Saturday 27 August 2016

عزيزي المانجلك

عزيزي المانجلك

"أيها المنكسر! اعفنا من نضالك!"
هذه الجملة المزمجرة الغاضبة التي قرأتها قبل فترة لأحد الناشطين على الفيسبوك أثارت فيّ لواعجا وشجونا ، وعادت بي قرابة الخمس عشرة سنة إلى الوراء. أيام الجامعة.

المانجلك! الإهداء لمجموعة من الشخصيات دمجتها في شخص واحد، أنا مدينة لهم بكثير من اللطف، والعناية التي أولوني إياها فنجوت من شطط السماجة والهتافية (أو هكذا أظن). أين هم الآن؟ بعضهم قضى نحبه منهمكا في اليومي والعاجل، بعضهم ينتظر في صمت العجز والحيرة وما بدل تبديلا.

كانت التراتيبية االبشرية كالاتي في ألفينيات الجامعة : في أعلى القائمة الطلاب المنتظمون في أحد أحزاب أو حركات التجمع، ثم التنظيمات غير الإسلامية خارج التجمع، ثم الطلاب المتعاطفون ذوو القلوب الحارة من غير المنتظمين فالطلاب المنتمون لجماعات اسلامية مزاجية التحالف (احيانا مع ، احيانا ضد) ثم الطلاب الفلوتر الذين جاءوا للدراسة وكفى الله المؤمنين القتال، ثم الكيزان (قبل انشقاقهم إلى شقين) وهؤلاء كانت تفرض عليهم قطيعة اجتماعية في وقت ما، واخيرا في أسفل السلم كان ما يعرف بالمنكسر.

والمنكسر هو طالب منتمي لتنظيم معارض وعند اعتقاله وتحت وطأة التعذيب أو الإرهاب أو الإبتزاز يشي بأسماء زملاء أو مواعيد اجتماع أو مكان الأرشيف والمناشير أو أي من ما يخص حركة النضال الطلابي. وهؤلاء يتم اعتزالهم كما يعتزل الأجرب، لأسباب مبدئية ولأسباب تأمينية على حد السواء. يقول "ذاك فلان، فلان انكسر" وترتسم على وجهه امتعاضة قرف يضن بها حتى على الكوز أو الأمنجي. وبما إني كنت حديثة العهد في العمل الطلابي، كنت أتماشى مع الأمر كأحد المسلمات رغم أن القلب والفكر ظلا يقزعان في حيرة وفي توجس من هذه العزلة العجيبة.

"أيها المنكسر! اعفنا من نضالك"
علمتني التجربة أن لا أغري القدر بمثل هذه الجمل. فإن كانت هناك هواية أكيدة للقدر، فهي ايقاع المرء في النقائض عندما يغريه صفاء الحياة لوهلة أن يصرح بالمطلق. لذا أجدني أنفر كثيرا من التطهيريين للحرج الذي لا بد أن يواجهوه عندما ينتقلون إلى الطرف الآخر من الأصبع المشهور أبدا نحو الخطيئة. تجدني أميل أكثر للتصوف الذي يسأل السلامة من التجريب، والنجاة من المكر.

كيف التقينا أنا والمانجلك؟ الإجابة عندي معروفة، المنة. وربك منّان -لأنني بظن الكثيرين لم أكن مادة خام مناسبة لهذه البيئة-بيئة العمل العام-، ولا ألوم من ظن ذلك، فقد انتقلت رأسا من صالونات الديسكو وصالات الآيسكريم التي كانت قد بدأت في الظهور لتضفي طراوة على كلاحة الخرطوم في بداية الألفينات، إلى نجائل أركان النقاش وخيران السياسة.
حارت اللجنة التنظيمية في أمري خاصة وأنني كنت من النوع الذي لا يرضى بمجرد اضافة إسمه إلى قائمة العضوية، وابديت حماسة مزعجة تطلب المزيد- وهم لم يكونوا فاضيين ، فأحالوني إلى المانجلك وقالوا : إذهبي إلى الخور الفاصل بين كليتي الإقتصاد والمعمار، عند ست الشاي  فإن بها مانجلكا لا يظلم عنده أحد.

الخور الفاصل ، يجمع الملفوظون من كافة مناحي الحياة الطلابية، الخريجون، اليائسون، طلاب الدراسات العليا، المشوكشون، الذين برغم أني وضعتهم هنا في صفة جامعة.. لا تجمعهم صفة.
كان المانجلك مستلقيا على ظهرة تحت شجرة يرقب صقورا محلقة في الفضاء، عاقدا يديه على صدره. اقترب منه دليلي التنظيمي وهمس في اذنه، سرعان ما انتبه واعتدل المانجلك في جلسته معتذرا وحياني.

عجيب المانجلك وكل أمره عجب. خرج عن حياة السياسة والعمل المنظم. لكنه بغير عادة الخارجين لم يركن إلى التهكم المرير على التنظيم السابق أو المنتظمين. سألته  مرة:
"وكأن الأمر كله أصبح لا يعنيك؟"
رد بشيء من الحرج -وهي عادة تبدو ملازمة له " تجربتي في العمل العام اكتملت.. اكتملت بالفشل بالطبع،  هذه سعتي ولا أرى ما يمكنني تقديمه. في مثل هذه الحالات يكون بقاء المرء مضرا. فعندما لا يكون بمقدورك أن تفعل شيئا فإن أفضل ما يمكنك هو : أن لا تفعل شيئا"

كما كتبة النبي، تعلقت بكلماته وحفظتها. لعلها سلطة صوته، كان له صوت وكأنه خارج من عمق بئر، لم يكن عاليا لكن له أثرا مدويا، تخرج الكلمات بحذر كما الدلو الصاعد من البئر،بكثير من الحرص والوزن. وفي العادة يفتح فمه ثم  سرعان ما يغير رأيه ويغلقه.

لم يكن الأمر كما تخيلته، لا محاضرات ولا كتب ولا اختبارات. تركني على سجيتي، كان يستمع الي أكثر مما يتحدث، يتركني بآراء المنتظم الجديد وقوامها:١- قراءة متصربعة٢- اقتباسات منزوعة من سياقها ٣-افكار فطيرة لم تنضجها الخبرة و ٤- عاطفة هوجاء. أدرك هذا الآن بعد دراية لا بأس بها، وأشكر له أنه تغاضى عن كثير من حماقاتي، اتذكر ذلك الآن فأخبط رأسي بيدي وكأني أحاول أن اطرق الإحراج من ذاكرتي. إذا رأيتموني أفعل ذلك ، فأعلموا أنني أذكر المانجلك.

رآني مقبلة وقبل أن استوي في جلستي يقول: "اليوم سنخرج"
فألحق بخطواته السريعة "إلى أين؟"
يلتفت في حماسة نادرة "إلى السينما"
نخرج من الفيلم الهندي وأصطنع سخرية تماشي سخريته التي أعرف "يا للسخف"
يسألني بشيء من الجزع "لم يعجبك الفلم؟"
"بدا لي ساذجا"
كان بطل الفيلم ضحية خيانة والده الذي وشى بأصحابه، فأزدراه الجميع لكنه عاد وانتقم بعد أن نفخ عضلاته.
"عندما واجه الأصحاب والد البطل الذي وشى بهم، قبل أن يقفز منتحرا،رمق ولده بنظرة اعرفها، نظرة اعتذار، فقد عرف أنه سيحمله  ثمن خطأ لم يرتكبه"

ليس هناك "بايظ" عند المانجلك، فهو ينشد الحكمة  في الأفلام الهندية، في البرامج الحوارية المضحكة، من جلسات البسطاء، من الكتب الصفراء.

في ذلك اليوم اسرعت الخطى بحماسة، هناك محاضرة ملتهبة في القاعة د.فلان ذو اللسان اللاذع عاد لتوه من الخارج، يناظر الحرس القديم. من في الحرس القديم؟ كلهم! لم ينجو أحد.
"أرح، الناس كلها فايرة"
ذهب معي متحمسا، لم يكن هناك مقعد خالي وقد احتشد الناس في الممرات، بالكاد تبصر د. فلان يشمر جلبابه ويسوم الجميع بسياط النقد والذاكرة (الذاكرة عدوة العمل العام، يفضل في العادة أن تكون نسايا) . جلس "أعمامك" في حرج، يلوذون بمناديلهم، يمسحون العرق عن رقابهم وعن نظاراتهم، بعضهم وجم، بعضهم طأطأ الرأس. وسط موجات الضحك والسخرية التي أثارها فينا الدكتور. التفت إلى المانجلك لأرى آثار كل ذلك، كان قد اعتدل من اتكاءته الكسولة على الحائط وكست وجهه تقطيبة، قال دون أن ينظر إلي "يمكنك أن تبقي هنا، أنا ذاهب"
بالطبع تبعته، لم أفهم سبب الكدر. بالكاد استطعت أن ألحق به وأستوقفه. أجاب قبل أن أسأله
"أكره حفلات الشواء" سكت ثم سرعان ما عدل عن رأيه وعلى غير العادة تدافع الكلام من فمه " نعم فعلوا وفعلوا. لكن ما الذي يريده من هذا التهريج؟  هذا الجلد العلني  يفتقر للـ للـ... نبل! أن تترك لخصمك ورقة توت، لا أن تجرده أمام الجميع لا لسبب سوى أن تسمع هتافات التهريج هذه"
ثم التفت ونظر في عيني يحدثني ولا يحدثني " بوسعي أن أدخل الآن! الآن واواجهه بمثل ما يواجه به هؤلاء، ليس وحده بذاكرة من حديد. أنا أذكر له الكثير أيضا" ثم امسكني من كتفي " لا نحاكم التاريخ، نحن لا نحاكم التاريخ ابدا، نفككه ونعيد بناءه ليخاطب الحاضر.  والأفدح هو أن تحاكم التاريخ من أجل مكاسب في الحاضر رخيصة. همف! يريد أن يقول للجميع : أنا هنا! أنا لا زلت ذلك الفتى الألمعي الذي توقع له الجميع الكثير، أنا ذلك الشاب المشاغب الذي أرق مضاجعهم فيما مضى... لكنه في الحقيقة ترك البلاد منذ إعلان البيان الأول. واحتمى بغربة كثيفة حجبته عن كل ما يجري هنا. نعم هؤلاء الكهول مضحكون ، مثيرون للشفقة، طغاة قد اصطليت من نارهم كثيرا. لكنهم بعكسك يا دكتور، كانوا هنا!"

كل شيء يذكرني بالمانجلك، وصيته العجيبة وأنا أرد على والدتي متذمرة من إلحاحها أن أعود للبيت  "عندي إجتماع!" قلبت عيناي، وهززت كتفي معتذرة "ناس بيتنا، يريدونني من البيت للجامعة والجامعة للبيت، كأن لا شيء يحدث حولنا"
"هذه والدتك التي كانت تكلمك؟ عودي إلى البيت الآن"
"لكن الاجتمـ.."
دفعني من ظهري "عودي الآن ،لن يكون هذا آخر اجتماع، ولن يخرج بقرارات مصيرية، واذكري أسمرا" ابتسم ساخرا ثم أضاف بجدية " سمعتي ما قلت؟ في كل مرة تخيرين فيها بين ناس بيتكم والسياسة، اختاري ناس بيتكم"
على غير رغبتي فعلت ذلك بالحرف، وتعرفون ما الذي فات علي في العمل العام؟ لا شيء

أذكر جلستنا الأولى
طلب لي شايا "حسن، ما الذي تودي أن تعرفيه؟" بالطبع كل شيء! مر من أمامي أحد المنبوذين.
"تعرف هذا الشاب؟"
زفر المانجلك وهز رأسه
"أعرفه"
"منكسر"
نظر الي طويلا ، سحب نفسا من سيجارته وطيف ابتسامة يحلق حول شفتيه. يسخر مني لا ريب!
"ما رأيك في ما يقولون.. عن المنكسر"
أرقب الدلو يخرج بطيئا من قاع البئر
"كانوا في الحزب قديما يحذروننا من الإنكسار لأن دائرة الإنكسار لا تنتهي. إذا انكسرت بمعلومة زادوا جرعة التعذيب ليحصلوا على معلومتين وثلاث و اربع"
ننشغل بونسة أخرى ثم يعود
"في امريكا اللاتينية كانوا يخبرون الثوار أن يصمدوا لمدة ثلاثة أيام فقط بعدها بوسعهم أن يدلوا بما يشاءوون، ثلاثة ايام فقط يعيدون فيها ترتيب أوضاعهم ويرحلون من أماكن اختبائهم حتى تصبح المعلومة بلا قيمة.. لكل امرء سعة، بعض الناس سعتهم صبر ساعة، أفنكلف نفسا فوق وسعها؟"

ما زلت أراسله من حين لآخر، لا يزال خارجا في ما يرى، فيما هللنا لما أسماه الناس تأثير الدومينو اثر ثورات الربيع العربي، كان يتذمر من حركة الثوار الأولى في سوريا  "سينتهي بها الأمر كرقعة تنازع بين قوى اقليمية" واستشهد بمشهد من مسلسل سوري قديم. لكن كل ذلك لا يشغله، فقد اعتكف ببلدته التي أصبح فيها مانجلكا حقيقيا، صاحب مشورة ،يفصل في نزاعات الحواشات، وانتخابات لجان الأحياء، وبناء الجامع، والزيجات.

5 comments:

  1. من أجمل ما قرأت ونفسي الاقيه

    ReplyDelete
  2. يا سلااااااام .. كتابة رائعة .. جزلة ومريحة .. شكرا بنت النجومى .

    ReplyDelete
  3. ياسلاااااام بت النجومى يا رائعة .. لك كل الود .. وللناس البقية .منعم حمزة - النرويج

    ReplyDelete
  4. سرد جميل ومشوق. لك كل الود يا رائعه

    ReplyDelete