Wednesday 24 August 2011

يوم أن ارجعوا لي القمر المسروق-عقد الجلاد


1994
الخرطوم
اتذكرون الخرطوم اوائل التسعينيات
تذكرون ذلك اللظى؟
فكيف بمن شب فيه ولم يعرف سواه
كيف بمن ليس له ذكريات زمان أجمل يستجير بها كلما استعرت

أذكر جيدا أنني لم أكن اتطلع إلى السماء أبدا، لم يكن هناك ما أرجوه من السماء، أعني لم يكن هناك وقت لذاك، إذ كان يستغرقنا العناء والشقاء في ادق تفاصيل حياتنا. الماء، النور، المدرسة، المواصلات،الخبز، الفراغ الذي يلفنا ويهدهدنا في حجره، الضجر الضجر الضجر، المستقبل رهين الغيب

كان الثامن عشر من فبراير، كنت أتحلل من طوق الطفولة، كنت في جحيم البين-بين في لظى الخرطوم 1994
أنا وابراهيم وزينب واخي أحمد كنا كعادتنا نعلك تفاهة الحياة كل خميس في دار المهندس، وهو تجمع للتائهين من ابناء الطبقة الوسطى العليا. إلا ان ذاك حديث اخر
  لم أكن ادرك أن الغد هو الثامن عشر من فبراير، وهو يوم بلا معنى حقا. مجرد يوم اخر يتكرر كل عام، قد يصدف فيه حدث جلل كأفول نجم، كرفع القلم عن كتاب علقناه على رقابنا تميمة، كموت الطيب صالح.  لكنه في العادة يرتبط بحدث تافه في ذاكرتي..كيوم ميلادي..يوم أن نبتت على وجه الحياة زائدة بشرية اخرى
القيت جسدي على الفراش ملبية احتياجه البيولوجي للراحة. اغلاق- كما في الكمبيوتر- لحفظ ملفات حيوية أخرى

ليلة الثامن عشر من فبراير، رأيت زينب وابراهيم واحمد يحفرون عميقا في منجم جيوبهم، أخرجوا لفافة من الجنيهات، مع همهمات أثارت في الريبة، ولما تسكن الريبة عقلي حتى أشاروا إلى قفص حديدي، سندخل هنا. وكان الامر كله غريب، الحرس على الباب   استلموا الجنيهات، دخلنا عبر ممر طويل، صعدنا درجات.. افضى بنا إلى مدرج روماني قديم يطل ويحيط بساحة ،نبت منها نصب حجري قالوا له: كن مسرحا فكان
وبإشارة منها احتوت زينب المكان في كفها الصغير وقالت: الليلة ...كل هذا لك ..عيد ميلاد سعيد

اهدوني ليلة...هل اهديتم ليلة من قبل؟..لحظة يسخر فيها الكون كله لك..من أجلك

جلست اعلى المدرج على عتبة قاسية، لكن ليلتي كانت حانية

اضاءوا المسرح، وهاجت الجموع..على مهل دخلوا، بقمصان خضراء وخطوات مرتبكة يحملون الاتهم الموسيقية.  من خلفهم لوحات خشبية لجنود بقمصان خضراء وخطوات مرتبكة يحملون الاتهم النارية

نفخ احدهم في الميكرفون -وشمننا جميعنا في نفس اللحظة صوت مسدس يتم حشوه- قال على عجل: بعض عوائد الحفل ستكون لدعم القوات المسلحة.
صمت
ثم
جهدية الاورطية..جهدية الحلقونا...شدوا جمالهم جونا..جلبنا ليهم سمسم..السمسم ما كفاهم..جلبنالم سعية

قالوها...يا ربي قالوها
قالوا (هناك امر عفن في الدنمارك) يا ربي وذلك الامير الصغير الذي أيضا  يقول (هناك أمر عفن في الدنمارك) يا رب قومه بالسلامة


مصطفى
!

وكلنا نعرف ان السعية ما كانت ستكفيهم أيضا، وكلنا نعرف أننا من بعد شددنا لحمنا الحي

غنوا
 وانت في اللالوبة مشنقة الوليدات ناس نجومي ومحبس النفس الرهيف.
 والتفت الولد المرسوم في اللوح الخشبي ونظر إلينا لوهلة..لم يكن جنديا..كان ولدا

وأطلقت صفيرا يليق بفتاة يتفلت من رأسها العنيد غطاء شعرها، يليق بفتاة حارت منها ثيابها..قالوا ناس نجومي وكانوا يشيرون إلي. كانوا يقولون سنة حلوة يا جميل

وفي تلك الليلة اقول لكم يا سادة...في تلك الليلة رفعت رأسي إلى السماء..وتدلى القمر..ونظرت إليهم...وهمست شكرا



  
   

ثم تفرق العقد الفريد ولم ينظم . و تدلدل القمر من مشنقته.

 نعم سمعت بما جرى اخيرا، إلا ان ما جرى لعقد الجلاد جرى قبل سنوات عدة منذ اخر البوم لهم (في رأيي) حاجة امنة  
وأظن أن السبب يعود في ان عقد الجلاد لم تكن مجرد تجمع لأصوات بديعة وملحن عبقري وعازفين بارعين. عقد الجلاد كانت رؤية وفكرة ومزاج..ونظرة في الموسيقى نفسها قبل أن تكون (صوت الشارع) فكان انتقاء الكلمات والالحان ضمن تلك الوجهة وتلك النظرة

كنا ننتظر خروج الجديد من عقد الجلاد بفارغ الصبر. يقولون
 أغنية غريبة لعقد الجلاد تقول الليلة جمعة بكرة الاتنين؟
هل سمعتم راب عقد الجلاد؟
يا اللوري؟
سارة؟
اب قرجة؟

نعم من بعد ذلك خرجت أغاني لطيفة، وطفرة هنا وهناك بديعة...لكن ليست كذلك الوهج الاول..هي كما يقول المحكمون في برامج الغناء..اداء واغاني (امنة) لم تعد فيها روح المخاطرة وتجريب الجديد..لا من ناحية الكلمات ولا من ناحية الألحان ..ومن قبل كان هناك التجريب والمغامرة في اختيار نص وعر للقدال وحميد وأصوات لم تغني من قبل كالشاعر محمد مدني واحمد محمد الغالي والشيخ فرح

ولا حتى في توزيع ادوار الغناء ولا حتى في التنغيمات التي تصدرها المجموعة خلف المغني الرئيس..فتجارب عقد الجلاد لشغر مكان الاستاذة منال بدر الدين كلها لم تكن موفقة. صوتها المضغوط والحاد كان ينسجم بشكل رائع مع اداء الفرقة ككورال، ويضيف تنوعا مثيرا حين يصدح منفردا. وصوت منال هي من تلك الأصوات التي لا تصلح إلا مع الفرق الجماعية، لذا لم تكن تجربتها في الغناء المنفرد ناجحة. يقال الامر معكوسا عند الحديث عن الاستاذه امال النور، فصوتها القوي كان طاغيا على اداء الفرقة لكنه لم يكن منسجما معها، وصوت امال هي من تلك الاصوات التي تدعى الباور فويسز..أي الاصوات القوية الطاغية، وهذه تصلح في الاداء المنفرد لا الجماعي، حقيقة كل ميسر لما خلق له. كذا تنوع أصوات الفرقة الذي لم يكن هباءا. طغى عليه شكل من أنواع التماثل في الصوت واللحن مع اعضاء الفرفة الجدد.
.

هل تعون ما أعنيه؟ نعم هناك المسدار، وفاجأني النهار وصباح الخير مساء النور..لكنها بالمقارنة ليست بالشيء الذي يذكر مع احتاج دوزنة، أو كولاج أمونة الرائع أونعمة أو ايدينا يا ولد أو تجارب فريدة غير مسبوقة كأغنية يالله هوي تعب اللسان من الشكية...فن...فن


لا اظن أن تجربة فرقة راي ستكون موفقة إذا كان الهدف منها خلق عقد جلاد اخر أو موازي. تلك تجربة كاملة ابتدأت واستمرت ثم أفلت، كل محاولات الاصلاح أو اعادة الانتاج كانت ضعيفة. ذاك مزاج خاص لوقت خاص لن يتكرر. أما إذا كانت تجربة مستقلة فحينها نقول ربما

أذكر وأنا ارهف لأنة العود في مقدمة (لأنك عندي كل الخير) كفتاه ترزح في البين بين وتبزع لتوها فتعجب ويعجبها، كانت تلك الأغنية هي دليلي فيما أريد أن اكونه لمن أريد

تذكرون يا ليلى ليلك جن...صوت عوض الله بشير ماله مثيل،  والحنين في صوت انور..كان حقيق الشرب بالكوب والدنة وكان كل من يغشاه تهنى


Saturday 20 August 2011

ليلة اعدام ساندي/ماندي أو أيا كان اسمها..قصة حقيقية

القسوة فطرة في الانسان. ولكن لعله أيضا من الفطرة كبت الفطرة. وفي لغتنا الدارجة نربط الفطرة بكل ما هو نقي وأصيل ومتأصل فينا منذ الطفولة. وهذا حسن، إذ أن القسوة الصريحة(النقية) أكثر ما تتبدى في الطفولة

