Sunday 12 June 2011

الخروج من متاهة التحرير

الخروج من متاهة التحرير

تخيلت أن يقوم  فنان نابه برسم كاريكاتيري لميدان التحرير بحيث يبدو كمتاهة والمتظاهرون فيه منهمكون في بحثهم عن طريقة للخروج منها ، فيعييهم ذلك.



ولكي نضع لهذا المقال نبرة واتجاه فلا بد أن أوضح أني اوردت كلمة "فنان نابه" بغرض السخرية والشفقة في ان من ظاهرة متفشية في بعض أوساط الكتابة والتدوين وهي العجلة في النقل والتعجل في التحليل باعتماد العاطفة المباشرة والانفعال اللحظي دون أن يضع أحدنا "الرحمن" في قلبه فيستفته .

وما شأني أنا بالثورة المصرية؟ لماذا أتابع أخبارها على أطراف أصابعي ويدي على قلبي خوفا عليها من الزلل. ولماذا أربطها أصلا باحتمالات التغيير في السودان؟ الإجابة بسيطة، لأن الثورة المصرية الاقرب جغرافيا ووجدانيا- هي التي ستجيب على سؤال: ما جدوى الثورة؟

عجبا! أ و لم تجب انتفاضة اكتوبر وابريل على هذا التساؤل؟ الإجابة عندي: لا. فأنا أتفق مع رأي لأدونيس في منتدى أقيم في تونس، أن الثورات التي قامت في مطلع هذا العام هي ظاهرة عربية فريدة. هي أول انحرافة وأول عجلة تغيير في تاريخ علاقة الحاكم والمحكوم في المنطقة العربية. وفي رأيي الشخصي أن اكتوبر وابريل كل ما فعلته أنها نزعت الوصاية عن حاكم لتدرعها في رقبة اخر أواخرين.

أتابع دوما على الصفحات الالكترونية ردود أفعال القراء إثر كل خبر لتظاهرة جديدة أو اعتصام جديد في ميدان التحرير او غيره، أن "كفوا"! او "عودوا لبيوتكم"! "ماذا تريدون أكثر مما اعطيتم"! وفي حالات أخرى "رحم الله أيام خلت" !!! وبعض الكتابات التي تصف تتابع جمعات الاعتصام والمسيرات والصفحات التضامنية بالمأزق او انها انتكاسة ما بعد الثورة. فالكل يريد ميقاتا يحدد ويوضح متى يستوفي الشعب حقه وينال مناه ويحقق امنياته.
toonpool.com



 والامر في حقيقته –كما يعيه الفرنجة- أنه كلما استوفى الشعب حقا طالب باخر، وكلما تحققت أمنية لاحت أخرى، وهذا ما يسمونه يا سادتي الكرام بالديمقراطية. فما هي الديمقراطية؟...حنانيكم! حنانيكم!..لن أدخل في "رغي" المفكرين والسياسين عن تعريف الديمقراطية. هذه الكلمة التي من كثرة ما علكتها الافواه أصبحت ماسخة.
الديمقراطية هي عقد عمل بين الشعب والحكومة. والحكومة؟ الحكومة هم من اوكلهم الشعب للقيام على رغبات الشعب ومطالبه وفق العقد المبرم بينهما. والامر أشبه عندي بصاحب بستان والناطور. صاحب البستان هو الشعب والغفير أو الناطور هي الحكومة. لا يزال معكوسا في أذهاننا إذ كلنا يظن حقا أن الحكومة صاحبة البستان وكثر الله خيرها على نفحاتها الكريمة التي تتفضل بها على الغفير الكسول الملوم دوما على تقصيره وجهله وغبائه.
هذا هو التغيير الذي أعنيه والذي استدللت عليه بقول أدونيس. أنه اخيرا تم اعادة صياغة  حقيقة العلاقة بين الشعب والحاكم والذي إنما هو حكم بين الناس . ومن مصائب اللغة أن هذه الكلمة أصبحت تعني المالك أو المسيطر والمهيمن. وهذه التظاهرات والمسيرات التي يستدل البعض بها بأنها برهان على الفوضى أو الحيرة، تصبح في إطار ما قلته هنا تأكيدا على نجاح ورسوخ مبادئ الثورة. إنما الفوضى هي في تعاملنا –وتعامل السطات مع هذه التظاهرات، وإنما الحيرة هي لمن لم يتبين بعد المقصد الحقيقي من الثورة ولا زال يهرش رأسه محاولا فهم أسبابها. فهنا في بلاد الفرنجة تخرج مظاهرات ومسيرات كل يوم، وفي كل حي، وفي كل حارة ولا تتوقف أبدا. ربما في العطلات قليلا، لكن يستحيل أن تصدر صحيفة أو تشاهد نشرة دون مشاهد لتجمع ما يحمل لافتات تطالب بكذا أو ترفض ذاك او تتضامن مع ذلك أو كل ما ذكرت مع بعضه سوية!
http://northern-district-times.whereilive.com.au/news/story/lone-protest-on-power-prices/



الفارق بسيط. الفارق فارق كم وليس نوع. هي نفسها تظاهرات التحرير. نفس مسوغاتها. نفس الروح. إلا أن الأعداد أقل كما ستقل مستقبلا أعداد المتظاهرين في التحرير عندما يأتي الداعي لذلك. والسبب أن الشعب والحكومة في بلاد الفرنجة استطاعوا تنقيح العقد المبرم بينهما- عقد الديمقراطية- بخلق قنوات أخرى للتفاهم فيما بينهما لتحقيق الرغبات والأماني وادارة أمور البستان. كالتجمعات النقابية كالتشريعات القانونية كأجهزة الرقابة على أداء الدولة كقنوات الشكاوى كالبرلمان ونواب البرلمان . وحين لا يجدي كل ذلك-وذلك قليل الحدوث- يحملون أوراقا واعلاما ويخرجون شبابا وشيابا ويبحثون عن ميدان تحرير.

Image from the interenet


نعم تغيرت العلاقة بين الحاكم والمحكّم (لاحظتم أني أغير الأسماء-هي المحكم بتشديد وكسر الكاف). كما تغير الشعب نفسه. عشية الثورة سمعت حديثا للمفكر المصري حنا مينا يقول مصر تشهد فترة هي من اعذب وانقى فتراتها، على الجميع أن يستمتع بها سريعا، لأن كل شيء سيعود لحاله القديم: الفساد والتسلط والقمع. فرددت عليه فورا : لئن عاد الفساد ذاته، فأن الشعب ليس هو الشعب ذاته. هذه العلاقة الجديدة النشطة الحية –اللجوجة كما قد يصفها البعض-بين الشعب والحكومة، متمثلة في سيل التظاهرات والاعتصامات، هو ما يوضح هذا التغيير الجديد وصفته، ألا وهي الهمّة. لا يمكن أن تسمع في بلاد الفرنجة شيء على وزن هذه المقولة: عودوا إلى بيوتكم سيقوم المجلس العسكري بكل طلباتكم ومطالبكم. لا! ففي بلاد الفرنجة الشعب يريد أن يعرف متى سيقوم المجلس العسكري بذلك ومتى وكيف وأين ومن وماذا و و و...!! مرة أخرى لا أحد يسدي إليك خدمة فالمال مالك والثمر ثمرك، وعلى الناطور أن يتحمل انفاسك الحارة على قفاه –فليس له في الامر إلا ما وليته إياه–فالملك ملكك على كل حال.

وهذا ما اردت أن اقوله لمثبطي الثورة في السودان، ردا على تساؤلهم :ما البديل؟ أنتم البديل. ولا يهم إن جاء زيدا أو عبيدا.
متى ننعم بالديمقراطية؟ هذا خطأ اخر أوحت به اللغة. فالديمقراطية ليست اسما ثابتا ولا صفة جامدة هي فعل مستمر لا ينتهي. تعرفون لماذا ؟ لأن الوساطة-والتي تبنى عليها الديمقراطية- أمر سخيف ولا يستوفي أبدا باحتياجاتك كاملة. ومعروف القول الشائع أنه ما حك جلدك مثل ظفرك. إلا اننا نقارب ونسدد. وهذه هي الديمقراطية، أن تقارب من عمل الحكومة حتى تصبح وكأنها تهرش أكولتك وهيهات لها أن تفعل. فالأكولة باقية .
خلاصة ليست خاتمة المقال فقد بقي أمر الفتنة الدينية، خلاصة قولي أعلاه: اعلم عزيزي القارئ أن كل ما يعيب خروج امرء إلى التحرير أو اعتصامه به، هو تقصير السلطة عنه. فوجه أنظارك حينئذ للموكل من الشعب.

نأتي لأمر اخر. قد يقول قائل : ها أنت يا ميسون قد زينت للناس تظاهراتهم السمجة واغتصاماتهم السقيمة. فما قولك في اللذين استباحوا دماء بعضهم في امبابة وغيرها فيما عرف باسم "الفتنة الدينية". أليست من دلائل اخفاقات الثورة؟ بالله عليك ألا يحق للناس الترحم على عهد من الأمن العادل في ترويعه للجميع دون فرز؟
تساؤل مشروع اجيب عليه بخاطرة عجيبة. أتعجب في القران الكريم من الاية التي تقول:(( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا))
والعجيب في الاية أنها كأنها تأتي بالنتيجة المناقضة للفعل، واجدني كلما مررت بالاية أقول: عجبا أليس بدفع الناس هذا تهدم الصوامع والكنائس، البيع والمعابد، المساجد والجوامع. فكيف يا ربي تستدرك بكلمة :لولا؟
مرة أخرى أجد هذه الخاطرة تجرني لمقطوعة الذكر "الديمقراطية" اخ منها اخ!. مخطئ من ظن مرة أخرى أن الديمقراطية هذه شيء جميل أو نبيل أو سامي. لا لا لا...فما رأيت أسخف منها، أن يحكمني رأي أغلبية أو تعترض عزمي أقلية أو أن تكبح نزواتي صرامة المجتمع أو أن ينغص سلامي حرية لفرد. فالديمقراطية فيها تنازل عن حق من أجل اخر ..لأ وشنو؟ عن طيب خاطر كمان.
الديمقراطية يا اعزاء ضرورة. وكل ما ينضوي تحتها من مثل هي في الاصل ضرورات.
 الضرورة تحتم علي أن اسمح بحرية التعبير لعدوي إذ أنه يكفل حرية التعبير لي.
 الضرورة تحتم أن ينال الحقير تمثيلا عادلا إذ أنه يضمن تمثيلي العادل،
الضرورة تحتم علي أن أبصم بأصابعي العشر على عدالة الاجور لأناس قد لا يعنيني جاعوا أم شبعوا كي أضمن حقي وأجري العادل،
الضرورة تحتم أن اجرح حنجرتي من أجل حرية تلك الصحيفة المقيتة البغيضة إذ انها تعزز من حرية صحيفتي الحبيبة.
وقد علمتنا أحاجي جداتنا والتاريخ أن الانسان يبدل "القيم" و"المبادئ" إذا ما ضايقته أو ضيقت عليه كما يبدل حذاؤه. فالخير اليوم شر غدا، والشر هنا خير هناك. إلا أن الجوع جوع والعوز عوز والشبع شبع والعافية عافية لم تتغير أبدا على مر التاريخ . فالسقم شر والعافية خير. هذه الضرورات أمّن عليها الانسان منذ نشأة الخليقة.
وتتحول مبادئ الديمقراطية من اللغو إلى الفعل حينما تتنزل للناس وتصبح ضرورة كالماء والهواء والخبز. وهذا مقصد الاية الكريمة فهدم كنيسة يعني هدم مسجد هذا هو واقع الأمر. وعندما يتضح الأمر جليا كذلك. سيتوقف احدهم عن هدم كنيسة لا حبا فيها، إنما خوفا على مسجده. ولولا ذلك الدفع لما عرف الناس ضرورة السلام والتسامح. أقول قولي هذا لا استخفافا بدماء اهدرت ظلما وجورا. ولكن كي أمد الذين ينفذ صبرهم من طبائع الانسان وظلمه لأخيه الانسان بعزيمة الثبات الحق، وابشرهم بنصر قريب أجمل ما فيه أنه يدوم و يدوم.
http://www.redit.com/



1 comment: