مامون التبيعة
"في سيرة الظل من العويش إلى اللبلاب"
3
خريف:
قالوا : أمطرت الدنيا …
فسحبوا ما في الحوش كله لداخل البرندتين , و
ما يزال الراديو الأزرق الكبير المضبوط على إذاعة لندن " يشخشخ " كلما
أرعدت أو أبرقت السماء , فتتضاير بت المرين و تزوم متطيرةً تقول : (الليلة يا بركة شيوخي حوالينا و ما علينا ,
الحوبا بيك يا ستي نور القبلي , بركة سيدي الحسن راجل كسلا تغتي علينا يا إلهي يا
سَيّدي ). ثم ملتفتةً للمتحلقين في ركينة البرندة من نسلها : (إنتو يا البوم
المشغلين إزاعة السجم دي .. النبي فيكم إمّا قفلتوها .. قالو ليكم " الرادي
" بيجُر الصاقعة .. بالتفرطق إضنينكم ديل رجيت الله عليكم)
كلما أرعدت و أبرقت تقول بت المرين ذات
دعواها لذات السماء الغضبى , و تشتم ذات سبها لتعود تنكمش داخل فراشها الهبابي
رعباً و قلة حيلة
.
ثم لما تواصل الماء هطولا , قاموا فسحبوا
اللحفات و المراتب و تبروقة الصلاة الكبيرة جرباء الصوف ، و " برش الدخان -
الملفوف على فركته - و البنابر الخشبيات الثلاث و سراويل و عراريق حاج صالح
المنشرات على الحبل البلاستيكي . و سحبوا الطاولة الخشبية الكبيرة , و عنقريب
المخرطة الكبير . انسحبوا جميعهم اتقاء الماء الذي انفتحت له قِرَب السموات . إلا
مامون أبى و استكبر
:
(شكشاكة ياخ .. دي شكشاكة ساكت ولّلاي , ما زي مطرة ناس عمتي
فوزية حقت بالليل ديك .. ياخي ديك , ديييييييييييينك كانت شديدة شدة ، ديك الإتزلق
فيها روري عمك رمضان جوه خور التُرب ) . ذلك ، و بقى مامون تحت الوابل الخريفي و
تحت انهمار لعنات بت المرين عليه لأبو اليوم الذي جاء به .
كان مامون التبيعة معتوهاً كبيرا .. أقول لكم .
ما اهتم كثيرا بالمطر , لا و لا بالرعد و
اللعنات , و الإستجداءات . فبقي " متداغلاً " يتمترس بالبطانية الصوفية
الرمادية بالخط الأحمر الباقية من مخلفات عهدة الجيش , و التي ورثها عن خاله عباس
الأورطي . تلفع المعتوه بها و تدمدم منتصفاً للسرير . ثم لما أعياه النوم قام يلف
اللحاف " المائي " هارعاً لداخل البرندة , ليكاد يهوي منزلقاً من لزوجة
طين الحوش الذي تحول بركة مائعة
.
قالوا : فلما حاول مامون التبيعة الإستناد
بحمله " اللحافي " المترع الثقيل على أيما سندٍ يقيه شر السقطة ، لم يجد
أقرب إليه من شباك الخشب الكبير . فأناخ بكلكله عليه , لينهار الشبك الطلل القديم
آخذاً معه " حلق " الشباك .. و العتب الأسمنتي و " قرمةً "
كُبرى من مدماكه الطين اللبِن
.
قالوا أنّ جده صالح ود الكرسني بقى لعشرة
أيامٍ يرتاد فيهن " البصير ود خوجلي " في أقصى القوز ليرد عليه كتفه
الذي " خلعته " له هبركة حلق ذاك الشباك المسكين و هو لا إيدو لا كراعوا
و في أمانة الله يرقد كعهده الدائم تماماً بين مدخل البرندة و سريحة الحوش
الجوانية تماماً تحت ذاك الشباك المجني عليه ، متوسداً ضراعه و متلفعاً بالتوب
النقادي القديم ، من قبل أن ينهار عليه المعتوه مامون و اللحاف و المدماك و الشباك
و القرمة الكبرى للأسمنت الخرصاني . فما أفلحت جبيرة الكتف و لا الكي و لا الفهق و
المليخ .. حتى انهم حجموا له كامل ظهره و لا طائل . فكان أن بقي حاج صالح "
عضيراً " حتى أخذ صاحب الوداعة وداعته
.
ما علينا .. أقول طنطن مامون ليلتها مغضباً و
محنقاً من جده حاج صالح و " شوبيره " كما أسماه :
( جدي ياخ وللاي إتّ دايماً بتلاوز لي , عليك دينك كتّ أتكل
ليك في شنو ؟ زاتو الحمدوللاهي إتّ ما كتّ جنبي .. و الله لو كتّ إتكلت عليك , كت
قلعت ليك حلقك إتّ زاتك .. صاح ؟
) ..
قال بذلك ماطاً شفتيه الغليظتين لأقصى
تلاليشها – يفعل التبيعة ذلك حين يتملكه الغضب أو الفرح أو ساكت كده بس –
لم يحر حاج صالح جوابا , فهمهم منكساً الرأس
مسقطاً في يده : ( ياربي ليك الحمُد يارب .. الله لا كسّبك و لا غزّ فيك بركة يا ود عطانة بركة
الأوليا
) .
الكوكة
:
حكوا فقالوا
:
فقط في يوم الخميس , و قليلاً قبيل أن يفرش
" منعم الجاك " برشيه المهترئين لصلاة العصر أمام الزاوية الطينية ذات
الطوفات الطينية الثلاث . فقط حينها يطل ( عبدالله النقادي ) :
- طالب من الله
- و من كرم الله
- و من جود الله
- و مما اعطاكم الله
- جلابية في سبيلي الله
- عبدالله
- طالب
- لله
و قد كان متسولاً وسيماً قسيما أشيبا أبيض
البشرة حلو الصوت .. منغمه , بجلبابٍ متسخٍ و عمامة هي أصغر من أن تسمى بذلك , ثم
بجيوبٍ في الجلباب مكتنزة متكورة امتلاءً بما لا يعرف كنهه أحدا . تلك كانت ملامحه
في كل عصرٍ من أيام الخميس و على مدى سنوات طوال
.
قالوا : و قد كان صاحب " كوكة " !!
.. هكذا
.
كل ما عرفه الصبية عن تلك النصيبة المسماة
كوكة , أنها كانت تخرج صوتاً غريباً إن أُحرِقت لها ريشة طائر عن قرب . و أن ما من
أحدٍ قد سمع ذاك الصوت البديع من سنوات بعيدات . لكن بت المرين ما كفت في كل
مناسبةٍ عن الجزم بسماعها لصوت كوكة " ميدوب " الفلاتي . و انه كان يعمل
زمانها مكوجياً في دكانة منصور أب لكيلك . و أن أخوها المرحوم " بشرى "
كان قد غافل " ميدوب " و وضع له ريشات حمام في المكواة الحديدية المجمرة
, و ان ميدوب حين اشتم رائحة الريح المحروق جرى إلى داخل الدكانة فتقرقب ببطانية
التفريش القديمة , و أنه تصادف أن الصبي محمود ود ناس باشاب كان داخل الدكانة
حينها لاستلام هدوم .. فقطع قلبه هجمة " ميدوب " داخلاٍ , و ذاك الصوت
الغريب خارجٌ من سرواله , فبقي يتراجع و هو يردد في خوف : فِسسسسس ... فسسسسس
.
قالوا , فاستهوت مامون التبيعة تلك الأقصوصة
, و راح يؤسطر لها على مسامع الشفع من صبية الحي .. فقضت عليهم المضاجع .
: شفت صوت الضب ؟ .. شفتو ؟ بس ياهو . قال " همزة "
بذلك , فأمن عليه " الفاتح " و " عصام جِنجة " . و زاد عصام
فقال : ( أنحنا زاتنا مره كده في ربك سمعنا صوتا ولّلاي . شفتا , زي كجكجة الضب ,
هي حقت زول كده كان ديّاشي اسمو " برين " , شفت لمن حرقنا ليهو صوفة
الحمامة قامت الكوكة حقتو كوركت كواريك .. أنحنا قمنا جارين طوالي عشان لو عضتنا
بتقوم تعادينا و بنكوّك , يُمه بتول قالت كده
) .
قال مامون التبيعة حاسماً للكلام - فهو
الأعتى و الأكبر و الأضرط - , قال بأنه أعد العدة لعبدالله النقادي : ( إتّو
دايرين تسمعوها .. صاح ؟ .. عاين عاين , أنا بتلبد ليكم ورا زريبة ناس " قسِم
" . شفت لمن النقادي يقيف جنبها إنتو أعملو لي حركة كده . انا بولع الصوفة
طوالي . إتّو بس أسمعوها كويس .. طيب ؟ ) .. و قد كان .
تمترس الشفع عند زاوية " دكان فضُل
" . جاء عبدالله النقادي فمر على بيت ناس " عبد اللطيف الدنقلاوي "
, ثم إلى ناس " حاج مصطفى شاويش " , فـ " يوسف القبطي " و إلى
بيت ناس " حُسنة بت الضكير " حتى وقف بباب ناس " قسم " و
تماماً عند الركن الشرقي للزريبة حيث اختبأ " التبيعة " . ثم تنحنح عبد
الله النقادي و أطلق نغمته فيما يشبه المديح
:
- طالب من الله
- و من كرم الله
- و من جود الله
- و مما اعطاكم الله
- جلابية في سبيلِ الله
- عبدالله
- طالب
- لله
قليلٌ بعد , حتى ارتفع دخانٌ خفيف من وراء
سور الزريبة !! .. لكن ما من شيء حدث ! .. و ظل عبدالله النقادي واقفاُ مادحا .
خرج مامون من مخبئه محبطاً فلحق به الصبية ,
كان يحمل كومة من الريش واقفاً قبالة عبدالله النقادي : ( كوكتك كوركتْ ؟ .. ما
كوركت .. صاح ؟
) ..
نظر إليه عبدالله النقادي .. و إلى عصابة
الشفع . ثم ملاوزاً واصل مديحه لناس " قسم
" ..
: ( أسمع هووي , هي بتكورك كيف ؟ .. صحي عندها خشم كده هناي كده
؟ .. هي قاعدة وين هي ؟.. شغلها لينا .. دايرنها تكورك لينا )
ذُهِل عبدالله النقادي فانتهرهم في توجسٍ
قلِق , و اهتاج غاضباً لأول مرة منذ عرفه الناس : أعوزو بللاه .. أعوزو بللاه - ثم
صائحاً في خوف حقيقي و مسكنة - يا قسم .. يا حاج مصطفى .. يا ناس تعالو لمو العيال
دول .. اعوزو باللاه
.
قال بهذا ثم أسرع الخطو مهرولاً , خلفه ركض
الصبية يقودهم مامون : ( ويييي ويييي عبدالله اب كوكة .. : ويييي ويييي عبدالله اب
كوكة
) .
قالوا : في جريه سقط الرجل إلى خور المدرسة
الذي آل إلى مكبٍ للنفايات , فقفز مامون التبيعة إليه و جثم على صدره محاولاً
استكشاف موقع الكوكة من عبدالله . ماداً طراريمه الغليظات بقي يصيح : ( شغلها لينا
.. شغلها .. شغل الكوكة ياخ عليك دينك
) ..
قالوا : كسر عبدالله النقادي حوضه فلزم
المستشفى شهورا جراء القفزة الشهيرة تلك . ثم لم يره أحدهم في الحلة لسنوات . فيما
بقي مامون التبيعة لائماً للشفع - و أيضاً لسنوات
- :
( كلو منكم .. كنتو تولعو الصوف ياخ و أنا مثبتو ليكم في
الكوشة .. هسه كنا عرفنا حِس الكوكة كيف .. صاح ؟
)
No comments:
Post a Comment