Thursday 10 November 2011

إيمان يتيم

بسبب حدوتها الملهمة وقعت في هوى هذه المقطوعة الموسيقية...و أنا كما يعرفني من يعرفني...بي ميل سوقي لا يمر البتة بقاعات الموسيقى الجليلة...لكن...الحصل!
كونشيرتو البيانو الأول لتشايكوفسكي.

  تشايكوفسكي اسم معروف حتى للسوقة، فهو صاحب باليه بحيرة البجع، وكسارة البندق..إلا أن قصة هذه الكونشيرتو عجيبة، وملهمة كما قلت لكم. فكلما اظلمت بي ، تذكرتها.
الموسيقار تشايكوفسكي

قبل أن نبدأ لا بد أن نشير إلى بعض الأمور.. كفرشة لهذا المقال الصغير
تاريخ الموسيقى الكلاسيكية الروسية هو حديث نسبيا مقارنة بتاريخ الموسيقى الكلاسيكية الغربية (غرب أوروبا) ، وبدأ كتقليد له، إلا أن الموسيقيين الشرقيين سرعان ما سئموا من روح موسيقى الغرب التي بدت لهم متحجرة فاستوعبت مؤلفاتهم روح و موسيقى الفلكلور الصاخب لشعوب القوقاز وقبائل الغجر. وبرزت من هذه الروح المتمردة في روسيا مجموعة عرفت باسم العظماء الخمس منهم كورساكوف صاحب سيمفونية شهرزاد الساحرة . بطبيعة حال الحضارات العريقة لا ترحب بالتمرد والبدع، فوصفت الموسيقى الروسية بالهمجية والسوقية. رغم أن هذه الموسيقى لم تكن متاحة سوى في قصور الأمراء والنبلاء.
حز هذا الامر في صدر الأخوة روبنشتاين. وهما فنانان روسيان بديعان من اصل يهودي (لا أدري ما اهمية هذه المداخلة، لكنها تجعلها مثيرة بعض الشيء) فأسسا معهد الموسيقى الأول في روسيا . وكان معهدا شديد الصرامة، لا يقبل سوى الامتياز من طلابه...كأنه بهذا ينفي الهمجية المتهمة بها الموسيقى الروسية. وعكف على ادارته الأخوان الموهوبان . ومن هذا المعهد تخرج تشايكوفسكي الذي كان من انجب طلابه، أدرك الاخوة عبقريته فاحتضنوه من وقت مبكر.
الاخوة روبنشتاين
نيكولاي روبنشتاين كان من بين امهر عازفي البيانو في عصره. يحج الناس إلى حفلاته الموسيقية التي يقيمها في كل عواصم الموسيقى الشهيرة: فيينا- باريس-لندن-بون وفي موسكو بالطبع. ((رغم أن أخيه لم يكن معجبا بتزمته في ضرباته على لوحة المفاتيح...يصفها بأنها ضربات رصينة مدروسة شديدة الدقة والحذر، لا تتناسب مع روح الموسيقى الروسية المتوثبة الهمجية)).
إلى المقالة.
 بدأ صيت تشايكوفكي يذيع، ولم يتوانى الكثيرون في امطاره بالثناء لا سيما العظماء الخمس. ربما ساعد في ذلك أن معلمه روبنشتاين كان ينتقي من مؤلفاته ليعزفها في حفلاته الموسيقية جنبا إلى جنب مع مؤلفات كبار الموسيقيين. كان التلميذ ممتنا بالعرفان لمعلمه، مأخوذا بعبقريته. كان يقدره ويضعه فوق أي اعتبار. لذا في تلك الليلة التي اجتاحته المعزوفة ،لم يهدأ له بال حتى دوّنها وكتب اهداءه فيها إلى معلمه : نيكولاي روبنشتاين. وفي صبيحة اليوم التالي، ضرب موعدا عاجلا معه ليسمعه الهدية.
جلس تشايكوفسكي قلقا متحمسا كطفل عيد ميلاد أمام البيانو ، وبدأ بعزف المقطوعة. معلمه مديرا ظهره نحو النافذة.
تشايكوفسكي سرد تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم لملهمته نادية ...
 " عزفت الحركة الاولى من المقطوعة. الصمت...يا للصمت الفظيع! ولا كلمة واحدة..ولا تعليق يتيم! اه لو تعرفين صعوبة الموقف وحرجه البالغ، كمن اضنى نفسه في طبخ وليمة شهية لصديق، ليأكلها في صمت. رباه...ولو كلمة واحدة..ولو تقريع صديق ..عطف...دعك من كلمة ثناء. أي شيء!! لم يتفوه روبنشتاين بكلمة، ..كذلك الصمت المترقب الذي يسبق العاصفة. وكأن صمته يقول: وماذا عساني  في شيء باهت بارد لا يحفز على القول. إلا أنني عزيزتي نادية، تسلحت بالصبر والصمت وأكملت عزف المقطوعة حتى النهاية. ثم وقفت وسألته: قل..ما رأيك؟ انهمرت العاصفة من فم نيكولاي..رقيقة كزخات المطر في البدء، ثم تصاعدت وتكاثفت وأبرقت وارعدت فكانت زوابعا وأعاصير. اتضح لنيكولاي أن المقطوعة بأكملها بائسة لا تعزف، وصلاتها الموسيقية مقطعة ومهلهلة ...وبعض المقاطع كانت من الرثاء بما لا يجدي معها أي محاولات إصلاح. المقطوعة كتبت بإهمال وكسل وخرق واضح، بل إنه من الجلي أن بعض العبارات الموسيقية مسروقة من مقطوعات لمؤلفين اخرين...وفوق كل ذلك فإن العمل نفسه رديء و...و...سوقي!
هنا رد تشايكوفسي على هذه الإهانة بكلمة واحدة: أنا-لست- سوقيا!
 أدرك روبنشتاين حنق تشايكوفسكي وخيبة أمله، حاول تدارك غضب تلميذه قائلا بأن هناك صفحتين أو ثلاث فقط صالحة من المؤلفة — ربما إذا عدلنا شيء هنا وغيرنا شيء هناك نخرج بمقطوعة معقولة
رد تشايكوفسكي بأنفة: لن أغير ولا نغمة واحدة في المقطوعة!!!ولا واحدة!!!سأنشر العمل كما هو.
شطب اسم ملهمه من على الاهداء، جمع أوراقه وخرج مغاضبا.
لم يغير تشايكوفسكي في الكونشيرتو ولا نغمة فعلا ،تركها كما هي. متحصنا بعناده وبأيمانه الأوحد اليتيم بمقطوعته الموسيقية.
تعرفون ماذا حدث؟ صارت هذه المقطوعة من أجمل ما يعزف المعلم روبنشتاين،يعزفها في كل حفلاته وجولاته الموسيقية. ما كان عديم الجدوى بالأمس ، صار من أجمل الكونشيرتوهات للبيانو. وأينما حل يطلب الناس من نيكولاي روبنشتاين عزفها. وقيل أن ما من أحد يتقنها كما المعلم
عجبي...
هنا تستمعون إليها من أنامل مارثا اقريرش...أجمل من يعزفها في عصرنا الحديث.

هنا القصة كما صورها وثائقي للبي بي سي

 وإلى جانب ذلك الايمان اليتيم ...فإن المعزوفة بديعة ساحرة تأخذ بمجامع قلبي


4 comments: