Saturday 23 July 2011

الهجمة الزراعية

الهجمة الزراعية
!!!!

 المذيع: "ماذا سيستفيد السودان من صفقة كهذه؟"
الوزير: " منا الأرض ومنهم الخبرات والتكنولوجيا والأيدي العاملة"
 المذيع: "نعم ولكن ماذا سيستفيد السودان من صفقة كهذه؟"
 الوزير "منا الأرض ومنهم الخبرات والتكنولوجيا والأيدي العاملة"
صمت المذيع، ولم يكن بوسع الوزير الإجابة بغير ما أجاب به.

كان هذا في حوار أجراه الاعلامي الطاهر التوم مع وزير الزراعة الحالي المتعافي  إثر قضية التقاوي الفاسدة التي ما زالت حتى يومنا هذا قيد النظر بالمجلس الوطني.

تطرق برنامج "حتى تكتمل الصورة" في الحلقة التي بثت في إبريل الماضي، إلى العديد من القضايا حول الزراعة ومستقبلها في السودان. كمسألة الشراكة مع القطاع الخاص في المشاريع الزراعية، منها مشروع الرهد، مشروع حلفا الزراعي، مشروع السوكي ومشروع الجزيرة. كما تطرق إلى مسألة التقاوي الفاسدة والمبيدات الفاسدة، واخيرا مسألة مزرعة السيد وزير الزراعة بالدمازين والتي استعرض الوزير انتاجها بفخر شديد في احدى جلسات المجلس الوطني فكان السؤال :هل يحق لمن هو في منصب تنفيذي ودستوري العمل الحر؟
( هذه سأعرج عليها خفيفا في نهاية المقالة).

الحق يقال أن الوزير المتعافي وزير منجز، أعنيها بلغة السوق التي يجيدها الوزير منذ كان في الثامنة كما امتدحه أحد "الصحفيين"، إذ يقولون في السوق فلان أنجز الشيء، أي انه هم به وهجم عليه وفككه حتى تركه خيالا وحطاما. هذا هو نهج الوزير وعمله منذ أن كان واليا للخرطوم. يسمي البعض هذا النهج –جهلا أو مداهنة- استثمارا.
عمليات بيع المرافق والخدمات الحكومية لصالح مشتري أجنبي أو القطاع الخاص مقابل مبلغ من المال، ليست استثمارا ، فإن لها اسم واضح: السمسرة.

"مشروع السوكي لقيت ليه شركة خاصة ، مشروع الرهد لقيت ليه شركة خاصة، مشروع حلفا الزراعي لقيت ليه شركة خاصة... مشروع الجزيرة لأنه مشروع مساحتو كبيرة، صعب إنو القى ليه شركة خاصة"  ما زدت حرفا على قول الوزير ، نقلته حرفا بحرف. نعم هذه لغة السماسرة. الوزير كان يتحدث هنا عن ما اسماه نهج "الشراكة" في المشاريع الزراعية . فبحسب الوزير تعقد شراكة بين الشركة الخاصة و ملاك المشروع الزراعي لزراعة الأرض. والسلام عليكم ورحمة الله. هنا الحكومة أتت بالمستثمر وخلقت علاقة بينه وبين أصحاب المشروع. جميل، هي السمسرة دون رتوش. استسمح قارئ المقال، لنقلة خفيفة نعود بعدها لموضوع الشراكة هذا .
  
نأتي لمشروع الجزيرة، الذي تقف مساحته عائقا دون اتمام احدى صفقات السمسرة. وجميل أن الوزير نفسه ربط هذا الأمر بموضوع الشراكة وهذا سيسهل الأمر علي. مشروع قانون الجزيرة 2005 الذي فض الشراكة بين المزارع والحكومة، وأعطاه الحرية الكاملة في التصرف في الارض يزرعها كيف يشاء بحسب قول الوزير. هو الخطوة التمهيدية لتفكيك المشروع إلى وحدات صغيرة. فتأتي شركة مصرية، مثلا، تجتمع مع مجموعة من المزارعين يكونون مشروعا صغيرا،تعقد معهم صفقة ويتم الامر على ذلك. وكذا الأمر مع باقي الاراضي والحواشات.

الوزير المتعافي السعيد "بإنجازه" الآت بما لم يأت به الأوائل ممن سبقوه على وزارة الزراعة في الديمقراطيتين وفي عهد نميري وعبود، يظن أن "فكرة ألمعية" كهذه فاتت عليهم. صحيح، يا لغباء من سبقوا الوزير من بروفيسرات متخصصون في الزراعة يتبعون حذو الامبيريالية التي أتت بمشروع الجزيرة حتى إذا دخلت جحر ضب لاتبعوه! هكذا ألمح السيد الوزير وهو يستعرض تاريخ مشروع الجزيرة الامبريالي. وهو أنه فات على الخبراء واصحاب الدرجات العلمية الرفيعة من أبناء الوطن أن مشروع الجزيرة مشروع خطط لمد بريطانيا بالقطن لذا فرضت هذا النظام المجحف على مزارع الجزيرة ، إذ كانت تفرض عليه دورات زراعية لا خيار للمزارع فيها ولا تعود بالنفع عليه.

اعذرهم يا سيادة الوزير فهؤلاء رجال دولة وعلم لم يخبروا دروب السوق والبيع بالقطاعي والجملة والسمسرة التي تتقنها مذ أنت يافع. اعذرهم إذ ان مراميهم كانت خلق قطاع زراعي قوي يكون دعامة للاقتصاد السوداني (في عهد ما قبل البترول) و ما كان أحوجنا إليهم وإلى نظرهم ونحن الان في عهد (ما بعد انقطاع البترول).

اعذرهم لأن مزارع الجزيرة المتمرس والخبير الذي شهدت له في البرنامج لم تتأتى له هذه الخبرة وحيا من السماء، أو فطرة. بل بعمل دؤوب ومتواصل من رجال الدولة (الغافلون) الذين استطاعوا تأهيل وتدريب مزارع الجزيرة حتى أصبح عنده هذا التمرس وهذه الخبرة. 

اعذرهم يا سيادة الوزير إذ أنهم لم يفهموا كلمة استثمار كما تفهمها سيادتك وهم يطورون في مشروع الجزيرة الامبريالي، فبنوا المحالج ومعاصر الزيوت ومصانع الغزل والنسيج ومصانع الأغذية التي ولدت من رحم مشروع الجزيرة، ففتحوا وظائف لقطاعات واسعة من السودانيين. اعذرهم وهم يبنون جامعة الجزيرة ويفتتحون كلياتها، كل كليه فيها كانت ترفد في مستقبل الزراعة في السودان. جامعة الجزيرة التي كانت ستهيء لك كادرا مسلحا بالتجربة والتجريب والمعارف والتكنولوجيا المتطورة، المرتبطة بواقع السودان، فلا تضطر يا سيادة الوزير أن تستجلب خبرات وتقنيات من مصر ومن الصين.

اعذرهم من عقليه كعقليتهم لا تعي انفتاحك على نماذج تمويل الزراعة كالتي في الصين وأمريكا والتي قررت أن تزاوج بينهما لتخرج بهجبن "الشراكة" العظيم الذي سنعرج عليه ولا شك. اعذرهم فعقليتهم خرجت لنا بوحدة البحوث التي كانت تخلق طفرات في تكنولوجيا وتقنية الزراعة، ويعمل فيها خيرة أبناء وبنات الوطن ممن كانت تمن بهم دولتنا ليحاضروا ويشاركوا بخبراتهم في فيتنام وفي مؤتمرات للزراعة في أمريكا اللاتينية (اي والله حدث من سوداننا هذا الذي أصبح يكوس الخبرات)

اعذرهم يا سيادة الوزير فمن مشروع الجزيرة العقيم، من وحدة كانت تدعى فيه وحدة مكافحة الملاريا خرج مشروع النيل الأزرق، مشروع يفاخر كل سوداني أنه خرج من خبرات وأيدي سودانية، مشروع النيل الأزرق الصحي الذي كان أكبر مركز بحوث للملاريا وأمراض المياه في السودان. مشروع النيل الازرق الصحي الذي استطاع في الثمانينات أن يحارب الملاريا تماما من منطقة النيل الأزرق. بل إن المشروع أبلغ عن جائزة قدرها مائة جنيه لمن يستطيع أن يبلغ عن حالة ملاريا واحدة...واحدة في المنطقة التي فيها أعلى نسبه إصابة بالملاريا. وأسألوا مدير المشروع أعطاه الله الصحة والعافية ومده بطول العمر الدكتور احمد أيوب القدال والذي يعمل الان نائبا لعميد كلية الطب بجامعة سنار (!!!!!!!) سمعت به يا سيادة الوزير؟

مشروع النيل الأزرق همّ به مجموعة من الوزراء الانقاذيين "المنجزين" فاستحال الان إلى وحدة بئيسة خاملة الذكر في مدينة سنار. ولله الامر من قبل ومن بعد. الملاريا التي هز السيد الرئيس عصاه مبشرا في احدى جولاته الاقليمية أنه تم تخفيضها بنسبه 60% . من صفر %  خفضت إلى 60%. أنت معي عزيزي القارئ في هذه الطرفة؟

مسكين مزارع الجزيرة ، والحمدلله الذي أبدله الان بسياسة جديدة تستبدل الأدارة القديمة التي كانت توفر له ولأبنائه التعليم والصحة والعلاج والترفيه ، استبدلها بحرية تتيح له حفنة نقود لن يستطيع وإن عفر وتعفر أن تسدد ربع ما كانت تتكفل به ادارة مشروع الجزيرة التي كانت تكلف الدولة مليارات الجنيهات في كلام فارغ كالذي ذكرته بالأعلى. والمزراع "وشطارته" كما تفضل سيادة الوزير مجيبا.

"المزارع وشطارته" هكذا أجاب السيد المتعافي على الصحفي الهميم الاستاذ أحمد المصطفى ابراهيم، عندما سأله سؤالا حريفا، لم يكن سؤالا بقدر ما انه كان لفتا لنظر الوزير، أو دقا لناقوس الخطر وإلى ما ستؤول إليه الأحوال إثر تنفيذ سياسة "التخلي" التي تتبعها وزارة الزراعة، أخبره أن ترك المزارع هكذا دون ادارة يرجع إليها تجعله عرضة لطمع الشركات الاستثمارية كالتي يريد ان يجلبها السيد المتعافي، وعرضة لعقودها المجحفة. نفض الوزير يديه (كما كان يفعل منذ بدء البرنامج) نافضا مسئوليته عن أمر كهذا ، فهذا أمر متروك "للمزارع وشطارتو" . وأريد أن أعيد عليك عزيزي القارئ أنه ليس بإمكان الوزير الإجابة بغير ما أجاب به. فهذه عقلية مجبولة على السمسرة وعلى سياسة "امسك لي وأنا أقطع ليك".

فالوزير الذي تشدق بالحرية التي منحت للمزارع ليزرع ما يشاء من جزر أو ويكة او ذلك الذي يحقق له ربحا سريعا، لا يفهم لوزارة الزراعة دورا اخر سوى دور الوساطة هذا في تحقيق "الربح". لا يستطيع أن يربط بين دور وزارة الزراعة المحوري والهام في تحقيق الأمن الغذائي، فهو لا يستطيع أن يربط بين ما يمكن أن يقدمه مشروع الجزيرة لسد الفجوة الغذائية بطوكر. وسيادة الوزير لا يستطيع أن يربط بين خلق نشاط صناعي قائم على المشاريع الزراعية الضخمة كمشروع الجزيرة، وما توفره من عمالة ومن خلق سوق تجاري نشط. ليس بوسع الوزير حساب مثل هذه الأرباح فهي أرباح لا تحول إلى أرصدة في البنوك. إنها مجرد أرباح تحول إلى رصيد البلد وإلى الأجيال القادمة.

هي ذاتها العقلية التي أدار بها السيد الوزير المتعافي ولاية الخرطوم. وليس بعيد عن أذهاننا قضية شركة النفايات. هذه والحق يقال لم تكن سياسة سمسرة. بل كانت مقاولة. أنشأ السيد الوزير خدمة وباعها لشركات خاصة. خدمة تحول فعليا إلى أرصدة في البنوك. لا تساهم بأي حال في رفع مستوى النظافة في الولاية. فبراميل القاذورات التي تنقل من أمام أعيننا لتلقى أمام أعين أخرى لا علاقة لها بالصحة العامة في الولاية. لا رابط بينهما.

نعود إلى مسألة الشراكة كما ذكرنا أعلاه. ذكر الوزير ان مشروع الرهد كان يعاني من العطش ، فاستطاع ببصيرة نافذة ان يهيء شركة توفر وابورات واسبيرات لري المشروع، هذه الشركة تستثمر في هذا المشروع بالوابورات مقابل عقد استثماري بينها وبين المزارعين. جميل وهذا هو المنوال ، كل مشروع يعاني من نقص أو من مشكلة ما يسارع الوزير بإيجاد شركة خاصة تسد هذا العجز مقابل عقد استثماري. والمزارع وشطارتو بالطبع. ولا تقلقوا من أن ينقطع نفس الوزير في عمليات سد الفرقات بالشركات، فهذا أمر تشربه منذ الطفولة.

وماذا نعيب على أمر كهذا؟ أن هذا ليس بعمل وزارة الزراعة. عمل وزارة الزراعة هو التخطيط الزراعي بما يحقق أمنا غذائيا بالبلاد ، وبما يخلق سوقا نشطا يضمن بقاء القطاع الزراعي وفئة المزارعين في البلاد. 

هناك أمر طريف في استراليا، لديها ولاية تدعى كوينزلاند ، النشاط الاقتصادي الاساسي في هذه الولاية هو زراعة الموز، وفي مواسم يشح فيها الموز يرتفع سعر الكيلو ليصل إلى 15 دولارا (!!) لاختلاف الفصول بين استراليا والدول الاخرى ، فإنه بوسع بعض الشركات التجارية أن تستورد موزا ماليزيا أو اندونيسيا وأن تبيع الكيلو منه بدولار او دولارين بدلا من شحتفة الموز هذه. الحكومة الاسترالية تمنع ذلك منعا باتا. لماذا؟ تا الله مثل هذه الشغلانة لأنجزها وزير من وزرائنا خير انجاز. إلا ان الحكومة الاسترالية حريصة على بقاء مجتمع زراع الموز الكوينزلاندي من أن يندثر، وهو مجتمع من المزارعين يوفر العمل لقطاعات من الاستراليين، وتعتمد عليه نشاطات اقتصادية أخرى كالنقل والترحيل كالتخزين كالتصنيع، عمليه كاستيراد الموز تقضي على كل هذا بضربة واحدة. ولا أدري لماذا تقف وزارة الزراعة على أمر كهذا مع علمي أن المزارع الاسترالي شاطر شطارة الجن!

Add caption


قبل أن أختم لا بد أن الفت نظر القارئ إلى أمر مهم ذكره البروفيسر على عبدالله علي، استاذ الاقتصاد بجامعة الاهلية ومستشارا اقتصاديا في سوق الاوراق المالية في الخرطوم،  في سلسلة من المقالات نشرها في سودان تريبيون[1] التي أغلقتها مجلس الصحافة السوداني بعد يوم من اعلان استقلال دولة جنوب السودان. سأل البروفيسير سؤالا واحدا هاما للشركات المصرية والاجنبية التي ستستثمر في زراعة المحاصيل في السودان ذو الاراضي الواسعة لتسد ما لديها من عوز في القمح او غيرها من المحاصيل النقدية. هذه الاراضي الشاسعة والمتوفرة ستزرع بحصة من في مياه النيل؟ بحصة مصر؟ أم السودان؟

اما الخاتمة سنجعلها خفيفة ، ذكرت في بداية المقال أن المذيع سأل وزير الزراعة عن المشروع الزراعي الذي يساهم فيه مع اخوته،[2] وأن الدستور يحظر على الدستوري العمل الخاص، فجادل الوزير المذيع بأن "ده فهمك إنت للدستور" ، وهذا عادي فالدستور في السودان قماشة تفصلها كيفما تشاء، وما زال محفورا في رأسي شرح والدي لبيان وتفصيل الدستور الذي يزيل اللبس بالتفصيل والبنود حتى إذا ما قلت كلمة شباك، يتراءى في أذهان الجميع صورة شباك واحد هو ذات الشباك. فليس في الدستور فهم فلان وفهم علان. ما علينا إنما هي زلة. 
قال الوزير  أنه مساهم في المشروع الزراعي ولكنه لا يباشرة، إنما يدار بالبروفيشينال مانيجمانت ، بمعني أنه يدار بالنيابة عنه. ومع ذلك قام وزير الزراعة مبينا أرباح مزرعته في الدمازين بالتفصيل وما للمشروع وما عليه. وزير الزراعة يساهم في مشروع زراعي. ولأن الشيطان يجري في الواحد منا مجرى الدم كما وصف نبينا الكريم، فقد أمرنا بدرء الشبهات ، أول هذه الشبهات هي منع تعارض المصلحة أو كونفليكت اوف انترست.
لا نريد أن نحرم الوزير من حقه في ثمار وأبقار و "دواجن" المشروع، لكن نؤجل عليه جني هذه الثمرات. هذا ما يفعله المسئولون في دولة الاستكبار في أمريكا، فإن أرباح المشروع الذي يساهم فيه صاحب المنصب الدستوري تودع في رصيد مغلق،  محجوب عن الدستوري لحين انتهاء فترة خدمته. فلا يعرف ربح المشروع أم خسر، ولا يعرف هل يتوسع المشروع أم يتقلص، ولا خبر عنده هل تنوي شركته المضاربة هنا أم هناك. يسمونها
Blind trust
هذا هو مشروع الجزيرة، والذي كان حتاما علي قبل تعديل المناهج الحالي أن أرسم خريطته، وأظلل المحاصيل بقلمي في ارجائه، وأن أحفظ دورات الزراعة فيه، وأن أحدد أساليب الري فيه وتقنياتها. وأن أردد بكل فخر أنه أكبر مشروع زراعي في افريقيا ، وأنه العقد الذي تتباهى به السودان على جيدها.
سؤال على الماشي يا عزيزي القارئ.....ما هي الخيانة ؟

http://ww.tahertoum.net/index.php?Itemid=6&catid=8:2010-07-27-09-56-49&id=75:-11-2011-&option=com_content&view=article


[2] ورد في صحيفة الصحافة الخبر الاتي: طرح وزير الزراعة الدكتور عبدالحليم اسماعيل المتعافي، أمام مجلس الوزراء في جلسته بالدمازين أمس، تجربته الشخصية في الاستثمار الزراعي، وقال ان لديه بولاية النيل الأزرق 10 الاف فدان و 2 الف نعجة و 50 بقرة واستطاع أن يحقق في الموسم الماضي 400 مليون جنيه ارباحا، موضحا أنه استخدم الميكنة الزراعية والبذور المحسنة مما ساهم في زيادة الانتاج. وقال المتعافي الذي طلب منه الرئيس البشير تقديم تجربته الشخصية عن الاستثمار الزراعي، ان المشكلة في الزراعة في النيل الأزرق هي عدم وجود عمالة زراعية ماهرة تستطيع استخدام الميكنة بصورة جيدة الامر الذي من شأنه اضعاف الانتاجية.

Thursday 21 July 2011

الحلقة (مسرحية من مشهد واحد

، كتبت هذه المسرحية في الصفحة الأخيرة من دفتر المحاضرات، لم اكن اطلع عليها أحد فقد كنت أظن
أن الكتابة هي فعل من أجل المتعة الشخصية، أو قل هي كمسألة رياضيات تحاول أن تفكك بها واقع مزدحم بالأحداث المتتابعة بسرعة تفوق قدرتك على ادراكها أو استدراكها
تماما في مثل هذا اليوم الحادي والعشرين من يوليو
قبل ثمانية أعوام، اطلع شاب على هذه المسرحية ودس لي هذه الورقة في دفتر المحاضرات
ما زلت أحتفظ بالورقة التي بدأت تهترئ من كثر ما تنقلت معي في حياتي
وكلما تساءلت ما الجدوى من كل هذا ما جدوى الكتابة ؟ اتذكر أن هناك من كان في قلبه سعة أن يقرأ

كتب

ميسون

تبدو اللغة خجولة في بداية القصة. لكن سرعان ما تعري ساقيها للريح، باسطة صورة رائعة من التعبير عن النفس أو التعبير عن الراوي. ذلك الشخص الموغل في المباشرة والبساطة. أنيق النفس والسجايا. المتصالح مع نفسه حد احراجها- انا لا أليق بهذا المكان! هذه العبارة متنوعة الدلالات ، توجز وتفتح مدارج الاسهاب.

لم ينتبه الراوي لوصف المكان بدقة- هذه الأشياء الدقيقة تكسب القصة ألقها وبهائها، تذهب بجفاف الواقع والواقعية، تلون مشهد القصة بما يجعلها أكثر هضما وأسهل ولوجا لمكامن النفس. لكن الراوي يبدو أنه يتجاوز عن قصد عن هذه الشطحات المثقفة، يرفض هذا الارهاق الذهني اللامبرر، الترف وايهام النفس بكثرة التزاماتها الأخلاقية تجاه نفسها وتجاه الاخرين. أو أن الراوي يرفض أصلا ما هو ذهني بفهم الحلقة.

الزمن أقل حضورا، فثمة أشياء تحتاج في عملية هضمها لسياج زمني يقيها شرور الانفتاح الغير مضبوط، مناقشات المثقفين، تمرد المثقفات، أي نوع من المثقفين هم؟ وما الذي يجعلهم كذلك؟ هل ثمة حضور للزمن في مشهد أحداثهم يجعلهم كذلك؟ بمعنى هل للتشكيلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية دورها في نمطية المناقشة؟ وإلى أي مدى هم مستوعبون لذلك؟
الزمن يكسب المفردة عمقها المسرحي،و دلالتها المتعددة، حضورها وقوتها، وخلودها كذلك. فبدون رصد دقيق لزمن الاحداث تتلاشى المقومات لخلود العمل

اشارة أخيرة، سرعة الحوار، فهي مربكة إذا تمت بتتابع وأحيانا لا تتيح مساحة للغوص العميق إلى مسارب الحوار السابق، انها-أي سرعة الحوار- مجدية في الكتابة من حيث اتاحتها امكانية حضور ذهني للراوي ليسلسل الأحداث بتأني، لكنها تذهب بجمال السرد، القدرة على الوصف و التحليق في الخيال، السمة الأساس في العمل الفني.

لك كل احترامي
بابكر أحمد
21
يوليو
2003

رجاء: لا تغلقي نوافذ شيطانك العابث بالمفردة، افعلي ذلك احرجيه بادمانك التظاهر باللامبالاة

***************************************
انتهى الخطاب إلى هنا، ومنذها لا يساورني شك أن النقد يتطلب نفسا كريمة 

أورد المسرحية كما هي دون تعديل، وهي مهداة لبكري




      "أنا لا أليق بهذا المكان!"
      هذه العبارة تلتصق بجدار رأسي، و تخرج كجثة هامدة مع كل نفس لي.
      كانوا يجتمعون بذلك المقهى، شباب يرتدون جلد الكهول، يسمونه الإحباط.....الإحباط! لن أرقى لذاك المقام، مهما عبست ملامحي و لونتها حزنا.
      كانوا ينظرون إلى الكون كمن يلفظ لقمة فاسدة و القيء يملأ كلماتهم هم الآن في بؤرة الإضاءة، تقدموا من كومبارسات إلى أبطال، بينما توارى الأبطال القدامى تحت ظلال الكومبارس..
      لا أدري كيف قادتني قدماي إلى هذه الحلقة؟ ربما كما قادتني إلى كل السابقات (نعم ، فهم كثر!) . لكن حلقتهم بالذات، لم يكن من السهل الانضمام إليها، لكنهم سمحوا لي بإكمال محيطها. هم يقولون ملامحي غريبة، كشيء لا يمكن الإمساك به......كالغروب، و كيف تمسك الغروب؟ يقولون رغم الهدوء الذي أتوشحه إلا أنهم أبصروا ألسنة التمرد و العبث في النوافذ المنصوبة على وجهي (يقصدون عيناي)....لا أستطيع فهمهم، ربما لأنني أفهمهم تماما!
      إذن كان انضمامي للحلقة هكذا دون سبب، علمتني التجربة ألا أستعجل معرفته، أنتظر في هدوء ، أتابع...أنسج في نول الترقب!
      لم أدعي معرفة أي شيء ، لذا كنت نواة الحلقة، فقد كانت علمتني كل الحلقات أن أحب نفسي علمت أم جهلت.
      المقهى كراسي و طاولات، كراسي للجلوس، تمتطيها كحصان إذا كنت منتصرا لتوك، و تمدد رجليك عليها إذا كنت عدميا في ذلك اليوم، و تنحني إلى الأمام واضعا رأسك بين يديك، إذا وصلت في منتصف العقدة (أي عقدة..ممممـ ما عارفة!) .و الطاولات للشاي الثقيل بدون سكر (ده شاي الحلقة) أو للخطب المنبرية و العروض و ما أكثرها. أنا أضع يدي تحت فخذي عندما أجلس و أنصب ظهري، و الطاولة ، أتابع تقشر طلاؤها الأخضر
      و رغم أن لإضاءة تصب حرارتها و ضوءها بقوة على المقهى ، دوما يتساءلون متى يأتي دورهم، متى تسطع شمس الحقيقة (الكلمتين مترادفات!)
      كلما أتيت إلى المقهى الراكد الذي يجلسون فيه ، تتعرق يداي، و أحس بانقباضة في قلبي، و رغبة عظيمة في حك وجهي، و تتعلق عيناي دوما بمدخل المقهى.............
      تطير ذبابة و ترك على وجه المثقف الأول، يهشها
      "الشيوعية فشلت!"
      المثقف الثاني "بل أنها لم تتحقق بعد!"
      الذبابة "ززززززززززز....."
      المثقف الأول "بعد؟! لكن يكون هنالك بعد، لقد تجاوزت الرأس مالية كل الشعارات العمالية"
      المثقف الثاني " ليس صحيحا، فـ...."
      المثقف الأول " ياخ شوف وضع العمال في بريطانيا، حزبهم يرزح تحت مظلة السوق الحر و فيء الرأس مالية!"
      المثقف الثاني " لا حزب العمال البريطاني لا يعبر عن الطبقة العاملة. صحيح أن وضع العمال أصبح أفضل منه في روسيا، لكن هذا لأنهم استبدلوها بعمالة أخرى، العمالة الأجنبية ....خاصة المهاجرين، هم الذين تخاطبهم الشيوعية و يتجاوزهم ظل الوفرة"
      المثقف الأول " لأ ياخ.....أنت ما رأيك؟"
      أنا؟!!!!
      " حقيقة ما عارفة! الاتنين صاح"
      تطير الذبابة نحوي مفكرة، تغير رأيها، و تذهب إلى المثقف الأول
      زززززززز
      "ماذا تعرفين عن الشيوعية ؟"
      "مش ديل ناس ماركس و لينين و روسيا وعمال؟"
      "أوه لا ! سأحضر لك كتابا"
      "حاولت، لكن لم أفهم شيئا! الكتاب الوحيد الذي فهمته عن المادية الجدلية، ثم اكتشفت أنه مخصص لربات البيوت!"
      تركتهم فاغري إلى الأفواه...ثم إلى ركن آخر من المقهى، قرب ست الشاي الحسناء المنبهرة، مثقفان آخران و .....نفس الذبابة
      "حاولت في قصيدتي الله لا يقطن هنا" أن أتجاوز الزمان و المكان، أن أكسر التسلسل المنطقي للأفعال و الأشياء"
      "تجربة جديدة حقا...أعد لي ذلك المقطع"
      المقطع؟!!!
      زززززززززززز
      "يا فزع الغروب...و آخر انفعالات الأجنة، محض المحض...كشف عني...مآلات....السراب"
      "جميل ...معبر، خاصة فزع الغروب....فيها شيء من الحركة"
      الحركة الوحيدة التي سمعتها ، هو تضرس أسناني من ذلك ...المقطع
      "أنت!"
      أنا؟!!
      "الديك محاولات شعرية؟"
      "لا لأ"
      "أترسمين، أو تمارسين القصة؟"
      أمارس القصة؟
      "تشيب! تشيب!"
      "هذا لأنك لا تعرفين نفسك، و لكنك فنانة، واضح ذلك تماما"
      ها؟ أين؟
      "حقا"
      "بالتأكيد فلك روح عابثة، روح فنان"
      ؟!! و لكني سعدت بالإطراء، أم انه شتيمة مغلفة؟ ممممممـ
      زززززززززززز
      كلما خرجت من ذلك المقهى ، أقطع على نفسي وعدا أن أشاركهم الحديث و الهم، هم تحقيق الشيوعية، و هم تمتع الهنود الحمر بحقوقهم الكاملة، و ذلك الوجع...ماذا يسمونه؟ اجل وجع القصيدة...و ذلك القلق الذي لا يجدون له دواء، متى تتلولو خصل شعري المسطحة كالمساطر؟! ....حتما هندما أنهل من الكتب المقررة على العضوية، سيسكنني ذلك القلق أيضا، و أرقى للإحباط. عندما أملك جرأة نفي كل ما اتفق عليه، عندما أناقض نفسي، عندما أدهش القادمين، و أقلق منام من سبق، عندما أتفوه بما لا يجرؤ لساني على إطلاقه تعففا....عندها أكون أصيلة في الحلقة، و لا يلوحوا ببابهم المفتوح لطردي خارجا...كما فعلت كل الحلقات.
      و ماذا عن فتيات الحلقة ؟ حقيقة لم ألتق أيا منهن. ليس لغيابهن و لكن لانشغالهن؟؟؟؟هم لا يجدون وقتا لفعل أي شيء، يحملن كتابا في أيديهن، يشاركن في الحديث بحيوية( و بعنف أحيانا)، بشفاه مزمومة .يضحكون أو يهيمون حزنا، و لكن لا مجال للابتسام. حركتهم الكثيرة كانت تقلقني، لأنها كانت تشير (متهمة) إلى...ذبابة سمينة في مملكة النحل!!!!!
      في يوم، توكلت، حملت كتابا في يدي و همت حزنا، و لأول مرة تلاحقني الذبابة. سألوني ، ذكرت أن البلدية أزالت بيت جارتنا مرة العشوائي! قهقهة عالية، اضطربت الذبابة، و طارت نحو مصدر الصوت
      " و هل ستبكين على كل معذبي العالم إذا لن تجف عيناك"
      و دار الخبر في الحلقة، يطلبون مني كل مرة أن أبكي على مقتل عمال في كمبوديا، و جلد امرأة في نيجيريا، مجاعة زامبيا و ....و ....و..
      حقيقة! خجلت من نفسي. لماذا ألبستها هذا الثوب؟ و أنا التي كنت أحبها علمت أم جهلت. لكم ما زال على تعلم الكثير
      مثقف "أنا شيعي!"
      مثقف "رجاء لا تحدثنا في الدين
      المثقف الشيعي "نحن الشيعة نتحدث في كل شيء عدا الدين، نؤجله لحين حضور الغائبين"
      المثقف العلماني "عن فؤادي؟"
      المثقف الشيعي " لا نقبل مزاحا في آل البيت"
      المثقف العلماني " ظننت مسألة القبول و الرفض مؤجلة إلى حين الحضور"
      المثقف الشيعي " إلا في آل البيت، كديه هسي خلينا! أنقر ما هو رأينا في الزواج؟"
      ززززززززززززززززززز
      عيناها كانت تشبهان جوهرتان عندما دخلت الحلقة، صديقة البطل! لفظتها الفتيات منذ أن وطأت أقدامها المقهى، فلقد تعدت على أحد حقوقها و أفرادها دونما توسل أو قربان. أصدرن فحيحا في أذن العضوية، فانقلبت إلى فك يطبق عليها.
      مثقف محرش "روزا امرأة رائعة ، قالت عن لينين....تعرفين روزا...مش؟"
      صديقة البطل "لا"
      المثقف المحرش "إذن الحديث معك غير مجدي!"
      المثقفة " روزا مناضلة مشهورة"
      مشهورة كلمة سوقية! لا أزيز ذبابة هذه المرة، فهذه منطقة تهابها!
      صباح اليوم التالي
      المثقفة "روزا لكسمبورج ولدت عام 1870 ، ألمانية كونت حزب سبارتاكوس،و الذي تحول إلى الحزب الشيوعي الألماني. عام 1919 كانت ثو...."
      مثقف محرش آخر " هل قرأت التفكك؟"
      صديقة البطل " في الحقيقة ...لأ"
      المثقف المحرش " إذن ما آخر كتاب قرأته؟"
      صديقة البطل " دومة ود حامد"
      المثقف المحرش " هل ما زال هناك من يقرأ للطيب صالح؟ لا بد أنه يستغرب ذلك أيضا"
      لا أدري لماذا ضايقها حديثهم؟ كان بوسعها أن تفعل مثلي و تصيح بعناد طفولي "و الله أنا عاجبني!"
      بدلا من هذا الأسى البادي في وجهها، و في حركة بطولية مني تدخلت لإنقاذ الموقف.
      "التفكك رواية مملة....و الدومة رواية تغريك للتنقل في صفحاتها، أو ليست هذه الرواية؟ لا أظن كاتب التفكك قد قرأ التفكك نفسه، لا بد أنه تفكك في منتصف الرواية"
      "لا يا عزيزة......"
      "أففف...لدي صداع...لا تنادي عزيزة، كموظفي الوزارات"
      كان الحنق بادي للمثقف المواكب. التفت إليها،مواسية، صدمتني بنظرتها، ملؤها احتقار لي و اعتزاز بنفسها...حقيقة تفهمت إحساسها، و من أنا كي أدافع عنها؟ أنا جهولة الحلقة؟ طأطأت رأسي في رضوخ و كان هذا أول و أخر تدخل لي في شئونها.
      حقيقة كنا متشابهتين، كلانا كان يسعى لإرضاء الحلقة، هي باقتدار و أنا في عناد. كانت تسعى لأن تكون أحد كواكب الحلقة، و أنا أسعى لأكون أحد جلاديها (إيلام الحلقة يرضيها، تماما كالتناسخ فيها)
      ماذا عن البطل؟ ما إن أوصل حبيبته إلى شاطئ الحلقة حتى انطلق في بحار البحث عن مغامرة جديدة. كان ذلك يؤلمها، فهي حبيبته أيضا. لكنها تناست ألمها في صراعها نحو البقاء في الحلقة.
      أما أنا فقد كنت بدأت أفكر في الانسحاب. لقد فشلت في الانسجام أو جلد الحلقة. فأعلنت في كبرياء أن وهج اندهاشي بالحلقة قد انطفأ ....خلاص! لولا تلك الحكة و ذلك الانقباض كنت خرجت من تلك الحلقة على الفور.ألا يرضيهم أني أعلنت فشلي؟ لست كهرقل الذي بنصفه الآدمي انضم إلى جبل الأوليمب! و ماذا إذا فشلت؟ سأضع التجربة في آخر ملفات ذاكرتي و أبقيها هناك! كأن شيئا لم يحدث. كم أنا سعيدة أنا أرقص تحت الشمس، أ،ا راضية عن نفسي، ملأتها رضا....الامتلاء الذي تحسه عند تناولك حلوى القطن. لا يهم أختي تقول سمي الإنسان من النسيان....تمام!
      قد يكون الفيلم ناجحا دون أبطال، فيترك المخرج البطولة لحكم الجمهور و ضميرهم. لكن لا يوجد فيلم دون وجود الخاين! البطل يستمد بطولته بمناوئته للخاين. و الخاين في حياتنا في عالمنا حتى بين ضلوعنا _النفس الأمارة بالسوء)
      و حلقتنا رغم بيزاريتها لا تشذ عن القاعدة. لحلقتنا خاين!
      أذكر أن الحكة كانت مشتدة على ذلك اليوم، وانقباض قلبي حتى صار في حجم النبقة. كان الجحيم يستعر من عيني فتحاشتني العضوية.
      صديقة البطل وصلت مرحلة الغرغرة من إطباق الحلقة عليها، حدثتني نفسي بالتدخل، لكن عيناها حذرتني من الاقتراب. على كيفها!
      واجهته بخيانته لها ، هز كتفيه لا مباليا و في أوج ثورتها صاح
      "و ماذا في ذلك....أنا أبحث عن ذاتي"
      حدثته عن حبها، عن كرامتها...فليضع نفسه مكانها....
      "أنا حميتك....ما تبحثي عن ذاتك ...يا..." جالت الذبابة في فمه المفتوح، بصقها خارجا، وانصاعت صديقة البطل لمبدأ الحلقة، الحرية لنا و ...أحيانا لغيرنا ( يعتمد على رأي الحلقة). حملت كتابها و هامت حزنا منشغلة مع نحلات الحلقة تتابعها الذبابة. مع الفارق في أعينهن يلمع بريق سراب...سراب جبل الأوليمب...., هي كسرت جواهرها (عيناها) ووضعت بدلا منه زجاجا يعكس الألم خارجا....على كيفها!
      كانت الحلقة في ذات اليوم تمجد المثقف الفنان ، الذي تسور ( و نسير) ليلا في داخلية للبنات. مدهش! رائع! و لا يسأل فهو الفنان! الآن هم ينتظرون إبداعا جديدا له، بعد أن أرضى اله إلهامه.
      أما أنا فكل ما كنت أفكر فيه ، هو ما إذا كان اغتسل بعد فعلته تلك...تساؤل سخيف أعذروني، لكن عيناي المعلقتان بالمدخل ، ترفضان التحول عنه، و تشوشان أفكاري، حتى أني فكرت جادة في خزئهما.
      وقع ظله عند الباب...جهرت عيناي، اتضحت ملامحه وقفت كأني انتظر قدومه....أنا أول ما وقع بصره عليه. جلست في ارتباك و همهم عبارات مرتبكة، و لكن لا نجرؤ أن نشيح نظراتنا عن بعض.
      كنت أطن أن تلاحق الأحداث أصمتني عن العالم الخارجي و عزلتني عنه.....ظننت خاطئة! فقد غرق المقهى في بحر من السكون، أخيرا تجرأ أحدهم في المشاباة من هذا الصمت
      المثقف الجريء "أوووووووووووه! الخاين!"
      توقعت أن أرى الإحراج في عينيه ، ولكن على العكس تماما، استرخت ملامحه، كمن يخلع قناعه في بيته، بعد يوم عمل طويل. و سلم سلاما حارا، تضايق منه المثقف الجريء. وسرت نظرة حنق لدى رواد المقهى ، خاصة المثقفات " حقيقة عضوات الحلقة يتعاملن مع كل مشكلة، كمشكلة شخصية) أ/ا أنا فقد كنت أبتسم ملء الشدق ( اعني ذلك حرفيا فقد أحسست لاحقا بألم حاد في الشدق ) أرجو ألا يكون ذلك تشفيا مني!
      شرع في السؤال منهم بشيء من الحميم و ربما الحنين
      " كيف حالكم...خبروني عن آخر أخباركم....آخر همومكم.....هل ما زلت مسكونا بالقلق؟ هل حققت نقطة التماس بماضيك و حاضرك و مستقبلك؟ ما آخر قصائدك...هل حققت أخيرا كمال القصيدة؟ أين رسامنا ؟ أما زلت صائما عن الكلام حتى تكسر حاجز أبعاد اللوحة؟ و انت ما أخبار السوبرمان؟ هل عثرت عليه؟ أجل ما اسمه؟ الرجل الأسطورة؟ و انت هل حققت نظرية ليست امرأة و بالتأكيد ليس رجل...ما اسمها؟ أجل نظرية تحييد الجنس! هل تفهم زوجك أرق كينونتك لتعودي لزوجك و طفلتك؟ ماذا؟ ليس ذاك من شأني؟ حسنا! أرى عضو جديد.....من وجهك أدرك أنك لم تكملي شهرا....سيزول ما تحسين به قريبا...فقط اعثري على طرف العصب و ابتريه...و ...و...و"
      ابتسم و في عينيه نظرة توحي بانحناء ممثل عند إنهاء مشهد ما. رغم أنه لم يكن هنالك أي تصفيق، ولكن نظرات الحنق أعطت نفس الأثر. استدار...."خاين" كلمة صوبوها صمتا و خوفا إلى ظهره، تلقاها و مضغها كحلوى لذيذة.
      أوشك أن يتجاوزني، تبسمي استوقفه
      " هل ضللت مكانك؟، تبدين غريبة"
      "نعم...لا.....اجلس معي"
      ابتسم مختبرا " هناك مقولة للمسيح في العهد الجديد تقول فيها..هل قرأت العهد الجديد؟"
      حاولن جاهدة التذكر " في الصحف ، عند التعازي يكتبون الرب أعطى و الرب أخذ...و هذا ما اعرفه"
      رد في سعادة " لا يهم....هنالك وهج...حرارة تحسها عند اقترابك من أنثاك، اكتمالك....كالاندماج في نجم ما"
      "هل هذا ما قاله المسيح؟"
      ضحك ثم بخجل " بل ما أحسه الآن....ربما تأتين...سأذهب للبحر....لأني إذا لم أندمج كالنجم ...أنشطر كالنجم"
      ودعني بأمل و خوف ......ذهب....علي أن أفعل شيئا.......أخذت نفسا عميها......و بسرعة و تلاحق شديد...أفرغت كل ما في جعبتي من بذاءات...لا أوجهها لأحد...بل أخرج ما في من قيء..أتطهر..للاندماج......ثم زفير طويل.........علا تصفيق في المقهى....نبهوني إليهم....توجهت نحوهم....تكتلوا سويا كخراف...و سننت سكيني
      " لا يهمكما في الشيوعية سوى أنها أرض خصبة لهوايتكما....صراع الديكة. القصيدة ليس مشروع ينجز...بل كما قال...أو ربما لم يقل فروست هي غصة في الحلق...الشعر ضرورة. الدين فكرة ترى ألقها في عينيك، لكنك تلبسها كبذلة مطرب ذهبية في حفلة مبتذلة. الفن مرقى روحي و إن أخطأ الفنان الوسيلة، أما العبث فهو العهر و لو ذيلته كل آيات الفضيلة. المرأة لا تساوي الرجل و لا هو يساويها...و لكنهما يكونان آدم الجنة. خذي جواهرك حاولت إلصاقها دون جدوى، لكنها أفضل من الزجاج على كل حال. أنا حزينة على مرة العشوائي، لن أبكي عليها...ربما أجد حلا.....أعلم أن كلمات مثل الوطن، القضية، الانتماء...وصلتكم ماسخة من من سبق ، علكة أخرجوها من أفواههم و مضغوها إياكم ماسخة......و أنا التي كنت أظنكم آلهة جبل الأوليمب....الآن كشفتم عن أنوفكم الحمراء، لن أكون مهرجا في هذا السيرك. أنا ذاهبة...إلى البحر!"
      جريت نحو الباب، التفت في نظرة أخيرة مودعة و صحت " أتدرون من أنا ؟.....أنا الخاينة!"
      حقيقة ، فيما بعد لم يشرفوني بهذا اللقب "خاينة" قالوا : البت ديك (تعمدوا نسيان اسمي" تعاني من اضطراب ذهني! ليس جنونا أو أزمة نفسية، فتلك أوسمة تشريفية في الحلقة....لا يهم لن أعود لدائرة حكمهم مرة أخرى.
      أنا الآن في البحر....ها هو ذاك.....تشابكت أيدينا...لم نضحك، فقط تبسمنا..., عندما كان الليل ، كنت أنا و هو نتلألأ مع ملايين أمثالنا
      أتدرون...................
      "ذاك المكان لا يليق بي!"


      اندمجنا