Wednesday 30 April 2014

سلمية جد؟ جد سلمية. مسألة مبدأ

قلت ان الحركات والتنظيمات السياسية في السودان ليس حركات سلمية. هي تنظيمات غير مسلحة. واستند في ذلك على انها تعتمد النضال السلمي اما كتكتيك او كاستراتيجية. وهنا في رأيي موطن الخلل. فالنضال السلمي لا بد ان يرتكز على مبدأ - "كلمة مبدأ هنا تبدو في غاية الرومانسية لكنها سأوضح انها على النقيض من ذلك تماما


النضال السلمي كخيار تكتيكي: والمعني بذلك هو ان التنظيم ليس لديه الكادر او السلاح للقيام بعمل مسلح او انه التنظيم غير قادر على تحمل تبعات العمل المسلح ، اي انه يفتقر لرؤية شاملة للعمل المسلح تجعله يستطيع ان يجني ثماره ويحقق من خلاله الغاية (او ان تمدد جناح عسكري للتنظيم قد يؤثر سلبا على تركيبته) فعندها يعلن التنظيم التحول للعمل السلمي

والمشكلة في ذلك هو ان السلطة في الغالب تقوم بترجمة ذلك التحول ترجمة صحيحة ان التنظيم يعاني اما من شرخ سياسي او انه يفتقر للقوة المسلحة. عندها تضرب السلطة التنظيم بكل قوة وبكل شراسة. 

النضال السلمي كخيار استراتيجي: هو ان يرى التنظيم ان انسب وسيلة للنضال في مرحلة ما هو النضال السلمي. كأن يرى التنظيم ان الفرصة الان مواتية لتصعيد العمل السلمي وهناك "هامش للحريات" او ان تصعيد العمل المسلح سيؤهل البلاد للتمزق وتمدد الحرب لكل أنحاء البلاد وما الى ذلك. فيقرر انه خيار النضال السلمي في هذه المرحلة هو المرجح على خيار العمل المسلح

 والمشكلة في ذلك هو ان كلفة النضال السلمي  عالية جدا، والتحديات التي تجابهه كثيرة ومريرة واحباطاته واخفاقاته الظاهرية متكررة. مما يؤثر على تماسك الكادر التنظيمي امام جدوى النضال السلمي وسرعان ما ينجرف نحو العمل المسلح -ان وجد- او ان تتفكك البنية الداخلية للتنظيم باختلاف الرؤي ما بين القيادة التي تخطط والكادر الذي ينفذ. والنضال السلمي يعتمد اعتمادا كليا على تماسك عضوية التنظيم وعناده - برضو عناد هنا شكلها كلمة رومانسية لكنها في الحقيقة وسيلة نضال كما سنوضح

أظن ان التنظيمات الوحيدة التي تستطيع ان تتجول بحرية ما بين خيار العمل السلمي والمسلح هي التنظيمات العقائدية، حيث يكون الانتماء والرابطة التنظيمية في اساسها رابطة "عنيفة" بحيث انها حتى حين تعتمد خيار العمل السلمي فإنها تعكف عليه بشكل محموم وكتائبي. ولعل المثال الابلغ هنا هو تنظيم الاخوان المسلمين في مصر.، حيث ان عضويته ظلت متماسكة في كل التحولات المرحلية للتنظيم عند اعتماد خيار العمل المسلح او التصعيد السياسي عبر العمل النقابي او 
الحملات الانتخابية او التمدد عبر العمل الاهلي والطوعي او التظاهر السلمي- وحيث الى حد ما يرى ان "الغاية" تبرر 
الوسيلة. فالغاية ينظر اليها بعاطفة "جياشة" و"مجيشة

احب ان اضيف هذه الفقرة : القول بأن النضال السلمي هو نضال صفوي او انه نضال من لا يطأ الحارة فيه كثير من التضليل. فليس هناك اكثر صفوية من النزاع المسلح اذ انه يدور في صفوة مختارة (التي تمتلك السلاح والقدرة على استعماله) مقصية بذلك فئات كثيرة من المجتمع، ثم انها تصطفي زمن النضال (مواجهة مع الطرف المسلح، الكماين) على النقيض من العمل السلمي الذي هو متاح للكل وفي كل وقت- انتهت الفقرة- نعود للمقال

