Monday 20 August 2012

ثمة ثورة تنتظر


ثمة ثورة تنتظر



كمقالتي السابقة ،هنا أنا أؤكد أن تغيير المستقبل يبدأ الان-في الحاضر. وهنا أيضا أشير إلى أمر اخر، أنه ومع كل الثورات في المنطقة التي نتابعها –ثمة ثورة أخرى تنتظر.

في مقالته المعنونة : جسر من ميدان التحرير إلى ميدان ماديسون، كتب نعوم تشومسكي عن رسالة بعثها القائد العمالي المصري كمال عباس في العشرين من فبراير 2011 إلى الولايات المتحدة مفادها: ثوار ميدان التحرير يقفون جنبا إلى جنب ثوار ميدان ماديسون. نعوم تشومسكي يرى أن ثورة الخامس والعشرين من يناير هي "عمالية" في عظمها ، دفع بها إلى ذروتها شباب مسلح بوسائط الإتصال، مشيرا بذلك إلى اضراب 6  ابريل الشهير لعمال النسيج في المحلة، التي كللت مطالبها لا برفع أجور عمالها في المحلة فحسب بل رفع الحد الأدنى للأجور في كل مصر. هنا ، يرى تشومسكي- كانت الانطلاقة الحقيقية لثورة الخامس والعشرين من يناير. قد يرى البعض في تحليله شيء من التبسيط . إلا أن نعوم تشومسكي مبصّر عظيم ، لا يأبه بتحليل القشور بل ينفذ دوما إلى عظم الأشياء، وقد أعانه على ذلك نشاط لم يفتر ولم يكل دام لأكثر من 40 عاما مناهضا للدكتاتوريات الصريحة والمقنعة. والتي تدلف إليها الان ثورات الربيع بكل نعومة. تشومسكي يرى بإختصار أن الرسالة كانت حصيفة جدا من القائد العمالي ، فثوار التحرير انتفضوا لإسقاط نظام مصادر للديمقراطية، وكذا الحال في ولاية ويسكونسن في أمريكا . فالنقابيون انتفضوا للحفاظ على الديمقراطية في أمريكا التي تباهي العالم بإرثها الديمقراطي . وقد كان حاكم الولاية سكوت ووكرز قد طرح مشروع قرار يجعل من  "التفاوض الجمعي" غير قانوني. ويرى تشومسكي أن هذا مهدد حقيقي للديمقراطية في أمريكا. كيف؟ ...


قبل 40 عاما ، وببصيرة عالية تليق بمقام الأستاذ محمود محمد طه، في محاضرة حول الدستور والحقوق الأساسية، تناول الأستاذ موضوع الديمقراطية، قائلا أنها و الأشتراكية تمشيان يدا بيد. معرضا بالوضع في قطبي العالم في ذلك الوقت: أمريكا وروسيا. قال: غياب الديمقراطية هزم الإشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وغياب الإشتراكية هزم الديمقراطية في أمريكا. وذلك صحيح، معلوم أن مصادرة حريات الأفراد في الاتحاد السوفييتي حوّل البلاد إلى اقطاعيات مصغرة تتبع لقيادات الحزب الشيوعي والنظام، وحوّل الشعب من سخرة النبلاء إلى سخرة الدولة. كذا الحال في أمريكا فإن النظام الرأسمالي القاهر يحول دون اكتمال عملية الديمقراطية التي تصادرها "الحاجة" و"الرزق". فاستبدلت الديكتاتورية التقليدية، بديكتاتورية حديثة هي ديكتاتورية صاحب العمل، أو صاحب المال الذي يملك صوتك ويشتريه، وتبعا لذلك تشرع قوانين الدولة بما يخدم مصالح الشخصية ومصالح عمله.

نعم ، ثمة ثورة أخرى في الجوار تنتظر، وقد تتطاير شررها .

ووجهت حركة "احتلوا" التي اجتاحت شمال أمريكا وغرب أوروبا بالعديد من الإنتقادات، في أنها حركة عفوية ويمكنك أن تقول من شعاراتها أنها عاطفية، لا تحمل هدفا محددا ولا سقف طموح لشكل ونوع التغيير، إن كان هناك شبيه لهذه الحركة فهي حركة الهيبيز في السبعينيات من القرن الماضي . وجه الشبه في أنهما اللإثنان حركتا احتجاج ورفض. تختلف وتتباين أهداف الحركة بشكل جذري ولكن هناك شيء واحد يجمعهم ويوحدهم وهو شعور بعدم الرضا، برفض عميق وضيق شديد بالنظام الحالي.