كان قد مضى على عيد ميلادي السابع ثلاثة أشهر، وكنت أرى كما أي طفل، أنها فرصة جميلة لأكل الحلوى بإفراط، وأن تجعل الكون يدور حولك لساعتين أو ثلاث وأن تتسلم هدايا ترى أنك جدير بها. 
وكنت أنتظر حضورها بشغف، كنت أنتظرك أنت -يا باربرا ميليسنت روبرتس، من مدينة ويسكونسون شمالي الولايات المتحدة الأمريكية. 
انتزعت عنها الورق اللامع المصقول بوحشية لا تخفى. كنت -كسائر فتيات العالم من شرقها وغربها ، شمالها وجنوبها، ننتظر الجمال مجسدا ومعلبا. انتظر شعرا ذهبيا وخصرا مستحيلا وعينان كسماء صافية وابتسامة لعوب. الجمال السلعة. الجمال كما قررته شركة ماتيل الأمريكية. كنا نناديها دون كلفة "باربي" . في العام الماضي فاجأتني يا باربي بفستانك الفخيم، تخفين تحته زي راقصة باليه حالمة. والليلة انتظرك، من أنت اليوم يا باربي؟ تطايرت نتف الورق المفضض وانقضضت على الصندوق. 

ماندي؟!!!ساندي؟!!!
من أنت؟

لو ترون وجهي ليلة عيد ميلادي السابع..ترون خيبة -الأمل كما هي. عارية، لا تتدثر بخرق الكرامة و الكبرياء

الشعر قصير، يا الهي يا الهي...شعرها قصير.
اللعنة على حركات (الفيمينيزم) التي لم نجني منها سوى خيبات الأمل المعلبة. مجموعة من السيدات المشعرات البدينات ينادين بالجمال الحقيقي، أو الجمال العملي.  أنها نهاية العالم لا ريب. وإلى أين تذهبين يا ماندي ساندي أيا كان اسمك...إلى البحر؟ ليته يبتلعك ولا تعودين، أين حذاؤك العالي، ولماذا تفلطحين قدميك وتسيرين في الأرض؟ ولعلك تمشين في الأسواق وتأكلين الطعام...واضح أنك تأكلين الطعام، أين خصرك؟ سعيدة أنت بحالك فخرجتى تستعرضين جسدك  في (مايوه)؟ وفوق هذا عيناها!عيناها سوداوان. تذهب إلى البحر بعينين سوداوين؟

لا لم تكن خيبة أمل..كانت خيانة. إذا كانت تلك المشاعر متاحة لفتاة في السابعة. ولكن كما كنا نتجرع كوب الحليب كل صباح، ابتلعت خيبة أملي في جوفي الذي اتسع لخيبات أكبر فيما بعد، واستطعم حلقي من بعد مرارة "القناعة" ..ذلك الكنز الذي لا يريد أن يفنى

مضت ثلاثة أشهر على تلك الليلة العصيبة. دق الجرس وانتظم التلاميذ على الفراش. بابا سنفور بقبعته الحمراء، ولحيته البيضاء التي لا بد وأن الحياة قد عركتها، لكنها لم تعوزها الحكمة في أن تجلس وتتعلم أن الشمس تمدنا بالضوء والحرارة. و مصارع روماني لم يرى أي حرج في أن ينتظم في الدراسة وهو يلف فوطة تخفي "رجولته". ديريك (حبيب باربي السابق) وعازف روك اند رول بارع، ببدلته الوردية الصارخة وبنطاله الجلدي وابتسامته التي تفسح لغمازتين تذيب قلب باربي وام باربي ذاتها. وبالطبع باربي، بفستانها القصير وابتسامتها المشرقة وشعرها الذهبي. والرجل الالي: روبو كوب...وهو "كينتور" اغريقي حديث. استبدل نصفه الادمي برجل آلى. ونصفه الحصان بدبابة. بديهي أنه كان "الالفة" . ثم كانت هناك ساندي أو ماندي. ويل لك من الناس وويل للناس منك يا "ما اسمك؟" اعجزتني الحيل معك. بدءا من عدم التزامك بزي المدرسة. أكرر مائة مرة هذا فصل وليس شاطئ. وليت كل هذه الجرأة تصحبها فطنة. بالله عليك يا ساندي الا تعرفين أن تفاحة وتفاحة وتفاحة هي ثلاث تفاحات وليس خمس؟ أليس تحت هذا الشعر القصير عقل يفكر؟

إلا أن الغباء ليس عيبا، حتى وأنا في السابعة أدرك أنه قدر. ولم يكن سببا كافيا لتبرير البغض الذي كنت أكنه لها. وكم كانت مغيظة، كانت نظراتها تشيح أبدا، عبثا أحاول أن أجعلها تنظرإلي. كأن ليس في كلامي ما يثير اهتمامها، كانني أمامها مجرد..طفلة! وتبتسم بـ بـ ...لا ليس بمكر..ليس بخبث..بشيء أسوأ..كانت تبتسم بـ..بموضوعية

