تماما كما تختزل القوى السياسية التحول الديمقراطي في التمثيل الصندوقي عبر الانتخاب، تختزل العملية السياسية في "التوقيع"
والذي سيحدث لا محالة وسيراق لأجله مياه الأوجه وتسفح لغايته دماء العروق.
"إصلاح" المنظومة الأمنية ليس مسألة فنية أو تقنية تحل بجداول الدمج والورش واللجان. "إصلاح" المنظومة الأمنية يحتاج أمرين لا تملكهما الحرية والتغيير ولا الطبقة السياسية الحالية:
مشروع سياسي إقتصادي صاحب سيادة واستقلالية ثم قاعدة شعبية تشرعن هذا المشروع وتؤسسه وتنفذه
بمجرد التفكر في برامج وفي خطاب الحرية والتغيير ونخب الطبقة السياسية تجد غياب هذين العنصرين الأساس.
والسبب في ذلك الغياب هو خلل وخطل في فهم معنى التحول المدني الديمقراطي، يعمل على منع تحققها بشكل كامل فهم لا يريدون منها سوى الأوجه المدنية في مراكز السلطة وكرنفال الانتخاب الصندوقي.
وسوء الفهم هذا اما انه مقصود ذلك أن حدوث عملية تحول مدني ديمقراطي فعلى ستطيح بنفس هذه القيادات السياسية والتكنوقراط وتحل محلهم كفاءات أصدق وأقدر على تنفيذ الأجندة الموكلة إليهم من الشعب. كما أن حدوث عملية تحول مدني ديمقراطي سطحية ستضمن وجودهم كطبقة سياسية ترتزق من السلطة وتورثها {والارتزاق لا يعني بالضرورة الاختلاس والعمالة} انما يعني شبكة العلاقات التي تضمن استقرارها الاقتصادي والاجتماعي.
وسوء الفهم ايضا غير مقصود وتجد هذا عند بعض القيادات السياسية التي هي موجودة ضمن هيلمانة الحرية والتغيير والنخبة السياسية كتوابع وايضا لدى النخب التي ترتزق من شبكات النخبة السياسية، وفيهم الصحفيين والأكاديميين وايضا شعراء و "روائيين".ومرة اخرى لا اعني بكلمة استرزاق انهم يستلمون مبالغ مالية. بل اعني انه في غياب هذا النموذج السياسي و وسطه المحيط لا يكون لهذه النخبة المتواضعة أي وجود. وسوء الفهم غير المقصود هذا ناتج عن استهلاكهم لخطاب ودراسات المؤسسات الأكاديمية المينستريم. وهذه مؤسسات ظلت دائما في خدمة الطبقة السياسية التي بنفس ما شرحته سابقا تضمن استمرارها وبقائها ، لذلك فإن خطابها دائما ما يكون في خدمة الطبقة السياسية، حتى خطابها النقدي لا يعدو أن يكون تفكيكا لنخبة داخل الطبقة السياسية نحو تمكين نخبة أخرى داخل الطبقة السياسية
والخطل يكمن في المفهوم: أن التحول الديمقراطي يهدف إلى نقل الصراع السياسي من دائرة العنف الأهلي والقمع إلى دوائر الانتخاب أو سياسات الدولة ومؤسسات السلطة. ليبدو وكأن عبر هذا الإنتقال ينتفي او حتى {يقل} العنف او {احتكار العنف} ، لذا تردد النخبة السياسية بكل حماسة {حقن الدماء} وهذا غير صحيح.
نموذج الدولة المركزية الحديثة الذي ولد من رحم الثورة الصناعية والرأسمالية، لا يعمل على احتكار العنف بمعنى تحجيمه او تصغيره، بل احتكاره بمعنى حماية حق العنف من تغول الغير عليه.