قد يرى البعض أن مقارنة ما يحدث في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية بما يحدث في نصفها الشمالي فيه شيء من المبالغة، لما بينهما من فوارق عظيمة في تاريخ التطور السياسي، فأين دول يعود عمر ديمقراطيتها إلى مائة عام، إلى دول ما كادت تتفكك من أنظمة الحكم المتوارث عليها مذ قرون.

بديهي أن التطور السياسي في دول العالم المتقدمة كان رهينا بالتطور الإقتصادي من مجتمع زراعي إلى نهضة صناعية ، والتي لم تتم بين ليلة وضحاها بل أستوت على نيران النزاعات العنيفة والسلمية عشرات السنين مفضية إلى نظام السياسي –الإقتصادي في وقتنا الراهن. كتاب الموجة الثالثة للإقتصادي آلفين توفلر  يؤرخ فيه لنهضة ثالثة قامت بعد عصر الصناعة الا وهو عصر المعلوماتية. ويرى توفلر  أن التطور السياسي المصاحب لا يزال متخلفا عن التطور الإقتصادي الحالي –اي اقتصاد المعلوماتية- إذ أنه لا يزال في مكانه الأول في عهد الصناعة، وأهم ملامحه تمركز القوى والتسلسل الهرميى في اتخاذ القرار، والثقل البيروقراطي والقانوني اللازمين لضبط العمل وتوزيع الأدوار السياسية .  لاحظ الانتاج في عهد الصناعة يعتمد على المصانع الجامدة الضخمة في المواقع الثابتة، وتسلسل الأوامر من المدير إلى الغفير وسلسلة من الإجراءات الميكانيكية المتكررة والتخصصية والمهنية اللازمتين لتسيير العمال .هناك توافق تام بين طبيعة الإنتاج المنتج الإقتصادي، وانتاج القرار السياسي.

 بينما الإنتاج في عصر المعلومات رشيق وخفيف، لا يعتمد على الموقع الثابت، وقد ضرب توفلر بذلك مثلا أنه بوسعك أن تقيم مصنعا للثلاجات من سرداب منزلك، فلا يلزمك إقامة مصنع ضخم ينتج الاف الثلاجات لتغطي بها ما تقدره من احتياج السوق المحلي والعالمي، فمن منزلك وعبر وسيلة اتصال متطورة يمكنك رصد الحاجة في السوق المحلي فقط (فلا تلزمك كلفة الإنتاج أن تغرق السوق المحلي وما جاورها بالمنتج) فقط تنتج الكمية اللازمة للأحتياج المحلي وتسوقها وتشخنها. فتبعا لذلك لا بد أن يكون التطور السياسي المصاحب خفيفا، فيصبح القرار لا مركزيا ، وأن يكون أكثر اغراقا في المحلية، يعتمد على التعدد الوظيفي- multi-tasking ، شبكي في اتخاذ القرار لاتسلسليا.

في عام 2003 تقدمت بطلب انضمام لحركة القوى الديمقراطية الجديدة في ذلك الوقت، (وبشي من الغرور) كان طلب الإنضمام عبارة عن مقترح لطبيعة العمل التنظيمي في تنظيم سياسي حديث، وأذكر أني اختصرت الامر برسم مبسط لشكل القرار، كان دائرة كبيرة تحيط بدائرة صغيرة، وكان القرار يصدر من اتجاهات متعددة من محيط الدائرة الخارجي إلى مركز الدائرة








 






