Saturday 28 March 2015

الخطاب الطاغي (حول التحاق الطلاب السودانيين بالتنظيمات الاسلامية المقاتلة)

"ملحوظة: ليس مقصود بالخطاب الطاغي هنا الخطاب المتطرف- بل الوسطي.. العادي"
مما
على ضوء الأحداث الأخيرة التي جذبت اهتمام السودانيين حول ذهاب مجموعة من الطلاب  طوعا إلى سوريا لما يظن أنه انضمام إلى  تنظيم الدولة الإسلامية هناك.

طرحت عدة  أسئلة حول هذا الموضوع، وأسهم البعض في وضع نظريات حول الأسباب التي دعت هؤلاء الشباب لاتخاذ هذه الخطوة، بدءا من الخلايا السرية النشطة التى تعمل في السودان على استقطاب الشباب، مرورا بانتشار الفكر المتطرف بينهم، ثم اتهام جامعة مأمون حميدة بدورها في ما حدث سواء عبر "منعها" للنشاط السياسي الحي الذي يستطيع الشباب من خلاله التعبير عن ارائهم في ما يجري حولهم ، مما تسبب في وجود ارض خصبة للأنشطة "الدينية" التي تبدو مسالمة بديلا عن النشاط السياسي. لكن ما لفت نظري حقيقة هو سؤال التربية، حيث قرأت بعض التعليقات التي تتحدث عن دور البيت في تكريس أو تشجيع هذا النوع من السلوك، قرأت تعليق مثير للإهتمام من سيدة في احدى قروبات التواصل الجميلة المخصصة للنساء "مهيرة" تحدثت فيه عن كوننا لا نركز على ما اسمته "الانحراف الديني" بل أننا نتغاضى عنه-تحت تحت- نعجب به. وهي نقطة تستحق التفكير حولها من وجهة نظر التربية ، تحدث اخرون عن ميل الأسر السودانية في المهجر على تحجيم اندماج ابنائهم في ثقافات البلد الذي يقطنون فيه، ودفعهم اكثر نحو ثقافات يرونها أكثر أمانا-لتشكل لاحقا موطن الخطورة.

علي أن اقول لكم الان- انني انقل ما قرأته في الاونة الأخيرة على الفيسبوك وبعض مواقع الأخبار. لا اكتب هنا لعرض حلول او تحليل المشكلة.. لسبب ما عقلي عاجز عن فعل ذلك
قرأت خبرا عن الفتاة البريطانية (من اصل اثيوبي) "سميرة" التي سافرت هي أيضا إلى سوريا للالتحاق بما يظن أنه تنظيم الدولة الإسلامية. تحكي صديقات سميرة انها لم تكن من اسرة متشددة دينيا ولا يعرفون سببا لهذا التحول المفاجىء الذي حمل هذه الفتاة ذات الستة عشر ربيعا بعيدا عن أهلها وموطنها نحو المجهول.

ما أود ان احكيه هنا- اشبه بالإعتراف- وقد يأتي مخيبا لبعض اصحابي، عزائي أني تجاوزت ذلك بلطف الله متمثلة في "قليل من الخيال"

لا أذكر امرا غير اعتيادي في نشأتي، يمكنكم وصف طفولتي ومراهقتي بعادية جدا جدا، أقرب إلى الملل، دون أي امارات لأي تمرد سوى ذلك النوع "المعتاد" ان استطعتم ان تسمونه كذلك. 
اسرتي أيضا -ليست متشددة- كغالبية اسر السودان، الدين فيها اشبه بالحاضر الغائب او الغائب الحاضر، موجود بما لا يدع مجال للشك ولكن تجليه طفيف: الصلوات الخمس، رمضان، "احي يا الله" او "شكيتكم على الله يا ناس الكهربا" وما إلى ذلك . قضيت السنوات الأولى في الخليج وكان ذلك في الثمانينات ، ما قبل ان يلبس السودانيون "الدشداشة" ويقولون "ليش"- كان يعد ذلك عيبا كبيرا، اذ كان هناك حرص شديد على عدم التماهي في الثقافة الخليجية او نمط "التدين" الوهابي