حسن! يا ماندي ساندي أو أيا كان اسمك، طالما طفحت مشاعرنا إلى السطح كما هي دون مواربة، وطالما أعلنتها حربا علي أبحتي فيها كل الاسلحة.استعدي

وشرعت دون خجل ألفق لها التهم، تارة شروع في قتل بابا سنفور الوديع من أعلى تلة الفراش، تارة سرقة الواجب من المصارع الروماني، الذي كان يكدح ليله مصارعا الاسود والوحوش ليلتحق بفصلي الدراسي دون كلل أو ملل. تحرش بديريك الذي صد كل تلك المحاولات بنبل إذ أنه كان أسيرا لحبه الأول. ولكن كانت القشة التي قسمت ظهر البعير هو تامرها على باربي. لا أدري ما الذي فعلته بالضبط، ولم يكن ذلك مهما، كل ما كان يعنيني هو قلب باربي الكسير، ودمعها الذي حاولت أن تخفيه خلف ابتسامتها المصقولة. أوصلت بك الجرأة يا ساندي؟ باربي الطيبة، ألم يكفك أنها معاقة؟.نعم باربي يا سادتي كانت كسيحة، كانت ضحية توتري الذي أفرغه بقضم قدميها المطاطيتين الرقيقتين.  كل هذا ارتكبته بدم بارد، وبجلد مطاطي...كل ذلك ارتكبته ماندي..بموضوعية

كانت تلك جريمة لا تغتفر. لا لن يفيد أن احبسها في صندوق الألعاب، لن يجدي معها ضربها بالحائط، لن يفيد لطمها أو كسرها أو أيا من ذلك. كان لا بد أن ادبر لها العقوبة المناسبة

جلست وتأملت، حتى اتصلت بذاك النبع الصافي لقسوتي..القسوة النقية الصريحة..فكان ما كان.

محاكمة علنية!!!.إذ لم يكن كافيا أن تعاقب، بل كان علي أن اجمع مع ذلك ذل أن تدرك أن عقابها هو للصالح العام. و"هوان" تقبلها لذلك الحكم. جمعت أطراف النزاع، ضحاياها السابقون (وإن كان علي أن اشير إلى أن حماستهم وسعادتهم بالمحاكمة أزعجتني قليلا). بالطبع دفاعها الوحيد المسموح به هو اقرارها بالذنب، واعترافها أن الخسة والخبث هو من معدنها أو مطاطها.ولأول مرة كانت ابتسامتها غير موضوعية، كان بها مسحة حزن لم تجد منفذا إلى قلبي

ناديت على روبو-كوب، تابعي الأمين، ساعدي الأيمن. وأعلنت: "حكمت المحكمة حضوريا على ماندي -ساندي أو أيا كان اسمها بالاعدام فعصا بالدبابة

وقفت ماندي بثبات تتقبل مصيرها، تقدمت إليها الدبابة ببطء، لم يهتز لها جفن. وابتسامتها كانت شجاعة. متحدية، ابية. واكتسى وجهها بمسحة جمال حقيقي، برغم شعرها القصير وخصرها المتسع وعينيها السوداوين.اقترب منها روبو -كوب يجر نصفه الثقيل. هتفت (بالطبع-فكلنا نعرف أن قرب النهاية يستبين الحق) هتفت ماندي بالشهادة قالتها بتضرع حقيقي (اشهد أن لا اله الا الله وأن محمد رسول الله) وارتجف قلبي لخطفة، ولكن..سبق السيف العذل..أو الدبابة للدقة. ماتت ماندي أو ساندي أو أيا كان اسمها
وتوارت للحظة باربي وانطفأ شعرها الذهبي، توارى الجميع، ولم يكن هناك سوى الساحة وجسد طاهر ملقى اسفل دبابة

وانهرت باكية


وجد الباحثون في جامعة باث البريطانية أن غالبية الفتيات بين سن السابعة والحادية عشر قد عرضن دماهن إلى التعذيب أو الحرق أو الكسر أو التشويه

في ذكرى ساندي/ماندي 1987-1987
 

Thursday 18 August 2011

حكم ضميرك


ان أتحدث عن أبو داوود؟ذاك مقام أنا دونه، وتتكاثف علي فيه الحجب فيرتج علي.
إلا أنني ما زلت أقارب وأسدد،عسى أن يمدني الله بفتح . فأنا في حضرة صوته دون مقام الشهود والتحقيق، حالي كحال السالك ولم يصل...منجذب ومجذوب