فنموذج الدولة المركزية ليس سوى انتقال شكلي من نظام العصر الإقطاعي السابق له. وتماما كما شهد عصر الإقطاع الزراعي ثورات شعبية شكلته وغيرت فيه، كذلك شهد {ولا يزال يشهد} عصر الإقطاع الصناعي ثورات تهز عرش الطبقة السياسية وتحدث تغييرات فيه. فكل هذه السماحة واللطافة و"المؤسساتية" المنسوب للدولة المركزية ليس هو سوى حقوق منزوعة بذلت فيها الدماء والأرواح.
والمنظومة الأمنية ظلت تتوارث الدور الذي ورثته من عهد الإقطاع الزراعي السابق الى عهد الإقطاع الصناعي او {حاليا الإقطاع السودو صناعي} ، ألا وهو حماية الطبقة السياسية ومصالحها من الشعوب.
فالحقيقة أن المنظومة الأمنية في السودان لا تزال تمارس دورها المعهود في الاستعمار منذ أن تسلم الأزهري علم السودان {بقنايته} من المستعمر. وظل ولاءها دائم للسيد خارج الحدود وهذا هو قلب الأزمة بين "السلطة" "المدنية" والمنظومة الأمنية، أنها لم تعترف يوما بالسيد الأسود. ظلت تبعية القوات المسلحة تتنقل من أجندة غير وطنية لأجندة غير وطنية. المستعمر، مصر الناصرية، بقا منظومة المشروع الناصري، أمريكا المستعمر الجديد، ثم مع انهيار اكذوبة الدولة السودانية وتفككها في عهد الترابي ـ البشير تعددت التبعيات وها نحن اليوم هنا.
فالأزمة في جوهرها ليس فقط في عدم انصياع السلطة الأمنية {جيش، شرطة، دعم سريع} للسلطة {السودو مدنية} إنما في {انصياعها} الدائم لقوى الاستعمار المتغيرة والمستحدثة. وكيف تستطيع النخبة السياسية الحالية من حل هذه المعضلة مع غياب مشروع سيادي لها، ومشروعها الحالي يعول تعويلا كاملا على حراسة ذات قوى الاستعمار المستحدثة والمسمى دلعا {المجتمع الدولي}
للأمانة. لا تستطيع، وكل حيلتها حاليا هي في منافسة السلطة الأمنية المتشرذمة في التبعية.
اذا ما الحل ؟ قبل الإجابة على هذا السؤال الذي دائما يشوح به في وجه الناقدين لمشروع الطبقة السياسية كقميص ابن يعقوب. هو أن نحضهم على إكمال السؤال. ما الحل لشنو؟ فالسؤال نصف الإجابة. إذا أحسنت السؤال ، أحسن الناس إجابتك.
ماذا تقصد أو من تقصد يا هداك الله وهدك ب{ الحل} ؟ هل سؤالك ما الحل للجيش والدعم السريع؟ ما الحل للإنفلات الأمني؟ {وعليك أن توضح حينها ماذا تقصد بالإنفلات الأمني؟ العصابات المسلحة، النزاعات الأهلية المدعومة؟ المظاهرات والمواكب؟} أو ما الحل {لتعديات المنظومة الأمنية}
لكن تجد أن مسودة الاتفاق الإطاري لا تجيب على اي من هذا؟ مسودة الاتفاق الإطاري تجيب على التالي:
كيف نتجنب حرج وجود مليشيات مسلحة خارج مؤسسة الجيش الرسمية ؟ وهو حرج متعلق بمظهر الدولة المدنية. الإجابة : الدمج.
فالدمج هو حل لهذا الحرج، إلا أنه ليس حلا لتفلت المؤسسة العسكرية وأزمة تبعيتها
ثم كيف نتجنب حرج استثمار قيادات المليشيات في تجارة الذهب وسمسرة الأراضي؟ الإجابة : إدراج عبارة: حظر مزاولة القوات الأمنية للأعمال التجارية والاستثمارية.
مرة أخرى فالحظر هو حل لهذا الحرج، لكنه ليس حلا لسيطرة قيادات الجيش والدعم والمليشيات لصفقات السمسرة والتهريب . فالذي تتغابى عنه قيادات الحرية والتغيير أن قيادات النخبة الأمنية هي ليست طبقة منتجة او مصنعة او مستثمرة، نشاطها بالأساس هو نشاط سمسرة ومقاولة وتهريب.