يعني هل الفارق كله اذا في اعتماد النضال السلمي كمبدأ؟ بس؟ 

في رأيي- نعم

كل الحركات السلمية التاريخية اعتمدت "مبدأ" للنضال السلمي، اعني بذلك مثلا الارتكاز الى مفهوم روحي او الى رؤية انسانية سامية. يبدو ظاهريا انه تصريح في غاية الرومانسية، لذا تجدني دائما ما يلتبس علي الامر . هل المهاتما غاندي قديس ام انه رجل حذق ومخطط سياسي بارع؟ 

الا انه هذا من ذاك. المبدأ الذي تعتمده لبناء حركة نضال السلمي هي التي تملي عليك تكتيك واستراتيجية العمل السياسي والحقوقي وهي التي تضمن لك نجاحه

مثلا عند المهاتما غاندي كان المبدأ المرتكز عليه هو مبدأ روحاني يرى ان الانسان في اصله محض خير، وانه له قدرة على ارتكاب الشر فقط عندما يتذرعه بذريعة. لكن ما ان تسقط تلك الذرائع واحد تلو الاخرى ويتبدى الشر عاريا من كل ذريعة حتى ينهار بانحياز الانسان الى الخير. مثلا- عند غاندي- والي ولاية الخرطوم الخضر لا يرى انه يسمح بتمدد الفساد وتفشيه في مكتبه لانه هو ذات نفسه رجل فاسد سيبتدع حيلة "التحلل" لذر الرماد على العيون. ويعيش سعيدا مع زمرة فساده. عند غاندي لا يستطيع المرء الشرير ان يعيش بصورة شريرة عن نفسه لذا يقوم بتجميلها ليختبئ من حقيقة فعله الكريه. فيقول الخضر ((انا سأسمح بتفشي الفساد واستغلال النفوذ والمنصب في مكتبي للحفاظ على تماسك التنظيم في السلطة، في الوقت الحالي لا يسعنا ان نقوم بحملة تطهير ونحن بحاجة الى وجود كوادر لها ولاء للمؤتمر والا لتساقط النظام وعمت الفوضى في البلاد، صحيح ان الوضع سيء لكن غيابنا سيكون اسوأ، ثم المشكلة الاساسية تكمن في انه تم اختلاس اموال من الخزينة وها هم المختلسون سيرجعون جزء منها وهو بالتأكيد افضل من عدم ارجاعها. اضف الى ذلك سأعوض الشعب بأن انوي ببناء ثماني مدارس ثانوية في امبدة ومراكز صحية في الثورة)) بهذا السيناريو الداخلي يستطيع الخضر ان يخلد الى النوم وان يستيقظ الصباح ويتسوك ويصلي ويفطر ويسلم على زوجه ويرتدي ثيابه ويتجه الى عمله من جديد
فالذي تفعله حركة غاندي هو العمل على تفكيك هذا السيناريو الداخلي ونزع الذرائع واحدة تلو الاخرى حتى لا يكون امام الخضر مناصا او ملاذا يختبئ خلفه سوى ان يشير الى ذاته العارية قائلا : انا فاسد

لذا كانت ابرز تكتيكات العمل لدى حركة المهاتما هو التوثيق وجمع الحقائق. التوثيق الدقيق لكل شاردة وواردة. لمن شاهدوا فلم غاندي يدركون ان هذا التكتيك تحديدا كان له اثر بالغ فيما يعرف باحداث "تشامبران" حين فرضت الحكومة البريطانية الاتاوة على المزارعين الفقراء بعد ان منعتهم من زراعة المحاصيل الغذائية. في نهاية هذه اللقطة ينضم الى غاندي شبان ومحامون من المدينة يسألونه عن ما يمكن ان يقدموه فأجابهم ان يوثقوا لكل ما يحدث بشكل صادق ودقيق. وهذا ما جرى على مدى شهرين. كانت التقارير التي ترد من الاقليم الهندي تخجل الامبراطورية البريطانية. وهناك امر هام في هذه الحادثة رفض غاندي رفضا تاما ان يتم قرن مطالب مزارعي الاقليم بالغاء الضريبة بمطالب الجلاء او الحرية. ليه؟
لو كان فعل ذلك كان الظلم تخفى تحت الذريعة التي يريدها : حفظ امن الامبراطورية


في القروب الذي تم انشاؤه حديثا على الفيسبوك (يا زول استقيل)- انشأه الاستاذ حسين ملاسي- لاحظت الكثير من التعليقات التي تقول : هي بقت على الخضر؟ الحكاية دي علاجها ذهاب النظام كله؟ وما الى ذلك...لالا
 ارى ان يوضع الامر هكذا. والي غير قادر على ادارة الفساد في مكتبه فكيف به في ولاية؟ وان يتم التركيز على هذه النقطة. علينا ان لا ننشغل بالكلام عن "التحليل" وما الى ذلك. الامر ببساطة اختلاس مبالغ ضخمة واستغلال نفوذ في مكتب الوالي (مكتبه مش ولايته) رجل لا يستطيع ضبط مكتبه بالضرورة لا يستطيع ضبط ولاية . وهكذا يتم التركيز على عجز الرجل حتى لا يجد النظام مناصا ان يقول هو عاجز


نعود الى المقال
 هناك مبدأ اخر يرتكز عليه غاندي وهو ان "في المعاناة الخلاص" ليس المعاناة التي نعانيها كل يوم.. بل معاناة يختار المناضل ان يتكبدها من اجل قضيته- قد تبدو هذه عوارة- خاصة بالنسبة لي وانا لا احب المعاناة خالص!! لكن تكتيكيا واستراتيجيا يا له من مبدأعبقري على عدة نواحي. من ناحية ما يبدو ظاهريا كضعف هو قوة تماسك لعضويتك، بحيث تتحول كل ما درج تسميته على هزائم من "قمع و سجن وجلد ومصادرة ممتلكات وتعذيب ومحاكم كاذبة" الى انتصارات يعيشها المناضل. هذه القوة تمنع تساقط العضوية. والنضال السلمي يعتمد على الحراك الجماهيري (صحيح يجد الالهام في المبادرات الفردية) لكنه في اصله حراك جمعي ويلزمك ان تفكر دائما في الطريقة التي تلزم تماسك جماهيرك


عند مارتن لوثر كنق اتبع معظم ما سار عليه غاندي وزاد عليه مبدأ المحبة. فعند مارتن لوثر كنق الكراهية هي داء يستهلك صاحبه دون ان يضر خصمه.  اهمية هذا المبدأ على المستوى التكتيكي والاستراتيجي هو ان الفرق بين الهند وبين امريكا انك هنا لا تحارب في قوة استعمارية مفروضة على اصحاب الارض ولكنك تحارب في دولة تحظى مؤسساتها بتأييد شعبي من السكان البيض. فخدمت هذه الاستراتيجية في منع الانجراف نحو العنف الذي بدا في كثير من الاحيان مستحقا "للرد على الجرائم التي ارتكبت في حق السود" والاهم من ذلك منع الجدل حول حقوق السود من ان ينجرف نحو خطاب عاطفي من الطرفين يمنعهم من الجلوس سويا والتوصل الى نتائج

المحبة -كمبدأ واستراتيجية وتكتيك عمل -ميزتها انها طاقة نفس طويل بعكس الكراهية التي هي طاقة نفس قصير . توظيف خطاب عنصري مضاد وكراهية سرعان ما سيذوي (وقد كان يحدث ذلك عبر فترات من تاريخ نضال الزنوج) لأنه يقرع ابواب صماء ولانه سرعان ما يقمع بالة عنف عمياء. وسرعان ما ستستهلك كادرك في نضال قصير الامد. لكن المحبة -لا اعني بالضرورة الحقيقية- لكن خطاب المحبة-يعطي للمناضل قوة "الصواب" مما يجعل الاستمرار ممكنا

ليس ضروريا ان يكون مبدأ روحانيا- يمكن ان يستند الى واقع نعيشه اليوم. حيث تتفشى سياسات "التخويف من الاخر" فتحرص كل دولة خائفة ان تقتني ما يكفيها من اسلحة الدمار الشامل. او كما يقول مارتن لوثر كنق : الخيار اليوم ليس بين اللاعنف او العنف...الخيار اصبح بين اللاعنف او الفناء

 ان اي حجة تطلقها للعنف في اي بقعة من بقاع الارض هي حجة عليك. فالعنف لا يفرق بين نصير له او عدو

من المبدأ تبدو الخطوات الاربع لأي حملة لاعنف معقولة - كلمة حملة لماذا؟ 
ما كان يميز حركات النضال السلمي هو انها لم تكن تعمل من اجل اهداف مجردة. لم تقم حملة من اجل العدالة او المساواة او السلم. قامت حملات من اجل التساوي في ركوب الباصات في مونتغومري، قامت مسيرة الى واشنطن من اجل المساواة في فرص التوظيف ومن اجل تمرير وثيقة الحقوق المدنية في الكونجرس، قامت مسيرة من اجل فك احتكار صناعة الملح في الهند. لماذا؟ لأن لديك كادر عليك ان تحفظ تماسكه. على الكادر ان يرى نتيجة وقوفه واعتصامه وسهره ملموسة امامه في شكل تمرير قانون او فك حظر ما  او رد فعل مباشر... فكيف تقول لكادر ها قد جنيت الحرية؟


الخطوات الاربعة هي : جمع الحقائق التوثيق لكل اوجه ومناحي الظلم واثباته بحيث لا يجد الظلم ذريعة يتخفى حوله 
ثم الخطوة الثانية هي التفاوض - وهذه التي نجد فيها عصلجة دوما.. والمقصود بالتفاوض الوصول الى ارضية عمل مشتركة مع السلطة لتحقيق بما فيها قبول الحد الادنى ( الكثيرون من المناضلون يعلقون صورة مانديلا-يهللون ماديبا ماديبا) سمح فلنقدر نكون زي ماديبا الذي "تفاوض" وقبل "الحد الأدنى" وبعضنا يأنف من التفاوض يقول لا تفاوض بل زوال السلطة كلها- مارتن لوثر كنق ابان حملته لانهاء التفرقة في قوانين السكن والايجار..ليس لدي مانع ان افاوض كل مؤجر في امريكا واحد واحد لانهاء التفرقة في السكن
ثم عند فشل التفاوض ما يسمى "بالتطهير الذاتي" اي الاستعداد للمعاناة النبيلة او المعاناة الخلاقة.. بمعنى الاستعداد الروحي والفعلي للفعل المباشر وهذا ما عرجنا عليه في المقال السابق- والاستعداد يمكن ان يكون عبر نشر الوعي حول ابعاد القضية المقصودة او تهيئة الكادر او الجماهير للخطوة الاخيرة والتي هي الفعل المباشر
ثم الخطوة الاخيرة الفعل المباشر والتي الهدف منها هي استفزاز رد فعل من السلطة..مش فعل مباشر والسلام. سواء كان ذلك اعتصاما او فك حظر ما او توزيع المناشير او المسيرات ...الخ

طب نحن هسي نجيب مبدأ من وين. في تاريخنا السوداني مثال ناصع نرتكز عليه هو ثورة اكتوبر والتي برع الاستاذ محمود محمد طه في تحليلها لاحقا واستلهامها كمبدأ للحركة السلمية، وعندي انا فإن الحركة الجمهورية ابان الاستاذ محمود محمد طه هي الحركة السلمية الوحيدة التي اعرفها (اعرفها انا) سأعرج على ذلك في المقال القادم ولن انسى ان اذكر لكل المشككين ومن بينها نفسي التي بين جنبي... ان اطرح تساؤل : ماذا عن تأييده لانقلاب مايو؟

Wednesday 16 April 2014

سلمية جد؟ جد سلمية ١- رسائل المرحاض

سلمية جد؟ جد سلمية
كل ما واجهت السلطة المواطنين العزل بالسلاح وبالعنف برز التساؤل في اوساط المثقفين والمتابعين للشأن العام حول جدوى النضال السلمي وترتفع دعاوي رفع السلاح والعنف المضاد. غير ان السؤال الذي يخطر الى ذهني حالما اسمع هذه الدعوات انو "أين النضال السلمي؟". فلا يعني النضال السلمي عدم حمل السلاح  او الصياح في وجه كومرات السلطة المدججة والصماء : سلمية! سلمية!
فالنضال السلمي ذلك الارث الانساني العظيم الذي خلفته لنا العديد من الحركات في ارجااء العالم ، فأضافت كل منها له او حوّرته بما يتناسب مع مطالبها او ظرفها التاريخي: هذا النضال له اصول وقواعد.
ينقسم هذا المقال الى ثلاثة أجزاء. الجزء الاول ليس سوى حكاية  لم استطع –ولعلني لا اريد- تجاوزها. واستميح لياقتكم في عنوانها:

1- 
  رسائل المرحاض


(هذا ما اصطلحت لجنة التنظيم لمسيرة واشنطن 1963 على تسمية الخطابات التي كان تترى على 
نائب رئيس اللجنة  المنظمة والدينامو المحرك لها: بايارد راستين.)

في كل عام يتم تخليد ذكرى المسيرة الحرية والعدالة في التوظيف سنويا في امريكا، التي سار فيها ربع مليون امريكي اسود من الولايات الجنوبيد الى العاصمة واشنطن. وجرت العادة في ذلك اليوم تخليد ذكرى المبجل مارتن لوثر كينق صاحب الخطاب الشهير الذي القي في تلك المسيرة، خطاب "انا لدي حلم" والذي لا يزال يرن عبر العصور وحتى يومنا هذا. وفي العام الماضي 2013 كرّم الرئيس اوباما المناضل الراحل "بايارد راستين" ضمن حملة اهتمام متنامية لمؤرخي حركة الحقوق المدنية في ابراز دور الجنود المجهولين في تنظيم تلك المسيرة المهيبة الى واشنطن، المسيرة الاكبر في تاريخ الولايات المتحدة حتى يومنا هذا. ومجرد التأمل في هذا الامر يفرض عليك ان تحترم هؤلاء الجنود 
المجهولين الذين نظموا مسيرة ضمت ما يزيد عن المائتان وخمسين الف امريكي .





"بايارد راستين" –والذي اخرج فيلم وثائقي عن حياته في العام الماضي يدعى "الاخ بايارد"- لطالما غمط حقه- في رأيي- من الاعتراف بدوره الهام في حركة نضال السود السلمية في امريكا ،  منذ بدايات عمله، حتى اثناء التنظيم للمسيرة حيث كان هناك اعتراض من اللجنة التنفيذية للمسيرة على تعيينه نائبا لتنظيم المسيرة، ولعل ذلك يعود لانه كان مثليا وكان ذلك مرفوضا في المجتمع الامريكي في ذلك الوقت، بالاضافة الى تاريخه اليساري، فقد كان عضوا منظما في تحالف الشباب الشيوعي. الا ان خبرته الطويلة في العمل التنظيمي وانخراطه في حركات النضال السلمي العالمي اكسبته مهارات كانت غائبة عن حركة الحقوق المدنية، فقد كان الرجل وراء كل الفعاليات الجماهيرية من مسيرات واضرابات ومقاطعات واعتصامات وهو الناصح الاول والاساسي لمارتن لوثر كنق ولولاه لظل الرجل حبيسا للخطب الرنانة والمجيشة للمشاعر لولا وجود بايارد الذي استطاع ان يحول القوة الناتجة من خطب كنق الى طاقة تنظيمية لا تزال تنال اعجاب المؤرخين والناشطين الحقوقيين.
وتقوم فلسفة النضال السلمي على ركيزة أساسية وهي جعل النضال السلمي في متناول يد الجماهير ، وتيسيره وبذله لجعله ممكنا، هذه هي الركيزة الاساسية، اذ ان حركة النضال الرافضة 
لاستخدام اي وسيلة للعنف لا بد لها ان تجعل الوقوف امام الة الدولة العنيفة الصماء ممكنة ومؤثرة. فلا يجمع على الجماهير التي لا بد ان التوجس يتملكها حين مواجهتها للعنف –لا يجمع عليها فوق 
ذلك المشقة والعنت، بل لعل هذا التيسير والتنظيم الدقيق له اثره في نبذ الخوف عن قلوب الجماهير. 
واصلو العنف لا ينبع الا من الخوف كما شرح الاستاذ محمود محمد طه في العديد من محاضراته.


بايارد راستن على يمين الصورة.. ومارتن لوثر كنق على اليسار


اذا لديك ربع مليون شخص سيسير الى واشنطن من الولايات الجنوبية من مدن الظلم والقهر والاستبداد الى مركز صناعة القرار السياسي، وسظ خوف وترهيب من وسائل الاعلام ومن صناع القرار البيض حول خطورة وجود قرابة الثلاثمائة الف شخص في مكان واحد دون ان يتحول هذا 
الحشد الى مجزرة.



فلسفة بايارد راسنين في التنظيم كانت في جعل المسيرة مريحة ومطمئنة قدر الامكان لكل مشارك فيها. بدءا من تحركهم من مدنهم في الجنوب حتى وصولهم واشنطن ومسيرهم الى نقظة التجمع امام تمثال لنكولن المهيب.  مناديب المسيرة في كل مكان عملوا على توفير سبل التنقل الى واشنطن والعودة منها ، عبر التفاوض مع شركات الباصات او القطارات، عبر اسستئجار مركبات خاصة بما توفر من اموال. اذا اردت ان تبقي المسيرة سلمية فلا ينبغي ان يكون لديك جمهورا قلقا حول سبل 
الرجوع والعودة.


خارطة المسيرة.. تلاحظون اعلى الورقة ملحوظة كتبت للمبجل  كنق تشير الى وفاة الكاتب الامريكي الافريقي دوبويز وتذكير بان يشاراليه في  الخطاب. دوبويز ايضا من مؤسسي حركة الحقوق المدنية (تم تكريمه بلحظة صمت حدادا على روحه في المسيرة


تدفق المعلومات وكان هذا امرا هاما لـ"بايارد" ، كان هناك برنامجا يبث على التلفاز القومي بارشادات حول المسيرة، اين؟ متى؟ كيف؟ والتحضير لها على مستوى فردي، ما الذي يجب ان تحضره معك ، كيف ستتصرف؟ من تسأل؟ عبر هذا البرنامج وعبر الاذاعات المحلية والنشرات الورقية كان الهدف الاساسي تمليك الجماهير كافة المعلومات اللارمة (الخوف ينبع ايضا من الجهالة). لجان استقبال ويافطات ارشادات نصبت في كل محطات الوصول. كل شهود العيان وصفوا توجسهم وقلقهم طوال ساعات سفرهم ومعظمهم يرى واشنطن لأول مرة في حياتهم، ثم زوال 
قلقهم فور رؤيتهم ارشادات التحرك الى المسيرة ولجان الاستقبال.
حسنا يا سيد "بايارد" قد وصلت الجماهير، لديك 300 الف شخص من كافة الولايات الجنوبية والشمالية. نسبة كبيرة من ميزانية المسيرة تم صرفها لاستئجار نوافير مياه شرب ، ومراحيض متحركة (تعرفون المثل: لا رأي لمحقون) . تقول المساعدة لبايارد ، السيدة راشيل هورويتز: كانت تصلنا رسائل من بعض السياسيين البيض تسأل، لديكم قرابة المائة الف متظاهر..اين سيتبولون؟ وكنا نضحك على تلك الرسائل، اسميناها خطابات المرحاض، الا ان بايارد كان يأخذ تلك المسائل بمنتهى الجدية.

تقول راشيل، في يوم دخل بايارد علينا قبل المسيرة بأيام- وكنا مشغولون بمهام تفوق طاقاتنا- قائلا: اريد نشرات توزع الى كافة مناديبنا في الولايات ان يحمل الناس معهم ساندويتشات زبدة الفول السوداني والمربى. صحنا : ولكن يا سيد بايارد. فصاح في عزم: هذا البند ليس للمناقشة!! تقول راشيل: كانت قد جاءتنا توصية من جمعية الصليب الاحمر تحذر من بعض المخاطر الصحية. كان هناك خوف ان يأتي بعض الناس او ان توزع ساندويتشات البيض والمايونيز او اللحوم فتفسد ، 
وقد كان الطقس لا يزال حارا في اغسطس.

فرق الطعام في المسيرة


انتشار حالات اعياء وسط الجماهير كانت ستسبب قلقا وسط الحشد. اما المبلغ الاكبر في الميرانية فتم صرفه على "الساوند". يقول بايارد: لم اكن اريد ان يكون هناك مائة الف شخص يقفون ولا يدرون ما الذي يجري حولهم، وما الفائدة من احضار الناس عبر الاف الاميال ولا يسمعوا ما يقال؟ وكيف بامكاني الحفاظ على النظام حينها؟ . بلغت تكلفة ايجار النظام الصوتي  16 الف دولار. يذكر احد المشاكرين في المسيرة: سمعت صوت ماهيليا جاكسون وهي تنشد : لقد سخروا مني ولكني ابقيت على ايماني ،يغمر واشنطن. اذا كان بوسعكم ان تستمعوا اليها عبر اليوتيوب انصحكم 
ان تفعلوا عبر الرابط
https://www.youtube.com/watch?v=TALcOreZi0A



كان هناك توجسا عظيما قبل المسيرة، كان هناك استعداد عسكري كامل من واشنطون، وتم استدعاء الحرس الاحتياطي، المستشفيات تم تجهيزها بزجاجات الدم استعدادا للمجزرة، تم تهيئة السجون لاستقبال حالات الاعتقال الجماعي التي ستحدث. بايارد المحنك والخبير بدروب العمل الجماهيري، يدرك تاريخ الاحتكاك الطويل بين الشرطة والسود، فدخل مع قوات شرطة واشنطن في مفاوضات طويلة ان لا تكون قوات الشرطة في المسيرة مسلحة، واستطاع ان يقنعهم "لن تكون هناك اي مشاكل، سيقوم مناديبنا بمنع اي شغب اثناء المسيرة، نحن سنتولى أمر المشاركين، انتم تولوا امر مثيري الشغب والمندسين من خارج المسيرة" بالفعل لم تسجل اي حادثة شغب وسط الجماهير، بل كثيرون 
يصفون هذه المسيرة انها كانت عبارد عن نزهة كبيرة.



احدى شبكات التلفزيون ارسلت مراسلها على طائرة هيليكوبتر لمراقبة تطورات الاحداث وتصوير المجزرة عن قرب، يستذكر المراسل ذلك الوم قائلا: لم يحدث شيء ، انتظرنا لساعات لكن كل شيء كان سلميا، لم اجد ما انقله، اخبرت قائد الهيليكوبتر ان يطير فوق منزلي لأتفقد سطح المنظل اذ كنت اقوم ببعض الاصلاحات عليه، ثم طلبت منه ان يعود اذ تأكد لي انه لن يحدث شيء"
منظر الشرطة المدججين بالسلاح كان كفيلا بأن يثير الرعب والقلق لدى المتجمعين، وكان كل عمل بايارد يهدف الى تهدئة اي مخاوف قد تبرز قبل ان تبرز منذ بدء المسيرة الى نهايتها.
المغني الاسود الشهير بيلافونتي كان له دور محوري في حشد نجوم من هوليوود للحضور الى المسيرة، كمارلون براندون، بول نيومان (الشهير بدور جيمس بوند) وغيرهم، مع توجيههم بالاختلاط وسط الجماهير، واظنه كان عاملا مطمئنا في جو التوجس.

ربما اكثر الصور المؤثرة من المسيرة، هي تلك الصورة التي التقطت عند الغروب وقد ركب الناس خافلاتهم وقاطراتهم في طريق العودة، ورجال ينحنون لالتقاط مخلفات ورق الساندويتشات والاكواب الورقية واليافطات التي ملأت المكان .



هذه هي احدى ركائز العمل السلمي المفقود في عملنا السياسي، ان تعضد جماهيرك بكل ما يحفزهم على العمل السلمي، بالطبع لا يفوت علي الفارق بين واشنطن وقتها والخرطوم الان (أقول واشنطون اذ ان مدن الولايات الجنوبية في ذلك الوقت لا تختلف كثيرا عن مدننا اليوم من قتل وسفك واعتقال تعسفي) . لكن في البال والخاطر المسيرة "السلمية" التي تم الدعوة لها في سبتمبر الماضي، وكنا نصيح "سلمية سلمية" لا ايمانا بالسلم، لكن في امر اشبه باستجداء واستعطاف السلطة ان لا تستخدم العنف معنا – و ليست هذه هي السلمية ولم يكن لنا اي دراية بمعنى الكلمة، لو كنا نعلم ما النضال السلمي لطقشت اذاننا مصطلح "المعاناة لخلاقة" كما سماها مارتن لوثر كينق 
، او كما شرحها غاندي، هي القوة والقدرة على الصمود للعنف لا الانجرار وراؤه او الفرار منه. واذكر

 في اثناء التظاهرة التي كانت في بانت امدرمان تقودها اعلام عليها شعار حزب الامة والانصار وبعض المتحمسين (تعالو بجاي..أمشوا بجاي... البوليس هندا كوركوا سلمية) ، كنت تلقائيا (من سنين الجامعة) ارقب الشوارع التي نسير فيها ، اطمئن تارة "هنا شارع مفتوح يطل على زقاقات، هنا شارع مأهول بالبيوت حيث يمكنك الدخول، هنا صينية (حيث لا يمكن ان تعمل الكومرات حاجزا لحبسك) حتى وصلنا الى نهاية شارع الاربعين وخاف المتظاهرون من التقدم اذ ان الشارع كان يفضي للسلاح الطبي، فطلبوا من الناس التوقف، وسرى قلقهم الينا، ثم تلفتنا حولنا وقد حصرنا بصف كامل من الدكاكين الملتصقة ببعضها البعض دون اي منفذ. وحصل ما كان متوقع ، عندما اطلق الغاز المسيل للدموع بعد المحاصرة بين كومرين، لم يكن هناك منفذ، حدث حالة اضطراب حيث تكدس الناس بعضهم فوق بعض واختنفوا بالغاز بعد استنشاقه لدقائق طويلة، وتركونا ننفض لكن دون عودة.

بعد مقتل علي ابكر موسى، تجمع الطلاب في المشرحة واستمعت الى مخاطبة احد المشاركين الذي كان في غاية التأثر، الا انه قال امرا توقفت عنده طويلا، قال مخاطبا الجمع الحاضر في المستشفى من غير الطلاب، ان يتحركوا سويا، ان يقوم المواطنون بحماية الطلاب، اذ ما من سوء يصيبهم – هم الطلاب- والجماهير حولهم ملتفة.

انا في الحقيقة عذرت الطالب، وهو حدث السن وكان مفجوعا، لكن الاولى ان الطلبة هم المنظمون واصحاب القضية الماثلة –مقتل زميلهم- والجماهير اصحاب قضية غائبة – ضنك العيش والضيم. فالطلاب هنا هم الدرع لحماية الجماهير لا العكس. نحن نريد ان نملك الجماهير وسيلة نضال، لا ان يكونوا هم أداة ووسيلة نضال. وهذا هو الخطأ المتكرر في كافة الفعاليات السياسية من ندوات وتجمعات جماهيرية، هو استخدام الجماهير كوسيلة نضال، وهذا الفهم هو الذي يجعل فكرة مسئولية التنظيم السياسي عن الجمهور فكرة غريبة وبعيدة عن ذهنه. فالفعاليات السياسية لا تراعي زمن بداية او انتهائها او حتى الالتزام بها، لا تراعي وجود اطفال ومسنين بينهم لتعد لهم خروجا امنا، لا تستطيع رسم توقع لمالات الفعالية (بمبان؟ لازم في مواد اسعافية ومكان مفتوح واخلاء مبكر للاطفال والمسنين، اعتقالات؟ مجموعة محامين جاهزين لاخطارهم والتوجه نحو مخافر الشرطة. توثيق دقيق؟ 
لا يوجد)


في المقال الثاني والثالث، اريد ان اوضح انه ما من حركات نضال سلمي حاليا في السوداني وسأعرج على النموذج الوحيد في رأيي لحركة سلمية في تاريخنا.. ثم هي الخطوات التي يجب ان تتخذ لتكون هناك حركة سلمية في السودان