Tuesday 8 October 2013

يحدث في الفرن - الحوار الذي أجري مع عاطف خيري عام 2005

مَهَبِّ أَرَقِهِ الوجوديّ


الشاعر: عاطف خيري

ميسون النجومي :نشر هذا الحوار بمجلة أوراق جديدة 2005
وهو من الحوارات التي أثرت كثيرا في حياتي وفي ذائقتي في الكتابة والقراءة على حد السواء
الحوار دا فرن، الكل فيه نضح المحاور بكسر الواو والمحاور بفتحها 
والقارئ
وقد عنونت بعناوين جانبية، أختار الان غيرها وهي ما لفتت نظري في الحوار
أنظر معي إلى براعة هذه المقتطفات
:
الإلهام عندي يعني محاولة الشاعر تصفية وتنقية ذاكرته من أصوات الآخرين
 الشخص الذي يأنس في نفسه الكفاءة يرشح نفسه شاعراً 


 الدارجية هي المساحة التي يتركها الشاعر ليلتقي فيها مع القارئ

سؤال من عبدالرحيم حمد النيل: منذُ أَبَدٍ والشعر يَنْزَحُ نحو شعريَّته، هل وصل الشعر؟

 وفي أجابة عاطف
 :
يُخلق شخص آخر في الداخل يقرر ذات القرار ويذهب
مع القصيدة، هناك أناس كثيرون ذهبوا مع القصيدة الأخيرة ولم يعودوا
بعد

لا يمكن أن نقول إن لدينا شعراء منفى، والحقيقة ماثلة أمام أعينكم؛ ما يعانيه الناس هنا
بالداخل، لا أدري ماذا سَيُطلق على هؤلاء؟

 الشاعر أصبح يتبنَّى مواقف نقدية أكثر من تبنِّيه مواقف شعرية. نعم، الشاعر يحتاج إلى علاقة بالنقد، لكن لا يمكن أن يتبنَّى موقفاً نقدياً كاملاً ويعتقد أن
بمقدوره الدفاع عن هذا الموقف بشعره

النشرعندنا مجزرة حقيقية، والناشر عارٍ من أية معرفة بالإنتاج الذي يقوم
بنشره، وليس لديه أية معدَّات لإعداد وتحرير وتصحيح المنتج، أغلب
الكتب التي صدرت تضمَّنت أخطاء تجعلك تتساءل عن مصيرها
مستقبلاً، كيف ستبقى للتاريخ
 
ليس من واجب الشاعر أن يقول كلمة الحق القصيدة لها دور آخر ربما يكون بَعد
الحقيقة أو قبلها

أثناء وجودي الآن بالخرطوم وجدت صعوبةً في استحضار
بعض المفردات وأنا أقرأ من الذاكرة، ثم تأملت الأمر فيما بعد، فوجدت
أنها قد وُضِعَت في غير مكانها؛ مما جعلها تستعصي على الاستحضار.
 
ندوة أعَدَّها وأدارها: الصادق الرضي

في نوفمبر 2005م، واحتفالاً بعودة الشاعر (عاطف خيري)
أستراليا لأول مرة بعد هجرته؛ حيث يعمل ويقيم منذ عدة سنوات،
كانت هذه الندوة التي تحدَّث فيها الشاعر خيري حول القلق والإلهام
وحضور القارئ؛ حول الدَّارِجيَّة وقصيدة النثر وأسئلة الشاعر، حول
المنفى وغموض القصيدة، حول الاختلاف وأزمة الشعر والنقد،
حول الموقف الفكري والحداثة ورؤية العالم درامياً، وتشابكات كل
ذلك داخل تجربته وتجربة جيله، مقدِّماً (شهادة ـ وثيقة) كانت موجباً
لاستعادتها هنا .
حضر الندوة، وشارك فيها بمحاورة الشاعر (عاطف خيري)، كل من
الشعراء: بابكر الوسيلة سر الختم، عبدالرحيم حسن حمد النيل،
محمد حسن الدابي، بشير إبراهيم، أحمد النشادر، جمال علي حسن.

حول القلق والإلهام وحضور القارئ


* عبدالرحيم حسن حمد النيل:
قبل أن يُقْبِلَ على نَصِّه، قبل أن يذهب إليه بأقل ما يمكن من الخسائر،
هل من شروط محددة لا بد من توافرها إبان لحظة الكتابة؟، وماذا عن
المدعو شيطان الشعر؟، وماذا عن المباغتة، ماذا عن القلق..إلخ؟!.

ـ عاطف خيري:
فيما يخص الخسائر الملازمة لكتابة النص، نعم؛ إنها هناك، وكثيرة،
أولها النصوص التي كتبها الشاعر قبل أن يشرع في نَصِّه الجديد،
كذلك القلق، هو إحدى الحالات الملازمة للكتابة عموماً، بِخَاصَّةٍ كتابة
الشعر، ويبدو أن قَدَر الشاعر في كل مَعْنَى ومَبْنَى أن يكون مُعَرَّضاً
لذلك، حتى إنه أحياناً يضطر إلى أن يكرر نفسه لأجل أن يقول ذات
الجملة، هناك الكثير من المعاني التي أحب أن أضَمِّنَها خطابي
الشعري وتقتضي مني أن أقولها هي ذاتها مرة أخرى، وإن بطرق
مختلفة، كأنما لديِّ إحساس بأنها لم تصل بالشكل الذي يليق.

