Saturday 6 August 2011

كلثوميات (1(

أم كلثوم أم فيروز؟
لا أدري لماذا يكثر الناس من هذه المفاضلة ؟ 
وليس المقام مقام مفاضلة عند الحديث عنهما. كلتاهما حالة فنية مكتملة
في حديث لي مع صديق قال إن جئنا من ناحية الكلمات :فالست، أما الصوت: ففيروز
قلت له: يا اخي قد ظلمت الاثنتين، فكلمات الرحابنة  من عيون الشعر العربي، فهي تحمل رؤى فلسفية عميقة، وعبورهم بالكلمات  البسيطة لنقل معاني معقدة هو من ايات الاعجاز
أما صوت الست، فمن أين نبتدر الحديث عنه؟ ذلك الصوت الطلي الحلو، المشحون بطاقة حسية عالية ، يغمرك وينهمر عليك ولا تدري من أي المنافذ يكتسحك... ولا نجاة. ولا تريد نجاة

لكن وإن كان لا بد من مفاضلة، فهي مفاضلة للمنصت. وفي حديثي لصاحبي هذا، قلت: إن فيروز تحكي وتسرد فهي شهرزاد الأغنية، لذا يقبل عليها من تراوده أحلام العشق، هي لذلك الحب الأول : بحيرته ولهوه و ووصاله الحلو وخساراته اللطيفة. من منا لم يتخير لعشقه الأول أغنية من بين أغاني فيروز؟من منا لم ينهي عشقه الأول على صوتها الحنون؟

أما الست؟
قلت لصاحبي-فهي تغني في البرهة المعلقة خارج الزمن. لذا تعشقها أصحاب المزاج العالي. الست لا تحكي. الست تجتر. وهذا ليس للحب الأول، الست للعشق الوعر، المستحيل، الخاسر مذ مبتداه، للحب المعلول المعتل. للخسارات التي تربيها في دمك، تخبئها في الروح وتحرص عليها من الفناء.بل هي تغني للمفني لذاته.
لله درك يا ست. عظمة على عظمة على عظمة

يكمن سر أم كلثوم في أنها عرفت كما لا يعرف مطربو اليوم، أن الطرب ليس الصوت الجميل ، ولا هو الكلمة الخالدة، ولا اللحن البديع. هي ثلاثتهم سويا، ثم هي التوقيت والروح والمزاج
والست لها أحوال، وفي كل أحوالها هي الست
أعني حالها مع الملحنين الذين عملت معهم، فليست كلثوم السنباطي هي كلثوم القصبجي وقطعا ليست كلثوم بليغ ولا كلثوم وهاب ولا كلثوم زكريا. ولمن أراد أن يدقق فليست كلثوم السنباطي-رامي هي كلثوم السنباطي -بيرم. لكننا لن ندخل في ذلك

وأم كلثوم كالبحر وكل يرى في البحر ما يراه دون أن يسبر غوره.صوتها مع زكريا مجلجل طروب، وعند القصبجي حالم حنون وعند السنباطي رخيم وجليل، وعند عبدالوهاب ساحر وقادر وعند بليغ؟عند بليغ فيه دعة ودلال وحسية عالية...هذا وهي في السبعين من عمرها، ويعجب لذلك من لم ينخر العشق في عظمه، ولم يرى من أم كلثوم سوى المنديل وتصفيفة الشعر وهلال ماسي

 لمن لم يجرب الست بعد، أنصحه أن يتريث، فليست الأغنية التي سأبتدر بها سلسلتي اليوم لأصحاب الأذان الرخوة، هذه أغنية للأذن المدربة

القلب يعشق كل جميل
أم كلثوم وبيرم التونسي ورياض السنباطي. الثلاثة هنا أعملوا فنا لا يتقنه سوى العباقرة. فن الكبت. أو الضغط. 
The art of suppression
وهي القدرة على الامساك برسن الموهبة وتطويعها كما يشاء المبدع، هي المنع عن المستمع فيطلب المزيد، ودفعه دفعا ليرهف حواسه. وأرى أن السنباطي يلزم هذه الحالة في معظم ألحانه مع ثومة. فلحنه يتوارى  خلف صوتها، ولا تدرك بدءا ما الذي يشدك، حتى إذا ما أرهفت السمع، سمعت عجبا، انصت إلى مثال أغنية "حيرت قلبي معاك". أما بيرم، فهنا نفس هادئ ، منصرف عن ذاته إلى ذات عليا، وهذا بخلاف أغانيه الأخرى التي تحكي عن حاله تفضح عشقها أو تبث شكواها. و ثومة؟ فيمكن أن نسمي أداءها هنا "تقليليا" ميناماليست كما يقول أهل الفنون. هنا تخلت عن ما نعهده من الارعاش والمد والبح وما إلى ذلك من خصائصها في الغناء التي بها يعتلي المستمع ذروة التطريب أو ما يسمونه بالسلطنة. وكأن أم كلثوم بكبتها هذا لا تريد أن تطغى بل تريد أن "تخضع" وهذا من ذكاء أم كلثوم ورياض وبيرم، فأغنية القلب يعشق كل جميل، هي أغنية دينية ذات نفس متصوف، تتغنى في العشق الالهي. وفي مثل هذه الأغاني دوما يتوارى العاشق ويكون محور الأغنية هو المعشوق    

أجمل ما في يبرم أن روحه لم تتغير في هذا النص، كعادة الشعراء إذا ما غيروا مواضيع الغناء من وطني إلى ديني إلى أغاني الحب. 
بيرم  اتبع تقليد أشعار المتصوفة في عشق الذات الالهية أو التجلى الالهي أو قل الحضرة الإلهية، والتي تتيح للشاعر تناول مفردات العشق كما ترد في أشعار الغزل والعشق. مع الشرط الذي قلنا أن تتوارى ذات المحب مفسحة للمحبوب.
إلا أنها روح بيرم ذاته. لم يخرج عن نكهته في الغزل المتوقدة والمتوثبة، حتى إن اقتبسنا "واللي هويتو اليوم، دايم وصالو دوم، لا يعاتب اللي يتوب ولا في طبعو اللوم" يمكنك أن تتخيلها في سياق العشق المعهود

يبتدر القصيدة ب"القلب يعشق كل جميل" وتوافقه ، وبسلاسة ينتقل بك إلى تقلبات العشق وأحواله "واللي صدق في الحب ،قليل! وإن دام؟ يدوم يوم ولا يومين" مقارنا بين ذاك والعشق الالهي الدائم الوصل، الذي لا قلى فيه ولا هجر

لا أدري كلما استمعت إلى لحن هذه الأغنية، أتخيل سجادة فارسية معلقة في احدى أزقة خان الخليلي ، التي تبتلعك في زخم تفاصيلها. أو شباك أرابيسك عتيق تطيل فيه النظر ويحتويك بكليته. كذا لحن السنباطي. زخرف من الالات ليس عزف قطيعي ، كأنها مجموعة صولوهات. فيتبع أذنك تارة العود، وسرعان ما يلتقطه القانون وفي غمرته.. يأخذ بجماعك الدف لتجد نفسك تجري خلف أنين الناي.
هي كذلك: زخرف من النغم
افتتاحية من الكمنجات بلحن رصين، ثم يندلق القانون بلحنه المنفرد تتبعه بقية الالات،ثم الايقاع يؤمه الدف في لحن تصاعدي حتى يبلغك المكان الذي يشدو فيه صوت أم كلثوم
وتبدأ من نوته منخفضة عصية-لا أعرف سوى أم كلثوم تستطيع أن تفتتح من طبقة منخفضة هي والشيخ مصطفى اسماعيل والشيخ عبدالباسط عبد الصمد. 
والاثر رائع، هذا صوت يأتي من مكان عميق إشارة إلى الروح، وإشارة إلى الجذر الأصل وإلى الثبات، فكما أسلفت هذا هو العشق الذي لا يعرف تقلبا.

بعد افتتاحية القصيدة بالافصاح عن المعشوق، نأتي لوصف حاله مع العاشق. "كنت أبتعد عنو...وكان يناديني...ويقول مصيرك يوم..تخضعني وتجيني".... ثم؟؟؟؟

  طاوعني يا عبدي
طاوعني أنا وحدي

هذا العتاب الجميل من الصوت الالهي تجسده أم كلثوم بصوت مهيب ذي سلطان. واللحن والتكرار يجسدان لطف هذا العتاب  وسلطانه في ان. وكـأن الرب يجادل المرء عن نفسه ويعيد عليه ويزيد..نعم هكذا لطفه مع العبد اللجوج.  ((وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ))

ثم مذكرا، يمن على العاشق "أنا اللي اعطيتك من غير ما تتكلم." وصولا إلى "تشوف جمايلي عليك من كل شيء أعظم" يمن ولا يمن عليه 
ثم؟؟؟؟؟؟؟؟

يا الله، يا ذلك الصوت، وانقلاب اللحن الذي يتصاعد ويسري بالرعب والرهبة ليقول الصوت الجليل "سلم لنا..سلم لنا ...سلم لنا" 

"تسلم" تسلم تأتي بغنائية وتطريب. فهو تسليم لذيذ. تسليم يهنأ به المسلّم

 تنتقل الأغنية في رحلة إلى مكة يصف جبال النور والبيت المعمور والدخول إلى باب السلام، وبعد باب السلام مقطع بديع يصف تحويم الحمام المطمئن. وعندما استمع إلى هذا المقطع أرى  يدا تمتد إلى سماء تحلق فيها اسراب من الطير. فذلك في قولها "فوقنا حمام الحما...عدد نجوم السما..طاير علينا يطوف ألوف تتابع ألوف". وثومة تمد السماء مدا، دون تكلف دون ادعاء..وذلك فضل الله خصاه بها
وينتهى المقطع بتطريب عالي واصفا ما وجد ضيوف الرحمن من لذة العفو والمرحمة. وهكذا ينتهي كل مقطع بشيء من التطريب تخرجك من مقام الرصانة والاتقاء إلى مقام المحبة واللذة. يعجبني ذلك جدا

والكوبليه الذي يربط كل مقطع هو التذكير بأن حال السرور هذا هو منة من المحبوب إذ أنه هو الداعي وما المحب إلا ملبي، "دعاني لبّيتو لحدي باب بيتو وأما تجلى لي بالدمع ناجيتو" وهذا من صدق بيرم وحسن تأدبه في مخاطبة الله، فليس هنا عجب بايمان، أو تنطع بعبادة، بل حال العبد الممتن الشكور على فضل العبادة.

 زيارة الروضة وهذا مقطعي المفضل. وأحب فيه تكرير الهاء في مقاطعه كناية عن الترويح عن النفس. فبعد وصف الروضة ، نأتى إلى ذروة التطريب بـ "زفة" من الدفوف (لفتة عبقرية من السنباطي..ايذانا باكتمال الفرح) وهذا العرس أو المحفل فيه
 طرب وسرور
وفيها نور على نور
وكاس محبة تدور
واللي شرب؟
غنّى

وكلما استمعت إلى هذا المقطع تعتريني شفقة كبيرة على اصحاب المذاهب المتشددة في الدين على ما فاتهم من لذة الفرح والطرب بالمحبوب . أ و يعرف الله من لم يطرب؟ ربما. فلعل لهم فرحة تخصهم - والناس في حبها مذاهب. 

 ومن سوى بيرم يصف ملائكة الرحمن بندماء الشراب. لله دره

ثم كذا حال المحب الذي يدركه الفيض فيفيض. وهذا سبب اشفاق اخر على اصحاب المذاهب المتعنتة. فلا يضيّق الجنة إلا من لم يجرب سعة الرحمن. وهنا يقول بيرم "يا ريت حبايبنا ينولو..ينولو ما نلنا يا رب..يا رب اوعدهم يا رب..؟؟؟؟؟ يا رب واقبلنا. وقفلة هذه الجملة بـ(يا رب واقبلنا) تقولها أم كلثوم بخضوع وتذلل، فكما ذكرت أن هذا من أدب الخطاب، فالعبد لا يغتر بحاله أبدا ولا يدّعي الوصول، بل يظل ممسكا أبدا بحبل الرجاء.
 
لعلني أبالغ؟ ربما ؟ قليلا؟ هذا ما يراه الطيب صالح في النقد عن حب، يفتح النص ولا يغلقه. وإن شط؟ فهو الشطط المستحب المرغوب

خسارة! لم أجد رابط الحفل الأول الذي بدأت به ثومة هذه الأغنية. وكانت قد غنتها بعد صوم عشر سنوات عن الغناء لبيرم، حدادا على وفاته. وكانت الأغنية مناسبة.. لتذكر الناس  بأجمل ما في بيرم من صدق في المحبة

رمضانكم كريم


1 comment:

  1. إنت الجميله ياميسون .. سلمت يسراك

    ReplyDelete