Wednesday 30 January 2013

أفلام بالملوخية

أحب أوضح إنو سؤال "شنو هو فيلمك المفضل" بيختلف تماما عن سؤال "شنو أجمل فيلم شفتو؟" ... أنا بحب أوقع هذا السؤال لنفسي بمقاربته بالأكل يعني سؤال "أكلتك المفضلة شنو؟" ما هو نفس "أحلى أكلة أكلتها شنو؟" أحلى اكلة كانت في سنة كم وتمانين في مطعم باستانبول أكلت طبق دولما باشا ملوكي أكسبني تعاطفا أبديا تجاه الأنظمة الملكية رغم موقعي كبرجوازية أصيلة وحارس دائم للطبقة المتوسطة (ولا دائم غير وجهه). أما اكلتي المفضلة فهي الرز بالملوخية، ممكن اكلو الليلة وبكرة وبعد بكرة وبعد بعد بكرة..ولي معه شئون كإني بعد ما ألخبط الرز بالملوخية أقوم أبططه بطرف المعلقة على الصحن ومن ثم تقسيمه إلى مثلثات أو مربعات متساوية  و...لكننا لن نسترسل في ذلك الحديث.
وأظن أن اختيار الفيلم المفضل لا يخضع إلى معايير جمالية بقدر ما أنه يفصح عن جوانب ما في شخصيتك، فالبالنسبة لي هذه المقالة هي رحلة استكشافية. ويخضع اختبار فيلمي المفضل لسؤال بعينه..لنفترض أني قد أكملت لتوي فيلما ولسبب ما قلبت القناة لأجد ذات الفيلم من جديد يعرض في قناة ثانية... هل أشاهده؟ أو أن قرص الدي في دي أعاد تشغيل الفيلم هل سأواصل متابعته؟ عند الإجابة بنعم أكون وجدت فيلمي المفضل...وكل هذه الأفلام التي سأذكرها بدون ترتيب قد خضعت لذلك الإختبار. وكم من فيلم ظننته أثيرا لدي سقط من قائمة الهوى (قصة الحي الغربي؟؟ عمر المختار؟؟ سيدتي الجميلة؟؟ كما كنا لباربرا سترايسند وروبرد ريدفورد؟؟ التنين الخفي والنمر المضطجع، أفلام وودي الن.. وأنا من ظننتكم أثيرون لدي)
1
صوت الموسيقى. لماذا؟ لماذا يا رب؟ كما أقول دائما عن نفسي : ما من شيء يفسد علي صورة المثقفة الغامضة سوى عشقي غير المبرر للأفلام الغنائية والاستعراضية (أفلام الأسود وأبيض، بوليوود، افلام الخمسينيات والستينيات الأمريكية و..احم ..الفيديو كليبات الغنائية..أعتذر تماما لنفسي عن هذه الهفوة الأخيرة) ... لكن صوت الموسيقى هو الفيلم الاستعراضي الذي يستحوذ علي تماما، بدءا من لقطات الكاميرا البانورامية العريضة ، أظن يسمونها الwide shots التي احتضنت منظر جبال الألب الخلابة وحدائق سالزبورغ الوريفة وقصر الكابتن المتألق. كل شيء مترف وباذخ، بدءا من فساتين البارونة التي عشقتها كلها من صغري وتمنيتها لسبب ما، إلى حركة الأحذية اللامعة على الرخام والكمنجات التي تندلق بسبب وبدون سبب...ثم الفالتزات..الفالتزات! و ذلك المشهد الذي ترقص فيها "ماريا" والكابتن "كيورغ" على الشرفة رقصة اللاندلر..يا لقلبي المسكين..يا لتلك النعومة والرشاقة والخفة التي لا تضاهيها خفة..كذا الحب في الجنة بين الأخيار والحور العين..أفلاطوني!
او مشهد ليزا وهي ترقص مع حبيبها ساعي البريد في الحديقة تحت المطر...وذلك المكس الرهيب والصراع بين الفالتز العريق والجاز الفتي (شفتو حس الفنان لما يعمل موسيقى تصويرية لفيلم؟ في فكر..في فهم..مش مجرد مزيكا ظريفة).
ثم ان عبرتي لا تفشل ابدا في الانحشار في حلقي عندما يغني الأطفال فقدهم للمربية ماريا التي سرعان ما تفاجئهم قادمة من بعيد مكملة للأغنية ! وهذا قليل من أشيائي المفضلة في الفيلم
 
من اللطيف الذي اكتشفته عن الفيلم أنه مخرجه روبرت وايز هو أحد أقطاب جدل سينمائي برز في الستينيات حول صناعة الفيلم بين رؤية المخرج وبين التزامه بالنص المكتوب، فمخرج فيلم صوت الموسيقى يرى أن المخرج المحترف هو من يستطيع أن ينفذ ما على الورق مباشرة على الشاشة.. أن يواجه تحدي الخيال...بينما يرى رواد المدرسة الاخرى و(ومنهم الفرنسي تروفو) أن على المخرج أن "يؤول" ما على الورق و أن يخرج برؤيته هو ..فها هنا الإبداع..وليس المخرج مجرد حرفي أجير عند كاتب النص..فسحقا لتحدي الخيال! تحيا الرؤية!
2
الماتريكس بأجزائه الثلاثة..يا ما أنت كريم يا رب أن خلقت لنا الأخوان واتشوسكي (أفهم أن احداهم قلب جنسه وأضحى انسة- معلومة غير مهمة)... أستطيع اللف والدوران حول الفلسفة الكامنة في الفيلم والرسالة المضمرة..لكن لأكون صريحة معكم..فالكافوتي !الكافوتي! ونسمة أفلام هونغ كونغ التي باركت هوليوود بلمساتها البديعة في فن القتال. أنا كالملايين من مهووسي الماتريكس أعشق مشهد المصعد في الجزء الأول...عندما تخرج ترينيتي ونيو من المصعد يحملون معهم أرتالا من الأسلحة والذخيرة...ومشهد الرصاص يستاقط على الرخام رشيقا كزخات المطر أو عند اصطدامه برخام المبنى محدثا ثقوبا وخرابا هندسيا فتاكا، وتلك المشية الواثقة للبطلين التي تزود ادريناليني الشخصي بكل ما احتاجه لمواجهة العالم الشرير (والعالم شرير كما نعرف). الجزء الأول هو المدلل عندي ..وفيه يتضح مزاج الاخوة واتشوسكي ورغبتهم في صناعة فيلم مصمم على هيئة مجلات الكوميكس البطولية (الحوار واللغة ذات الكلمات الرنانة المبالغ فيها بعض الشيء- المشاهد واللقطات والتصوير الذي لسبب ما يبدو مستطيلا كما في تقسيم المجلات- تعابير الوجه الكارتونية والمرسومة)
 
3
بما أننا جئنا إلى سيرة الكافوتي فلا بد أن أذكر فيلم "اسطورة المعلم السكران" legend of the drunken master وهو من أوائل أفلام جاكي تشان التي دبلجت طريقها إلى هوليوود (الدبلجة ردئية كما ينبغي لها أن تكون، فهي تحافظ على ذلك الإرث العظيم لأفلام الكونغ فو القديمة في السبعينات التي كنا نستهلكها في طفولتنا دون هوادة). الجميل في الفيلم هو الطابع الشرقي غير المتأثر ببهرج الغرب في التصوير، والأهم من ذلك، كان ذلك الفيلم من أول الأفلام الذي جعل القتال جزءا أساسيا (لا مكملا) من الحوار...أقصد أن القتال هو حوار بين طرفين، وكان القتال سابقا أشبه بوصلة استراحة بين مشهدين حواريين... لكن مع جاكي تشان يصبح القتال حوارا كوميديا بديعا كتلك المواجهة الأولى بين معلم كونغ فو والفتى المغتر بنفسه أسفل أحد القطارات أو يصبح القتال جوهرا يلخص حكمة الفيلم في الصراع ما بين الحديث والأصيل عندما يتقن جاكي شان فن الشجار السكران.
 
