حول
أزمة رجم السيدة
هذا
المقال مقسم إلى ثلاثة أقسام
الأول
حول الخلل في البلاغ الأصلي المفتوح من قبل الجارة
الثاني
حول قرار القاضي
الثالث
حول ردة فعلنا على القرار
كل
قسم مظلل بلون..عشان كل واحد فينا يخش على راحتو محل ما يوجعه أكثر..والموضوع كلو
وجع في وجع
قانون
إشاعة الفاحشة
ورد
الخبر كالاتي : تقدمت جارة ببلاغ إلى الشرطة تتهم فيه الجارة بممارسة الفاحشة.
فتحركت الشرطة من فورها وقامت باستدعاء السيدة والتحقيق معها، وفي أثناء التحقيق
ماتت الجارة المتهمة، إلا أن خيوط التحقيق طالت أخت المدعية التي انتهى بها الأمر
أن أقرت بارتكابها الزنا ، لتمثل أمام القاضي مقرة بذنبها فيراجعها القاضي إلا
أنها تتمسك بأقوالها وينتهي الأمر بأن يصدر عليها حكما بالرجم." انتهى
ظلمات
بعضها فوق بعض..لا غرو أننا لا نرى ابعد من أرنبة أنفنا... نحن يا سادة نعيش في
ظلمات متكاثفة..الحقيقة أن هذا الخبر وردة الفعل على هذا الخبر قد كشف كثيرا عن
علل المجتمع وعلاته والتي نستطيع أن نرجع السبب فيها بكل بساطة وبكل وضوح إلى وجود
هذا النظام.
سنحلل
الحدث واحدة واحدة....أريد أن أبدأ بنقطة أثارت قلقي. وهو بلاغ الجارة ضد جارتها. ويجب
أن يقلفكم جميعا..خاصة إن كنت من أولئك الذين علقوا على خبر الرجم بأنك متمسك
بالدين ولا يهمك رأي الخواجات والنصارى. فاقرأ قوله تعالى : "إن الذين يحبون
أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم
وأنتم لا تعلمون". هل يحدث هذا في السودان؟ أفهم من كدا..أنه قد تكون أمك او
أختك جالسة في أمان الله في بيتها، فتطرق الشرطة باب بيتها و تستدعيها للتحقيق في
شرفها وعفتها وتسائلها من قابلت ومن لم تقابل؟ فقط لأن جارة ملسنة ضمارة بالسوء
تقدمت بشكوى؟!! في مجتمعاتنا المحافظة إن مجرد التهمة في أمر كهذا يثير الشبهة ويكون
وصمة تحملها مدى حياتك...لهذا شدد الله على الخائضين في الإفك. ما شأن هذه الجارة
فيما تأتيها المرأة في ستر بيتها، وقد عصمها الدين من تربص الأعين الخوانة؟
والألسن الاثمة؟ متى فوض القانون الناس أن يكونوا رقباء على الناس؟ إن هذا لأمر
عجاب. قد جاء هذا النظام ملوحا بالدين كأنه حفي به أكثر من كل من في
البلد..فأفسدوا أكثر مما أصلحوا...كسروا مؤسسات سودانية أصيلة كانت تحل وتفض مثل
هذه المشاكل دون تدخل للقانون. ككبار الحي. الذين كانوا يحلون هذه المسائل بهدوء
وبحرص بالغ لا يهدد تماسك ونسيج المجتمع. إذا أردت أن تعرف علة المجتمع..إذا كنت
متحسرا على أيام زمان..فاعلم أن السبب في هذا هي القوانين التي تدعي الحفاظ على
الشرف والعفة.
و
يحدث في الحي أن يكون هناك منزل ذو نشاطات مشبوهة، وقد يخشى المرء على عياله ،
فيكون التصرف الأمثل كي لا يثار جوا من الريبة والارتياب والقيل والقال بين الناس
في المجتمع، ونحن مجتمع محافظ كما يزن الناس في رؤوسنا ليل نهار. يكون الحل الأمثل
أن لا تقبل الشرطة أي بلاغ من جارة أو ساكن في الحي إلا عبر لجنة السكن أو لجنة
الحي. ما حدث يا سادة في هذا الامر أن الشرطة خرمجت أكثر مما أصلحت. الفاتحة على
الشرطة. كنا نسمع الحكاوي عن الشرطة زمان وكيف كانوا "وسطاء" بين
القانون والمجتمع. وليسوا مجرد يد صماء عمياء تنفذ دون وعي ولا عقل. خرمجة شديدة.