"الحكومة دي بطالة" "ديل ما عندهم علاقة بالدين" - مثل هذه العبارات كانت واضحة وجلية في كل بيت في السودان : "الناس ديل كعبين" منذ بداية الانقلاب عام ١٩٨٩. ما من احد كان يجادل "عن" النظام ما لم يكن "جزءا" منه= كوز
لكن كانت هناك مسألة :الحرب في الجنوب، والتي سوقتها الدولة على كونها "حرب دينية" بين المسلمين والكفار. موقفي من حرب الجنوب كان غريبا، اذ أنه كان يمر عبر "مصافي" - مصفاة كون الانقاذيون ليسوا سوى تجار دين- مصفاة: أنهم في الغالب يقومون بهذه الحرب من اجل مصالحهم الشخصية- مصفاة:أنهم يختطفون الشباب من الطرقات والمدارس والبيوت لرميهم في أتون الحرب- لينزل كخلاصة مركزة منقاة من شوائب السياق والعملاء الى : ان هناك امر الهي بإعلاء كلمة الله على الأرض- السلام مع الآخر الديني هو امر ظرفي ومؤقت- لكن الأصل غلبة طرف على اخر "بالإقناع" أو "حد السيف"- فمن ناحية "المبدأ" هذه الحرب مشروعة : سواء كانت حرب فعلية او دعوية (بروباقاندا) - كان هذا هو التحليل الرياضي البسيط لهذا الأمر- منطق "الإيمان" إن شئت ان تسميه كذلك، المعضلات الوحيدة التي تعترضه هو "من يشن هذه الحرب؟" او "كيف؟ وهذه يمكن تجاوزها بالتركيز على المبدأ.

لا زلت اذكر حوارا مع "احد" المجاهدين تحدث عن تأكده من فساد النظام الذي يقاتل تحت رايته ، لكن "صدق" المبدأ او القضية لا يعفيه من حق "الجهاد" . كان ينقل إلينا احيانا من بين حديثه "الدعوي" حكايا عن النساء والرجال الذين التقاهم في مناطق الحرب: كانت حكاوي عن من نألف لا "العدو"..تحدث عن صدقهم وبساطتهم وحيرتهم ويأسهم من كل ما يجري حولهم

هذه الحكايا قد تذيب قلب الحجر، لكنها لا تخدش معدن "منطق" الإيمان. 

كانت هذه الحكاوي مزعجة، مشوشة، خاصة مع خيالي الخصب الذي كان ينقلني إلى الصورة المتوقعة من الحرب: الضحايا، الفزع، العويل، التشرد.. مدن وادعة ونساء تجري واطفال تصيح. 

اعتقد ان عقلي كان حرفيا يردد هذه الكلمات: الأمر لا يعجبني لكنه امر الله(الله عاوز كدا)... حتى لو لم يعجبني

كان هناك مقطع بديع في رواية الكاتب "احمدو كوروما" اسمها "الله يفعل ما يشاء"وهي مقتبسه من مقولة كان يرددها بطل الرواية وهو جندي طفل، كان يعلق على الظلم والدم والقسوة التي تحيط به بعبارة : "لكنه أمر الله، والله ليس مجبرا على اقامة العدل على الأرض، فالله يفعل ما يشاء"

أقول لكم في ذلك الزمان، كانت وسائط الاتصال والمواصلات بائسة، والكيزان قوم بائسون كريهون، والتلفزيون السوداني اقبح وبرنامج "ساحات الفداء" ممل. 
لكن لو كان تيسر لي ما تيسر لسميرة عباس : فيديو بمونتاج وسيناريو عالي الجودة يؤكد على اعلاء كلمة الله على الأرض بالإضافة إلى خلية نشطة وفاعلة كتلك التي تيسرت لسميرة عباس، تستطيع أن تنقلني من أمن منزلي إلى ساحة المعركة

لكنت ذهبت
لكنت ذهبت مدعومة بسيناريو أن السياق لا يهم ، والعميل لا يهم، مسائل القلب يمكن تجاوزها بالتسليم لمنطق الإيمان الخالص.

يمر زمان يسير ، في سنتي الأولي بجامعة الخرطوم، يعقد مجموعة من الشباب منتدى لجمعية "الآن" كانت تلك المرة الأولى التي اسمع فيها اسم الاستاذ محمود محمد طه. اعتقد ان المنتدى كان يتحدث بشكل حصري حول مشروعية حكم الردة وقانونية اعدام شيخ سبعيني. 
اقول لكم كنت استمع الى ذلك المنتدى ، ويكبس على نفسي ذاك الضيق الذي كان ينتابني ازاء حرب الجنوب. كان الخيال يحفز صورة حبل المشنقة حول رقبة شيخ سبعيني كل جرمه انه صدح بما يؤمن ولكن يتدخل "منطق" الإيمان البارد الذي يؤكد على قتل مفارق الجماعة. 

ببساطة أنا كنت تحت وطأة ما يمكن ان يسمونه الخطاب الطاغي. دعكم من جماعات حقوق الإنسان وشعارات الحرية والمواطنة.. فتحت كل ذلك هناك "خطاب طاغي" وكل ما عداه "ظرفي". لذا كنت اتفهم تماما حال اصحابي المشوش تجاه قضية "مريم يحيى" ذلك الخيال الخصب المصاحب لصورتها كأم لطفل صغير وتنتظر قدوم اخر.. وبين منطق الإيمان.

كنت في تلك السن الرخوة - قبل ان يتصلب عودي "بالسخرية" و"العملية"- حيث الحق بين والباطل وبين - وما اشتبه يمكن فرزه بمفرزة والحاقه بإحدى الكومتين. في تلك السن "ما نسميه" أنانية الان وقد تجاوزنا الثلاثين كان اسمه "مجدا" في الصبا. تريد ان تكون وقودا في معركة الخير والشر

استطيع أن اضع نفسي مكان سميرة عباس- التي تقول صاحباتها أنها ارسلت لهم فيديوهات عن مقتل أطفال على يد الجيش الإسرائيلي- الإحساس بضرورة عمل شيء ملموس محسوس... تحقيق مجدك شخصي بأن تهب حياتك لمعسكر الخير (سيقول البعض ماذا عن فيديو الكساسبة .. فأقول ماذا عن الذين شردهم الكيزان للصالح العام) هذه الأشياء "كالعميل" و "السياق" هذه مجرد تفاصيل... المهم هو "المنطق" الخالص.

وقد يسر ديننا الإسلامي لذلك المفهوم تماما بمقولة "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته..." الى اخر الحديث الشريف.

كنت في حديث مع صديق عزيز ... من نوع الأصدقاء الذين يحملون دوما زاوية فريدة في الحديث، فكان يتحدث عن كون علاقة المسلمين من الاخر الديني في أول العهد الإسلامي اكثر تطورا من عهدها الحالي
"شنو؟ بتبالغ!!! ماذا عن: يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون" عن كونك مواطن درجة تانية ...الخ من الكلام الحافظاهو حفظ وجاي مع الباكتة

فرد: تخيلي الأمر، أنت تحت ولايتي -مقابل مبلغ مالي- غير ملزم أن تعتنق عقيدتي أو أن تشارك في حروبي الدينية الملزمة لغيرك من المواطنين والتي تتعارض مع عقيدتك. بالطبع كان لذلك الأمر اسبابه أهمها أن تلك الحروب كان وقودها البروباقاندا والإيمان فليس من العملي وجود عناصر "مثبطة" للنصر الإلهي. هذا الأمر ليس متاحا الان في معظم الدول الحديثة التي تتخذ "الشريعة" مصدرا للتشريع.. فما تبيحه الشريعة تسحقه المواطنة. فيصبح الاخر في تلك البلاد مفعوص بين العقيدة والوطنية.

فشل المسلمون في تحديد علاقتهم مع الآخر في إطار ما يسمى الدولة الحديثة والمجتمع الدولي هو جزء من المشكلة. نعم هناك منظمات واتفاقيات ومفاوضات ومعاهدات لكن يظل منطق الإيمان مسيطرا. قبل ايام كنت اقرأ رسالة على الواتساب (واسلام الواتساب اشد تطرفا ووطأة لو انكم تعلمون) بدأت بهذه الجملة : الشيعة القذرون... هذه الرسالة كانت من ربة منزل وديعة ام لطفلين، مأخوذة بتفاصيل الحياة اليومية الشاقة في السودان- هذا الخطاب العنيف ابعد ما يكون عن طبيعتها، لكنه قريب من "منطق" الإيمان الساكن في عقلها.

بالنسبة لبعض التعليقات حول لماذا لم يذهب هؤلاء الشباب الى "بوكو حرام" او هناك العديد من الناس يحتاجون المساعدة في مستشفيات افريقيا... ليس في الأمر عنصرية. لكن منطق الإيمان يقول أن منطقة القدس- ثم دار الإسلام الأولى من بعد هي على رأس قائمة الأولويات... قد يبدو الأمر في مخيلة هؤلاء الشباب أشبه بضرب وحش متعدد الأذرع في بؤرة عينه بدلا عن احدى اذرعه... قم بحل مشكلة المركز.. والأطراف ستتعافى بعدها

 الخطاب الطاغي يعشش في العقول. كل ما يتطلبه الأمر: شبكة اتصالات ومواصلات فاعلة

والحل؟
انا ما قلت عندي حل... انا بس كنت عاوزة اعترف بحاجة وماشة بيتنا





3 comments:

  1. تحياتي تلك لعمري من الكتابات الممتعة وبها من بهارات مبدعة ممايجعل من طعم الاختلاف معها ممتعا أيضا. سردية تداعي في انسياب ويسر.الفكرة فبها تتوالد ويزيدها الاسهاب بلورة وانسجام. السخرية محبوكة بلطافة العبارة وجزالة المعنى. فى التفاصيل أحيانا يتكرر محور الفكرة بلاملل.
    .لى عودة للجلوس مع فنجان من البن المعتق الفخيم.

    ReplyDelete
  2. تحياتي تلك لعمري من الكتابات الممتعة وبها من بهارات مبدعة ممايجعل من طعم الاختلاف معها ممتعا أيضا. سردية تداعي في انسياب ويسر.الفكرة فبها تتوالد ويزيدها الاسهاب بلورة وانسجام. السخرية محبوكة بلطافة العبارة وجزالة المعنى. فى التفاصيل أحيانا يتكرر محور الفكرة بلاملل.
    .لى عودة للجلوس مع فنجان من البن المعتق الفخيم.

    ReplyDelete