4
Good night and good luck لجورج كلوني، أذكر في ليلة احتفال الأوسكار عندما فاز بجائزة أفضل ممثل عن فيلم سيريانا كانت قد كست وجهه لمحة من خيبة الأمل وقال معلقا "أظن أن هذا يعني أني لن أكسب جائزة أفضل مخرج"! أحب جدا الأفلام التي تجري أحداثها في كواليس المسرح  أو محطة تلفزيونية أو إذاعية أو مكاتب تحرير صحفية، لكن ما من أحد من الأفلام سوى هذا الفيلم استطاع أن يعكس ذلك التوتر الكامن والحيوية الذي يكون في المنافذ الإعلامية، ذلك الصراع الحي..الحي والدموي حقا (دعك من كل أفلام الدمار الشامل...ها هنا أحشاء تتلوى ودماء تتقاطر!).. الفيلم أشبه بكبسولة مضغوطة وقد نجح كلوني في اختيار القالب الزمني الملائم لأحداث الفيلم، إبان فترة الماكارثية وأول مواجهة متلفزة بين الحرية والسلطة ...ذلك التناطح الأول والقوي الذي يخلف شهداءا وأبطالا ومهزومين..تلك المناطحة التلفزيونية التي تمت بين الصحفي الأمريكي الأيقونة أدوارد مورو و السيناتور الطموح ماكارثي. والممثل دايفيد ستراذيرن بالغ في التمثبل عديل كدا. الفيلم عبقري حقا، لأختياره الصادق لحدث تاريخي يجد صداه في كل حين..في كل وقت من زمننا المعاصر..تجد نفسك تلقائيا تقارن بين كل عبارة ولفتة في الفيلم وما نطالعه الان في اعلامنا الحديث. كل ذلك التوتر ينساب بنعومة بين أنغام الجاز الصادحة وألق الستينيات الساحر...صراع دموي بقفازات حرير بيضاء.
 
5
طالما نتحدث عن الصراع مع السلطة، فبطبيعة الحال فيلمي الأثير JFK لأحد مخرجي المفضلين أوليفر ستون. يقول عنه مارتن سكورسيزي أنه حضر دورة تدريبية كان يزامله فيها ستون وقد عاد لتوه من خدمته العسكرية من حرب فيتنام، فتى منطوي على نفسه..كان لا يراودك شك أنه شاهد الكثير وتألم أكثر..يقول أنه رقيق..رقيق جدا. وأظن أن معظم أفلام ستون تكتب ألمه واعتراضه على هذا العالم لا بصخب وضجيج ولكن بشكل رقيق وانساني شفاف نادرا ما تبصره بين البشر (اعني انظر فيلمه وول ستريت والجنة على الأرض). مشهدي الأثير في فيلم JFK هو ذلك اللقاء الذي يجمع بين السيد أكس وبطل الفيلم كيفين كوستنر وفيه يكتشف البطل أنه لا يهز سوى خيط رفيع بعيد في زوبعة عنكبوتية مهيبة تنسجها السلطة والمال والقوة(وأعترف أن مرجعي في ترجمة وتأويل الصراع العالمي هو ذلك الحوار في الفيلم). وأيضا مشهد المحاكمة الاخير..يا لتلك الملحمة..دعك من الأوديسا والإلياذا..دع عنك أخيليس وهوميروس و ...ها هنا يواجه المدعي العام جيم قاريسون في محكمة أنيقة في الجنوب الأمريكي الهة التعنت والقدر (يا الله يا امين أبلع العبرة في ذلك المشهد الذي سهكته من كثر ما كررته)...ثم أن الفيلم جمع كل الأحبة: تومي لي جونز، كيفن بايكون، جو بيشي، دونالد ساذرلاند. القطع/المونتاج في الفيلم نظيف وخادم جدا لأحداث الفيلم وتصاعد الحبكة (وهي حبكة صعبة ومعقدة  لا تنحل سوى بين يدي صانع ماهر كأوليفر ستون..فالرجل كان يعرض بين يديكم نظرية مؤامرة لم تجد لها سندا في المحاكم لكنها وجدا سندا عريضا على الشاشة السينمائية)..والمزيكا كانت (أوسوم! Awesome) لسة بتخلع قلبي في المشهد الذي تنحل فيه (أو تنعقد فيه بالأصح) أول خيوط المؤامرة...المزيكا عجيبة وقابضة للأنفاس
 
6
جبنا سيرة مارتن سكورسيزي...السبب الذي يجعلني متعلقة بفيلمه "عصر البراءة" محير لي حقا، فالقصة المملة التي تمتد لثلاث ساعات متواصلة تدخل في صراع عنيف مع أعضاء جسدي المتململة..الفيلم بديع..ودعوني أقول لكم شيئا ...المخرج بيبان من فيلمو...فلو حصل إنو مارتن سكورسيزي عزمك على العشاء..اقبل الدعوة فورا، فالرجل سخي بالكاميرا...سخي حد البذخ والإسراف (في المقابل لو عزمكم كلينت ايستوود اتصبر من بيتكم)..مشاهد المعمار البوستوني (من بوستن) في منتصف القرن التاسع عشر ، والتصميم الداخلي لغرف منازلها حيث تفرد الكاميرا مساحة كبيرة لكل تفصيلة لكل زخرف على الحائط لكل نقش على الكراسي الخشبية، لكل ثنية فوطة عشاء حريرية مطرزة لهو تحد عظيم..عظيم حقا، فأمريكا في ذلك العهد كانت تحاول أن تعكس شئيا من الرخاء الأمريكي السوقي وتروضه بألق أوروبي عريق..خلطة عجيبة كدا غايتو خلقت ذلك الأرث النيويوركي (كما تعرفون نيويورك حاجة براها كدا..كما اسكندرية حاجة براها كدا) . وسكورسيزي المفتون بنيويورك وتاريخ عصاباتها الدموية- فأفلامه بالكاد تخرج عن هذه الدائرة -يصف هذا الفيلم الرومانسي الرقيق بأنه أكثر أفلامه دموية!!! أنا أضع علامات التعجب مجاملة لكم..ولكن الحق الحق أقول لكم هو كذلك...ما من مشهد أكثر دموية من صراع الروح الذي جسده دانيال دي لويس ببراعة بين التقاليد والأعراف وبين الانقياد وراء العاطفة الجياشة واتقاد القلب.هناك مشهد يذبحك من الوريد إلى الوريد ، يقف فيه دانيال دي لويس تعصف به الهواجس بين زواجه الوشيك للبريئة الجميلة (ماي-وينونا رايدر) وعشقة المتقد لإبنة عمها ( أيلين-ميشيل فايفر) ..كانت تقف على المرسى ويقف هو على مبعدة منها والدنيا غروب ذهبي بديع، ويمر قارب شراعي فيهمس في نفسه إن التفتت إلي قبل مرور القارب الشراعي أمام المنارة..سأذهب إليها وأعترف بحبي..وإن لم تلتفت عدت إلى لجام حياتي السابق...ويمر القارب...ولا تلتفت ..تلك اللحظات القدرية التي نصنعها نحن العشاق بالاعيب الهوى الطفولية التي نتقنها. المهم الفيلم جميل..فشل في جمع الأيرادات ولا غرابة في ذلك ...ولم يفز بحظوة كثيرة لدى النقاد..لكن أنا ومارتن نحب هذا الفيلم.
 