* بشير إبراهيم:
هل القلق في حد ذاته أحد محفِّزات القصيدة؟!

ـ عاطف خيري:
القلق، بالمناسبة، ليس ملازماً للشاعر وحده في العصر الحديث،
القلق صار الآن سمة ملازمة للإنسان الذي لا يزال يكابد هذا العصر،
ويحاول أن يعيش في عالم يضجُّ بالكثير من الأسئلة والقليل من
الأجوبة. القلق هو أبسط الأحوال التي يمكن أن يمر بها الشاعر
أثناء الكتابة، هناك أسماء أخرى أكثر فداحة من القلق تلتصق به.

* محمد حسن الدابي:
إلى أي مدى يحضر القارئ في لحظة كتابة النص وما بعدها؟!.

عاطف خيري:
القارئ حاضر في كل الأوقات، لكن الشعراء، من عاداتهم، تفادي هذه
المسألة أو تجاهلها مؤقتا؛ أثناء الكتابة، إذ يتم استبعاد الآخرين بشكل
غير واعٍ، وأحيانا بشكل متعمد، حتى يخلو الشاعر إلى قصيدته، وفي
توهُّمه الخاص أنه يعمل على خلقِ عالمٍ لم يحدث من قبل؛ بما فيه
القارئ نفسه، لكن تبدأ أولى الصدمات بعد الفراغ من كتابة النص،
حين يبدأ دخول بعض المُتَلَقِّين، ويكون أوَّلَهم الشاعر صاحب التجربة
نفسه.

لقد دَرَجَ الناس على إلصاق مسألة الشيطان أو الإلهام بالشاعر، وهم
يعنون بذلك الحالة التي تنتاب الشاعر أثناء كتابته للنص والتي يتم فيها
استبعاد العالم كله؛ الشَّرَك يكمن في أن العالم الذي يجري استبعاده
هو نفسه الذي يتم استدراجه أو استحضاره بطريقة خفية للاستفادة
من كل ذَرَّة موجودة فيه لبناء النص.

بالنسبة لي، في تجاربي الأولى، كنت أكتب باعتبار أنه لا يوجد أحد يفهم
هذه القصيدة أو يتعرف عليها سوى القصيدة نفسها، هذا وَهْمٌ مهم
بالنسبة للشاعر كي يشعر بأنه ينتج عالماً جديداً، برغم من أنه ـ الوهم ـ
لا يخلو من بعض الخسائر؛ إذ أن هناك بالفعل قارئ يجب الانتباه إليه،
وهناك واقع شعري يجب الانتباه إليه، والشاعر بالضرورة مطالَب بفهم
واستيعاب الواقع المعقَّد من حوله.

* جمال علي حسن:
هل أنت تتحدَّث عن حالة تنتابك أثناء كتابة القصيدة، أم تُرَاك تقدِّم لنا ما
يشبه (الوَصْفَة) ليَتَّبِعَها من يريد أن يكتب شعراً؛ أي أين أنت بين الإلهام
والصنعة، والكثير من الشعراء قد أنكروا حالة الإلهام ويتحدثون عن الشِّعر
كصنعة، هل تنتابك حالة الإلهام أم أنت الذي تستحضرها؟!.

ـ عاطف خيري:
الإلهام عندي يعني محاولة الشاعر إلغاء واستبعاد الآخرين عن قصيدته؛
أي محاولة الشاعر تصفية وتنقية ذاكرته من أصوات الآخرين، ليبدأ في
إنتاج صوته الخاص، وهو ليس حالة تنتاب الشاعر، ليس حالةَ جذبٍ مثلاً
ولا هو هبةٌ يحظى بها الشعراء دون غيرهم، الإلهام يمكن أن يتوافر
لأناس آخرين يعملون في مجالات أخرى غير كتابة الشعر، وهو أيضاً
قدرة الذاكرة على إنتاج عمل يقوم على أعمال الآخرين، ومقدرة
الشاعر على إنتاج نص جديد لا يشير مباشرة إلى إنتاج الآخرين.

* جمال على حسن يتساءل:
هل يمكن أن تعطينا وصفةً نميز بها الشاعر عن غيره؛ أي هل هنالك
خصائص معينة تجعل من هذا شاعراً ومن هذا لا، كيف نعرف ذلك؟!.

ـ عاطف خيري:
ليست لديَّ وصفة معينة لتحديد هذه المسالة، لكن الذي يحصل دائماً أن
الشخص الذي يأنس في نفسه الكفاءة يرشح نفسه شاعراً ويقدِّمها
للآخرين على هذا الأساس، هذا حدث معكم أيضاً ومعروف لديكم؛ أن
يأخذ بعض الأطفال في الاختلاف عن أقرانهم بالميل إلى حفظ الشعر
وحفظ القرآن، أي أنهم يبدأون بالاهتمام باللغة وبإنتاج الآخرين.

حول الدارجية وقصيدة النثر وأسئلة الشاعر


* الشاعر بابكر الوسيلة:
الملاحظة الأولى في شعر عاطف هي التحول من الدارجية إلى الفصحى
الذي أعتقد أنه تحوُّل غير جذري، كأنما هناك خيوطاً دقيقة تربط القصيدة
الدارجية بالفصحى، كيف تم هذا التحوُّل، وهل كان ضرورياً؟!.