 
ما الغرض من هذا التشريق والتغريب في الحديث، أن الثورات التي نشهدها في دول العالم المتقدم هي ثورة على النظام السياسي الذي ما عاد مستوفيا لمتطلبات عصر المعلوماتية الحالي، فالعهد الذي نعيش فيه حقا خطير. فالقرار المنتج أو الحدث السياسي يصل بسرعة طرف من الثانية ليعمم على الجميع بتفاصيله الدقيقة، وكذا التفاعل معه يمكنه أن يصل إلى بؤرة مركز اتخاذ القرار (مؤكد أن البشير شاهد النقاش الدائر تحت لينك اليوتيوب الذي صوره في حفل زفاف)، وبفضل الوسيط الإعلامي المتطور أصبح لا يوجد حدث تافه في بلدة طرفية بعيدة، بل أصبحت كل نقطة على الكوكب هي مركزا مؤثرا. ما نشهده من قلق على الشوراع المحيطة بمكاتب البورصة ونواصي البنوك في مدن أوروبا وأمريكا، هي قلق من هذا التخلف السياسي الذي يدفع بالمواطن على هامش اتخاذ القرار، ولا يريد منه سوى أن يبصم مؤيدا أو أن ينسحب ساخطا، فالكل يريد أن يغمس يده في حلّة القرار السياسي ( لاحظ نسخ قرارات المحاكم القاضية بمصادرة منزل أحدهم لأنه لم يستطع أن يسدد قيمة فوائد الأقساط على منزله، لاحظ نسخ قرار المحكمة العليا بوسكونسين بمنع التفاوض الجمعي فعضوية النقابات لا تزال نشطة، نقابة المعلمين مثلا في ويسكونسين تجمع اشتراكات عضويتها وتتصل بهم عبر شبكة الانترنت)



وما شأننا نحن بذلك، يقول الكاتب آلفين توفلر -صاحب كتاب الموجة الثالثة أن خطورة هذا العهد تكمن في أنه كائن من كان يستطيع مواكبته، فالتطور الاتصالي لا يحتاج إلى بنية تحتية مكلفة ولا تحتاج لأن نمر بالتسلسل التاريخي: زراعة –صناعة-معلوماتية. (نعرف ذلك تماما الان، فالمزارع في الخلا يستخدم هاتفه في تدبير شئون حواشته، ونعرف أن نظام الإتصال المعلوماتي قائم وموجود بشكل حديث ومستقر ومتطور حتى في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة واضرابات سياسية متكررة: كالكونغو!!). تأكد تماما ، أن الاعتصامات في شوارع مدريد و أثينا و ويسكونسين وتل أبيب تعنينا نحن في الخرطوم تماما. فأول الأمر يصبح سؤال البديل عقيما، لأنه يجيب عن تساؤل يخص عهد الصناعة البائد ، الذي يوجه ناظريه دوما نحو رئيس مجلس الإدارة أو مدير المصنع. فالسؤال في عهد المعلوماتية يبحث عن "البدائل". فرئيس العمال في نبطشية الليل في مصنع ما، هو بأهمية رئيس الجمهورية.



فالتثاؤب الذي نشهده الان والتراخي عن أحزابنا وقياداتنا السياسية هو ذاته الذي يشهده الحزب الديمقراطي والجمهوري، فهي تنظيمات عهد بائد ما عاد مستوفيا لمتطلبات العصر. وعجزهم عن مواكبة تطلبات العصر لا يكمن في عدم قدرتهم على تبني مواقف تقدمية كما ذكرت في مؤتمر حركة القوى الديمقراطية الجديدة، بل في عدم القدرة على صنع القرار بشكل تقدمي.



 إذا سمح لي القارئ بتخريمة أخرى، أصبت بخيبة أمل كبيرة عند صدور قرار اعادة اصدار جريدة الميدان في عام 2005 كما أظن، فقد افسدت علي حلم يقظتي الذي فيه تصدر ميادين لا ميدان واحد ، فصحيفة الميدان –الخرطوم وصحيفة الميدان-سنار، وصحيفة الميدان –مدني، وصحيفة الميدان- الفاشر، وصحيفة الميدان –نيالا. فقد أصبحنا أكثر غرقا في المحلية وأكثر اهتماما بالقرار المحلي الذي هو أيضا احد السمات الهامة لعهد المعلوماتية كما شرحنا أعلاه (هسي ما فات شي).بل أكثر اغراقا نحو الفردية فما عاد مجزيا تجاوز الفرد بسبب "الأغلبية" كما كان ضروريا ولازما في عهد الصناعة. وقد بشر بهذا ودعا إليه الأستاذ محمود محمد طه في حديثة عن التطور السياسي المواكب لأنسان القرن العشرين والذي تكرس فيه التكنلوجيا لاحداث توافق لا يتغول على الفردية ولا يفرط في حقوق الجماعة ، والذي تعلو فيه كرامة الفرد العامل فلا يكون مجرد صامولة في دولاب العمل، مجرد الة أخرى، بل أن يكون صاحب قرار ورؤية فيما يعمل .كما دعا تشومسكي لتكريس التكنلوجيا ووسائط الإتصال كي تسد الفجوة بين مركز القرار وطرفه، بدءا من المصنع  ومكان العمال انتهاءا إلى البرلمان. فقد شبه تشومسكي حال الموظف أو العامل بالمصنع المغيب عن مركز اتخاذ القرار وكأنه أجير، تستأجر خبرته ووقته وحياته للقيام بمهمة صغيرة، وما عاد ذلك مرضيا للكرامة الإنسانية.وذاك حديث اخر إذا يسر الله له مقالة أخرى



الختام وبالبلدي البسيط: لا تمدون أعينكم للتحول السياسي الظاهري في ثورات الربيع العربي فتلك ثورات ما لم تستصحب القلق الدائر في النصف الأعلى من الكرة الأرضية، فستأكل نفسها بنفسها، وستكرس –(شاءت أم أبت..سواء بيد مرسي أو بالبرادعي أو بصباحي أو بغيره) لديتكتاوريات جديدة.و ارانا في مجالسنا ننتناقل نذارة الأستاذ المحذرة من حكم الإخوان المسلمين، وللمتابع محاضرات الأستاذ وكتاباته، فالأمر لا يتعلق برأيه حول التنظيم، فإن له نظرة أكثر عمقا وبصيرة  عرف فيه أن النظام الاتي سيعتمد على "الزكاة" و"الصدقة" للضعيف بدلا من "الحق المكفول" للجميع. وهو ما نراه اليوم فقد استبدل نظام الضمان الإجتماعي بدواوين الزكاة ومشاريع الصدقات للمواطنين من غير ذوي السلطة والنفوذ، وفيه يسمح باحتكار السلطة السياسية والنفوذ المالي في يد ال1% . مقالتي القادمة إن شاء الله تعالي ستكون عن ملامح الثورة المرتقبة في السودان على هذا الضوء



هذا المقال على تواضعه أهديه لروح الاستاذ على الطاهر، موظف فصل من عمله فصلا تعسفيا أثناء قيامه بعمله دون ابداء أي سبب. وانضم إلى لجنة المفصولين من الخدمة ولما أعيته السبل توجه صوب كوبري القوات المسلحة وألقى بنفسه من أعلاه. تاركا خلفة اسرته.

الفيديو المصاحب لملابسات غرق الاستاذ على الطاهر، منقول عن الناشطة الصحفية نجلاء سعيد










Monday 6 August 2012

فك القيد بغرفة ايد


فك القيد.. بغرفة ايد
بسم الله (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فهو مني إلا من إغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)

إلى الجالسين ظمئى على نهر البديل…لن يرد النهر إلى فمك…قم وأغرف بيدك.

تعجبني قصة طالوت هذه جدا. تخيل..يقود جيشا قوامه 80 الف محارب ، ليحارب بهم الملك جالوت. يمر بهم على نهر شريعة بين الأردن وفلسطين. ويبرز السؤال ؟ ما تغني الكثرة لو أن القلوب خاوية؟ لا بد من امتحان العزيمة أولا. كان الجيش قد زحف طويلا في الصحراء وقد انهكه الظمأ ، سمح للجنود يغرفة يد واحدة فقط لا تثنية فيها. غرفة يد واحدة! جغمة! يا للامتحان. امتحان لم ينجح فيه سوى 4 الاف جندي فقط!!! أقل من عشر الجيش!! من هذه القلة غلب طالوت جيش جالوت العرمرم. والسبب غرفة . هزموا الجيش "بجغمة" ماء. أعظم حركات التغيير في العالم قوامها لفتة أو لفظة أو جغمة… يقول النبي عليه السلام "من رأى منكم منكرا فليغيره  بيده ، فمن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" ...صلى الله عليه وسلم..ما ينطق عن الهوى إنه بالقلب يمكنك أن "تغير" المنكر..بحال قلبك


داوود يجز رأس جالوت ..من اجمل اعمل الفنان الايطالي العظيم كرافاجيو

إلى قصة أخرى أجيء بها إلى مغزى المقالة (سأسرف في الحكي في هذه الكتابة)  خرج الإنجليز من أهم مستعمرة لهم في الإمبراطورية …بحالة قلب. حالة القلب هذه اسمها "ساتياقرها" أو التي أحب أن اترجمها إلى "كن الحق". هذه هي الدعوة التي نادى بها غاندي أتباعه. أن يكونوا الحق. أعني ذلك حرفيا. تخيل الحق يمشي على قدمين. الحق لا يخضع لأنه الحق. ولا يستسلم لأنه الحق. ولا يحتاج للعنف لأنه الحق والحق لا يحتاج. ولا يشترى لأنه الحق. ولا يتبدل لأنه الحق. ولا يغلب لأنه الحق. ولا يروع لأنه الحق. ولا يفنى لأنه الحق.
إذا الحق لا يعترف بالباطل ولا يتعاون معه ولا يخدمه; بل بمجرد بروز الحق يزهق الباطل.
قد سئم البريطانيون هذا حقا..أحيلت حياتهم في الهند إلى جحيم. فهم يتعاملون مع أناس عنيدون لا يتحركون قيد أنملة..والحق لجوج. الهنود ببساطة..هجروا المستعمر…هجروا طريقة حياته..قاطعوا بضائعه. وحملة "فك احتكار تصنيع الملح" كانت تعني ببساطة أن الهند تتجاهل وجود المستعمر. امنت فعليا أنه غير موجود…فاختفى.
ستياقرها الملح ...وقفة حق صلبه لفك احتكار الملح