الطامة الكبرى...قرار الرجم
قس
على تلك الخرمجة..خرمجة الشرطة..نفس الخرمجة....خرمجة رجال القضاء والقانون
خاض
بعض الخائضين في الحديث عن "اعتراف المرأة" و "إقرارها" وليس
في الشرع أيضا "إقرار" بمعني الإعتراف تحت وطأة التحري
والتحقيق.فالإعتراف المذكور في الشرع والإصرار عليه "كما تهيأ للقاضي"
ليس كما جرى من أمره مع السيدة انتصار. بل هو ما جرى مع الغامدية، أن تأتي طائعة
مختارة في غير تهمة موجهة إليها، وأن تطلب إقامة الحد عليها. فيتصامم عنها النبي ،
ويتجاهلها. فتصر، فيمهلها النبي أن تضع وليدها. علما بأنها لو لم تأت لما راجعها
النبي. فتعود الغامدية طائعة مختارة تطلب إقامة الحد عليها. فيمهلها النبي حتى
الفطام،علما بأنها لو راجعت نفسها ولم تأت لما راجعها النبي. لكنها تعود من جديد
وتطلب إقامة الحد عليها. فيقام الحد عليها. لو أردنا اجراءا قانونيا صحيحا، كان
عند اقرار السيدة أن تتجاهل الشرطة ذلك تماما،
أو أن تواجهها في حدود سلطاتها بممارسة "الفاحشة" وليس الزنا.
فالأمر بحسب القانون المقيد كالاتي: أن توجه الشرطة التهمة لها في وجود أربعة شهود
عدول. أو..وركزوا بالله معي في أو هذه...أو أن تفتح المرأة في نفسها بلاغا تطالب
فيه بإقامة الحد عليها. أي ان يتم إغلاق القضية الأولى أولا. ثم تتقدم السيدة بفتح بلاغ في نفسها. دا كدا الدين ودا كدا الشرع ودا كدا القانون. أما ما
جرى من أمر القاضي والشرطة فهو استهتار و استخفاف بالدين لم يسبق له مثيل، وهو حط
للقانون وإزراء به غير مسبوق. لا حول ولا قوة إلا بالله.
كالأنعام
بل أضل سبيلا
نأتي
إلى الأمر الثالث: وهو ردة الفعل من قبل المغاضبين للدين ..الغيورين عليه. مالكم
كيف تحكمون. كيف صرنا كالأنعام بل أضل سبيلا ؟!!! يقول النبي عليه الصلاة
والسلام:" إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"...بمعنى لا تسارع في
الإفتاء والإقرار بكل ما تعرف وما لا تعرف. أعوذ بالله ممن جعلوا الدين وكأنه
جزارة..يقطع هنا ويرجم هناك.
تشابه
البقر من جديد على حضرة القاضي وبعض السادة "المتفيقهين"، فظنوا إمهال
النبي للغامدية نوع من الإجراءات القانونية. لكن إمهال النبي جاء ليوضح أن الغرض
الأساسي من إنزال الحكم هو تنفير المؤمنين من مقاربة الفاحشة، وبيان عظمتها
ومكانتها عند الله، وقد ورد في الحديث : "يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير
من الله، ان يزني عبده أو أن تزني أمته..يا أمة محمد والله لو تعلمون لضحكتم قليلا
ولبكيتم كثيرا " وليس المراد الرجم في حد ذاته، وإلا فإنه ليس أغير على دين
الله من الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس هنالك من هو أحرص منه على القيام بحدود
الله. فلنتدبر من جديد إذا المغزى من تصامم النبي عن "اعتراف" الغامدية
وتجاهله لها. وكي نسهل الأمر عليكم نورد
القصة المعروفة للرجل الذي أتى النبي في المسجد ورفع صوته قائلا "يا رسول
الله إني أصبت حدا فأقم" أي أنه ارتكب جرما يوجب ايقاع الحد عليه. فتصامم عنه
النبي، فكرر الرجل نداءه "يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم" فيطلب منه
النبي منه أن يقم الصلاة معهم، وبعد انتهاء الصلاة يعيد الرجل قوله على النبي ،
فيرد عليه الصلاة والسلام بقوله " أليس قد توضأت حين أقبلت؟ قال نعم ، قال:
وصليت معنا؟ قال نعم..فقال صلى الله عليه وسلم إذهب فقد عفا الله عنك " المراد
من الحدود في الأصل هو أن يقيم الناس الحد على أنفسهم أولا، بمراجعتها ومحاسبتها
ثم التحسر على مقارفة الذنب والندم ثم الأستغفار والتوبة. فإن الله لا يتعاظمه ذنب
رحم
الله المجددين من أمتنا الذين نادوا بتجديد الدين واحيائه في صدور الناس وقد مات ،
ولم يبقى منه سوى جعجعة هي ملء الفم والحنجرة. كانوا يقولون أن تفسير الدين مرهون
بعدة أمور. معرفة باللغة العربية المنزل بها القران، ومعرفة أخبار العرب وسيرهم
وأيامهم، وأحاطة بالتراث الإسلامي، والأهم من ذا وذاك الإلمام بثقافة العصر الذي
يعيش فيه. فما يقوم به المفسر هو أن يستنبط من الدين ما يحل به مشكلات عصره بما
يلائم عصره. وقد ضربوا بذلك مثلا بتفسير ابن عباس لقوله تعالى "إذا النجوم
انكدرت" أي إذا وقعت في ماء البحر وانطمست...رغم أننا نعرف الان أن أصغر نجم
هو أكبر من حجم الكرة الأرضية الاف المرات، لكن في زمن ابن عباس كان تفسيره ملائما
لظروف عصره، عصر ما قبل المعرفة الفلكية. قس على ذلك أمر الرجم. فلا تظنون أن أمر
الرجم كان وقعه شديدا على المسلمين في ذلك الوقت كما هو شديد علينا.فالمسلمون
الذين رجموا الغامدية هم نفسهم من كانوا قبل سنوات قلة يدفنون بناتهم فلذات
أكبادهم احياء. لا اظن أن هناك امرؤ سوي اليوم يقول أنه بوسعه أن يطيق رؤية شخص
تطير شظايا مخه بالحجر قطعة قطعة، بعضنا لا يطيق رؤية حيوان يتعذب..وإذا رأي أحدنا
شخص يتلذذ بتعذيب حيوان يسارع بإتهامه في صحة عقله. الحق أننا تلطفنا كثيرا
وتغيرنا كثيرا عن ذاك الزمن بفضل الله وبفضل تطور المجتمع البشري. فواجب المفسر
إذا ان يقرأ قصة الغامدية، وقصة الرجل الذي طالب بإقامة الحد على نفسه بشروط
عصره..خاصة وأن المسلمين يرون دينهم قادرا على مجاراة كل عصر . على مفسر اليوم أن
لا يركز على قصة الرجم بالحجر ، بل أن يركز على سبب تجاهل النبي لدعوى الغامدية ،
التي كانت عندما تناديه يشيح بوجهه عنها فتقابلة بجهة أخرى، فيلتفت عنها مرة
أخرى...ثم يمهلها عامين..هل بوسعكم أن تتخيلوا عامين كاملين تراجع نفسها فيها وكان
بوسعها أن لا تعود ولما ساءلها النبي ولما راجعها. وعلى المفسر أن ينظر إلى أمر
الرجل الذي أسقط النبي عنه الحد بالصلاة. وكما قلت ليس أغير على دين الله من
الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس أكثر حرصا منه على قيام حدود الله.
فكان
حقا على القاضي الجليل (سامي شبو) لا أن يأمر برجمها، بل أن يعينها على التوبة، أن
يمهلها...مش يسألها في ساعتها أن تراجع أمرها ثم طوالي يأمر بالرجم. ماله كيف
يحكم؟ أهؤلاء رجال القضاء؟ اهل الحكمة والحل والعقد؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
ياخي حتى لو عاوزين نلتزم بالشكل الظاهري لقصة الغامدية لكن نضعها في شكل عصري ان
يهيء لها من يعلمها دينها ويوضح لها طرق التوبة. ثم يتركها ولا يسائلها أبدا(ثم إن شاءت تتقدم بفتح بلاغ في نفسها ).
فيكون كسب توبتها، وحفظ ابنها في كنف أمه. مالكم كيف تحكمون يا أهل الغيرة على
الدين؟ مالنا صرنا كالحمير نحمل أسفارا..فلا نتدبر القران لا بالعقل ولا بالقلب..واختزلنا
الدين في "جمعة مباركة" و"اكثر بلد يصلي على النبي" وأبواب
البقالات الفاخرة التي تنادي "اذكر الله يذكرك ولا تنسى ذكر الله" و
"شير في الخير" ودروس الموعظة وسحنة من المسكنة أسموها التدين!!! مه!!
كما قالت السيدة عائشة "قد أماتوا علينا ديننا". فلا تفكر في الدين ولا
تدبر فيه ونردد كالببغاءات "الإسلام دين الرحمة" ثم لا تراحم بيننا ولا
رأفة. وما حديث النبي من اتباع سنن من كان قبلنا من اليهود والنصارى سوى وصف
لحالنا الآن أن الدين اصبح عندنا مجرد طقوس وحركات لا روح فيها ولا تفكر، فما إن
نقرأ في الجريدة اصدار حكم بالرجم على امراة، حتى نهلل فرحين لنصرة الإسلام. ولا
نحدث أنفسنا إن نعيد النظر في ما قرأنا ولا أن نتبصر ما جاء في أمر ديننا منه.
كالأنعام صرنا والله...بل أضل سبيلا.
غالبا
ما سيخرج علينا بعض الممالئين والمدلسين من أهل السلطان ومن رجال الدين ويتحدثون
عن التمسك برجم المرأة وإقامة شرع الله. ليتهم يستصحبوا حينئذ قول الرسول الكريم:
إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا
عليه الحد. ويستدلوا على ذلك بأن هذه المرأة التي تكالب الناس عليها رياءا ونفاقا
ومداراة بإسم الغيرة على الدين، نرى منهم من تحركت فيه تلك الغيرة مطالبا بقطع يد
وزير الأوقاف الذي بتهمة الفساد، وغيرهم كثر.
هذا
كل قولي في الأمر