لكن إحقاقا للحق، فإن هذه الأزمة لا تخص النخبة السياسية داخل الإطاري، بل ايضا النخبة السياسية خارج الإطاري واعني بذلك التحالف الذي رأى أن يطلق على نفسه "خفة" اسم التحالف القوى الجذرية ، دون أي دلائل او إشارات أو حتى خطاب يدل على هذه الجذرية. فالأدق و الأصوب أن تسمي نفسها تحالف قوى الرفض. وهي القوى الرافضة لأي صفقة سياسية مع القتلة والمجرمين من العساكر والمليشيات، لكنها تأمل في نفس النتائج عبر آلية اخرى.
فالجذرية تكمن في ترسيخ مفاهيم واضحة حول : معنى السلطة، معنى الديمقراطية، اعادة النظر في مؤسسات السلطة بما في ذلك المنظومة الأمنية، واعادة النظر تتم في تفحص ودراسة موقعنا الجيوسياسي، في ظل نظام عالمي مضطرب. مثلا إذا نظرنا إلى خطاب وبيانات قيادات التحالف {السودوـ جذرية} تجدها ايضا تتحدث عن جيش قومي مهني موحد.
طرح الروائي حمور زيادة على صفحته تساؤلا، ذكر انه تساؤل حقيقي وليس ساخر، ملخصه كالآتي: ما الفرق بين انضمام ضباط الصف للثورة وبين اقالة سوار الدهب لنميري؟ ما الفرق بين سوار الدهب وضابط الجيش؟ هل هو فرق…أن أن اااان: طبقي! فالإثنان ارتكبا جرائم.
وهو سؤال مشروع إنما سخريتي هي من تعجبه لبداهة أن يلتزم حزب ذو مرجعية فكرية قائمة على قراءة اعادة التاريخ من منظور الصراع الطبقي بما في ذلك فرز{جرائمه} ، لو كدا انت حتتعب كتير مع أي حزب شيوعي.
لكن التساؤل المشروع لأنه خطاب الحزب الشيوعي ذو جذرية نية غير ناضجة ومكتملة، فالحديث لا يقتصر فقط على الفارق الطبقي بين صغار الضباط وكبار الضباط. بل كون المنظومة العسكرية هي مخدم للنخب والطبقة السياسية. فالضابط تماما كمشرف الوردية في المصنع تماما كالمواطن دافع دمغة الجريح ودمغة القوات المسلحة، خدام للطبقة التي تسحقهم وضحايا لها. لكنك لا تقوم بفرزهم عن آلة القمع إلا عند خروجهم عنها.
هناك مقتبس بديل لمزن النيل لصورة عسكري بالبيريه الأحمر جالسا في خيمة صحية تابعة لأحد لجان المقاومة ينتظر دوره وسط المواطنين تقول:
"عبر نموذج مجالس السكن نخاطب الفقراء والمقهورين اقتصاديا واجتماعيا من صغار الجنود، من حيث هم فقراء ومقهورين وبالطبع سيفضلون السكن في أحياء تعمل على تقديم الخدمات لهم وتقيهم شر الفقر وشر العمل كآلات قتل بيد قياداتهم. ويكون التطور الأمثل لذلك هو انحيازهم -أو عدد منهم- لحياتهم وحياة من يشاركونهم ذات المشكلات والمصالح، وذلك بهجر السلاح والمؤسسات الممسكة به"
وهذا المنهج يجنب المرء الإنزلاق إلى "الجوهرية" او "الماهوية" وهي التي تحاول منح صفات أصيلة لأفراد ومجموعات إلى فهم الظروف ودوافع قيام الافراد او المجموعات بأفعال بعينها ـ من ضمنها الدافع المادي كما في خطاب الحزب الشيوعي.
ولعل مرد هذا غلبة الروائية على حمور زيادة، فلا يخلو خطابة من سقطات الماهوية هذه، وقد تحدثت من قبل عرضا عن بوست له يستنكر "كيف يقتل الجار جاره" معلقا على احداث العنف في النيل الأزرق، أو تقدريه للمهنية الإعلامية للسي إن إن.