والان نأتي إلينا …كثر سؤال البديل لهذا النظام..وهو سؤال مشروع ..بمشروعية الكفيف السائل عن الطريق فهو لا يراه. صحيح تطوع البعض وقال أن البديل سيكون إقامة دولة المؤسسات ودولة المسئولية والمحاسبة ..او ان البديل هو النظام الديمقراطي واقامة العدل وليس مجرد أشخاص يحلون مكان أشخاص. بل ذهب البعض إلى أبعد من هذا وقالوا أن البديل هو أنا وانت …الشعب هو الذي سيحرص على إقامة الدولة المرضية لطموحاته!!! ((سيكون)) قالوا ((سيكون)). المشكلة عندي تكمن في سيكون هذه..فالذي نعرفه أن سيكون لا تغير شيئا..لأنها متعلقة بالمستقبل..ونحن ليس لدينا أي تأثير على المستقبل لأنه ببساطة لم يحدث بعد!!(1) . قلت أن سؤال البديل أشبه بسؤال الكفيف عن الطريق. فواقع الحال، في السنوات الأخيرة الماضية تسرب مجرى من بديل وهو الان يستحيل نهرا دفاقا قويا. ففي يناير من عام 2010   أصدر مجموعة من أساتذة جامعة الخرطوم كتاب معنون بإسم (الهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم: ثغرة في جدار الشمولية) جمعه وكتبه البروفيسور بابكر أحمد حسن. الكتاب يروي بشكل تقريري ..بدون أي عاطفة وبدون اي هتافية جوفاء… قصة تكوّن نقابة أساتذة جامعة الخرطوم وهي بحسب قانون تنظيم العمل والنقابات في السودان نقابة غير شرعية ، فالنقابة الوحيدة المسموح بها هي ما يعرف بنقابة المنشأة (أي أن يشكل كل العاملين في منشأة/مصنع/مؤسسة/مشروع نقابة واحدة تجمع كل عمالها سوية من مديرهم حتى غفيرهم) وهو قانون أخرق لا فيه تنظيم عمل ولا يحزنون، كل الغرض منه هو تشتيت أي جهود لوحدة عمالية ممكنة قد تهدد مصالح أصحاب المال والنفوذ وجلهم من الكيزان .  تكونت النقابة من أساتذة جامعة الخرطوم بمنتهى الشفافية والديمقراطية متجاهلين تماما المناخ السياسي المحيط بهم الذي يشوبه الفساد والشمولية. هؤلاء الأساتذة جعلوا من أنفسهم رقيبا عليها…لم ينتظروا الديمقراطية ليكونوا ديمقراطيين..ولا انقشاع الظلم ليحقوا الحق..كانوا الحق الان رغم الباطل. كونوا النقابة ..خاطبوا الإدارة التي تجاهلتهم في البدء..ثم أجبرت على التعامل معهم..ثم كعادة المسئولين في بلادي..رجعوا لعدم التعامل معهم..وأخيرا عملوا فيها أضان الحامل طرشا . أخذ الأساتذة مطلبهم بتكوين النقابة إلى المحاكم، قدموا العرائض، نشروا في الصحف، نظموا الإضرابات، سيروا المواكب، طرقوا أبواب السياسين (كانت صماء بالمناسبة..حتى حقت ناس الحركة الشعبية زاتم..تؤ تؤ تؤ) وفي اخر المسيرة قدموا الدعوى إلى المحكمة الدستورية وبعد مماطلة أصدروا الحكم ببطلان شرعية النقابة إذ لا ضرورة ولا حاجة لوجودها. أنتهى الكتاب. بدا لي الأمر غريبا..بالنظر المباشر ..لقد فشلوا! أمال شنو حكاية "ثغرة في جدار الشمولية" …أنها الساتيقراها… النقابة الان برغم عدم اعتراف المحكمة الدستورية بها هي مرجع اساتذة جامعة الخرطوم. هي المتحدث بإسمهم. نعم كانت هي الثغرة وتبعتها من بعد، قبل أيام قلائل نقابة الأطباء السودانيين، أيضا بشفافية تامة وديمقراطية رشيدة ، كانوا هم الرقباء على أنفسهم في خلق نقابة مستقلة عن أي نفوذ . حدث وقد تجاهلوا تماما وجود المناخ الذي تنمو فيه المؤسسات في السودان من تبعية للسلطة والنفوذ و من فساد وديكتاتورية.(تعجبت لاندفاع بعضهم لمطالبتهم تنفيذ اعتصام لكل المعتقلين ...قيام النقابه في حد ذاتها صفعة في وجه النظام ) ستتبعها نقابة الصيادلة، والمحامين، والمعلمين عاجلا غير اجل.
البديل الان في حركة معلمون بلا حدود وبكرة أحلى و أصدقاء المايقوما و مجموعة نحن (2) وغيرها..هذه حركات قررت أن تحل محل الدولة في تقديم الدعم للشرائح المستضعفة. وهم في الدقة والإلتزام والجد والانضباط  في تقديم خدماتهم حتى أن الأمر يخرج من كونه مجرد صدقة إلى تحقيق نظام ضمان اجتماعي حقيقي. الامر عندهم ليس مرهون بمزاج او حالة نشاط مفاجئ بل أسلوب حياة. وانضباطهم المالي (رغم المبالغ الكبيرة التي قد تتدفق في يد شاب عاطل) هو ما يثير الإعجاب حقا ويملأ الصدر فخرا. هذه الحركات نشأت  عازلة نفسها عن المناخ الذي تنمو فيه مؤسسات الخمول والفساد وانعدام المسئولية (واود أن أنوه أن الفساد في المؤسسات ليس فقط الأختلاس..بل في عدم القدرة على الضبط المالي..بس للأسف البشير ما عندو فكرة عن الحاجة دي) . هذه الحركات تخطت وجود النظام الحالي وعزلت وجوده وكانت الحق..كانت البديل الان.
خذ عندك أيضا مجموعة برانا، مجموعة عمل ، مجموعة المصورين السودانيين،  جائزة الطيب صالح، مجموعة شوارعية، ورشة صناعة الأفلام، اتحاد كتاب السودان ، ، الروابط و الأندية الثقافية التي الان تقوم بمجهود دولة بعد غياب الدولة ( الإنقاذ غيبت الدولة واستبدلتها بعصبة من السماسرة لا مساءلين ولا مسئولين)، فمشاريع النشر وانتاج الأفلام و ترقية النشاط الثقافي بالبحث عن البعثات والدورات التدريبية  والورش للمبدعين والبرامج الثقافية المجانية التي تقدم الوعي والترفيه للمواطن هذه مسئولية الدولة. ولأن الإنقاذ تنفض يدها عن كل ما لا يجلب لها عائدا مباشرا. فقد قامت جماعات من السودانيين والسودانيات بحمل هذه المسئولية على عاتقهم بجد ووعي ..قاموا بذلك الان ..وكلوا أنفسهم بهذه المهمة..لم يتأثروا بمناخ اللامسئولية حولهم..كانوا البديل ..الان..كانوا الحق ..الان.

خذ عندك ما تقوم به الرأسمالية الوطنية المحاصرة والمحصورة كشركة دال وغيرها . التي تعيش في مناخ الكسب والكسب السريع، في مناخ تغيب فيه حقوق العامل تحت رعاية القانون..فالقانون في السودان يحمي القادر والقوي والغني عن القانون..هذه المؤسسات عينت نفسها رقيبا عليها. حرصت على قسمتها من المسئولية تجاه المجتمع دون أن تجبرها على ذلك دولة أو حكومة ، عينت نفسها رقيبا على منتجها وعلى كفالة حقوق موظفيها دون وجود قانون ينظم لها ذلك...قررت أن تكون البديل ...الان!
خذ عندك صحيفة سودانايل والصحافيون المدونون الالكترونيون  ونجلاء الشيخ ومصممي الجرافيك الالكترونيين ..شباب قرروا أن يكسروا حاجز الرقابة المفروض الان على الإعلام وحملوا على عاتقهم مهمة توثيق الحدث ونشره مع حرصهم الدائم على الخروج من سقطات الإعلام الحر الذي لا رقيب عليه..أراهم كل يوم يعينون أنفسهم رقباء على عملهم..اراهم كل يوم يعتذرون عن خبر نشر خطأ أو  عن معلومة كتبت سهوا ...هؤلاء هم البديل الان لصحافة مكبلة مقيدة غير رشيدة.

خذ عندك ما يعرف بإسم الناشط الحقوقي والسياسي. أعرف منهم من يقدم ذات الإلتزام الذي يقدمه في مواعيد عمله ووظيفته. ناشطون مستقلون رفعوا مستوى العمل السياسي في السودان بعيدا عن تخبط الأحزاب السياسية. معرضين أنفسهم للمساءلة دون ظهر يحميهم..دون منصب يؤمنه لهم حزب في حكومة اجلة..كانوا البديل الان..كانوا التغيير الان.

البديل مش "سيكون"..هو "كائن" الان
ولن تتحقق دولة البديل بشرط مستقبلي. سقوط الحكومة هو مجرد اجراء شكلي ولكن بناء الدوله الجديده واسقاط النظام لا بد أن يبدأ الان..من كل رجل وامرأة..كل شيخ وشاب وطفل...في كل ساعة وفي كل وقت..كن الحق ..الان

من حلتنا لنيالا: سلام قولا من رب رحيم: هذا مقترح جاهدت أن أقنع من حولي به. هو مشروع تقيم فيه مساجد الحلة قراءة ياسينية ذاكرين بـها شهداء نيالا .   وقد وجدت اعتراضا كبيرا كونها تبدو حركة مسالمة صغيرة...جغمة. كنت قد كتبت في مقالة سابقة لي عبارة عن حوار متخيل اسمها (حول استقالتي من المؤتمر الوطني) ذكرت فيها أن ليس للإنقاذ (بعد أن فقدت العقيدة منذ خروج اهل العقيدة عنها-ناس الترابي) ليس للإنقاذ قدرة على صرف الأموال لكل أصحاب الولاء فتلجأ لخطة تعتمد عليها كلية في بقائها واستمرارها..هذه الخطة هي "التسليب". فالحكومة لا تريد منك تأييدا ولا محبة..فقط تحتاج حيادك وسلبيتك ..تتخذهما سترا لتقوم بما تشاء من تنكيل وتعذيب لخصومها من بيع للوطن بالجملة والقطاعي ومن تشريد أبنائها وشن الحروب عليهم. حيادك ولا مبالاتك.
كانت الفكرة هو اخراج المواطن السلبي -ركيزة النظام- من السلبية لفعل يستطيعه...كانت الفكرة انكار بالقلب..وتغيير يبدأ بالقلب كما قال النبي.
من حلتنا لنيالا : سلام قولا من رب رحيم على الفيس بوك :
http://www.facebook.com/#!/events/424287mn027621882/ 
وهذه سانحة طيبة لأعرج على مسيرة الملح لغاندي. كان المؤتمر الوطني الهندي يجهز لحملة عصيان مدني كبيرة. وأوكل الأمر لغاندي أن يخطط لهذه الحملة. اعتكف غاندي أياما ليعود إليهم بفكرة فك الحكر عن تصنيع الملح..أن يقاطع الهنود ضريبة تصنيع وشراء ملحهم من المستعمر، فالكل سيصنع الملح ويبيعه. صمت...صمت..ثم استنكار من عضوية المؤتمر "سنكون أضحوكة كل امرأة ورجل في الهند؟ الملح؟" ..نعم ..الملح... فالمواطن لا يستطيع أن يخرج في مسيرة مطالبة بعودة الديمقراطيات أو مطالبة بالحكم الوطني.. لكن مقاربة ذلك في قضية مفهومة وقريبة من المواطن..والاهم من ذلك ..أن تكون له القدرة على ذلك الفعل. الحاكم البريطاني صرح في الصحف: أن صناعة الملح في الهند لا تقض مضجعي ليلا!! لكنه سرعان ما غير رأيه..فقد وحدت هذه الحركة بين مسلمي وهندوس الهند في عمل واحد ..فعل تحدي للأمبراطورية العظيمة..تجاهل كامل من الجميع لسلطتها. كانت تلك الحادثة هي المسمار الذي دق في نعش المستعمر. ملح
غرفة ايد فكت القيد
غاندي يبذر ملح التغيير
تتابعون مسلسل عمر لا ريب..دوما تعجبني في المسلسلات الدينية التي تحكي سيرة النبي عليه السلام ، مايعرض عن حالة المسلمين الاوائل في مكة. لم يطالبهم النبي بالجهر لم يطالبهم بتكسير الأصنام لم يطالبهم باستفزاز أهل مكة...رغم ذلك ضاقت بهم مكة..لماذا؟ كان كل ما فعله المسلمون الأوائل هو انسحاب هادئ من حياة مكة.عن صلاتها عن عاداتها عن تقاليدها عن أفكارها. فعل ناعم بسيط سحب البساط بخفة عن زعامة قريش وهي ترى ناديها ينفض عنه الناس يوما بعد يوم وحدود زعامتها على الناس تنكمش كلما انضم رجل أو امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
  كنت قد كتبت في مقالتي السابقة "حول استقالتي من المؤتمر الوطني" أن السلطة ليست حالة ثابتة..السلطة فعل متكرر...على اللإنقاذ أن تتسلط كل يوم في كل ثانية كي تظل باقية على رأس السلطة...وكي يكون هناك سلطة لا بد أن يكون هناك مسلط عليه..الذي هو أنت عزيزي القارئ... عليك أن تحني ظهرك كل يوم....لو صلبت ظهرك ساعة..ينتفى فعل التسلط لساعة!
نهر البديل جاري الان..لن تنتظر البلاد أمرا هو أهون عليها من جعر على قمامة ..كسقوط الكيزان ...كل يوم يغرف العشرات من نهر البديل..البلاد التي نريد ونطمح تتحقق كل يوم ..من أراد دنية اللحاق فليظل ظامئا على النهر..ومن أراد فضل السبق فليغرف
كن الحق...الان
ساتياقرها!


(1) الحديث عن لحظة الآن مقتبس عن الدكتور احمد الابوابي http://www.youtube.com/watch?v=sY1VfKfX_r8&feature=my_liked_videos&list=LLftsUTEe0sN03jPeNcinbLA

(2) ورد هذا عبر الاستاذ ناظم سراج عن مجموعة نحن :
في أوائل العام ٢٠٠٨ إجتمع مجموعة من الشباب/ ات.. وإتفقوا على خدمة مرضى السرطان عامة والأطفال خاصة.. بدأوا من غير إسم.. ثم أسموا أنفسهم متطوعي مستشفى الذرة.. ثم إستقر الإسم على مجموعة نحن.. بدأوا بألوان الخشب وكراسات التلوين والتبرع بالدم.. ثم جاءت الأيام الترفيهية وتوفير المعدات والأجهزة الطبية وصيانة العنابر وتوفير مصاريف السفر ونفقات العمليات.. وبدأوا في التعاقد مع بعض الصيدليات والمعامل والمراكز التشخيصية لتوفير خدماتها لأطفال السرطان عبر إستمارات يتلقى بواسطتها أسر المرضى الأدوية والفحوصات مجاناً وتقوم هذه المجموعة بدفع كامل هذه المطالبات آخر كل شهر.. هذه الخدمة يستفيد منها الآن أطفال السرطان/ الفشل الكلوي/الأطفال المحولين من م. جعفر بن عوف/ مرضى سرطان الفم/ نزلاء الدور الإيوائية السبع/ الهيموفيليا
اليوم تجاوز عدد الإستمارات المصدرة ال٥٠٠٠.(فقط خمسة آلاف) إستمارة والحمد لله