية الحكم، وتوزيع مراكز القوى..لا يمكن ليكون لهذا المفهوم له معنى دون تمكين مستويات الحكم المختلفة (الولائية وما دون الولائية) لنوع من الاستقلال الاقتصادي

2- انعدام التوازن في العملية الاقتصادية (انا لا اريد ان اتطرق إلى استيلاء فئة معينة (حكومية) على النشاط الاقتصادي من استثمار وتسويق وتصنيع واستيراد وتصدير) انا اتحدث عن عدم وجود اجسام قوية تراقب النشاط الاقتصادي إلى جانب الحكومة. كالنقابات المستقلة، كمؤسسات حماية المستهلك،  كالغرف الصناعية، كاتحادات رجال الأعمال..الخ
اعتقد أن المرحلة الاولى عند (بل وحتى قبل)تغيير النظام الحالي هو أن تنخرط الحكومة بفعالية عالية وبتجرد كامل في بناء اجسام موازية لها في مراقبة النشاط الاقتصادي

3- القوانين. أنا لا اتحدث عن القوانين التي تحتكر النشاط الاقتصادي في يد فئة قليلة، أو تضع العراقيل امام الاستثمار الوطني أو الشركات الخاصة الوطنية. تغيير هذه القوانين أمر سهل. وإنما اتحدث عن غياب قوانين وسياسات تشجع على تنوع النشاط الاقتصادي، قوانين لحماية الأعمال الصغيرة وتشجيع قيامها مثلا. انا ليس لدي كثير علم بالتشريع القانوني للأنشطة الاقتصادية، لكني اعلم ما يكفي عن اهمية أن يكون للحزب رؤية مرتبطة بالتشريع في ما يخص برنامجها الاقتصادي



الموجه الثالث: تفصيل آني:

على الحزب أن يضع برنامجا يحمل مؤشرات انية قابلة للتنفيذ الفوري أو على خطة زمنية قصيرة. بمعنى انه يخاطب مطالب انية تمس المواطن بشكل مباشر. لا بد من خلق هذا التوازن بين وضع برامج ستمعل نتائجها على المدى البعيد على نقل الاقتصاد إلى مرحلة أفضل وبين تنفيذ برامج فورية ترضي احتياجات المواطن.
بعض المقترحات الانية التي اراها:
1-              تشجيع ما يعرف باقتصاد الكوخ أو الcottage industries (اعذروا الترجمة الركيكة) . مع الموجة الاقتصادية الثالثة التي حدث بها الكاتبان الفن وهايدي تولفن (وقد قسم تاريخ الحضارة الانسانية المرتبط بالنشاط الاقتصادي إلى 3 موجات: زراعية-صناعية –ثم المعلوماتية)  مع انفتاح التسويق الالكتروني وتطوره اصبحت فرص النجاح والربح امام هذه الاكواخ أكبر. أرى أن تعمل الحكومة على تفصيل برامج مجتمعية ودورات تطوير مهارات لتشجيع اقتصاد الكوخ. وأن تكون الحكومة وسيطا فاعلا في خلق أسواق وربط هذه الاكواخ بالمراكز الانتاجية المحلية وغيرها. واقتصاد الكوخ يشبه مشروع الأسرة المنتجة، إلا أن مشروع الأسرة المنتجة هي مشاريع صممت لتحقق الاكتفاء الذاتي للاسرة لتلبي احتياجاتها الانية ولا تركز على تطوير النشاط الاقتصادي في حد ذاته ليرتبط بمشاريع انتاجية صغيرة أخرى( كالترحيل ومورد المواد الخام والتسويق) ، وخلق خيارات اقتصادية جديدة في السوق، وتوفير فرص عمل.


2-              احد المشاكل الانية التي ستواجه اي احتمال تغيير هي تطهير قطاع الخدمة المدنية سيكون سهلا في المناصب الكبيرة ويزداد صعوبة في المناصب الدنيا ، حتى إذا ما وضعت برامج تقيس الكفاءة مقابل الولاء. فالبديل غالبا لن يكون أكثر كفاءة. والمشكلة تكمن في أن الحكومة خلقت نظام اقطاعي جديد. كافأت فيها الموالين لها بالوظائف بحجم خدماتهم، فقلة من الموظفين في الخدمة العامة تم توظيفهم على اساس الكفاءة، ويوجد احساس غبن تجاههم من قبل العامة رغم بؤس ما قد توفره الوظيفة، ورغم أنه في الغالب يغطي احتياج حقيقي. ضع هذه المسألة في ذهنك، اضف إليها عدم كفاءة وفعالية الخدمة المدنية وهو امر يشكو منه الكثيرون، فلو كانت هناك جهة أكاديمية مختصة اعدت دراسة عن الساعات المهدرة في العمل وكلفتها الاقتصادية أعتقد أن النتيجة ستكون مذهلة. سواء كانت ساعات مهدرة في اوقات الراحة أو العطلات أو ما نعرفه ب"غلق الخزينة في تمام الساعة الثانية" . وهذه امتيازات وظيفة الخدمة العامة التي تضع وحدات قياس العمل الفعلي. أحد الاقتراحات العملية التي أراها هو طرح نظام العمل بالساعات. دفع الاجرة للزمن الفعلي للعمل (مع الاحتفاظ بامتيازات العمل العام من عطل وأوقات راحة) من ناحية ستفتح مجالا لإشراك المغبونين المبعدين من الخدمة المدنية اصحاب الكفاءة الذين لم يكن لديهم ولاء للحكومة. وهذا بدوره سيعمل على حل مشكلة الساعات المهدرة في اليوم الوظيفي.(اعني أن نظام العمل بالساعات، سيتيح نظام التناوب shifts في الخدمة المدنية، وهذا معمول به في دول كثيرة)


3-              الاقتراح الثالث له علاقة بايفاء متطلبات السوق الانية من القوى العاملة. فنظام التعليم الحالي العقيم يفرض مثلا (هذا مجرد مثال) على موظفة الاستقبال أن تدرس اربعة سنوات في كلية محاسبة أو ادراة اعمال لا تؤهلها في نهاية الأمر للقيام بمهام الاستقبال التي تحتاج إلى مهارات عملية ومعرفية محدودة. انشاء مؤسسات تعليمية تأهيلية مفصلة وفق احتياجات سوق العمل لها عدة فوائد: ترفع الضغظ عن الجامعات والكليات المتخصصة، تمنح سوق العمل كادر مؤهل أكثر للقيام بمهام العمل.




 الموجه الاضافي والأخير:
أقترح ان يرعى التنظيم الحديث منتدى اقتصاديا دوريا يضم خبراء اقتصاديين ورجال اعمال و ممثلي نقابات وغيرهم يساعدهم على تطوير رؤيتهم الاقتصادية بشكل دائم

بقى أن اشير مرة اخرى لما هو واضح وجلي. أن هذه الورقة ليست لمختص اقتصادي، لذا لم تتناول السياسات المالية أو تنظيم البنوك أو تنظيم الاستثمار الاجنبي بتفصيل، او توجيه الحزب في التعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية، او مشاكل القطاع الخاص.
كما قلت هي موجهات مبنية على الاحتياجات ورغبات العامة، على ذوي الاختصاص أن يضعوا الخطط الاقتصادية المفصلة على ضوء هذه الموجهات وغيرها.










1 comment:

  1. ميسون النجومي ..
    هذا هو الفرق يجب ان يحدث فى كل المحاولات لنجاة السودان من مرحلته التاريخية العصيبة، مرحلة الثقب الأسود كما اسميها.

    دراسة حميلة وهادفة بمعنى الكلمة. بين قوسين دا الزيت زاتوا ... فترنا ياخ من التجديف فى الزلط.

    شكراً .
    فاروق أسامة

    ReplyDelete