لكني سأتحدث عن من سلك وشهد ورأى وحقق، رحمة الله عليه، (وعليّ فمن غفلتي...يا لطيف) عن الفنان عبدالله أميقو، وورده لأبي داوود (حكم ضميرك)!  أميقو لا مثيل له في التنقيب عن الموسيقى السودانية ومؤلف مقطوعات موسيقية بديعة(اسأل الله أن يسخر لها من هو أهل بها فيخرجها من بئر التناسي والجحود) وفي تنقيبه في أغاني داوود كانت عدته: كلارينيت بالطبع، فلوت، جيتار، ساكسفون والات ايقاع إن لم يخني سمعي فهي البنقز) و تخير من أغانيه (حكم ضميرك، سيبوني بس، لي زمن بنادي، البرهة القليلة،ام در، يا عيني،أوتذكرين صغيرتي) سبع أغاني..سبع

Portrait by : Emad Abdulla
.

أول ما لاحظه المنقب العبقري، هو أن صوت أبوداوود فيه لمسة جاز، وكان هذا أكثر ما جذبني إليه. ليس فقط صوته الذي يذكر بأساطين الجاز كلويس ارمسترونج أو دوك ايلينجتون أو نات كنج كول، وهم دون أبوداوود أقولها صدقا ومحبة لا تعصبا، ليس فقط في خامة الصوت، لكن ذلك المزاج المدهش الذي لا تجده إلا عند مطربي الجاز ،  مزاج يجمع بين المتعة والحسية واللهو والشجن والحزن وشيء من الثقة المفرطة، هكذا درجوا على وصفها في اللغة، الثقة المفرطة، وأظن أنها مجرد وصف لمن يقدر فعلم أنه يقدر

لذا استهل اغنية حكم ضميرك ب"فرشة" جاز. جيتار وايقاع يمسكان الزمن ويعدان المزاج، ثم سيل من الكمنجات المرحة، يتخللها فلوت لطيف. لذا كلما استمعت إلى الأغنية تمثل لي داوود بسترة داكنة وباهظة، يضع يده في جيبه ويطرقع اللحن بأصابع يده الاخرى.
وألطف ما في الأغنية هو أن اللحن يتوارى عندما يغني داوود، فإن صمت ردت عليه الأوركسترا قوله. خذ مثلا-يقول (بقيت أسيرك) فترد الكمنجات (حينا..أوشيء من هذا القبيل)  ويقول (ما عرفت غيرك) فترد (ها..وبعد؟) شيء عجيب





أما أغنية (سيبوني بس) فلم يوطنها على لحن جاز وحسب، إنما لحن جاز بدائي وسوقي جميل. ليس كذلك الذي يولد في قاعات الموسيقى أو استديوهات التسجيل، إنما ذلك الذي يولد سفاحا في خمارات متهالكة على بيانو متقطع الأوصال، غارق في الدخان والسعال. تنترررن تن ترن تن تن...لحن ينبع من فم المعدة
.
اوتذكرين حبيبتي؟ في هذه الأغنية توجد تنغيمة جيتار بديعة عبقرية أو هي ما درج الفرنجة على تسميته بال(رف) بكسر الراء، وهو
عندما يعمل الجيتار عمل الة الايقاع. وتجد التنغيمة متسارعة تحفز عند المستمع احساس اللهفة و(الصربعة) وخفقان القلب وكل ما يصاحب أول الحب من مشاعر هوجاء. ويصيح داوود (المنديل؟) وترد الالات (ياتو؟) فيقول (المنقوش جانبه أوتذكرين وتذكرين) وهذه الأغاني من أغاني شيل الحال (أجارنا الله منها)وهي ضريبة تدفعها المعشوقة من عاشقها المستهام.




أجمل تسجيل يمكن أن تستمعه لأغنيتي الأثيرة لي زمن بنادي هي من توزيع أميقو. فاللحن سريع وخفيف ولطيف. وممكن أن تتصور حقيقة كيف أن المحبوب 
نافر جعل من قلب المحب وادي، يبرطع فيه كيفما يشاء




أما "الشغل" ما هذا يا عمنا أميقو يا عبقري...رحمة الله عليك ...ففي أغنية البرهة القليلة.عندما استمع إلى جلسات "الجام" وهي جلسات تنساب فيها الالات على سجيتها، درجت عليها بعض فرقنا الموسيقية بالفلوت والجيتار والايقاع، أقول في سري عودوا إلى "فرشة" اللحن في اغنية البرهة القليلة، شيء بديع ما له مثيل. هنا يطلق أميقو الفلوت ليتخلل اللحن، مزاج رائق يدخلك إلى جو الاغنية حيث تلك الجلسة على "تلك النجيلة" في داخل الخميلة...والتي لم تكن سوى لبرهة قليلة.