7
ديسبيرادو؟ لا أعرف سر اعجابي بهذا الفيلم المسرف في الدم والقتل..خاصة وأنني بت أمقت أنتونيو بانديراس وقد فشل في مقاومة اغواء الهوليودية وانسياقه في دور العاشق الاسباني النمطي (ربي احمي خافيير بادريم من هذا الإغواء..رب اترك لي لاتينيا واحدا سليما) ..ما من فيلم يفسر محبتنا لروايات كتاب لاتين أميريكا كما هذا الفيلم (دعك من الحب في زمن الكوليرا وبيت الأشباح..ما عجبوني نهائي الإتنين..وكان فيهما عنصر الخيانة..خيانة الرأسمالية والأمركة) ...ففيه ما أحببناه في تلك الروايات..فيه ترادف الأضداد وكأنهما حبيبين قديمين... الموت رديف الحياة (كلاهما صاخب) ، الأمل رديف اليأس (كلاهما ساخر) ، الحب رديف العنف (كلاهما حسي) ... جميل مشهد أنتونيو بانديراس يتقطر دما وهو يوجه طفل صغير كيف يعزف الجيتار، جميل مشهد سلمى حايك تبحث عن فردة حذائها بينما الرصاص ينحدر عليها من كل صوب..ثم تنفذ قفزة مستحيلة من أعلى بناية بذات الحذاء !! (كما قلت علامة التعجب للمجاملة)...ثم أنني أحب أغنية البداية وأحب المخرج روبرت رودريغز
 
8
غاندي..أنا حافظة حوارات الفيلم..ورغم إنو "ما هندي" فهو رؤية غربية لما هو "هندي" ورغم إنو لم يكن دقيقا في نقل الوقائع التاريخية، إلا أن الفيلم مؤثر حقا وجميل. الحوارات فيه جميلة بسيطة وعميقة والمشاهد كما ذكرت مؤثرة...مشهدي المفضل بالطبع هو مشهد "مولانا أزاد" (برجاء قوقلو هذه الشخصية وتكسروا فيها كما تكسرت أنا) وهو يؤمم بنفسه مصنع دارسانا للملح وبردائه الأنيق وعصي الشرطة تنهال على الأنصار ومارتن شين يلهث على التلفون مرسلا برقية لصحيفته صائحا "كل ما كان يحمله الغرب من أسبقية أخلاقية على العالم قد سقط اليوم- قف- لقد تحملت الهند كل ما يمكن تحمله ولم تنكسر –قف) الله أكبر...النصر لنا (نحن منو؟ نحن المستضعفون في الأرض طبعا..المستنيلون والمتدهولون على عينا)..اللقطة أدناهو أيضا من لقطاتي المفضلة
 
 
انتهى...همممم ما الذي تكشفه هذه الأفلام عني؟ أوعى يكون؟؟؟ أنني من نوع البشر الذي لا يجد حياة إلا في الصراع!!! سجمي!


قانون ما قبل موت الأطفال.

ما زالت قوانيننا هنا في السودان ذات طابع ردعي وعقابي penal بمعنى أنها تنتظر حدوث الجريمة لتعاقب الجاني فتأمل أن تكون في العقوبة منعا للمعتدي من تكرارها وأن تكون في نفس الوقت أمثولة يتعظ بها الأخرون. إلا أنه في العديد من بلدان العالم الأول، وجدوا أن هناك بعض الجرائم لا يكفي معها وجود قانون عقابي، وذلك أن في مجرد حدوثها ضرر لا يمكن تلافيه ولا معالجته. من ضمن هذه الجرائم هي جريمة الإعتداء على الأطفال. فالأثر الذي تتركه جريمة الإعتداء على الطفل تظل مؤثرة في حياته وماثلة بشكل عميق بحيث تصبح فكرة معاقبة الجاني عبثية مقارنة بالضرر الذي يسببه الجاني.  لذا كان وضع قانون "وقائي" يقيم ضوابط كثيرة يمنع حدوث الجريمة من أصلها. ويسمى في العديد من البلدان : قانون (حماية) الطفل.
الدهشة التي أجدها في وجوه الكثيرين عند قراءتهم لخبر اعتداء أستاذ جنسيا على طفل، أو اعتداء سائق الترحيل، أو شيخ خلوة، أو عم الطفل أو خاله، أو الجار أو السيد الدكان تؤكد على شيء واحد، أن هناك جهل عميق من المجتمع تجاه فهم جريمة الإعتداء على الطفل. وهو جهل أصبح لا عذر له وتساءل عنه الدولة خاصة وقد ورد على لسان أحد مسئوليها (وزير التعليم بولاية الخرطوم) ووصفها بأنها (ظاهرة) ، رغم أنه في بلاد الغرب يسمونها (وباء) وفي التسميتن يتضح اختلاف عمل الدول عندنا وعندهم، فبينما الوصف الأول يعطي ايحاء (ظاهرة من ظواهر الكون لا يد للإنسان فيها) نجد التسمية الثانية تلقي بشيء من مسئولية المكافحة والمعالجة على عاتق الدولة..لكننا لن ندقق كثيرا في التسمية .
قلت أن هناك جهلا بفهم ظاهرة الاعتداء على طفل عندما أجد دهشة الناس من "المعتدي"  ذات نفسه، فالإعتداء على الطفل لأنها جريمة خطيرة تجد استهجانا مباشرا من المجتمع ليست كأي جريمة أخرى كإغتصاب امرأة أو قتل رجل اخر حيث يمكن تبرير الجريمة بأن المرحوم كان غلطان وإلقاء شيء من اللوم على الضحية، إلا أن جريمة الإعتداء على طفل لا تجد لها أي مبرر فالضحية بريئة بريئة! لا تجد لها تبريرا على الإطلاق (بإستثناء ذلك القاضي الشنيع البشع الذي لم يجد في نفسه غضاضة ولا حرجا أن يواجه طفلة في الثالثة عشرة من عمرها ويحملها شيئا من مسئولية الاعتداء الجنسي عليها..يحدث هذا عندنا في السودان...ربي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا). فلأن الجريمة شنيعة، يحرص المعتدي أبدا على أن لا يفتضح، وكي لا يفتضح لا بد أن تكون هناك علاقة ثقة بينه وبين الطفل، وبينه وبين أسرته، تتيح له فرصة الإنفراد بالطفل، وتتيح له ضمان سكوته.  ونجد علاقة الثقة هذه في ذلك الشخص المألوف الذي تبتعد عنه الشبهات عادة، كالمعلم، كرجل الدين، كالطبيب، كالقريب، كالجار، كالشرطي. فعلاقة الثقة هذه هي المدخل الوحيد للإعتداء على الطفل...المدخل الوحيد ..هل وضح تأكيدي هذا؟ أؤكده لأن الناس تفضل أن ترى المعتدي هو مدمن المخدرات أو مجرم محترف أو العزابي الذي يسكن وحيدا منعزلا في غرفته... وفرصة هؤلاء في الانفراد بالطفل أضعف من فرصة اهل الثقة الذين ذكرتهم. أؤكد مرة أخيرة..لا بد للمعتدي من مدخل على الطفل..هذا المدخل هو عامل الثقة!
وهذه الجريمة الشنيعة المرضية، لا تنتج عن مرض نفسي متجذر واضح..اي أنها لا تصلح معها اختبارات نفسية (كما رأت وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم)، فوفق دراسات أقيمت في البلدان التي تأخذ هذا الأمر على محمل الجد، كثيرون من المعتدين هم أرباب أسر محبوبين من أطفالهم، أو هم من أولئك الذين لم يرتكبوا جريمة في حياتهم ولم يتعاطوا مخدرا أو مهلوسا، أو هم من أولئك الذين لم يخبروا اي اعتداء في حياتهم أو في طفولتهم! فالإعتداء قد ينتج من ظرف نفسي عارض بسبب ضغط حياتي طارئ، كأن يفقد أحدهم وظيفته ومصدر دخله، كأن يكون المعتدي يعاني في حياته الخاصة من ضغوط أسرية، كأن يحس بالإضطهاد...وقد لا يكون لأي سبب من هذه الأسباب، فقد يكون فقط بسبب إغواء الجريمة ، قد يجد المرء فرصة سانحة وجاهزة للاعتداء على طفل دون أن يكشف أمره فيفعلها..وهذا معروف لدينا...بل معروف لدينا في الفقه الشرعي ..أليست من شروط اقامة الحد على السارق أن لا يكون المال مكشوفا مغريا بالسرقة..نعم! هناك اغواء الجريمة!
أنا لا أريد أن أدعو إلى قيام مجتمع تشوبه الريبة والشكوك، خاصة وأن المجتمع السوداني هو مجتمع قائم على علاقات الثقة المتبادلة بين أفراده، فلا تجد في ثقافتنا وصولات الأمانة أو عقود التعامل، وجزء كبير من تماسك الأسره هي علاقات الثقة المتبادلة...إلا أن اهمال الدولة لظاهرة الإعتداء على الأطفال ستكون لها عواقب وخيمة على علاقات الثقة المتبادله هذه. وهناك عدة تدابير لا بد للدولة من أن تقوم بها لدعم قيام مجتمع صحي. أهمها هي وضع قانون يمنع وقوع الجريمة من أصلها!
ملامح القانون:
هناك حديث كثير من قبل منظماتنا السودانية العاملة في مجال حماية الطفل  حول تعريف الاعتداء الجنسي على الطفل وتوسيع مفهومه وعدم الاكتفاء بتعريفه كعملية الأعتداء المباشر بل أن تتعداه إلى أن يكون تعريض الطفل للألفاظ الجنسية الجارحة، أو تفريجه على مشاهد أو صور جنسية من ضمن الاعتداء الجنسي على الطفل. والشكر الف شكر لمنظماتنا الوطنية الواعية لهذه الخطوة في توسيع مفهوم الاعتداء على الطفل...فما لا يعرفه الجاهلون بطبيعة الإعتداء الجنسي أنه أيضا يحدث على مراحل، وأن كل مرحلة تؤدي إلى أخرى، تعريض الطفل لرؤية مشاهد جنسية، أو اشراكه في القاء نكت بذيئة تؤدي لمناداة الطفل للقيام بعمليات جنسية طفيفة (حرص وزير التربية والتعليم بولاية الخرطوم أن يؤكد على تسميتها بالتحرش) والتحرش يؤدي بدوره إلى الاعتداء، فجريمة الاعتداء على الطفل هي جريمة تصاعدية، وذلك وفق دراسات أقامتها الدول التي تأخذ أمر الاعتداء على الطفل على محمل الجد، فلم تجد الدراسات أن هناك مدير مدرسة احترف وتخصص في  "التحرش الجنسي" طوالة عشرين سنة  من عمله مثلا..فالتحرش يؤدي إلى الاغتصاب الكامل..رغم أن الطفل لا يفرق بين العملية الجنسية الكاملة ولا الناقصة فالأثر مدمر في كلا الحالتين!
توسيع مفهوم الاعتداء مفهوم مهم جدا لأنها كما قلنا جريمة تصاعدية الصغير منها يؤدي إلى الكبير. وبالمناسبة أنا أحببت أن أقول "اعتداء" لأن الضرب اعتداء أيضا على الطفل، والسماح بثقافة جلد الأطفال في المدارس بالمسطرة على أيديهم تفسح المجال بضربهم بخراطيم المياه وسيور الكهرباء وتسبيب العاهات الجسدية والنفسية لهم...لكن عموما أتفهم ميلان المجتمع للاهتمام أكثر بظاهرة الاعتداء الجنسي على الطفل.
كي نستطيع أن نضع قانونا لحماية الطفل لا بد من عدة ضوابط، هذه الضوابط تفرض على كل من لهم علاقة مباشرة بالطفل. واحدة منها هي "تصريح العمل مع الطفل" وهو تصريح يخرج من وزارة الداخلية يقول بأن هذا الشخص مؤهل للعمل مع الأطفال حيث أنه لم يتورط من قبل في أي جريمة قد تسمح بتورطه بجريمة اعتداء على طفل (كجريمة اغتصاب لا كمخالفة مرورية) . في نفس الوقت عند استخراج هذا التصريح يكون هناك ملفا لدى وزارة الداخلية لهذا الشخص العامل مع الأطفال، بحيث أنه من إن تحدث جريمة تدون في ملفه، ولا يسمح لأي مدرسة أو مستشفى أو نادي أو أي مؤسسة تعمل مع أطفال أن تقوم بتعيين هذا الشخص في أي عمل يتطلب تداخلا مباشرا مع الأطفال أو يعطيه الفرصة بالتعامل معهم.  هذا الملف هو بمثابة "الداتا بيس" للدولة حول العاملين مع الأطفال كالأساتذة، كسواق الترحيل، كشيخ الخلوة، كالمدرب في نادي السباحة في نادي الضباط، كالمقاول لبناء فصول بالمدرسة العالمية العربية، كالأخصائي النفسي، كطبيب الأطفال، كالمتطوعين في مجال الأطفال كالعاملين بالملاهي والحدائق العامة، كالحاوي في المناسبات العامة واعياد الميلاد...الخ والأمثلة كثيرة.
الملمح الثاني من هذا القانون هو توزيع المسئولية القانونية لحماية الطفل على كل من له علاقة عمل مباشرة مع الطفل...كإدارة المدرسة، كالمعلم في الفصل، كإدارة النادي، كمدرب النادي، كوالدي الطفل وأسرته أو من يتولاه بالرعاية، كإدارة المستشفى أو العيادة، كالطبيب المباشر كالبقالة التي تبيع الحلوى ، كسيد الدكان..وكل من يقع تحت عمله تعامل مباشر مع طفل فهو مسئول مسئولية مباشره عن رعايته وحمايته وهي معروفة في القانون بإسم (مسئولية الرعاية) Duty of care .
الملمح الثالث له علاقة بالملمح الثاني هو التبليغ الإجباري، فمجتمعنا مجتمع محافظ، وجريمة الاعتداء على الأطفال ليست جديدة على الإطلاق! لا داعي للمراوغة...فاعتداء المدرسين على التلاميذ قديم جدا، أو العاملين بالمنزل، أو سيد الدكان، أو شيخ الخلوة، أو أحد الأقارب...لكن هي جرائم اثرنا التكتم عليها حماية للنسيج الاجتماعي وحماية للطفل من معرة (ليس هو طرف فيها بأي حال من الاحوال) ، لكن لم يعد هذا صالحا في أيامنا هذه، مع ضغوط الحياة الاقتصادية المستمرة وغياب الرقابة الأسرية الجماعية المباشرة على الطفل وتعدد أماكن التعامل المباشر مع الطفل (كالأندية الرياضية والحدائق العامة والملاهي ورياض الأطفال والترحيل المدرسي) أصبح التكتم على الجريمة هو اعطائها رخصة كي تتكرر بشكل مهول في المجتمع. لا بد لكل من يرى عملية اعتداء على طفل أن يقوم بالإبلاغ الفوري عنها أو فإنه يقع تحت طائلة التستر على جريمة الإعتداء. ولأن مجتمعنا السوداني ليس وحده المجتمع المحافظ ، ومثل قانون التبليغ الإجباري قد يخلق مجتمعا تسوده الريبة والشك والإتهام بالباطل، فإن هناك ضوابط تقام وورشات تدريب تقدم لكل من تقع عليه مسئولية التبليغ الأجباري. فالطبيب الذي يرى اثار اعتداء جنسي على طفل عليه واجب ابلاغ الاسرة وواجب ابلاغ الجهات الرسمية المختصة، والاستاذ الذي يرى استاذا اخر أو مدير ينفرد لساعات طويلة مع طفل اخر دون مبرر عليه ابلاغ ادارة المدرسة وعليه أن يطالب اداره المدرسة بأن تقدم تبريرا لهذا الانفراد وإذا لم تفعل أن يذهب إلى الجهات الرسمية المختصة.
الجهات الرسمية المختصة من هي...هي إدارة كما أتصور يتم افتراعها بالشراكة بين وزارة الداخلية ووزارة الرعاية الاجتماعية، تسمى إدارة حماية الطفل لها سلطة قانونية تخولها في التعامل الحساس والمحترف مع  الاطفال وأسرهم ومع المشتبه به في التعدي، وهذه الإدارة هي حلقة الوصل الحساسة التي تستطيع أن تمنع الجريمة وفي نفس الوقت لها القدرة على حماية نسيج المجتمع من تفشي الريبة والشك فيه.
ثم هناك حملة التوعية الشاملة بحماية أطفالنا من الاعتداء الجنسي وحول مفهوم الاعتداء الجنسي الذي تتوزع مسئوليته أيضا على الدولة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات العاملة في مجال الطفل....حملة لا بد أن توضع خطتها شراكة بين كافة الأطراف ، يأتي في بالي "الخط الساخن" الذي افترعته الولاية  قبل ثلاث أعوام مضت للإبلاغ عن اي اشتباه في اختطاف طفل او الإعتداء عليه، الفكرة في حد ذاتها مقدرة لكنها تشبه خطة إدارة المرور بتركيب رادارات الكترونية على طرقات ليست بها أي اشارات مرورية لتنظيم المرور ولا يافطات تضع حد أقصى للسرعة فإنت غالبا بتكون ماشي وما عندك أي فكرة إنك بتكون ارتكبت ياتو مخالفة مرورية. قبل الكاميرات الالكترونية بالشيء الفلاني ضع علامات مرورية تنظم السرعة والسير، قبل الخط الساخن بالشي الفلاني لا بد من حملة توعية توضح الإبلاغ عن ماذا. غايتو
ألا هل بلغت ؟ اللهم فأشهد


Tuesday 22 January 2013

نمرة 12

                        
                           "يا مجنونة يا كورة"!
قبل فترة وأنا أتصفح مدونة الصديق الفنان والكاتب طلال ناير، لفت نظري نعي أفرده للاعب الكرة النيجيري المشهور "رشيدي يقيني"، مات وحيدا مهملا في شقته في بلدة معزولة عن أهله وأصحابه. وقد أحزنني الخبر أيما حزن، وجر معه قاطرة من الذكريات لزمن جميل. (كل الأزمان ليها جمالها )
كان كأس العالم للعام 1998، يومها تكدسنا أمام التلفزيون القومي (ما قبل احتكار الفضائيات الخاصة) ونحن نهتف ملء الحناجر لفريق نيجيريا في مباراته أمام بلغاريا، ساعتها لم نكن نهتف لفريق نفضله فحسب...كنا نهتف ضد الامبريالية، ضد الكولونالية الحديثة  وشايلين لسة من جراحات الاستعمار القديم.(ولو إنو بلغاريا ما استعمار خاالص..يحليلها) هتفنا للقارة السوداء...هتفنا للأنسانية المسحوقة... هتفنا لتخطي العقبات وتحدي المستحيل.... للتمريرة البديعة من فيندي جورج...يستلمها رشيدي يقيني (الحائط الرشيق) يتقدم ويتقدم ويتقدم...ويسدد...و قووووووون.... ودخل رشيدي في الشبكة وحضنها ورفع يدينه ابتهالا لله.....بكينا طبعا...نان من الصباح بحكي ليكم في شنو؟ الانسانية المسحوقة وكدا. صديق لأسرتي أخبرني فيما بعد أن ابنته اللطيفة "يقين" مسماة على تلك اللحظة المعجزة.
ياااااه....الكلام دا كان قبل زمن....في وقت كانت كرة القدم أشبه بالحلم، بالأساطير ...كرة القدم كانت ملحمة، بأبطال مجهولين بيظهروا في اللحظة الأخيرة لإنقاذ الموقف، بفرسان برزوا من قاع المجتمع ليكونوا من نجومه، من نيازك لمعت ثم هوت وانطفأت وأكلها النسيان...كانت قصة.  دا ما قبل هجمة شركات الاستثمار الكبرى على الأندية الرياضية، وعلى الاعلام الرياضي واعلامييه وعلى لعيبة كرة القدم وعلى قصصهم وعلى ملاعبهم وملابسهم وتسريحة شعرهم، وعلى الفيفا... وأصبحنا نتابع أخبار كرة القدم على الشريط الأخباري في التلفزيون كما نتابع أخبار البورصة...النادي الفرتكاني اشترى عقد اللاعب الفلاني ودفع خلو رجل للنادي الأولاني. اللاعب العلاني سعره نزل في السوق فاشتراه النادي داك من باب التوفير. وكان زمان عقد اللاعب مع النادي كما العهد المقدس لا يفض إلا بتقاعد اللاعب، وكانت الولاءات للأندية مقدسة لا تستبدل ولا تنتهي. فالان بدلا من لحظات ذهبية يسجلها اللاعب بقلبه وروحه، اصبح اللاعب يلعب بماهية وفقا لمتطلبات الوظيفة term of reference
تابعتم انتقال هيثم مصطفى إلى المريخ؟ حالات الاغماء وسط الجماهير...و الحيرة ...واحساس الخيانة؟ الجمهور الكروي هو القطاع الوحيد الذي لم يفقد شيئا بعد من رومانسية الملحمة، هو الذي لم تستطع الشركات الاستثمارية من الاستيلاء عليه بالكامل...صحيح بتقوم باستغلاله ، بيلبس فنيلة الفريق بلوقو الشركة، كما علق رسام الكاريكاتير الأمريكي الأشهر "ريتشارد كرومب":  "لقد اصبحنا عبارة عن يافطات اعلان متحركة للشركات الكبرى". لكنها لم تستطع السيطرة عليه بالكامل. ما زال الجمهور يشجع بحنق فريقه الكحيان، ويتوعده ويهدده بالهجران، ثم يعود إليه باكيا راجيا الغفران، مسترجعا عذب الذكريات محفزا للزمان أن يرجع يا زمان كما تقول السيدة أم كلثوم.
"نمرة 12" أحد أفلام الدورة الثانية لورشة صناعة الأفلام – سودان فيلم فاكتوري، الفيلم لفت نظري وانتباهي، تحديدا حركة الكاميرا الناضجة بالنسبة لتجربة أولى. دونا عن كل الأفلام الأخرى في الدورة الأولى والثانية فإن هذا الوصف هو الأليق لهذا الفيلم...النضج. الفيلم كان يسير في تراك/مسار مخطط له بعناية ودقة بدءا من الفكرة، والشخصية الملائمة للفكرة،و السيناريو، التنفيذ مشتملا مواقع تصوير، واللقطات، وحركة الكاميرا التي كما قلت، تعرف تماما ماذا تريد، ولعل هذا ما افتقدته الأفلام الأخرى ، بيد أن كل واحدة من أفلام الورشة كانت تحمل مزية تخصها. الفيلم يستعرض قصة مشجع هلالابي على السكين، عن محبته لنادي الهلال، وعن تكوينه لما يعرف بالألتراس هلال، وعنوان الفيلم البسيط لكنه يحمل دلالات كثيرة يقوم المشجع بشرحها أثناء الفيلم من خلال رؤيته لنفسه كعنصر أساسي لفريق كرة القدم.
في فيلم أخر من أفلام الورشة "رف كت"، قام برصد أحداث ورشة صناعة السينما، شاهدت مدرب الورشة يحاول أن يوجه المتدربين في عملية اختيار الفيلم، وذكرني ذلك بتدريبي الأول في الإذاعة، كيف كانت تمزق سيناريوهات تقاريرنا الإذاعية العظيمة بلا رحمة...كانت عظيمة إذ أنها تحمل أفكارا عظيمة وسامية..فكان المدرب يهز كتفيه باستخفاف قائلا...أنا لا أريد سموا! ولا أفكارا عظيمة لتبحثوا لها عن أحداث واقعية تجاريها...أريد أحداثا واقعية صادقة...وستتولد الأفكار السامية بنفسها من تلك اللحظات الصادقة
بس! لهذا السبب تحديدا أنا حبيت الفيلم وحبيت شخصية الفيلم، لأنه بعيدا عن الكرة ...الفيلم كان بيوثق لحالة عشق، passion وكان ذلك بالتحديد أكثر ما شدني للفيلم، في خضم اليومي والمستهلك والنافق–disposable في بلادي، يظهر هذا الفتى، يجابه كل ذلك بعشق لأمر قد نراه تافها، إلا أن العشق وهو الدائم، والثابت والأصيل، فإن العشق في حد ذاته هو مجابهة للاستهلاكية والهشاشة المستفحلة في الوطن.
تلك اللحظة البديعة التي التقطتها الكاميرا وقد تركت المشجع يسترسل وهو يسرد وقائع مباراة الترجي التونسي قبالة فريقه، تعابير وجهه تتلذذ بوصف ذلك الهدف الأول، المتعة والبهجة تطل من عينه وبسمته وكأن اللحظة طازجة استطاع  أن يخرجها بعناية من ثلاجة ذاكرته، ثم يأخذه الحكي على غرة منه ليستذكر هدف التعادل لفريق الترجي، ثم هدف الفوز ، ثم توالي الأهداف وتكدسها إلى ستة، وأظنه عند وصوله للهدف الرابع تخنقه "عبرة" حرى وصادقة، تلمس في قلبك وترا، ولو لم يكن لك أي عشق كروي...فالعشق هو العشق كرويا كان أم غيره، تعرف فيه لحظات الحسرة والخيبة والفقدان ...والأمل أيضا.
هنا تكمن العبقرية المخبأة في الفيلم، ذلك التواصل، ال click كما يقول الخواجات، ذلك الرصد لحالة رهافة انسانية في سياق غير متوقع. مشجع كرة؟ من كان يظن.


كن خطيرا

                         
مفبركة – مشكوك فيها- مختلقة- مفتراة- دعاية- كذب صراح – صورة بلد اخر في مكان اخر ..الى اخرها من الكلمات التي بها اتجنب سؤال : ( والان وقد علمت، ماذا انت فاعلة؟) ، كلما طالعت صورة تشير إلى ويلات الحرب في غرب بلادنا، وجنوبها، كلما قرأت خبرا لناشط سياسي أو حقوقي عن ما تعرض له من تعذيب. وحالي لا يختلف عن حال امرأة أمريكية قبل خمسين سنة تطالع صورا في صحيفة أو تقرأ خبرا عن ويلات الحرب والفظائع التي ترتكبها بلادها ضد قوم عزل في قرى فيتنام.  بالضبط حالنا مطابق لحال معظم الأمريكيين في ستينات القرن الماضي، وهم ينكرون ويسدون اذانهم عن ما يصلهم من شهادات الحرب. ليس محبة في الوطن..ليس بالضرورة...بل هروبا من ذواتهم، من ثخن الجلد وتبلد الروح .
حين أطالع تلك الصور وأقرأ تلك الاخبار ، أزن نسبة الصدق والكذب فيها بالخمسين في المائة ، كي أفر فرارا إلى الخمسين التي لا تطالبني أن افعل شيئا، الخمسين التي تلزمني جانب السلامة والنجاة.
لكني حين أطالع تلك الصورة ، تلك السيدة التي تحتضن ابنها في كهف، تطالع السماء خوفا ورعبا، يسري في دمي رعب طفيف خفيف بالكاد أحسه، لوهلة أراني تلك السيدة أحتضن ابني الصغير أطالع السماء ، أراني حبيسة في صورة عبرت مئات الأميال كي تحرك قلبا ما في مكان ما، وأرى سيدة مثلي تطالع الصورة، وأنا هناك في الصورة أستصرخها في صمت، وهي تفكر فيما إذا كنت حقيقة أو وهما أو فبركة..وانا استصرخها "لكنني هنا...هذا الرعب حقيقة..هذا البؤس حقيقة..هذا الموت حقيـ..." وتقلب السيدة الصفحة.
يا الله...هذا الاحتمال الطفيف ...يرعبني
  جو الرخامة القومي العام الذي نعيشه الان..عاشته أمريكا في الستينيات عندما شنت حربها على فيتنام، ولزم الناس جانب السلامة، جانب الخمسين في المائة من الشك في ما يتوارد إليهم من أخبار "غير رسمية". لكن كان هناك رجال ونساء خطيرون... خطيرون حقا..قرروا..يا سادة... أن يعبروا إلى جانب الخمسين في المائة من ترجيح احتمال التصديق و لو لمرة   . أحد هؤلاء الرجال يدعى "دانيال ايلزبيرق" وقد نعت في زمانه "بأخطر رجل في أمريكا" ، هو الرجل الذي سرب أوراق البنتاقون التي كانت تؤرخ لبداية الحرب الكذبة في فيتنام. كان دانيال شابا لامعا، يعمل محللا استراتيجيا في الاستخبارات العسكرية الأمريكية . في الثامنة والعشرين من عمره كان يملك الدنيا، وظيفة مرموقة ، تعليم رفيع، مرتب عالي، والنفوذ.
 
عندما التحق دانيال بعمله كمحلل استراتيجي كانت الحرب في فيتنام تسير على قدم وساق، فشارك فيها بكل حماسة وانضم إلى الصفوف الأمامية للجيش الأمريكي كمجند، وهناك بدا رحلة  تصديق ما كان يشاع عن فظائع بلاده.                                  
كان وحده! وقرر أن يكون خطيرا بأن يوقظ أمريكا من سباتها ، أن يعينها على عبور خط الشك. أجمل ما في قصة دانيال التي وثقها فيلم "اخطر رجل في امريكا" هي مثابرة هذا الرجل ومن تأثر به في فتح أعين الناس. يبدأ بادئ الامر في تسريب أجزاء من التقرير إلى صحيفة نيويورك تايمز، التي تدرك خطورة الأمر وتخصص فريق كامل من الصحفيين لمتابعة نشر أوراق البنتاغون. ومن شدة خوفهم من أن يقطع مهمتهم رجال السلطة نقلوا مكاتبهم إلى مكان سري ليتابعوا عملهم. تمكنت السلطة التنفيذية بالحصول على أمر قضائي بوقف نشر الأوراق بحجة أنها تهدد الامن القومي. وتتوقف التايمز عن نشر الصحيفة. فيتصل دانيال بصحيفة الواشنطن بوست التي تبدي استعداد كاملا لنشر سلسلة الأوراق مع علمها أن أمرا قضائيا ينتظرها فور بدئها بالنشر (مبالغة شبه شديد لحالنا ، مش؟) . وبالفعل يتم ايقاف الصحيفة من متابعة نشر السلسلة، فيتصل دانيال بالصحف المحلية وصحف الدرجة الثانية، فأصبحت الصحف هنا وهناك تنشر مقتطفات من التقرير.
وانتاب دانيال قلق من أن لا يتسنى له نشر الحقيقة وأن تصل إليه أيادي الاستخبارات التي تضيق الحصار عليه، يتصل بكذا عضو في الكونغرس ويسرب إليهم نسخ من التقرير. ولكن الخوف كان يتملك الجميع في تلك الأيام. فسكتوا ولزموا جانب السلامة. فيتصل دانيال بنائب صغير في الكونغرس من ولاية الاسكا، وهي ولاية قليلة النفوذ، وكان الرجل أيضا خطيرا، فهو كان ممن مالوا نحو تصديق ما يشاع عن خطأ بلادهم في الحرب، وكان "وحده" يعارض تمديد قانون التجنيد الإلزامي التي رمت بالشباب في أتون الحرب، ولما بدا له أن الأمر في البرلمان سيسير على غير ما يشتهي ، يبدأ حملة "فيليبستر" ....والفيليبستر هو تقليد برلماني غربي جميل وعريق يصل حتى أول برلمان في أثينا ابان الحضارة الإغريقية، وهي حيلة يبتدعها نائب البرلمان في أن يقود جدلا طويلا جدا حول مقترح قانون معروض للتصويت، وبهذه الإطالة يماجج ويحاجج ويعطل تمرير القانون حتى يسأم النواب من التصويت لتمريره.
كان "مايك قرافيل" يقود فيليبسترا يوميا يعارض فيه أمر التجنيد الإلزامي، فيعرض عليه دانيال أن يقرأ أوراق البنتاغون ضمن فيليبستره. فيوافق مايك ويعلن نيته أن يقرأ التقرير ضمن فيليبستره، فيعارضه البرلمانيون بأن الأوراق ليس لها علاقة بموضوع قانون التجنيد. لكن مايك الخطير لا يستسلم; يبتدع حيلة جديدة، فقد كان هو أيضا رئيس لجنة متابعة مشاريع البناء والتشيد بالبرلمان، يطلب من صديق له يعمل في احدى المشاريع أن يشهد بأن الصرف على حرب فيتنام أثر على الصرف على مشاريع البناء الحيوية(!!! تخيلوا (، ويستخدم مايك هذه الشهادة ليصرح ب"أن أولوية الصرف من الأفضل أن توجه لمشاريع البناء من الصرف على حرب عقيمة، والدليل على أنها عقيمة الاتي...." ويشرع في قراءة اوراق البنتاغون المحملة في صناديق ثقيلة، يقرأ أمام لجنة البناء العمارة التي تتكون من شخصه (وحسب) وأمام مجموعة من الصحفيين قام بدعوتهم لحضور جلسته. يقرا لثلاث ساعات متواصله حتى يصيبه الإعياء، يقرأ ما  يثقل عليه فيبكي من الأسى أمام شاشات الكاميرا على كذبة بلاده. وبعد أن يقرأ يصيح للجنة التي تتكون من شخصه: انا أنادي بأن تعتمد هذه الأوراق ضمن سجلات لجنة البناء بالبرلمان، هل من معترض؟" يسائل نفسه ويجيب "لا معترض! إذا تعتمد الأوراق!" ويضرب بالمطرقة وتعتمد أوراق البنتاغون كوثائق برلمانية رسمية!!! متاحة للعامة وتخرج عن دائرة السرية. الباقي نعرفه عن حرب فيتنام والنهاية المخزية/ المشرفة التي انتهت عليها. مخزية لأهل السلطة والنفوذ ، مشرفة لكل من وقفوا في وجه صلف السلطة.
 
سأعود إلى أمرنا بعد أن أعرج على هذا الأمر، في أثناء معركة أوراق البنتاغون ، يتم القبض على دانيال ايلزبيرق ومحاكمته بتهمة التجسس وتهديد الأمن القومي (هي! زينا واحد) و عند اختيار هيئة المحلفين، اجتمع محاموا ايلزبيرق حول من يجب اختيارهم من بين المحلفين للمحاكمة، فاتفقوا على أن يختاروا شبابا في مقتبل عمرهم، وأن لا يختاروا رجالا في منتصف العمر لأنهم بلا شك مر عليهم موقف كموقف ايلزبيرق اضطروا أن يختاروا فيه بين ضميرهم وبين سلامتهم ، فأختاروا السلامة- بعكس دانيال الذي ضحى بمستقبله المرموق وباستقراره الاسري من أجل ضميره. أولئك الذين لن تفارق المرارة أفواههم ما حيوا ولن يستطيعوا الهروب طويلا من وجوههم أمام المرآة.
 
المطلوب: أن ننتقل من السلامة إلى الخطورة، نحن مكلفون ومسئولون عن ما يجري حولنا، ركوننا إلى السلامة لن يعفينا من الحساب. المطلوب أن لا نركن إلى السلامة والطمأنينة التي تبثها السلطة بقولها أن ما يجري هو كذب وغير حادث فنصم اذاننا فرحين مكذبين. المطلوب ان نركن إلى الخطورة وأن نسائل السلطة أن نتحقق بأنفسنا عما يجري في جنوب كردفان، في معسكرات النازحين في دارفور، نريد لجنة تحقيق نختارها –نحن- تنقل لنا ما يجري هناك. نريد أن يفتح الباب لمراسلي صحفنا في التواجد هناك ونقل ما يرونه كما هو لتحقيق الأمن القومي ..إذ ما الأمن القومي؟ هل هي طائرات حربية تحلق في الأجواء ؟هل هي استنفار على الكباري والطرقات؟ هل هي طوارئ وحظر تجوال؟ هل حالة التوجس والخوف التي نعيشها كل يوم هي أمنا؟ قوميا؟ أم أن الضمير الهانئ المعلي من الحق المستكين إلى العدالة هي الامن القومي؟
المطلوب؟ يقول النبي عليه السلام: "ومن لم يستطع فبقلبه" ذا أمرنا وذا تكليفنا في تغيير المنكر. فلنغير حالة قلوبنا من السلامة المصدقة إلى خطر التشكيك، فإن ورد خبر نفته السلطة; لا تأمن إليه حتى تستبين بنفسك. قل : ((حتى تنقل لنا صور وأخبار الطمأنينة والسلامة من من نتوسم فيهم الحيدة والحق من صحافتنا ومن منظماتنا الحقوقية الوطنية التي نختار...فلا أمان تصديق...بل خطورة الشك)).


الخروج من محنة المدارس الاستثمارية

طيب، قلنا نخرج من محنة المدارس الاستثمارية عبر مشروع شراكة متين بين المدرسة والمجتمع المحلي ومجلس اباء قوي، وتكون وزارة التربية والتعليم هي المراقب والمشرف على العملية التعليمية والتربوية. وذلك بأن ندفع المدرسة لكي تكون وحدة تعليمية شبه مستقلة عن الوزارة . في الوقت الحالي ما نعنيه بالاستقلالية، هو الاستقلالية المالية وإلى حد ما الاستقلالية في تنفيذ المنهج المدرسي.لكن الشيء الذي سينال الحظوة هو "تحسين وتطوير البيئة المدرسية" وهو أمر لو تعلمون عظيم، وهو قلب العملية التربوية والتعليمية، البيئة المدرسية دي أهم من تطوير المنهج، أو تحسين المرافق المدرسية ، أعني تطوير المناخ الذي يحقق أهداف الخطة التربوية والأكاديمية، من أنشطة مدرسية ومن توفير بيئة صحية تخلق لدى التلميذ فضولا للتعلم وللمعرفة، وتحتضن مواهبه وتهيئة لمواجهة العالم الخارجي.
المشروع الذي عكفنا عليه أنا وسلافة الأمين ومحمد أبوبكر ومجاهد وعلياء مبارك. هو مشروع يتعرف على أربعة شركاء أصليين، وهم: ادارة المدرسة، مجلس اباء، المجتمع المحلي(الحلة أو المربوع التي توجد فيه المدرسة) و كيان الطلاب.
 
نبدأ بإدارة المدرسة: سيتم استهداف ادارة مدرسة بعدة ورش وبرامج تدريبية في الادارة المالية ، ضبط الميزانية، اقامة دراسات جدوى، استقطاب الدعم المادي للمدرسة، كتابة المشاريع، استغلال الموارد المتاحة رصد مواطن القصور وأفضل الطرق لمعالجتها. أي باختصار فإن ادارة المدرسة ستهيأ لها الظروف كي تتمكن من أن تخاطب جهات الدعم  من منظمات مجتمع مدني أو مؤسسات خيرية، أو القيام ببرامج شراكة ومشاريع استثمار مؤقت تدر عليها دعما لإثراء البيئة المدرسية. سيتم ربط المدرسة بعدة شبكات لاستقطاب الدعم وتعريفها على منظمات المجتمع المدني.
 
من جانب اخر، سيتم تدريب ادارة المدرسة على اليات ادارة الحوار وفض النزاع كي تتمكن من التحاور مع شركائها الجدد (مجلس الاباء- المجتمع المحلي – كيان الطلاب)
 
قبل أن أفصل حول ما سيتم تقديمه للشركاء الأخرين، لا بد أن أشرح عن سبب اختيارنا لفكرة الشراكة التي لم تأتي اعتباطا، فقبل أن يكونوا شركاءا فهم أهم مورد ومصدر لإثراء البيئة المدرسية ولدفع المسيرة التربوية والتعليمية قدما. وهو مورد لا يتم استغلاله في الغالب رغم أهميته. ومن المهم أن يوضعوا في مقام "الشريك" كي تضمن استمرارية مساهمتهم في دعم المدرسة.
 
وفكرة الشراكة بين اسر التلاميذ و المجتمع المحلي هي فلسفة قامت بتبنيها أنظمة الدول في العالم الأول مؤخرا، لأنهم وجدوا ان المدرسة هي أحد القنوات الهامة لتمرير سياسات الدولة وللتنوير بها، كالحملات الصحية، أو حملات ترشيد استهلاك الطاقة، أو حتى انذارات الكوارث الطبيعية (!!)، بل وحتى في التذكير بالحملات الانتخابية.  فعبر المدرسة يمكنهم الوصول إلى شريحة عظمى من المجتمع، وما أحوجنا نحن بذلك خاصة وأن غالبية السكان في السودان هم من الأطفال والشباب. وفكرة الشراكة هي فكرة لا بد أن تنتبه لها منظمات المجتمع المدني النشطة العاملة في مجال الصحة الأسرية أو حقوق الطفل أو برامج التوعية والتنوير، فإذا ما استطعنا أن نجعل المدرسة هي الرابط الحيوي والمتين بين أسر التلاميذ و"المجتمع المحلي المحيط" للمدرسة، تخيل مدى سهولة انزال البرامج أو تدفق المعلومات بشكل منظم لأعداد منتظمة من البشر.
 
المقصود بالمجتمع المحلي كما ذكرت هو "المربوع" أو "الفريق" أو "الحلة" التي توجد بها المدرسة وليس التقسيم الإداري..يعني ليس المقصود هو "المحلية"، بيد أن المحلية يمكن أن تكون مساهم فاعل في هذه الشراكة. أي أعني بذلك : مسجد الحلة، المركز الصحي في الحلة، نقطة الشرطة، النادي الإجتماعي أو الرياضي في الحلة، فريق كرة القدم بالحلة، البقالة، الحداد، النجار....الخ. كل هؤلاء بوسعهم أن يكونوا رافدا مهما لإثراء البيئة المدرسية، وبوسع المدرسة أن تكون رافدا مهما في انعاش الحياة الإجتماعية والاقتصادية في الحلة.
كيف؟ أفضل أن أشرح بالأمثلة. سأطرح خمسة فيها ملامح من هذه الشراكة أكره أن اشرحها بشكل تقريري
 
المثال الأول: قلت أن المدرسة شبة مستقلة عن الوزارة في طريقة تنفيذها للمنهج الأكاديمي والتربوي. أي ان المدرسة تقوم باستيعاب ما تريده الوزارة من الطالب في كل مرحلة مدرسية وتقوم المدرسة بتنفيذه حسبما تراه مناسبا (قياسا على خلفية الطلبة الموجودين لديها، وعلى الفرص المتاحة والأمكانيات) . ما يحدث الان هو ان المدرسة تلتزم باكمال المقرر الأكاديمي لا "الغرض" منه. أي أن المدرسة ملتزمة باكمال كتاب "مسكننا" للصف الثالث الابتدائي، لا "الغرض" من تدريس مثل هذا الكتاب (وأحسب أن الغرض هو تعريف الطلبة على التنوع الثقافي بين البشر وكيف يظهر هذا التنوع في الملبس والمسكن..الخ) ومثل هذا "الغرض" يمكن توضيحه بطرق شتى، وليس فقط عبر اجلاس الطلبة أمام السبورة و"كر" الكتاب أمامهم. دعوني لا أطيل. وأدلف إلى المثال. تقوم المدرسة بتنفيذ المنهج الأكاديمي عبر "برامج" متعددة. وهذه الفكرة رأيتها اثناء اقامتي في استراليا ، بدلا من التزام طريقة واحدة في انزال المنهج المدرسي، يتم تنفيذها عبر برامج متنوعة بالتعاقد مع شركاء مختلفين، وبذلك يضمنون توسعا أكبر في انزال المنهج وعدم تململ الطلبة.
مثلا التربية الرياضية "قد" تفرض الوزارة على المدارس تقديم حصة رياضة اسبوعية ثابتة للطلبة. بدلا من التعاقد مع استاذ تربية رياضية يقدم حركات مكررة رياضية كل اسبوع، تقوم المدرسة بالتعاقد لمدة شهرين مع فريق الحلة لكرة القدم، بتقديم حصة كرة قدم اسبوعية للتلاميذ، يعلمونهم شيئا عن رياضة الكرة ومهاراتها الملحقة، بطبيعة الحال المنفعة متبادلة، فريق الحلة يجد مكسبا ماديا يدعم به وجوده والمدرسة تكسب برنامجا رياضيا حيويا. ولمدة شهرين بعدها تتعاقد مع نقطة الشرطة لتقديم تمارين احماء لمدة شهرين وهكذا، ولن تعدم المدرسة الوسيلة ولا الحيلة. قس على ذلك برنامج موسيقي من أحد فناني الحي، أو دروس نجارة خفيفة...الخ
المثال الثاني: هو حول أشكال الاستثمار المشترك بين المدرسة والحي: في احد المدارس فإن العيادة المدرسية هي أيضا مركز صحي نسوي، تشارك فيه أمهات الطلبة و نساء الحي في حلقات توعية صحية اسبوعية، حول التغذية السليمة، وحملات التطعيم، والتوعية الصحية، والنظافة الشخصية والصحة النفسية، بل وتنطلق من العيادة حملات صحية في الحي. تخيل مركزا صحيا في المدرسة يكون شراكة بين المدرسة والحي، يعمل فيه طبيب من ابناء الحي، يعالج أبناء الحلة بمبلغ رمزي، ويكون طبيب المدرسة ، مقابل المكان والعائد المادي الذي يعود عليه، اما تمويل المركز؟ تخيل مركزا تنطلق منه حملات توعية صحية تستطيع الوصول إلى فئة مقدرة ونشطة مثل أمهات الطلبة ونساء الحي...لن يعدم ما يؤسسه من امكانيات من قبل المنظمات التي تنهك نفسها لكي تصل إلى فئات هي المجتمع تتواجد بشكل عشوائي. فكرة العيادة المدرسية هي القناة المناسبة لتنفيذ حملات توعية صحية نشطة ومستمرة.
 

المثال الثالث: قلنا أن تطوير البيئة المدرسية أهم من حشك الطالب بمعلومات أكاديمية تحيل الطالب إلى حمار يحمل أسفارا، كما ذكرت في مقال سابق فإن محاولة المدرسة حشو الطالب بأكبر قدر من المعلومات هو أمر غير مجدي بل إنه عقيم!! فالعلم أصبح يتطور بسرعة مخيفة، فما تعرفه اليوم يتبدل غدا، ويعجز أي منهج مدرسي عن متابعة التدفق الهائل واليومي للمعلومات، كل ما يجب على المدرسة القيام به، هو تمليك الطالب القدرة على الاستنباط والاستناج واستغلال المعلومة، والأهم من ذلك زرع النهم للمعرفة فيه. والباب نحو ذلك سهل ومفتوح، ويحتاج إلى ذهن متفتح يدرك أن الكون كله والعالم من حولنا هو مجال حيوي للتعلم والمعرفة.
تعاقدت مدرسة ابني مع احدى نساء الحي تقيم مشروعا لتربية الدواجن، لديها "فقاسة" في منزلها، فقامت باحضارها إلى المدرسة، وكان الطلاب يتابعون في فضول عملية فقس البيض وخروج الصوص ، تبعت تلك العملية البسيطة سيل من الأسئلة والفضول حول ولادة الكائنات الحية وخروجها للحياة...هو ما قلت النهم للمعرفة
 
المثال الرابع: في دول العالم المتقدم، التي تتبني مشروع الشراكة بين المجتمع والمدرسة، فإن عمليات الصيانة والبناء المدرسي، تتم بالتعاقد مع الموردين المحليين: نجار الحلة، حداد الحلة، بناء الحلة، مغلق الحلة، مشتل الحلة، بل وحتى بقالة الحلة...خلق مثل هذه العلاقة المستمرة والموثقة والمتينة، تتيح للمدرسة الحصول على فرص تعاقد أفضل على المدى الطويل بدل من البحث عن السعر الأفضل والأسرع خارج الحلة، ليس هذا فحسب، فإن هذه التجارات الصغيرة ستحرص على استمرار المدرسة عندما تصبح أهم زبون لديها.
المثال الخامس: يتم تدريب مجلس الأباء على منهج للحوار وفض النزاعات ومراقبة الميزانية (كي يتسنى لهم التحاور مع الإدارة حول منصرفات المدرسة، الكثيرون يظنون أن المال المتدفق على المدرسة هو حق ادارة المدرسة تتصرف فيه كما تشاء، لا ! عزيزي المواطن والمواطنة، المال من حقك...وحقك في أن تراقب كيف يصرف) وسيتم الاستفادة من مجلس الأباء في العديد من المشاريع. معظم من لديهم ابناء يدرسون في بلاد الفرنجة يعرفون أن مجلس الأباء يقوم بعدة مشروعات تطوعية وحيوية للمساهمة في المدرسة، مثلا، بعض الاباء يتبرع بساعة من وقتهم صباح كل يوم أو بعد الدوام لمساعدة الطلاب في قطع الشارع العام. بعض الاباء يشارك في مجموعات القراءة أثناء اليوم المدرسي، بعض الأباء يتقاسمون نوبات بيع الافطار المدرسي ، بعض الاباء يشاركون في يوم لشتل المدرسة، كل الاباء ينتهزون فترة الانتخابات وتحول المدرسة إلى مركز اقتراع كي يبيعوا الحلوى والبارد ليعود ريع ذلك إلى المدرسة.
 
أختم فقد أطلت عليكم، ليس هذا المشروع بديل لواجب الدولة تجاه المدارس، بل هو أكثر من ذلك ، هو ادخال شركاء مهمين في العملية التربوية ، يراقبون عمل وزارة التربية والتعليم ويضعونها في موضع المساءلة والمحاسبة تجاة كل ما تقدمه لمدرسة ابنائهم،وقد كانت توكل هذه المهمة لإدارة المدرسة وحدها.
حتى وإن قامت الدولة – بمعجزة ما- بصرف فوق ال30  المائة (كما نرجو) تجاه التعليم (بعد أن تضحي بنثريات ضباط الأمن) فإن مثل هذا المشروع يظل هاما ولازما.
ما حكيت ليكم عن محنة الست كوثر المعلمة بالصف الأول؟ لازم احكي ليكم عنها في المقالة الجاية