نعود إلى أن خطاب الحزب الشيوعي ناقص لأنه ما إن ينتهي حديثه عن انضمام صغار الضباط للثورة، لا يتناول أي رؤية للمنظومة القمعية الخادمة لمصالح النيوكولونيالية والنخب المحلية وغير المحلية. وهي تبعية لا تحل بسطحية الحديث عن "عقيدة القوات المسلحة" بل فهم خطورة احتكار السلطة المركزية للعنف وحماية حقها في ارتكابه.
حتى لا يسارع البعض في التساهل بإتهامي بالمثالية "الباسيفيست" أو اللاعنفية المثالية. أنا هنا أتحدث عن نتيجة احتكار السلطة التنفيذية للعنف على الديمقراطية وعلى المدنية. وهذا حديث لا انفرد به وهو معضلة ظل يتناولها المفكرون منذ نشأة الدولة الحديثة.
ما الحل لهذا الخازوق المغروز فينا منذ نشأة جمهورية السودان ما بعد الاستعمار {لأنه كلمة استقلال صعبة شوية} . ما الحل لخازوق المنظومة الأمنية {جيش، مليشيات، استخبارات، شرطة، سجون} ؟ هذا الخازوق يبرر وجوده بمعادلة الاختيار ما بين السيادة أو "الأمن" ـ طبعا ناهيك انه يخربه في الأمن، حدودنا منتهكة وأراضينا منهوبة بحماية وضمان هذه المنظومة الأمنية.
الحل هو أن تنفطم الأجسام الناشئة نحو القاعدية في الانفطام عن شطر الدولة المركزية ومؤسساتها والديمقراطية التمثيلية. فكل حركات العدالة الإجتماعية في طريقها للإنفطام عنها بأشكال مختلفة، فالحقيقة أن نموذج الدولة الرأسمالية الحديثها ونظام ديمقراطيتها المركزية الرأسمالية في تأزم حقيقي ومتفاقم كل يوم، بعوامل خارجية وداخلية مختلطة: كأزمة المناخ وشح الموارد، كتكالب النفوذ المالي على السلطة السياسية واختطافه لمؤسسات الدولة ببرلماناتها وقضائها ومؤسساتها الامنية
الحل هو تأسيس سيادة واستقلالية قائمة على السلطة الشعبية المباشرة. عبر شبكات السلطة المحلية {مجالس السكن، مجالس العمل: التعاونيات ونقابات المنشأة والنقابات المهنية ونقابات القطاعات، لجان المقاومة ، الأجسام القاعدية }
ثم عبرها يتم إعادة تعريف الأمن. أمن ماذا؟ وعبرها يتم إعادة تعريف : الحدود، صراع الموارد، الصراع الإقليمي، وصراع الأجندات الدولية. وعبرها سيتم خلق مؤسسات أمنية حقيقة لا تقايض على السيادة تحت دعوى الأمن.
برضو ما الحل: الحل ان ننشغل بتأسيس بنائنا القاعدي، وتحقيق السيادة عبر سياسة مخاطبة قضايا المعيشة الآنية وايجاد الحلول لها وبناء المؤسسات والأجسام القادرة على تلبية احتياجاتها. فحل قضايا المعيشة اليومية هو بناء السيادة والاستقلالية.
والحل نزع الإنتهاء من اسطورة و خرافة واكذوبة أن السلطة الأمنية هي مؤسسة حماية او أمن بأي شكل من الأشكال والنظر إليها في صورتها الحقيقية: مؤسسات تبعية استعمارية، وخادم لمصالح النخب، و اداة قمعية في يد اي سلطة. وعند تبدي هذه الصورة تتضح آليات التعامل معها: المقاطعة، والإحلال.
وما مشكلة، كلامنا مستمر . لكن المؤكد . ان الصفقة السياسية ستحقق مظهر منكمشا من المدنية ينحصر في محيط صينية اوزون وحرم السفارات الأجنبية.