أنا اكتب هذه الاغنية بذاكرة وجداني وأذني..إذ أنني لم أجد على الشبكة أي من أغاني داوود بتوزيع أميقو سوى حكم ضميرك الموجودة بالرابط أعلاه.للأسف. تجربة فريدة، لو كان بيدي لاستنطقت أهل الدراية بها. لكني قليلة الحيلة ليس لي سوى الرجاء أن يفتح الله على احدهم ببركة هذا الشهر الفضيل

هناك تجربة أخرى في التنقيب في صوت داوود، ليس فيها براعة وحصافة أميقو، وهي تركيب صوت الفنانة عابدة الشيخ على صوت أبوداوود، في رأيي الشخصي لم تكن محاولة موفقة رغم أن الفكرة جميلة. لكن ليس هناك توافق في الاصوات، فصوت أبوداوود يتميز بقدرة فائقة على التحكم في حسه، يضع فرامل هنا و"يهدن" هنا حرفنة جميلة،وصوت عابدة جميل وقوي لكن ينساب ويتدفق دونما ضابط ولا رقيب

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم...رمضان كريم


 


Saturday 6 August 2011

كلثوميات (1(

أم كلثوم أم فيروز؟
لا أدري لماذا يكثر الناس من هذه المفاضلة ؟ 
وليس المقام مقام مفاضلة عند الحديث عنهما. كلتاهما حالة فنية مكتملة
في حديث لي مع صديق قال إن جئنا من ناحية الكلمات :فالست، أما الصوت: ففيروز
قلت له: يا اخي قد ظلمت الاثنتين، فكلمات الرحابنة  من عيون الشعر العربي، فهي تحمل رؤى فلسفية عميقة، وعبورهم بالكلمات  البسيطة لنقل معاني معقدة هو من ايات الاعجاز
أما صوت الست، فمن أين نبتدر الحديث عنه؟ ذلك الصوت الطلي الحلو، المشحون بطاقة حسية عالية ، يغمرك وينهمر عليك ولا تدري من أي المنافذ يكتسحك... ولا نجاة. ولا تريد نجاة

لكن وإن كان لا بد من مفاضلة، فهي مفاضلة للمنصت. وفي حديثي لصاحبي هذا، قلت: إن فيروز تحكي وتسرد فهي شهرزاد الأغنية، لذا يقبل عليها من تراوده أحلام العشق، هي لذلك الحب الأول : بحيرته ولهوه و ووصاله الحلو وخساراته اللطيفة. من منا لم يتخير لعشقه الأول أغنية من بين أغاني فيروز؟من منا لم ينهي عشقه الأول على صوتها الحنون؟

أما الست؟
قلت لصاحبي-فهي تغني في البرهة المعلقة خارج الزمن. لذا تعشقها أصحاب المزاج العالي. الست لا تحكي. الست تجتر. وهذا ليس للحب الأول، الست للعشق الوعر، المستحيل، الخاسر مذ مبتداه، للحب المعلول المعتل. للخسارات التي تربيها في دمك، تخبئها في الروح وتحرص عليها من الفناء.بل هي تغني للمفني لذاته.
لله درك يا ست. عظمة على عظمة على عظمة

يكمن سر أم كلثوم في أنها عرفت كما لا يعرف مطربو اليوم، أن الطرب ليس الصوت الجميل ، ولا هو الكلمة الخالدة، ولا اللحن البديع. هي ثلاثتهم سويا، ثم هي التوقيت والروح والمزاج
والست لها أحوال، وفي كل أحوالها هي الست
أعني حالها مع الملحنين الذين عملت معهم، فليست كلثوم السنباطي هي كلثوم القصبجي وقطعا ليست كلثوم بليغ ولا كلثوم وهاب ولا كلثوم زكريا. ولمن أراد أن يدقق فليست كلثوم السنباطي-رامي هي كلثوم السنباطي -بيرم. لكننا لن ندخل في ذلك

وأم كلثوم كالبحر وكل يرى في البحر ما يراه دون أن يسبر غوره.صوتها مع زكريا مجلجل طروب، وعند القصبجي حالم حنون وعند السنباطي رخيم وجليل، وعند عبدالوهاب ساحر وقادر وعند بليغ؟عند بليغ فيه دعة ودلال وحسية عالية...هذا وهي في السبعين من عمرها، ويعجب لذلك من لم ينخر العشق في عظمه، ولم يرى من أم كلثوم سوى المنديل وتصفيفة الشعر وهلال ماسي

 لمن لم يجرب الست بعد، أنصحه أن يتريث، فليست الأغنية التي سأبتدر بها سلسلتي اليوم لأصحاب الأذان الرخوة، هذه أغنية للأذن المدربة

القلب يعشق كل جميل
أم كلثوم وبيرم التونسي ورياض السنباطي. الثلاثة هنا أعملوا فنا لا يتقنه سوى العباقرة. فن الكبت. أو الضغط. 
The art of suppression
وهي القدرة على الامساك برسن الموهبة وتطويعها كما يشاء المبدع، هي المنع عن المستمع فيطلب المزيد، ودفعه دفعا ليرهف حواسه. وأرى أن السنباطي يلزم هذه الحالة في معظم ألحانه مع ثومة. فلحنه يتوارى  خلف صوتها، ولا تدرك بدءا ما الذي يشدك، حتى إذا ما أرهفت السمع، سمعت عجبا، انصت إلى مثال أغنية "حيرت قلبي معاك". أما بيرم، فهنا نفس هادئ ، منصرف عن ذاته إلى ذات عليا، وهذا بخلاف أغانيه الأخرى التي تحكي عن حاله تفضح عشقها أو تبث شكواها. و ثومة؟ فيمكن أن نسمي أداءها هنا "تقليليا" ميناماليست كما يقول أهل الفنون. هنا تخلت عن ما نعهده من الارعاش والمد والبح وما إلى ذلك من خصائصها في الغناء التي بها يعتلي المستمع ذروة التطريب أو ما يسمونه بالسلطنة. وكأن أم كلثوم بكبتها هذا لا تريد أن تطغى بل تريد أن "تخضع" وهذا من ذكاء أم كلثوم ورياض وبيرم، فأغنية القلب يعشق كل جميل، هي أغنية دينية ذات نفس متصوف، تتغنى في العشق الالهي. وفي مثل هذه الأغاني دوما يتوارى العاشق ويكون محور الأغنية هو المعشوق    

أجمل ما في يبرم أن روحه لم تتغير في هذا النص، كعادة الشعراء إذا ما غيروا مواضيع الغناء من وطني إلى ديني إلى أغاني الحب. 
بيرم  اتبع تقليد أشعار المتصوفة في عشق الذات الالهية أو التجلى الالهي أو قل الحضرة الإلهية، والتي تتيح للشاعر تناول مفردات العشق كما ترد في أشعار الغزل والعشق. مع الشرط الذي قلنا أن تتوارى ذات المحب مفسحة للمحبوب.
إلا أنها روح بيرم ذاته. لم يخرج عن نكهته في الغزل المتوقدة والمتوثبة، حتى إن اقتبسنا "واللي هويتو اليوم، دايم وصالو دوم، لا يعاتب اللي يتوب ولا في طبعو اللوم" يمكنك أن تتخيلها في سياق العشق المعهود

يبتدر القصيدة ب"القلب يعشق كل جميل" وتوافقه ، وبسلاسة ينتقل بك إلى تقلبات العشق وأحواله "واللي صدق في الحب ،قليل! وإن دام؟ يدوم يوم ولا يومين" مقارنا بين ذاك والعشق الالهي الدائم الوصل، الذي لا قلى فيه ولا هجر

لا أدري كلما استمعت إلى لحن هذه الأغنية، أتخيل سجادة فارسية معلقة في احدى أزقة خان الخليلي ، التي تبتلعك في زخم تفاصيلها. أو شباك أرابيسك عتيق تطيل فيه النظر ويحتويك بكليته. كذا لحن السنباطي. زخرف من الالات ليس عزف قطيعي ، كأنها مجموعة صولوهات. فيتبع أذنك تارة العود، وسرعان ما يلتقطه القانون وفي غمرته.. يأخذ بجماعك الدف لتجد نفسك تجري خلف أنين الناي.
هي كذلك: زخرف من النغم
افتتاحية من الكمنجات بلحن رصين، ثم يندلق القانون بلحنه المنفرد تتبعه بقية الالات،ثم الايقاع يؤمه الدف في لحن تصاعدي حتى يبلغك المكان الذي يشدو فيه صوت أم كلثوم
وتبدأ من نوته منخفضة عصية-لا أعرف سوى أم كلثوم تستطيع أن تفتتح من طبقة منخفضة هي والشيخ مصطفى اسماعيل والشيخ عبدالباسط عبد الصمد. 
والاثر رائع، هذا صوت يأتي من مكان عميق إشارة إلى الروح، وإشارة إلى الجذر الأصل وإلى الثبات، فكما أسلفت هذا هو العشق الذي لا يعرف تقلبا.

بعد افتتاحية القصيدة بالافصاح عن المعشوق، نأتي لوصف حاله مع العاشق. "كنت أبتعد عنو...وكان يناديني...ويقول مصيرك يوم..تخضعني وتجيني".... ثم؟؟؟؟

  طاوعني يا عبدي
طاوعني أنا وحدي

هذا العتاب الجميل من الصوت الالهي تجسده أم كلثوم بصوت مهيب ذي سلطان. واللحن والتكرار يجسدان لطف هذا العتاب  وسلطانه في ان. وكـأن الرب يجادل المرء عن نفسه ويعيد عليه ويزيد..نعم هكذا لطفه مع العبد اللجوج.  ((وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ))

ثم مذكرا، يمن على العاشق "أنا اللي اعطيتك من غير ما تتكلم." وصولا إلى "تشوف جمايلي عليك من كل شيء أعظم" يمن ولا يمن عليه 
ثم؟؟؟؟؟؟؟؟

يا الله، يا ذلك الصوت، وانقلاب اللحن الذي يتصاعد ويسري بالرعب والرهبة ليقول الصوت الجليل "سلم لنا..سلم لنا ...سلم لنا" 

"تسلم" تسلم تأتي بغنائية وتطريب. فهو تسليم لذيذ. تسليم يهنأ به المسلّم

 تنتقل الأغنية في رحلة إلى مكة يصف جبال النور والبيت المعمور والدخول إلى باب السلام، وبعد باب السلام مقطع بديع يصف تحويم الحمام المطمئن. وعندما استمع إلى هذا المقطع أرى  يدا تمتد إلى سماء تحلق فيها اسراب من الطير. فذلك في قولها "فوقنا حمام الحما...عدد نجوم السما..طاير علينا يطوف ألوف تتابع ألوف". وثومة تمد السماء مدا، دون تكلف دون ادعاء..وذلك فضل الله خصاه بها
وينتهى المقطع بتطريب عالي واصفا ما وجد ضيوف الرحمن من لذة العفو والمرحمة. وهكذا ينتهي كل مقطع بشيء من التطريب تخرجك من مقام الرصانة والاتقاء إلى مقام المحبة واللذة. يعجبني ذلك جدا

والكوبليه الذي يربط كل مقطع هو التذكير بأن حال السرور هذا هو منة من المحبوب إذ أنه هو الداعي وما المحب إلا ملبي، "دعاني لبّيتو لحدي باب بيتو وأما تجلى لي بالدمع ناجيتو" وهذا من صدق بيرم وحسن تأدبه في مخاطبة الله، فليس هنا عجب بايمان، أو تنطع بعبادة، بل حال العبد الممتن الشكور على فضل العبادة.

 زيارة الروضة وهذا مقطعي المفضل. وأحب فيه تكرير الهاء في مقاطعه كناية عن الترويح عن النفس. فبعد وصف الروضة ، نأتى إلى ذروة التطريب بـ "زفة" من الدفوف (لفتة عبقرية من السنباطي..ايذانا باكتمال الفرح) وهذا العرس أو المحفل فيه
 طرب وسرور
وفيها نور على نور
وكاس محبة تدور
واللي شرب؟
غنّى

وكلما استمعت إلى هذا المقطع تعتريني شفقة كبيرة على اصحاب المذاهب المتشددة في الدين على ما فاتهم من لذة الفرح والطرب بالمحبوب . أ و يعرف الله من لم يطرب؟ ربما. فلعل لهم فرحة تخصهم - والناس في حبها مذاهب. 

 ومن سوى بيرم يصف ملائكة الرحمن بندماء الشراب. لله دره

ثم كذا حال المحب الذي يدركه الفيض فيفيض. وهذا سبب اشفاق اخر على اصحاب المذاهب المتعنتة. فلا يضيّق الجنة إلا من لم يجرب سعة الرحمن. وهنا يقول بيرم "يا ريت حبايبنا ينولو..ينولو ما نلنا يا رب..يا رب اوعدهم يا رب..؟؟؟؟؟ يا رب واقبلنا. وقفلة هذه الجملة بـ(يا رب واقبلنا) تقولها أم كلثوم بخضوع وتذلل، فكما ذكرت أن هذا من أدب الخطاب، فالعبد لا يغتر بحاله أبدا ولا يدّعي الوصول، بل يظل ممسكا أبدا بحبل الرجاء.
 
لعلني أبالغ؟ ربما ؟ قليلا؟ هذا ما يراه الطيب صالح في النقد عن حب، يفتح النص ولا يغلقه. وإن شط؟ فهو الشطط المستحب المرغوب

خسارة! لم أجد رابط الحفل الأول الذي بدأت به ثومة هذه الأغنية. وكانت قد غنتها بعد صوم عشر سنوات عن الغناء لبيرم، حدادا على وفاته. وكانت الأغنية مناسبة.. لتذكر الناس  بأجمل ما في بيرم من صدق في المحبة

رمضانكم كريم