ـ عاطف خيري:
أولاً، أعتقد ـ وهذا رأي شخصي ـ أن كُتَّاب هذا المكان تختلف أقدارهم
جذرياً عن ما هو متوافر من أقدارٍ لدى الكُتَّاب في أماكن أخرى، لأن هناك
مِحْنَة ـ نِعْمَة ـ التمازج الذي نعيشه كسودانيين في هذه الجغرافيا،
وهذه النعمة ـ المحنة ـ تنهض على التمازج بين ما هو إفريقي وما هو
عربي، وقد استطاع من سبقونا إلى الاهتمام بمسألة الإبداع، بِخَاصَّةٍ
الشعر، أن يتوصلوا إلى حلولٍ أعتقد أنها غاية في الاكتمال وغاية في
الثراء، ليس آخرها شعر الحقيبة؛ الشعر الغنائي، وقد تجد أمثلة كثيرة
لدى قبائل ولهجات لم يتم تسليط الضوء عليها، تدل على مقدرة عالية
على إنتاج معرفة جمالية بالعالم ومعرفة جمالية بالذات.

لديَّ وجهة نظر خاصة بهذا الشأن، إن كل كُتَّابنا مدينون، بشكل أو بآخر،
للّهجة الدارجية؛ لأن المنهج باللغة العربية الفصيحة غير مشجع على
الكتابة داخل هذه اللغة، في وقت نجد أن المنهج المتوافر لدى أقرب
الأقطار العربية والإمكانات الموجودة هناك تتيح بالفعل للكُتَّاب مراجع
وذاكرة تمكِّنهم من الحركة داخل اللغة الفصحى بصورة خلاَّقة.
إننا نتحرك هنا من وجدان دارجي بَحْت.

كتبتُ بالدارجي لأني مدين لقصائد شعبية ومسادير وأغنيات ومشاريع
كُتبت داخل اللغة الدارجية بشكل منظم وخطير، وهي معروفة للجميع،
مشاريع دارجية عظيمة، كنت أود أن أرُدَّ جزءاً من هذا الدَّيْن، وكنت
بحاجة إلى التفرغ للكتابة. أثناء كتابتي داخل الدارجية كنت أكتب
نصوصاً فصيحة، لكن الجمهور، في المنابر وفي المحافل العامة،
كان، ولا يزال، يطالب باللغة الدارجية، وأنا أستجيب، لكن عندما توافر
لديَّ عدد من القصائد المكتوبة بالفصحى كان كتاب (الظنون)، وهي
ليست محاولة لتفصيح الدارجي، كما تضمَّن سؤال بابكر.
إن البناء المتوافر في كتاب (الظنون) وكتاب (تشجيع القرويات) لايمكن
أن يكون محاولةً لتفصيح الدارجي.

كنت أقول دائماً؛ إن كلمة (الدَّارِجِيّ) الآن لم تعد تعني (اللغة الدارجية).
هي أحد المصطلحات الكثيرة التي تندرج ضمن المفاتيح التي يقدِّمها
الكاتب للآخرين ليتعرفوا على النص، وبهذا الفهم يمكنك أن تجد الدارجية
لدى محمود درويش، ليس معنى ذلك استخدامه اللهجة الشامية، وقد
تجدها لدى لوركا، بمعنى أن الدارجية لديه هي المساحة التي يتركها
ليلتقي فيها مع القارئ. إن النص حينما يكون مستغلقاً متعالياً ومعقَّدا
ً يكون نصاً غير (دارجي) وبالتالي ليس فصيحاً. خلال المُدَّة بين 1985م
وبداية التسعينيات كتبنا نصوصاً اعتقدنا أنها مستغلقة جداً، لكن حين
نقرأها اليوم نجد كم كنا أوفياء لمسألة الإيقاع في الشعر ولأهميته
ولمسألة إشراك الآخر في التجربة الشعرية، وليس التعالي عليه
باستدعاء الغموض أو الحداثة أو غير ذلك، وإن كانت مثل هذه الكلمات
مهمة وقد تساعد في توسيع نطاق معرفة الشاعر، لكن في محصلة
الأمر، أثناء الكتابة وإنتاج النص، لا بد من دارجية ما. هنالك كتاب يكتبون
باللغة الدارجية لكنهم ليسوا دارجيين، يكتبون قصائد دارجية تنفِّر القارئ
وتنفِّر الدارجية نفسها وليس فيها شعر؛ أي كلما ازدادت الشاعرية
ازدادت الدارجية.

* عبدالرحيم حسن حمدالنيل:
قصيدة النثر ـ إن جاز التعبير ـ أثارت جدلاً في المشهد الشعري العربي
وفي المشهد السوداني، كيف يرى عاطف إلى قصيدة النثر؟!.

ـ عاطف خيري:
لم أخُضْ كثيراً في هذه المسألة، وأنا لا أميل إلى التَّسْمِيَات، أعرف أن
هناك ما هو شعر وهناك ما ليس شعراً، وما إن تصف نَصَّاً بأنه (قصيدة)
أغناك ذلك عن أن تضيف إليها مفردة (النثر)، لكن إن أردنا الحديث بشكل
تاريخي؛ نعم هنالك قصيدة نثر، وأنا تأثرت بها في وقت من الأوقات
شأني شأن كل الكُتَّاب الذين وَفَدَت اليهم بعض المخطوطات والإصدارات
الشعرية؛ سواءٌ أكان ذلك من المغرب العربي أم المشرق العربي أم
كان مترجماً، أم كان بأثرٍ من اكتشاف شعراء سودانيين كتبوها منذ وقت
مبكرٍ حاوَل النقاد أن يلفتوا النظر إليهم في إشارة إلى أن هذا الضرب
متوافر عندنا وليس وافداً. قرأت كل هذه القصائد وتأثَّرت بها وأنا وَفِيٌّ
لقراءاتي.
أثناء كتابتي نصوص كتابي (الظنون)، كتبت قصيدة (كتاب الحنان)، وهي
تعتبر قصيدة نثر، لكني تحركت منها إلى قصيدة التفعيلة بكل بساطة.

* بشير إبراهيم:
ما السؤال الذي أرَّق عاطف أثناء كتابتِهِ قصيدتَهُ وظَلَّ يلحُّ عليه مراراً؟!

عاطف خيري:
ليس سؤالاً واحداً، إنما عددٌ من الأسئلة، وفي اعتقادي أن أي
شاعر مكوَّن من أسئلة عديدة يحاول باستمرار أن يجيب عليها،
وهو بنازع القلق لا يطمئن إلى إجاباته، فيعيد الكتابة حتى يصير له
ما يسمى (نَفَس الشاعر).

أرَّقَني نوعان من الأسئلة في فترتين مختلفتين؛ السؤال الأول كان
يتمثَّل في: كيف أكتب قصائد داخل اللغة الدَّارِجِيَّة لا تَمُتُّ بصِلَةٍ
مباشرة إلى قصائد قرأتُها وأحببتُها، ولكي أعثر على إجابة أنفقت
ما يقارب الخمسة عشر عاماً. حتى الآن، وأنا أكتب كتباً بالفصحى،
أجدني مطالباً بالإجابة والاستفسار وتأمل بعض الأحوال التي كتبتُ
داخلها القصيدةَ الدارجية، وقد كانت تلك تضحيةً؛ لأن الكتابة الدارجية
كانت تحظى في ذلك الوقت بمشاريع شعرية باذخة وغير محتاجة
إلى أية إضافة، ولأن الأسئلة النقدية التي كانت متوافرة في الساحة
لم تكن تشجِّع على كتابة نصٍّ دارجيّ، في ظل احتفاء عالٍ بالقصيدة
الفصيحة. حين عثرتُ على نوع من الطمأنينة إلى خصوصية الصوت
في كتابتي داخل الدارجية دفعت بالكتاب إلى المطبعة، ونتج عن
ذلك كتاب :سيناريو اليابسة

 حول المنفى وغموض القصيدة


* جمال علي حسن:
هل تعتقد أن القلق ضروري؟، وهل هو من الأشياء التي يمكن أن تميِّز
درجة الخصوبة عند الشاعر (أقل/ أكثر قلقاً ـ أقل/ أكثر شاعرية)، إن
كنتَ تعتقد في هذا، فهل سعيتَ للتخلص من هذا القلق لتبدو مناسباً
للناس، مثلاً السفر والترحال، هل هو بحث عن الاستقرار أم تَمَادٍ في
القلق؟!. وتلك الأسئلة الكثيرة التي كنت تحاول الإجابة عنها فتضطرُّك
إلى إعادة طرحها بموجب عدم اطمئنانك إلى إجابات ـ كما ذكرت ـ،
أليست أسئلة جيلٍ كاملٍ قُدِّر لك أن تكون رائداً له؟. أيضاً، كيف تنظر
إلى الأصوات الشعرية التي قدمت إلى الساحة مؤخراً وهي تكتب
بطريقة تشبه طريقتك أو بطريقتك نفسها؟.

ـ عاطف خيري:
أنا الآن قَلِقٌ أكثر من ذي قبل، بعد أن صدرت لي ثلاثة كتب
(الثالث في الطريق)، قَلِقٌ لدَوَاعٍ كتيرة جداً، ليس من ضمنها الهجرة،
يمكنني أن أُجْمِلها في العمر والوقت المخصَّص للقراءة والكتابة
والمسؤوليات، القلق يأتي حين تقرأ نصاً جديداً لأحد هؤلاء الشباب
(عبدالرحيم، التِّلب، بشير، على سبيل المثال)، وتجده مختلفاً، هذا
من دواعي قلق الشاعر؛ أن تكون هناك منطقة يعتقد أنه تجاوزها،
فإذا به يفاجأ ذات المنطقة وقد اكتشف أحدهم فيها شيئاً آخر ومختلفاً.

في ما يخص مسألة الرِّيَادة، فقد نُبِّئْتُ، حين كنت بالقاهرة وأستراليا،
بأن هناك جيلاً يكتب بالطريقة التي أكتب بها، وحين حضرت إلى
السودان لم أجد أيَّ شخصٍ يكتب بطريقتي، ماعارف الناس دي بتجيب
الكلام دا من وين!، كنت أتمنى أن أجد أحداً لأجلس إليه وأحاوره،
لكني وجدت هؤلاء الشباب وقد اختَطَّ كلٌّ منهم لنفسه طريقاً،
وهذه هي طريقتي بالفعل ليس في الشعر بل في الحياة ؛
لذلك أنا سعيد.

* بابكرالوسيلة:
بعد خمس سنوات أمضيتَها في الغربة، هل صحيح أنها تؤثر على الكاتب
نفسياً وتضيِّق على رؤيته وحساسيته؟، أم الأمر غير ذلك؟!.

عاطف خيري:
حين خرجت من السودان في العام 2000م، كنت أرى الواقع بائساً إلى
حد بعيد والأحوال سيئة إلى درجة كبيرة، حين عدت اكتشفت أن هذا
هو الوقت الذي كان يفترض أن أهاجر فيه من السودان؛ وأنا قادم كنت
أحس بأن الغربة كلَّفَتْنِي كثيراً، لكن الأسابيع المنصرمة التي أمضيتُها
بالخرطوم عرفت خلالها أن للغربة الحق في أن تكلِّفني كثيراً؛ لأنه
ا (غُرْبة)، وهي بالتالي تفعل بك ما تريد، وكنت أندهش للحال في
السودان، برغم بعض الإشارات الجميلة، وبرغم بعض الانفتاحات
المذهلة والواقع الجديد، لكن أخشى إن بقيتُ في السودان أن أتحول
إلى سياسي أو مناضل أكثر من أن أكون شاعراً؛ لديَّ عدد من
الملاحظات، أعتقد أن الخرطوم هي الآن مجموعة من الناس يتحاشون
قول كلمة الحق؛ أي أن الحق أصبح نشازاً، غالبية الناس فقراء والناس
تعيش حالاً من المرض والجهل، حتى الشعراء الجدد لديهم مشكلة
أن قصيدتهم لن تُقْرَأ، لأن المعرفة غائبة أصلاً وكذلك التعليم..إلخ.
مثل هذه الإصدارات الجميلة (يشير إلى مجلتي الخرطوم الجديدة
وأوراق جديدة) لن يقرأها أحد؛ لأن الأحوال إن استمرت على هذا النسق
لن يوجد من يقرأ؛ البيوت امتلأت بالقنوات الفضائية، المدارس فُرِّغَت
من المنهج ومن الطلاب، الشوارع امتلأت بالعاطلين؛ حين عدت
أكتشفت أن دواعي الهجرة الآن متوافرة أكثر مما مضى.

* عبدالرحيم حسن حمد النيل:
هنالك مقولة لرولان بارت: (إن الأثر لا يَخْلُدُ لكونه فَرَضَ معنىً وحيداً على
أناس مختلفين، وإنما لكونه يوحي بمعانٍ مختلفة لإنسان وحيد يتكلم
دائماً باللغة الرمزية نفسها خلال أزمنة متعددة)، منذُ أَبَدٍ والشعر يَنْزَحُ
نحو شعريَّته، هل وصل الشعر؟!.

_ عاطف خيري:
الشعر لم يصل بعد، والدليل على ذلك أن هناك شعراء في الطريق،
وقصائد في الطريق أيضاً، لكن أنا في الحقيقة لم أفهم بالكامل مايرمي
إليه (بارت) في التنصيص الذي اقتبستَه في مستهل سؤالك!.

* عبد الرحيم حسن حمد النيل:
أعني حلم الشاعر بالقصيدة النهائية، هل من الممكن أن يتحقق؟!.

عاطف خيري:
حين بدأت الكتابة، كانت لديَّ كراسة أغاني، وكنت أكتب قصيدة تقليدية
بالدارجية وبالفصحى، كل قصيدة كنت أكتبها في ذلك الوقت، أقول في
نفسي إنها آخر وأخطر قصيدة، الآن، وقد تجاوزت منتصف الثلاثينيات،
ما زلت أكرِّر ذات الادِّعاء إثر الفراغ من كتابة قصيدة. لكن بعد فترة يبدأ
تصوُّر آخر، كأنما يُخلق شخص آخر في الداخل يقرر ذات القرار ويذهب
مع القصيدة، هناك أناس كثيرون ذهبوا مع القصيدة الأخيرة ولم يعودوا
بعد.

* محمد حسن الدابي:
هل هناك شعرُ مَنْفَى؟، إن كان فما أثره ومدى تفاعله مع الشعر في
الوطن، وماذا عن جدل حركة تطور الشعر في المنفى وتداخلها مع
حركة تطور الشعر الموجود في الداخل؟!.

ـ عاطف خيري:
كل شعوب العالم تقسم التجارب الشعرية عندها إلى شعراء منفى
وشعراء بالداخل، إلا نحن (هذا فهم خاص بي)، لا يمكن أن نقول إن
لدينا شعراء منفى، والحقيقة ماثلة أمام أعينكم؛ ما يعانيه الناس هنا
بالداخل، لا أدري ماذا سَيُطلق على هؤلاء؟!.

* بشير إبراهيم:
القصيدة المطروحة اليوم في الساحة متَّهَمة بالغموض، هل هناك
دروب محددة يمكن أن يسلكها القارئ نحو هذه القصيدة. وقد قلتَ
قبل وهلة إنك بدأت بالقصيدة التقليدية، فمتى قررتَ أن تكتب
القصيدة الحديثة؟، وإلى أي مدى عبَّرَت عنك؟!.

ـ عاطف خيري:
الغموض مهم في الشعر؛ لأن كتابة الشعر تجربة شاقة وبعيدة كل
البعد عن الهِبَات، وهي ليست هبة من الشياطين تخصّ بها الشاعر،
إنما هي ببساطة نتاج ملاحظات وقراءات الشاعر وتكثيف العالم حوله،
ورغبته في أن يخاطب أحداً. مؤخراً ـ بِخَاصَّة بعد التراجم التي وَفَدَت
إلينا من الغرب ـ والتي صاحبتها مشاكل كثيرة أفضت إلى حالةٍ صار
معها كأنما الشعر هو فقط الغموض؛ بينما الغموض هو حالة من
حالات الشعر وليس كل الشعر، نتج عن ذلك أن الشاعر أصبح يتبنَّى
مواقف نقدية أكثر من تبنِّيه مواقف شعرية. نعم، الشاعر يحتاج إلى
علاقة بالنقد، لكن لا يمكن أن يتبنَّى موقفاً نقدياً كاملاً ويعتقد أن
بمقدوره الدفاع عن هذا الموقف بشعره؛ الغموض نتج عن هذا
الشرك، بين قراءة التراجم ودعوات نقدية تقول بضرورة الشاعر
المختلف، أنا لست ضد الغموض بشرط أن لا يعني فقر الموهبة.

تحولي من القصيدة القديمة إلى القصيدة الحديثة ـ إن جازت هذه
التسميات ـ تم نتاج قراءات في وقت من الأوقات، وملاحظات رَصَدْتُها
في إنتاجي الشعري، فاكتشفتُ أنني بالاستغناء عن الإيقاع وبحور
الشعر أكون أكثر حريةً وأكثر مقدرةً أثناء كتابتي.

حول الموقف الفكري والحداثة ورؤية العالم درامياً


* جمال علي حسن:
أولاً ما هي المشكلة في أن تتحوَّل من شاعر إلى مناضل؟، أليس من
الممكن للشاعر أن يكون مناضلاً؟، برغم أن مجموعة كبيرة من الشعراء
طرحوا أنفسهم كمناضلين في الأصل!. ثانياً هل ما زلتَ تحتفظ بقصائدك
الدارجية التي أدَّاها فنانو الطمبور في الشمالية وأعجبت الناس؟،
هل تعتقد أنها ذات قيمة؟، وهل تحتفظ لها بمكان في الذاكرة أم تُراك
تحاول أن تتناسها؟!.

ـ عاطف خيري:
حين أشَرت إلى أنني أخشى أن أتحوَّل إلى مناضل كنت أعني بذلك
(المناضل السياسي المتفرغ للعمل السياسي بغرض منافحة القرارات
وفضح الواقع السياسي)، وأنا أعتقد أنه لا بد أن يكون هناك شاعر
حقيقي، وإن وُصِفَ شعره بالنضالي فهذا أمر آخر، وكذلك الأمر إن وُصِفَ
بأنه غنائي أو جمالي، وهناك فرق بين الشاعر والسياسي. قلتُ ذلك
لأنك، ببساطة، لا يمكن أن تكون متأثراً بآخر نتاجات العصر فيما يخص
المعرفة، بينما تعيش في وطن لا يقدر على قراءتك، لمن ستكتب؟،
والعالم الخارجيّ ليس لديه وقت ليتعرَّف عليك؛ لأنه مشغول بنفسه
وبأشيائه، ربما كان من الأجدر بك أن تُوْلِي، بجزءٍ من اهتمامك، عالمك
وأهلَك وقُرَّاءَك القادمين، يبدو أن الشاعر؛ إضافةً إلى احتياجه أن يكتب
قصيدةً، يحتاج بالمثل إلى أن يخلق قارئاً أو أن يشجع قارئاً على الأقل.

فيما يخص التجربة الدارجية، ما زلت أذكر القصائد القديمة، لكنها صارت
في ركن قصيٍّ من الذاكرة؛ لأني شُغِلْتُ عنها بقصائد أخرى كثيرة،
أحياناً ألجأ إليها وأستدعيها، أقرأها لنفسي وأحياناً لبعض الاصدقاء.

* بابكر الوسيلة:
لك علاقة راسخة بالمسرح، وفي ذات الوقت أنت شاعر، ماذا أضاف
المسرح إلى القصيدة، وماذا أضافت القصيدة إلى المسرح، أو ماذا
أخذ المسرح من القصيدة؟!.

* عاطف خيري:
كان حَرِيَّاً بي أن أذكر هذه في المسألة في كل المناقشات التي دارت؛
أعني مسألة علاقتي بالدراما، وما كان ليتوافر لي هذا النطاق، أو هذه
الذهنية، لولا علاقتي بالدراما؛ فهي التي فتحت لي أكثر من باب
وأكثر من شباك داخل البيت الذي أسكنه؛ بيت الكتابة، بِخَاصَّةٍ وأنك
تعلم أن أساطين الدراما في العالم هم بالأساس شعراء، والدراما
بدأت من الشعر؛ من النصوص الشعرية المكتوبة، لكن الدراما كفعل
لها تاريخ آخر.

علاقتي بمعهد الموسيقى والمسرح أتاحت لي مكتبة ضخمة من تراجم
لشعراء أوروبيين، ولكُتَّاب سودانيين، ومن العالم العربي، على رأسهم
محمد الماغوط كتجربة حديثة نبهتني إلى الكثير من المناطق التي لم
أكن لأتعرف عليها لولا علاقتي بالدراما، أيضاً؛ لأن الدراما فيها تعدُّد أصوات،
والكاتب، حينما يغفل تعدُّد الأصوات، يكون مصاباً بفقر عظيم، تعدُّد
الأصوات يتيح للكاتب أن يستنطق ذاته بأكثر من طريقة، وأن يكتب ذات
الجملة بأكثر من طريقة، وأن يرى العالم بأكثر من زاوية، وأن يجد حلولاً
كثيرة لأشياء قد تكون مستعصية لولم تتوافر له الرؤية الدرامية للعالم.

نَهَلْتُ من الدراما الكثير، وكتبت داخلها عدداً من النصوص، وتجاربي داخل
الدراما ارتبطت بالإخراج، لا الكتابة فحسب،كنت أكتب (كتابة إخراجية)،
بمعنى أنك لا تكتب النص مكتملاً، إنما تكتب الشخوص وجزءاً من الحوار،
وتضع النص في (ورشة) مع عدد من الممثِّلين الذين تثق في مقدراتهم،
ثم يبدأ ما يُعْرَف ببناء النص، كتبتُ للمسرح عدة نصوص: (لقطات محذوفة)،
(ضُلّ النار)، (السيد في المنفى)، كما قمت ببعض الإعدادات المسرحية
لنصوص مختلفة، لكن الشعر أخذ مني الكثير، الدراما تحتاج إلى عمل
دائب وجماعي، الشعر يحتاج إلى خصوصية، أنا آثرت الخصوصية على
عمل الدراما الجماعي.

* عبدالرحيم حسن حمد النيل:
هناك حديث كثير عن الحداثة بأنها لم تَنْتُج عن تحوُّلات تراكمية،
كما هي حال الحداثة في الغرب، فما أثر الحداثة في الشعر؟!.

ـ عاطف خيري:
تقول (الحداثة)، كأنك تعني عدداً من الكتب النقدية التي ناقشت مسألة
الحداثة وأشارت إلى نصوص موصوفة بأنها حديثة، نحن لم نَعِش الحداثة
حقاً، لكنَّا قرأنا عنها، وتأثَّرْنا بها، وكتبنا نصوصاً نعتقد أنها حديثة. إن الحداثة
الحقة ـ التي لم نعشها ـ مرتبطة بالمجتمع المدني وبالإنسان كأساس،
أي أنها ليست مرتبطة بالشعر فقط، الحداثة مرتبطة بأشياء كثيرة.

إن الشرك يكمن في ـ وهذا ما حاولت تجنبه باستمرار ـ الركون إلى هذه
النصوص المقدَّمة من قبل النقاد أو آخرين وترشيحهم لها، بعد مرور وقت
لا تجد لديك رغبةً في العودة لقراءاتها وتجد أنه لا مناص من أن تبحث عن
النصوص الحديثة بنفسك؛ أي يكفي أن تعلم أن هناك نصوصاً حديثة كُتبت
قبل مائة عام لتدرك أن الحداثة ليست بالضرورة هي الحاضر أو المستقبل.

* محمد حسن الدابي:
إننا نعاصر أزمة تتعلَّق بالنشر والناشرين كيف تنظر إليها؟!

ـ عاطف خيري:
أخشى أن نكون مواجَهين بوقت لا يوجد فيه قارئ، ليس لأن شعرنا سيء
ولا لأن الكتابة لم تعد تخاطب الآخرين؛ فالآخر لم يعد موجوداً. حين نأتي
لنتحدث عن مسألة النشر الأدبي أو الثقافي، وحين نتابع شعراء أو كُتَّاباً
روائيين أو نقاداً في رحلتهم المضنية لطباعة وتوزيع كتبهم، نجد أن هناك
مشاكل كثيرة، إذ يسيطر على السوق عدد من الناشرين لا يقدمون أية
إضافة. صحيح أن للناشر في كل دول العالم إشكالات مع الكُتَّاب
والمبدعين والقراء، لكن عندنا لم يوجد حتى الآن الناشر الحقيقي الذي
يكرمنا بذلك النوع من المشاكل، لا يمكننا الحديث عن ناشر الأن في
السودان، كل ما هناك محاولات فردية تعتورها أخطاء وتضحيات،
وهي تقع في الغالب على عاتق الكاتب لا يتحملها سواه؛ النشر
عندنا مجزرة حقيقية، والناشر عارٍ من أية معرفة بالإنتاج الذي يقوم
بنشره، وليس لديه أية معدَّات لإعداد وتحرير وتصحيح المنتج، أغلب
الكتب التي صدرت تضمَّنت أخطاء تجعلك تتساءل عن مصيرها
مستقبلاً، كيف ستبقى للتاريخ، هذا ناهيك عن مسألة جودة الطباعة
ومسألة الحقوق. إن الكُتَّاب يواجهون مشاكل جمة بخصوص النشر،
وهو أحد المعيقات التي خسرنا بواسطتها أكثر من شاعر وأكثر من
روائي.

* جمال على حسن:
تلجأ أحياناً إلى شرح بعض النصوص حين يكون الغموض غير ضروري،
هذا اتهام، مثلاً (قصد الطيور النور بي إسمو تتسمَّى)، هذا هو النص،
والبقية أقرب إلى هامش يشرح النص، بينما تحتفظ بغموض كثير في
النصوص الأخرى، أين يجد خيري مثاله، هل وجدت الفضاءات الإنسانية
مصنَّفة بصورة واضحة جداً ( يسار ـ يمين)، أين نجدك، في الفضاء
اليساري غالباً؟!. هذه كلها اتهامات.

ـ عاطف خيري:
كتبت نص (قصد الطيور) ضمن نص مسرحي، وهذا لا ينفي أنه شعر،
لقد قُدِّم ضمن جزئية داخل عمل مسرحي كبير، واثناء كتابتي هذا النص
لم أفكر فيما ذكرت، وأثناء كتابتي نصوصي الأخرى لم أفكر أن أسلك
أسلوب الشرح، أو أن هذا سينصفني في خانة من الخانات أو يبعدني
من الغموض والطلاسم، إن كنت تسأل عن موقف سياسي...

* جمال (مقاطعاً):
ليس بالضرورة موقف سياسي، أسأل عن موقف فكري أو مبدئي.

ـ عاطف خيري:
لدى كل من يكتب موقفٌ ما، مَن يقول بغير ذلك يكون كاذباً، لكني كشاعر
لست مهموماً بإخفاء معنى، إن من أهم همومي إخراج الآخرين من
قصيدتي لأن الشعر يكتب من قراءات وملاحظات. إن الشاعر حينما
يكتشف موهبة الشعر في نفسه وينذر نفسه لهذه التجربة يصبح همه
أن ينتج نصاً لا علاقة له بنصوص أحَبَّها، وهنا تكمن المكابدة وتكمن
المغامرة، أتمنى أن أكون قد أجبت عن سؤالك، وللحق؛ سؤالك
نفسه غامض!.

* جمال على حسن:
أعني، هل وجدتَ المثالَ والحق، في اليسار؟، والعالم في الأصل
( يسار/ يمين)؟!.

ـ عاطف خيري:
في البدء، ليس من واجب الشاعر أن يقول كلمة الحق ـ يصادف أن يقولها
أحياناً ـ لكن هذا ليس واجب القصيدة، القصيدة لها دور آخر ربما يكون بَعد
الحقيقة أو قبلها، الشاعر غير موجود في الحقيقة أصلاً، أحياناً يحدث أن
تتعلق بتجربة الشاعر بعض المقولات وبعض الأبيات التي قد تنبئ عن
مواقف، فليكن، لكن اثناء كتابتي (قصد الطيور النور) لم يكن هناك أي
موقف.

على الناس أن لا تنزعج من وجود الكثير من الشعراء، لأن الجالس
لاحصائهم سيجدهم قلَّةً على كثرتهم، بما فيهم من لا تُعجبُ بأشعارهم؛
على الناس أن لا تنزعج من غياب المعايير، إذ لا يمكن للناقد في زمانٍ
ظرفيٍّ أن يحدد من هو الشاعر ومن هو غير الشاعر؛ فليكتب كل من
يأنس في نفسه الكتابة، وقد يكون تشجيع هؤلاء الكُتَّاب جميعاً مجدياً.

* بشير إبراهيم:
في صراعك مع اللغة، هل تختار المفردة، أم تُرالها تفرض نفسها النص،
وهل شعرتَ يوماً بأن اللغة عاجزة عن أن تعبِّر عنك؟، ثم ما رأيك في
القصيدة، حين تتوافر من خلال الصوت، هل تتغير دلالات المفردة أثناء
قراءة القصيدة جماهيرياً عنها مكتوبةً؟!.

ـ عاطف خيري:
منذ أن بدأتُ الكتابة، يلازمني القلق والشك بخصوص مفردات يحدث أن
أضعها في غير مكانها، واللغة فعلا عصية، أحياناً ينتابني إحساس بأن
الشعر من المفترض أن يُكْتَب بشيءٍ آخر غير اللغة، وقد واجهتُ في
قراءاتي التي قدمتها أثناء وجودي الآن بالخرطوم صعوبةً في استحضار
بعض المفردات وأنا أقرأ من الذاكرة، ثم تأملت الأمر فيما بعد، فوجدت
أنها قد وُضِعَت في غير مكانها؛ مما جعلها تستعصي على الاستحضار.

فيما يخص الجزء الثاني من سؤالك، الشعر في وجهة نظري الخاصة
صوت، أما الجماهيرية والمنبر فمسألة أخرى لن نُفْتِي فيها الآن. في
لحظة فراغ الشاعر من كتابة القصيدة يقرأها بصوت داخلي، وربما يغيِّر
فيها إن قرأَها بصوت مرتفع، من عاداتي أن أفعل ذلك. إثر كتابتي قصيدة
(كتاب الحنان)، وهي قصيدة نثرية، لم أضع النقطة الأخيرة على الورقة
إلا بعد أن قرأتها بصوت مرتفع. أعتقد أن قراءة الشاعر قصيدته تفيده
في كتابته القادمة، وإلا فإنه سيتحرك من ظلمة إلى ظلمة، يسوِّد
الأوراق دون أيَّة معرفة.

.........................................................
نُشر هذا الحوار بمجلة (أوراق جديدة)
في العام 2005م، وتم تسجيله بمكاتبها