Thursday 23 July 2015

الفكاكة! (حالة سودانية)

تحدث البعض قبل فترة اثر  واقعة اختطاف الأستاذة ساندرا كدودة عن "مزية الشك" أو كما تترجم باللغة الإنجليزية : The benefit of the doubt
والتي تعني ان لكل قصة طرفان، وان نمنح الطرف الآخر ايضا احتمال أن تكون روايته صادقة - الطرف الآخر هنا هو جهاز الأمن "الوطني".
ولكن لماذا نفعل ذلك؟ الا يعتبر هذا "بزارا" كأهون وصف له؟ لماذا تمنح تصديقك لمن لا يريده؟
لقد سن جهاز الأمن الوطني لنفسه قانونا مخصوص يغنيه عن مثل بزارك هذا أخي المواطن، أختي مواطنة.  قانون يجعله يعمل دون رقابة- ثم بعد  أن يعمل دون مراقبة- أن يخرج دون محاسبة.   اي انه جهاز يعمل تحت قانون الشبهة والإشتباه. بل العكس: إن من انصافك ان كنت تريد انصافا أن تشك فيه- هو عاوز كدا

إذا اراد جهاز الأمن مثل هذا التعاطف الفائض (وهو لا يريد) اذا كان لا يريد ان يتبلّى الناس عليه (وهذا الموضوع حقيقة لا يشغل باله)  لجعل جهة "رقابية" تشرف على اوامر الضبط والإعتقال- كالسلطة القضائية أو لتقاسمها مع سلطة أخرى تعمل ضمن الإطار العدلي ألا وهو "مكتب النائب العام" . ايا كان، تقوم هذه الجهة الثانية بتقييم طلب جهاز الأمن والمصادقة عليه.

لكن الواقع أن امر الضبط والتفتيش والإعتقال يخرج من جهاز الأمن ذات نفسو، يعني زيتنا في دقيقنا. ورقة ممضاة من مدير جهاز الأمن يثبتها متى شاء وينفيها متى شاء

إذا كان جهاز الأمن يتحسس حقيقة لسمعته (وهو لا يتحسس) لجعل بابه مشرعا للمحاسبة، لكنه منح عضويته (واشباه عضويته-نعم له اشباه عضوية) حصانة من ملاحقتهم قانونيا، واستعاض عن ذلك بمحكمة جهاز الأمن حيث المحكامات سرية.   المرات الوحيدة التي يمثل فيها جهاز الأمن امام جهاز القضاء هو حين يجر خصومه لاتهامهم بتهم لم تثبت ولا واحدة  حتى يومنا هذا أو لرد تهمة "اساءة السمعة"- شي عجيب! يعني يتَتَملك ويتمسح بالشبهة وكل ما يريب ثم يزعل إن شاور أحدهم نحوه. علماء السلطان ما وروهم حديث درء الشبهات؟


لو كان حريص على ان لا تمسه الألسنة (وهو يريد) لما وضع مادة تسمح لعضويته (وشبه العضوية) بارتكاب "جريمة" في المعتقلين -ايوة هو سماها كدا بالنص: جريمة- طالما ان ذلك تم بحسن نية. وهي مادة عجيبة لا احتاج لتفصيل فداحتها.



لديك جهاز مريب ومشبوه بالطبيعة وبالفطرة، سيبك من كل الكلام بتاع السوابق بتاعتو ، أنا هنا لا اتحدث عن افعاله بل عن طبيعته وتكوينه بحسب قانونه (اذا صح ان نسميه ذلك)


لديك جهاز امن دون رقابة ودون محاسبة يمكن لعضويته (او اشباه عضويته-والذين يسميهم القانون متعاونون)  أن يشيلوك من بيتكم ويحبسوك لحدي اربعة شهور. يفعلون بك ما شاءوا دون حسيب أو رقيب سوى حسن النيه ثم ان فتحت خشمك تتهم بإساءة السمعة. مفروض القاضي لما يمثل قدامو الجهاز يقول ليهو يا ابني سوء سمعتك دي ما تهمة دا مجرد وصف ليك وسرد حقائق. يعني زي يقولو ليك الزرافة رقبتها طويلة، موية البحر مالحة، جهاز الأمن سيء السمعة، علم السودان فيهو اربعة الوان. وهكذا- بل اقترح ان يتخذه جهاز الأمن لقبا فيقول : انا ضابط في جهاز الأمن أو ممكن تناديني بأبو سمعة سيئة


لكن دعوني أتحدث عن الفكاكة- ورغم أن الصفة تأتي من شمال الوادي- إلا انها تنطبق على حالة متفشية بيننا والتي تعني التحاذق لا لشيء سوى ان توصف بالحذاقة. اذ بعد "اعتذار" ساندرا خرج بعض منا يقرعون المتضامنين مع ساندرا على استمرارهم في وقوفهم معها،الذين رأوا شيئا وراء "اعتذارها" .  المتضامنون الذين استخدموا الوقائع لتحليل الإعتذار.  فمنحوا ساندرا مزية الشك . بينما الفكيك فقز إلى النتيجة "الإعتذار" وتجاهل كل الوقائع التي تبيح تماما للمتضامن مزية الشك.


لا بأس، أن يشك الفكيك ما شاء الله له من ما حدث لساندرا، لكن أن تنكر على الناس شكهم بما هو أهل لشكهم ، هذا كثير والله. بل هذا ما أسماه الشاعر محمود درويش ب: غطرسة الوضيع حين قال



أن نكون ودودين مع من يكرهوننا وقساة مع من يحبوننا
تلك هي دونية المتعالي
وغطرسة الوضيع


للفكاكة أسبابها، فكما النظرية الفيزيائية الأشهر، لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الإتجاه

تأتي الفكاكة كردة فعل للهتافية الجوفاء التي زحمت فضاءنا العام، والذي يُوازَى فيه النضال(مثلا) بالفضيلة ، أي أن مجرد توصيفك بالمناضل تعني أنك ممسك بأطراف الفضيلة وترفع المساءلة عن ما تفعل وتقول. وازاء هذا التعصب يأتي الفكيك ألا وهو المتخلي والمتحلل من كل شيء.
والفكيك يركن إلى حذاقته (أو ما يسميه هو عقله) دون أي شيء اخر (لا ضمير ولا مبدأ  ولا موقف ولا حتى وجهة نظر يمكن أن تؤاخذه بها) فليس للفكيك طرف يمكنك أن تمسك به، ود موية
يذكرني حاله بمقتطف في رواية "اناقة القنفذ" للماريال باربري تقول
 " كثير من الأذكياء يعانون من جرثومة، حيث يظنون أن الذكاء غاية في ذاتها. وتسيطر عليهم فكرة واحدة: أن يكونوا أذكياء- وهو أمر في غاية الغباء. إذ أننا نجد أن الذكاء حين يتخذ نفسه كغاية، فإنه يعمل بشكل غريب: فإن الدليل على وجوده لا يكون في فرادته أو بيانه، بل في اللبس الذي يعبر به عن ذاته"
وحقيقة أن كثير من الفكيكين أذكياء بالغباوة الموصوفة أعلاه (بعضهم وقعوا من قعر القفة فهم أغبياء ساي) 
ومن دلالات الفكيك على مواقع التواصل الإجتماعي أنه يفك جملة مبتسرة في الإسفير ويترك لك خيارات تأويلها، ما راق له من التأويلات أدخلها في عبه وما لم يرق له يرده عنه أيضا بعبارة مبتسرة من شاكلة : ليس ذلك ما أعني

والفكيك أيضا في مخيلتي يجلس أمام الجهاز يلوك قصب سكر وحوله من تفاف القصب أكواب، ثم يخطر في باله فلانا (فلانا شخص فكّر وجوّد وعمل على نشر فكره أو عمله فسعى له- وإن اختلفنا مع فكره أو عمله) فيخلف كراعا ويقول:

فلان داك ببالغ ياخ أو فلان داك سطحي أو فلان داك عامل فيها مفكر وهو قاعد ساي أو دي شنو الخرمجة العاملها فلان (أو ما شابه من عبارات التقليل) 
 طبعا حق النقد مكفول للجميع، لكن كيف تميز الناقد الحصيف من الفكيك. بأن تحاول مناقشة هذا الرأي ، مثلا فلان بالغ في شنو؟ أو ليه شفت فلان سطحي؟ إما أن يسقط الفكيك في يده، أو أنه بمنتهى الفكاكة يرمي عبء البرهان عليك فيقول: خليك مني الأنا شايفو سطحي إنت شايفو عميق ليه؟ (عزيزي المناقش لا تتعب روحك مع الفكيك، سيسل من كل برهان تلقيه أمامه كلمة مبهمة يفكها في الهواء مثل : (الكلام دا ما صحيح) أو (لا) أو (انت منحاز) أو (انت لا تستخدم منطق العقل)

والفكيك يعترض ساي، ويختلف ساي، وإن اتفق فيحرص على غز شوكة في عين من يتفق معه- ساي برضو. والفكيك يمرمط أم اللغة باللبس والإبهام ما يظنه "مكرا" وتحاذقا، ويصيبك بالدوار. ثم بالخبرة تخليه لله والزمن.



 بالنسبة لموضوع ساندرا ،يقيني أن قانون الأمن هذا لم يصمم من أجل المناضلين أو الناشطين في الشأن العام (مثل هؤلاء لا يحتاج النظام لقانون تصفية لهم) كما يقيني أن قانون النظام العام لم يصمم من أجل إذلال المرأة بشكل حصري (الحاجة دي جات فوق البيعة) لكنهما قانونان وضعا بشكل خاص كي يتحكم النظام في جموع المواطنين المحايدين حتى لا ينجروا عن حيادهم. لكن من منا بمنجى من قانون الأمن الوطني ٢٠١٠ أنا؟ أنت؟ ابنك؟ ابنتك التي لم تبلغ بعد سن الرشد؟ أمك؟ ابيك؟ فكر ثانية.
كما ذكرت في  مقالتي السابقة  حول توقعاتي لفترة البشير القادمة أن الجهاز سيتجه نحو المزيد من الضغط على الناشطين والمحتجين كما سيتبنى سياسة الإغتيالات المفتوحة بشكل أوسع تحديدا مع طلاب دارفور .

قانون الأمن الوطني وكذلك قانون النظام العام (أو قانون ضبط الأخلاق العامة) ليسا قانونين فريدين ابتدعهما نظام الإنقاذ، بل هما قانونان يخرجان من "دليل الأنظمة الديكتاتورية للتحكم في شعوبها" ، تماما. 

سبق أن ذكرت قبل زمان بعيد أن ليس في وسع نظام الإنقاذ -والذي هو شبيه بالإنظمة الملكية في القرون الوسطى- أن يوزع ثروات واقطاعيات ليغري بها اتباعه وليشتري ولاءهم. لكن بوسعه أن يمنحهم نفوذا و صلاحيات. وجهاز الأمن الوطني وأفراده ما هم إلا كذلك- أداة في يد "أهل الولاء" للنظام. وأهل الولاء ديل يبدأون من أعلى السلسلة ويصلون حتى ادناها لأن يكون سيد دكان له نفوذ في الحلة أو غفير في مستشفى من أهل المحاباة. (أنا لست أحكي أمورا لا معقولة كلنا نعرف هذه الحاجات تماما واختبرناها) 

أما عن دواء الفكيك؟ الفكيك لا دواء له، وتكاثره لا نجاع له، كل ما يمكن أن اوصي به أن تعيذ نفسك من الفكاكة، أن تقرأ وتجود القراءة، لا تقرأ لتترصد (هذه احدى سمات الفكيك يقرأ ليترصد ويتربص) اقرأ لتتعرف، الإختلاف والإتفاق لا يصطنعان اصطناعا بل هما أمران يأتيان من مجرى ما تقرأ وتطالع وتعاين وتسمع، فأترك نفسك على سجيتها. وأوصي أن حين تعمل رأيا تجوده، أن تشرك في قولك أوعملك قلبك وضميرك، أن تجعل لنفسك موقفا من الأشياء (تصلحها هنا وهناك لا بأس) . ثم أسألوا الله العافية لكم ولأحبابكم وذريتكم من بعد.